مخيمر سعود أبو سعدة[*]
مما لا شك فيه أن الثورات العربية في بداية العام 2011 كانت بمثابة زلزال ما زالت لها ارتدادات عميقة على منطقة الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية. قبل الربيع العربي، كانت منطقة الشرق الأوسط يتنافس فيها فريقان: معسكر المقاومة والممانعة بقيادة إيران وسوريا وحزب الله وحركة حماس، وبالمقابل كان هناك معسكر الاعتدال العربي والذي كانت تقوده مصر والأردن والمملكة العربية السعودية وكذلك السلطة الفلسطينية. أما بعد الثورات العربية، فقد تغيرت طبيعة التحالفات في منطقة الشرق الأوسط حيث برزت سيطرة وهيمنة الصراع المذهبي السني-الشيعي على المنطقة، ويبدو أن هناك ثلاثة محاور في المنطقة: المحور الشيعي بقيادة إيران والعراق وسوريا والحوثيين في اليمن وحزب الله، وثانيا: المعسكر السني المعتدل والذي تقوده المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والأردن ومصر ويمكن اعتبار السلطة الفلسطينية ممثلة بحركة فتح جزءا من هذا المعسكر، وأخيرا معسكر الإسلام السياسي بقيادة تركيا وقطر وجماعة الإخوان المسلمين وحركة حماس.
الشرق الأوسط قبل الثورات العربية 2011
ليس سراً أن تناقضات الشرق الأوسط كانت دوما تعكس نفسها على القضية الفلسطينية والتي كانت وما زالت تتجاذبها العديد من القوى العربية والإقليمية.
ومنذ توقيع اتفاق إعلان المبادئ (اتفاق أوسلو) في أيلول (سبتمبر) 1993 في واشنطن، وقفت دول وقوى الممانعة ضد الاتفاق وسعت بكل ما لديها من أدوات لإفشال هذا الاتفاق الذي، من وجهة نظرها، لا يلبي الحد الأدنى من الحقوق والثوابت الفلسطينية، وكان بمثابة اختراق في الموقف العربي الداعي إلى الانسحاب الكلي والشامل من كل الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل في حرب حزيران (يونيو) 1967، وعلى هذا الأساس عقد مؤتمر مدريد للسلام في تشرين الأول (أكتوبر) 1991 وذلك وفق قرار مجلس الأمن الدولي 242 ومبدأ الأرض مقابل السلام.
سوريا، بقيادة حافظ الأسد في ذلك الوقت، رفضت اتفاق أوسلو جملة وتفصيلا، واعتبرته تنازلاً عن الحقوق والثوابت الوطنية الفلسطينية؛ وذلك لأن الاتفاق أجل القضايا الأكثر حساسية وتعقيداً إلى مفاوضات الوضع النهائي بما فيها قضية اللاجئين الفلسطينيين والذين تستضيف سوريا عدداً منهم. وبالإضافة إلى ذلك، فقد اعتبرت سوريا توقيع الاتفاق بدون التنسيق والتشاور العربي بمثابة اختراق للموقف العربي والسوري والذي يدعو إلى حل الرزمة الشاملة. وبناء على ذلك رفضت سوريا الاتفاق وعملت على تقويضه وإفشاله من خلال دعمها للفصائل الفلسطينية المعارضة للاتفاق وبشكل خاص حركتي حماس والجهاد الإسلامي وبعض فصائل منظمة التحرير الرافضة للاتفاق. أما بخصوص إيران حليفة سوريا فقد تبنت الموقف السوري ورفضت التعامل مع مخرجات الاتفاق وفيما بعد قدمت دعماً سياسياً ومالياً وعسكرياً لفصائل المقاومة الفلسطينية التي تعهدت بإفشال الاتفاق.
