د. أيمن يوسف*
ملخص
شكل صعود حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم في تركيا عام 2002، وما رافقه من خطاب قومي عثماني ديني، بدل خطاب الدولة العلمانية الأتاتوركية، نقطة تحول في سلوك تركيا السياسي تجاه القضية الفلسطينية.
وانطلق هذا التحول من باب أيديولوجيا الحكم القريبة من حركة “حماس” ومن البعد الديني للقضية الفلسطينية من جهة، ومن باب التحول في الدور الذي يراه صناع القرار في أنقرة بالانتقال من الغرب، خاصة بعد فشل المساعي المتكررة للانضمام للاتحاد الأوروبي، إلى الشرق كمرتكز لتقديم تركيا نفسها كقوة إقليمية فاعلة تمتلك أوراق فعل مؤثرة، منها القضية الفلسطينية. وهذا ما يفسر تصاعد الدعم السياسي والاقتصادي والثقافي للشعب الفلسطيني ومحاولة تركيا الحفاظ على العلاقة الإيجابية مع القيادة الفلسطينية وحركة حماس على حد سواء، بل ومحاولة لعب دور الوسيط في ملف المصالحة الفلسطينية.
مقدمة
من المعروف أن تركيا كانت الدولة المسلمة الأولى التي اعترفت بالكيان الإسرائيلي في 28 آذار (مارس) عام 1949، وقد جاءت هذه الخطوة التركية نتيجة تأثر السياسات التركية بمستوياتها الثقافية وتمظهراتها التاريخية بعد سقوط دولة الخلافة العثمانية في العام 1924، وانعزال تركيا السياسي عن جيرانها العرب وعن العالم الإسلامي عموماً. لذلك اعتبر بعض المحللين أن السياسات التركية في تلك المرحلة ربما تأثرت بالثورات التي قام بها العرب ضد الحكم العثماني وما خلقته من توتر بين الطرفين، غذته القوميتان التركية والعربية خاصة منذ نهاية القرن التاسع عشر.
كما أن تأثر تركيا داخلياً وخارجياً بالأيديولوجية الكمالية الأتاتوركية في تلك الفترة، بشعاراتها العلمانية والقومية قد أسهم في دفع تركيا للاعتراف بإسرائيل كدولة مستقلة قامت على أنقاض الشعب الفلسطيني في عام 1948، ولا يمكن لهذا التحليل أن يكتمل إلا إذا أضيفت عليه الاعتبارات الإستراتيجية والجيوسياسية المرتبطة بانضمام تركيا بشكل مباشر إلى التحالف الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأميركية خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث دخلت تركيا في حلف بغداد وفي الحلف المركزي عام 1955، كما أنها انضمت إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي يعد المظلة الإستراتيجية لدول غرب أوروبا والولايات المتحدة، وكصمام أمان لاحتواء الشيوعية التي بدأت تنتشر في القارة الأوروبية وفي أطرافها ومن ضمنها تركيا. ومن هنا يمكن التلخيص والقول إن الاعتراف التركي بدولة احتلال جاء ضمن مساحتي احتواء الشيوعية وعزل القومية العربية[1].
وفي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، تأثرت السياسة الخارجية الإسرائيلية بنظرية بن غوريون حول الأطراف Periphery، التي تقوم على أساس توثيق إسرائيل لعلاقاتها مع الدول الطرفية المحاذية للعالم العربي في الشمال والشرق والجنوب، وهي تركيا وإيران وأثيوبيا، وقد جاءت هذه الإستراتيجية من أجل كسر العزلة التي فرضت على إسرائيل من العالم العربي، وقد كانت تركيا الأكثر قرباً إلى إسرائيل في هذه المرحلة لأسباب ثقافية وسياسية وإستراتيجية في ضوء إسقاطات الحرب الباردة، وتوزيع القوة في القطبية الثنائية الحادة بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي في تلك المرحلة، واستمرت هذه الوضعية مع بعض التغييرات الطفيفة حتى نهاية الحرب الباردة في نهايات القرن العشرين[2].
صعود حزب العدالة والتنمية
مما لا شك فيه أن صعود حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في تركيا في العام 2002 قد تأثر بالسياقات العامة والاعتبارات الإستراتيجية التي اكتنفت ليس فقط تركيا ومكانتها في الشرق الأوسط، إنما ارتبطت بظروف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لا سيما مع اندلاع انتفاضة الأقصى في فلسطين، وفي ضوء صعود إدارة الجمهوريين في الولايات المتحدة الأميركية، بقيادة الرئيس جورج بوش الابن (2001-2009). وفي أكثر من مناسبة انتقدت تركيا سياسة العنف التي مارستها إسرائيل على الفلسطينيين عبر قمع المظاهرات السلمية، وأظهرت تأييداً واضحاً لمفهوم حل الدولتين في فلسطين التاريخية، خاصة أن إدارة بوش كانت أول إدارة أميركية تلفظ كلمة الدولة الفلسطينية، وأعادت الحكومة التركية في أكثر من مناسبة موقفها الداعم للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين القائم على أساس قيام دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وحل عادل لقضية اللاجئين مقابل الأمن المتبادل لكل من فلسطين وإسرائيل، وهو يكاد يكون الموقف الرسمي الفلسطيني، فضلاً عن العربي[3].