ومن ناحيتها فقد رفضت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) اتفاق أوسلو وعملت على إفشاله بكل الأدوات والوسائل المتاحة بما فيها العمليات الاستشهادية في العمق الإسرائيلي لإحراج السلطة الفلسطينية وإظهارها عاجزة عن تنفيذ الاتفاق. حماس تعتبر كل أرض فلسطين التاريخية أرض وقف إسلامي لا يجوز التنازل عن شبر واحد منها للاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي تعاملت مع اتفاق أوسلو باعتباره تنازلاً وهبوطاً غير مقبول بالحقوق والثوابت الوطنية الفلسطينية. ولقد عملت حماس على تقويض الاتفاق وإفشاله منذ الأيام الأولى لإنشاء السلطة الفلسطينية على جزء من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد حدث ذلك من خلال الصدامات بين المتظاهرين من حركة حماس وقوى الأمن الفلسطينية في أحداث مسجد فلسطين في تشرين الأول (أكتوبر) 1994، وفيما بعد من خلال العمليات العسكرية في العمق الإسرائيلي.
أما بالنسبة لدول ومعسكر الاعتدال العربي، فقد رأت في اتفاق أوسلو فرصة لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بالرغم من أن الاتفاق لم يلبِّ جوهر الصراع وهو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة وقيام دولة فلسطينية وعاصمتها القدس. فقد كانت مصر أول دولة عربية توقع اتفاق سلام مع إسرائيل (اتفاق كامب ديفيد 1979) وتستعيد كامل أراضيها المحتلة من خلال المفاوضات، والمملكة الأردنية من ناحيتها لم تمانع الاتفاق بل وقعت اتفاق وادي عربة مع إسرائيل في تشرين الأول (أكتوبر) 1994، وعملت على تطبيع العلاقات السياسية والاقتصادية مع إسرائيل بسرعة غير متوقعة. أما بخصوص المملكة العربية السعودية فإن موقفها كان وما يزال تقبل بما يقبل به الفلسطينيون.
شكل توقيع اتفاق أوسلو الإرهاصات الأولى للانقسام السياسي الفلسطيني لاحقا. فقد كان الاتفاق بمثابة نقطة الافتراق بين الحركة الوطنية الفلسطينية وقوى الإسلام السياسي ممثلة بحركتي حماس والجهاد الإسلامي. لقد فتح اتفاق أوسلو الباب على مصراعيه أمام الحركات الإسلامية للاستمرار بالمقاومة المسلحة في الوقت الذي تخلت فيه حركة فتح وبعض فصائل منظمة التحرير الفلسطينية عن الكفاح المسلح ضد إسرائيل وذلك وفقا للرسائل المتبادلة بين الرئيس الراحل ياسر عرفات ورئيس وزراء إسرائيل اسحق رابين في 9 أيلول (سبتمبر) 1993، وفيما بعد من خلال تعديل مواد الميثاق الوطني الفلسطيني في نيسان (أبريل) 1996، وذلك بحذف المواد التي تدعو إلى تدمير إسرائيل أو المواد التي تدعو إلى استخدام الكفاح المسلح لهذا الغرض. تمسك وإصرار الحركات الإسلامية بالمقاومة المسلحة ضمن لها دعم وتأييد بعض القوى العربية والإقليمية المعارضة لاتفاق أوسلو.
لقد تعززت العلاقة بين دول الممانعة والمقاومة بعد خروج حركة حماس من الأردن واستقرارها في سوريا في العام 1999. فبعد خروج حماس من الأردن وفشل إمكانية التوصل إلى اتفاق سوري إسرائيلي ينهي الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان السورية، قدمت سوريا الدعم السياسي الكامل لحركة حماس وفتحت لها آفاق التعاون مع إيران وحزب الله لاحقا. ولقد توثقت هذه العلاقة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى في أيلول (سبتمبر) 2000، والتي استخدمت فيها حركة حماس كل إمكانياتها العسكرية من عمليات استشهادية وإطلاق الصواريخ على إسرائيل بهدف إفشال اتفاق أوسلو وملحقاته والدفع باتجاه استعادة وجودها وشعبيتها التي تضررت كثيرا في تسعينات القرن العشرين. وتوجت علاقة حماس مع معسكر المقاومة بعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة في صيف 2005، والذي اعتبر بمثابة إنجاز كبير للمقاومة المسلحة، وكذلك بعد فوز حماس الساحق في الانتخابات التشريعية في كانون الثاني (يناير) 2006، والذي ترتب عليه وقف الدعم المالي الدولي للسلطة الفلسطينية، مما مهد الطريق أمام إيران لملء هذا الفراغ وتقديم الدعم المالي والسياسي لحكومة حماس التي تم تشكيلها في أواخر آذار (مارس) 2006.
كان فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية بمثابة زلزال كبير في النظام السياسي الفلسطيني تمثل في رفض المفاوضات مع إسرائيل وتعزيز المقاومة المسلحة. وقد تزامن ذلك مع حجز إسرائيل لأموال الضرائب الفلسطينية وتوقف الدعم الدولي مما أدى لاحقا إلى اشتباكات فلسطينية بين حركتي فتح وحماس، انتهت بسيطرة حركة حماس على قطاع غزة بالكامل.
دعمت إيران وسوريا وحزب الله حركة حماس في صراعها مع حركة فتح، ودعمت موقف حماس الرافض للمصالحة بدون إعادة إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية وتشكيل حكومة فلسطينية ببرنامج سياسي يرفض تقديم تنازلات سياسية لإسرائيل.
ولقد كان كذلك لشروط الرباعية الدولية الخاصة بحركة حماس، وفي مقدمتها الاعتراف بإسرائيل، ونبذ العنف والإرهاب، والقبول بالاتفاقيات السابقة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، تداعيات سلبية على مستقبل الوحدة الفلسطينية، وكذلك على مسار المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. أما على الصعيد الفلسطيني، فقد تمسكت حماس بموقفها الرافض لهذه الشروط لأن منظمة التحرير وافقت على مثل هذه الشروط ولم تحصل إلا على استمرار الاحتلال ومزيد من الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية والقدس الشرقية. رفض حماس وتمسك المجتمع الدولي بهذه الشروط أدى إلى عزل حماس وحكومتها سياسياً ومالياً، وبالتالي تصدع الموقف الفلسطيني الرسمي في مواجهة الدول المانحة. ولكن هذه السياسات الدولية أدت إلى ردود فعل عكسية، فبدلاً من إضعاف حركة حماس وتقويض حكومتها، استطاعت حماس السيطرة العسكرية على كامل قطاع غزة ومضاعفة قوتها العسكرية، وهذا بدوره مكن إسرائيل من الادعاء بأن السلطة الفلسطينية لا تمثل كل الفلسطينيين وليس لديها أدنى سيطرة على قطاع غزة، وبالتالي لا يمكن توقيع اتفاق سلام معها.
وعملت دول الاعتدال العربي، وبشكل خاص المملكة العربية السعودية ومصر، على دعم السلطة الفلسطينية وتقديم مبادرات لإنهاء الانقسام الفلسطيني، وتحقيق المصالحة الفلسطينية وذلك من خلال اتفاق مكة الذي رعته المملكة العربية السعودية في شباط (فبراير) 2007، وفيما بعد اتفاق القاهرة في أيار (مايو) 2011 والذي يتبنى إنهاء الانقسام وتشكيل حكومة وحدة وطنية تستجيب للظروف السياسية الإقليمية والدولية. لقد شكلت الخلافات والانقسامات العربية الإقليمية بيئة خصبة لاستمرار الانقسام الفلسطيني وتغذيته خدمة لمصالح وأجندات خارجية ليس لها علاقة بمصالح الشعب الفلسطيني. فقد عملت إسرائيل على تعزيز الانقسام ورفضت أي مصالحة فلسطينية لا تستجيب وتتعامل مع شروط الرباعية الدولية. وعملت القوى العربية الإقليمية الأخرى على دعم حلفائها الفلسطينيين خدمة لأهدافها ومصالحها، لأن القضية الفلسطينية بمثابة إحدى أهم الأوراق للأطراف الإقليمية المتصارعة في منطقة الشرق الأوسط، وكل طرف يحاول توظيفها بما يخدم مصالحه السياسية.
الشرق الأوسط بعد الثورات العربية
تغيرت خارطة المصالح والتحالفات بعد انطلاق ثورات ما سمي بالربيع العربي ونجاح جماعة الإخوان المسلمين في انتخابات تونس ومصر وليبيا. وتزامن ذلك مع مغادرة حماس العاصمة السورية دمشق وذهابها إلى العاصمة القطرية في الدوحة، وهذا بدوره انعكس سلبا على ملف المصالحة الفلسطينية. فعلى الرغم من توقيع اتفاق المصالحة الفلسطينية (اتفاق القاهرة) في أيار (مايو) 2011، إلا أن حركة حماس والتي استشعرت بأن التغيرات في منطقة الشرق الأوسط تعمل لصالح قوى الإسلام السياسي التي هي جزء أصيل منه، حماس لم تكن في عجلة من أمرها لتنفيذ الاتفاق وراهنت على تغيرات أكثر تأثيراً في المنطقة لتخدم أهدافها ومصالحها وخاصة مع انتخاب الرئيس المصري محمد مرسي ممثلا لجماعة الإخوان المسلمين رئيسا لمصر في حزيران (يونيو) 2012. وبالمقابل عندما تم إقصاء جماعة الإخوان المسلمين من السلطة في مصر في حزيران (يونيو) 2013، شعرت حركة فتح بأن رياح التغيير العكسية في المنطقة عادت من جديد ولا توجد هناك ضرورة لتنفيذ اتفاق القاهرة. يلاحظ بأن كلاً من حركتي حماس وفتح كانت تراهن على تغييرات سياسية في المنطقة تعفيها من المصالحة الفلسطينية بدون تحقيق شروطها ومصالحها الأساسية وبالتالي توجيه ضربة كبيرة لخصمها السياسي.
ولكن الأسوأ من كل ذلك هو انزلاق ثورات الربيع العربي في سوريا وليبيا واليمن إلى حروب أهلية وصراعات مذهبية أدت إلى تراجع القضية الفلسطينية باعتبارها القضية المركزية للأمة العربية. فقد توسع النفوذ الإيراني الشيعي في أربع عواصم عربية، هي: بيروت، وبغداد، ودمشق، وصنعاء، مما أثار مخاوف شديدة لدى دول الخليج العربي وخاصة المملكة العربية السعودية، والتي استنزفت مواردها بتوجيهها في مواجهة التمدد الإيراني الشيعي في المنطقة العربية. ومع صعود الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وسيطرتها على مدينة الموصل العراقية في حزيران (يونيو) 2014 وما نتج عن ذلك من عمليات قتل وتشريد للمدنيين العراقيين، أثارت مخاوف دول المنطقة والعالم التي شكلت تحالفا دوليا لمواجهة داعش. وزادت المخاوف بعد سيطرة داعش على منطقة الرقة السورية ومحاولة السيطرة على مدينة عين العرب/كوباني على الحدود السورية التركية.
هيمنة الصراع الطائفي السني الشيعي في العراق وسوريا واليمن لم تؤدِّ إلى تراجع القضية الفلسطينية فقط، بل اعتبرت بعض الدول العربية بأن التهديد الإيراني الشيعي في المنطقة العربية أكثر خطورة من التهديد الإسرائيلي على الأمن القومي العربي وأمن دول الخليج. هذه التغيرات الدراماتيكية مهدت الطريق أمام إسرائيل للدعوة إلى تحالف إسرائيلي سني لمواجهة التهديد الإيراني للمنطقة، خاصة طموحات إيران النووية والتي تمثل تهديداً استراتيجياً على أمن إسرائيل ودول الخليج العربي. وفي ظل حالة الجنون التي باتت تسيطر على منطقة الشرق الأوسط، فقد انقسمت المنطقة إلى ثلاثة تيارات أساسية: المحور الأول الشيعي والذي يضم إيران، والعراق، وسوريا، والحوثيين في اليمن، وحزب الله، والمحور الثاني السني ويضم المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والأردن، ومصر، وإلى حد ما السلطة الفلسطينية، وأما المحور الثالث والأخير فيضم تركيا وقطر وجماعة الإخوان المسلمين وحركة حماس. وتسعى إسرائيل أن تكون جزءا من التحالف السني في مواجهة إيران وداعش.
مما لا شك فيه بأن هناك مصالح وقواسم مشتركة بين إسرائيل ودول التحالف السني، فكلاهما يخشى من النفوذ الإيراني الشيعي في منطقة الشرق الأوسط على حساب مصالح هذه الدول، وكلاهما يرى في طموحات إيران النووية خطراً على مستقبل هذه الدول وعلى الأمن والاستقرار في المنطقة. ولم يعد سراً بأن هناك تعاوناً عسكرياً وأمنياً بين إسرائيل وبعض الدول الخليجية لمنع توسع النفوذ الإيراني في المنطقة. فقد أكد رئيس وزراء إسرائيل في أكثر من مناسبة وخاصة في خطابه أمام الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الأول (أكتوبر) 2016 عن وجود تقارب بين إسرائيل ودول التحالف السني. ولكن هذا لا يعني على الإطلاق بأن الدول العربية جاهزة لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل بدون حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فقد أكدت الدول العربية مرارا وتكرارا بأن أي اعتراف وتطبيع عربي مع إسرائيل لن يمر إلا من خلال حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وعلى أساس مبادرة السلام العربية التي أعلن عنها في القمة العربية في بيروت في العام 2002.
الحل الإقليمي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي
برزت في الأيام الأخيرة الحلول الإقليمية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وخاصة بعد وصول المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي إلى طريق مسدود. فمنذ نيسان (أبريل) 2014، توقفت المفاوضات بين الطرفين بعد أن رفضت إسرائيل إطلاق سراح الدفعة الرابعة والأخيرة من الأسرى الفلسطينيين الذين تم اعتقالهم قبل توقيع اتفاق أوسلو في 1993، وبسبب رفض إسرائيل تجميد الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية والقدس الشرقية. وقد تعززت هذه التقديرات بسبب اتساع قوة اليمين واليمين المتطرف في المجتمع الإسرائيلي والذي يرفض حل الدولتين ويعتبر الضفة الغربية جزءاً من أرض إسرائيل التوراتية. الأحزاب اليمينية والمتطرفة في إسرائيل باتت تسيطر على الحكومات الائتلافية منذ عودة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى السلطة في بداية العام 2009. فحزب إسرائيل بيتنا بزعامة الوزير الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، وكذلك حزب البيت اليهودي بزعامة الوزير نفتالي بينيت، يدعمان الاستيطان ويعبران بشكل صريح عن رفضهما لحل الدولتين. هذه الأحزاب وغيرها من الأحزاب الدينية في إسرائيل باتت هي الشريك الأساسي في حكومات نتنياهو.
وقد تعززت الحلول الإقليمية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي بعد نجاح الرئيس الأميركي دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية وتوليه منصب الرئاسة في20 كانون الثاني (يناير) 2017. ففي المؤتمر الصحافي الذي عقد بين ترامب ونتنياهو في شباط (فبراير) 2017 في البيت الأبيض، عبر الرئيس ترامب عن دعمه غير المحدود لإسرائيل، وفيما يتصل بحل الدولتين قال” أنا مع حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة، ما يتفق عليه الفلسطينيون والإسرائيليون، أنا أؤيده”. وكانت هذه التصريحات بمثابة انقلاب من جانب الرئيس ترامب على المواقف الأميركية منذ الرئيس جورج بوش الابن 2001-2008 على حل الدولتين، وقد أكد نتنياهو في المؤتمر الصحافي على أهمية الحل الإقليمي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
المخاوف الفلسطينية من الحل الإقليمي لم تعد سرية وخاصة بعد تراجع العلاقات الفلسطينية المصرية بعد رفض الرئيس عباس لمبادرة الرباعية العربية، والتي تتكون من مصر والأردن والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقد تقدمت بمبادرة في أيلول (سبتمبر) 2016 لتسوية الخلاف بين الرئيس محمود عباس والنائب في المجلس التشريعي محمد دحلان، ومن ثم يتم العمل على مصالحة بين حركتي حماس وفتح، وذلك من أجل قطع الطريق على إسرائيل التي تدعي بعدم وجود شريك فلسطيني بسبب الانقسام الفلسطيني وعدم سيطرة السلطة الفلسطينية على قطاع غزة. فقد كان الهدف إعادة إحياء المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية أملاً في التوصل إلى حل سياسي.
مصر كانت من أكثر أعضاء الرباعية حماساً لهذا الموضوع، وذلك من أجل ترتيب أوضاعها الأمنية في سيناء وقطع الطريق على الجماعات الجهادية السلفية والتي باتت تتبنى القضية الفلسطينية في سبيل الحصول على الدعم والتأييد. رفض الرئيس عباس لمبادرة الرباعية العربية دفع الجهات السيادية المصرية للتعامل مباشرة مع الفلسطينيين في قطاع غزة وكذلك أدى إلى تحسن ملحوظ في العلاقات بين حماس ومصر مؤخرا. فقد اجتمع إسماعيل هنية، نائب رئيس المكتب السياسي لحماس وكذلك مدير الأجهزة الأمنية في قطاع غزة اللواء توفيق أبو نعيم مع الجهات السيادية المصرية لضبط الحدود بين قطاع غزة ومصر. التقارب المصري مع حركة حماس سيكون على حساب العلاقة مع السلطة الفلسطينية وحركة فتح، ويمكن القول بأن قيام السلطات المصرية بإرجاع اللواء جبريل الرجوب، أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح ورئيس اتحاد الرياضة الفلسطينية من مطار القاهرة، هي رسالة واضحة من مصر للقيادة الفلسطينية.
التصريحات الأخيرة لعضو حزب الليكود أيوب قرا والتي أعاد التأكيد فيها على الحل الإقليمي للقضية الفلسطينية كانت الأكثر جرأة. فقد تبنى أيوب قرا خطة الجنرال الإسرائيلي غيورا آيلاند، مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي أريئيل شارون سابقا، خطة قيام دولة فلسطينية في غزة على أن يتم توسعتها على حساب الأراضي المصرية في سيناء. بالرغم من نفي الجهات السيادية في مصر هذه الأفكار، إلا أن هذه التصريحات باتت تؤخذ على محمل الجد من كل القيادات والفصائل الفلسطينية. خطورة هذه المبادرات تتزامن مع التوسع والتغول الاستيطاني اليهودي في الضفة الغربية، وسن قانون التسويات من قبل الكنيست الإسرائيلي والذي يقضي بمصادرة وسرقة الأراضي الفلسطينية الخاصة. وتتزامن كذلك مع دعوات اليمين المتطرف بزعامة نفتالي بينيت في إسرائيل إلى ضم المنطقة (جيم) والتي تقدر مساحتها بحوالي 60% من مساحة الضفة الغربية وفرض السيادة الإسرائيلية عليها. إسرائيل باتت تدرك بأن حالة التراجع والانكفاء العربي، وانشغال الدول العربية السنية بالخطر الشيعي الإيراني، هي بمثابة فرصة يجب أن تستغلها لفرض حقائق على الأرض الفلسطينية، وتمرير مشاريعها الرامية لتصفية حل الدولتين ومنع قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية.
سيناريوهات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي
- سيناريو الوضع الراهن: من الصعب القول بأن أحد السيناريوهات القادمة بقاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على ما هو عليه. السياسات الإسرائيلية الرامية إلى تعزيز الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية وتهويد مدينة القدس، واستمرار سياسة هدم البيوت، والاعتقالات الجماعية، وعمليات التنكيل اليومية من قبل المستوطنين اليهود مثل جماعة “تدفيع الثمن” وغيرها لا تساعد على بقاء الوضع كما هو. بالرغم من أن القيادة الفلسطينية تريد الانتظار وتعمل كل ما بوسعها لمنع انتفاضة جديدة، إلا أن الوضع غير قابل للاستدامة. ومن غير المنطقي كذلك أن يستمر الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة والذي يمر عليه عشر سنوات في حزيران (يونيو) 2017. من الواضح أن الأوضاع الإنسانية تزداد مأساوية في قطاع غزة، فاستمرار معدلات الفقر والبطالة العالية، وأزمات المياه والكهرباء وإغلاق المعابر باتت وصفة لحرب وكارثة جديدة تنذر في الأفق القريب.
- سيناريو التصعيد: الإجراءات والسياسات الإسرائيلية اليومية تجاه الفلسطينيين في الضفة الغربية والحصار المفروض على قطاع غزة باتت تنذر باحتمالات التصعيد والمواجهة. تلاشي حل الدولتين ومحاولة إسرائيل فرض الحلول الاستسلامية على الفلسطينيين، يمكن أن تؤدي إلى مواجهات جديدة في الضفة الغربية والقدس الشرقية وتتصاعد هبة القدس من جديد في وجه الاحتلال الإسرائيلي. ومن الممكن أن تكون الانتفاضة الفلسطينية القادمة أكثر عنفا من الانتفاضات السابقة. الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ عشر سنوات والتصعيد المستمر قد يدفع فصائل المقاومة الفلسطينية وبشكل خاص حماس في ظل قيادتها العسكرية الجديدة بقيادة يحيى السنوار إلى خوض حرب جديدة مع الاحتلال الإسرائيلي.
- سيناريو التبريد والحل المرحلي القيادات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية تعلم تماماً بأنه لا يوجد حل عسكري للمقاومة في قطاع غزة، فثمن الدخول وإعادة احتلال غزة مكلف سياسياً ومالياً والأهم من ذلك عسكريا. والسؤال الأهم: ماذا بعد إعادة احتلال غزة، فلا يوجد بديل عربي أو فلسطيني عن حركة حماس في الوقت الراهن. تصريحات وزير الجيش الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان بأن إسرائيل جاهزة للسماح ببناء مطار وميناء وانهاء الحصار مقابل إطلاق سراح الجنود الإسرائيليين ونزع سلاح المقاومة، يجب أن تؤخذ على أنها تغير في السياسة الإسرائيلية تجاه غزة. وتصريحات وزير الجيش السابق موشيه يعلون والتي كان يرد فيها على تقرير مراقب الدولة، حيث قال بأنه كان من الممكن تجنب الحرب في صيف 2014 لو عملت إسرائيل على تخفيف الحصار المفروض على غزة. ويضاف إلى ذلك تأييد قيادات إسرائيلية مثل وزير المواصلات إسرائيل كاتس والذي أبدى تأييده لإقامة مطار وميناء على جزيرة في البحر قبالة ساحل غزة، والتي لاقت تأييدا من زعيم حزب “يوجد مستقبل” يائير لابيد. كل هذه التصريحات الإسرائيلية ترمي إلى قيام دولة فلسطينية في قطاع غزة وبرعاية إقليمية مع حصول الفلسطينيين على حكم ذاتي محدود في الضفة الغربية. من الواضح أن ذلك غير مقبول فلسطينيا، ولكن يبدو أن التغيرات الإقليمية والدولية باتت تمهد لمرحلة جديدة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وخاصة بسبب الانشغال العربي في الصراع المذهبي السني الشيعي في منطقة الشرق الأوسط.
[*] رئيس قسم العلوم السياسية- جامعة الأزهر-غزة.