أظهرت تركيا انتقادات واضحة لسياسات إسرائيل في الأراضي المحتلة، وأظهرت دعماً للفلسطينيين في مختلف المجالات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى في مجالات الفنون والتعليم والمنح المقدمة للطلبة الفلسطينيين الفقراء الدارسين في الجامعات التركية[4]. وقد تجلى كل ذلك في اتفاقية التجارة الحرة التي وقعتها الحكومة التركية مع الحكومة الفلسطينية في شباط (فبراير) 2004، التي نصت على أهمية مرور السلع والخدمات بين البلدين من دون عوائق تذكر، كما أن الحكومة التركية في نفس العام رفعت تمثيلها الدبلوماسي في الأراضي الفلسطينية إلى درجة سفير في نفس الوقت الذي توترت فيه العلاقة مع إسرائيل، لا سيما على أرضية سياسة القمع الممارسة في فلسطين، وعلى أرضية غياب كل من ياسر عرفات وأحمد ياسين في نهايات نفس العام.
في هذه الأثناء، وتحديداً في العام 2005 قام رئيس الوزراء التركي، آنذاك، رجب طيب أردوغان، بأول زيارة عمل له إلى إسرائيل حيث رافقه وفد سياسي واقتصادي كبير زاد عن المئة شخصية، وقد جاءت هذه الزيارة بعد رحلات مكوكية قام بها وزير الخارجية التركي ووزير خارجية إسرائيل إلى كل من أنقرة وتل أبيب بشكل تبادلي ومكوكي، واللافت أن أردوغان تعهد على هامش الزيارة، من باب استثمار مساحة الفعل السياسي الممكن بين الجانبين، بمساعدة الفلسطينيين عبر تمويله لمحطة كهرباء غزة وتشييده لمئات المنازل هناك خاصة للأسر الفقيرة، كما أظهر دعماً واضحاً لمسيرة العلاقات الإسرائيلية التركية في جوانبها الاقتصادية، إذ قام بتوقيع معاهدة مع الجانب الإسرائيلي لتحديث أكثر من 30 طائرة فانتوم الأميركية التابعة لسلاح الجو التركي، خاصة بعد الخطة التركية لتحديث الجيش ومعداته وخططه الإستراتيجية والعسكرية[5].
حاولت تركيا أن تلعب دور الوسيط بين إسرائيل والفلسطينيين، لا سيما بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي جرت في العام 2006، حيث اعتبر أردوغان أن صعود حماس جاء كخيار فلسطيني حر، وأن عمله في المستقبل سينصب حول أهمية إدماج حماس في المنظومة السياسية الفلسطينية، وفي المنظومتين الإقليمية والدولية، كما شدد أردوغان على أهمية التوضيح لهم –أي لحماس- أن عدم اعترافها بإسرائيل وعدم قبولها بالاتفاقيات الموقعة لن يساعد العملية التفاوضية والسلمية. في الشهور التي تلت ذلك استقبلت تركيا أكثر من زعيم من داخل حركة حماس -بمن فيهم خالد مشعل- لمواصلة التنسيق والحوار واستكشاف آفاق العمل السياسي، لا سيما أن تجربة حماس في الحكم ما زالت محدودة وأن تركيا يمكن أن يكون لها دور فاعل في الملف الفلسطيني عموماً وملف عملية السلام على وجه الخصوص، بحكم علاقاتها الجيدة مع طرفي النزاع[6].
فيما يتعلق بالمصالحة الفلسطينية الداخلية فقد أظهرت تركيا انزعاجاً كبيراً من حالة الانقسام والتردي والتشظي الاجتماعي والسياسي بين الفلسطينيين، لأن ذلك يمس بعدالة القضية الفلسطينية ويضعف الجانب الفلسطيني في مواجهته الاحتلال الإسرائيلي، فأيدت تركيا بقوة اتفاق مكة المكرمة الذي وقعته فتح وحماس برعاية سعودية للمصالحة في العام 2007، الذي نص على تشكيل حكومة وحدة وطنية قادرة على تحمل مسؤولياتها الداخلية وتحدياتها الخارجية، كما أن تركيا أبدت في أكثر من مناسبة استعدادها للوساطة بين فتح وحماس على اعتبار أن لها علاقات جيدة مع القيادة الفلسطينية في رام الله ومع حماس في غزة[7]، إلى جانب أهمية ملف المصالحة وما تمنح لتركيا من أوراق سياسية في الشرق الأوسط، وفي تفاعلها مع الولايات المتحدة الأميركية، وإسرائيل والقوى الدولية الأخرى.
العلاقة مع الفلسطينيين
عند اختبار الدعم التركي المقدم للفلسطينيين كعامل في العلاقة التركية- الإسرائيلية، يجب التفريق بين القضية الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، فمنذ السبعينيات من القرن الماضي، دعمت تركيا القضية الفلسطينية، وتعاطفت مع الفلسطينيين سياسياً، بالرغم من حالة الشك والريبة والتوجس من منظمة التحرير وعلاقاتها الجيدة مع بعض خصوم تركيا في المنطقة، خاصة منظومة الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية خلال فترة الحرب الباردة، ومع اليونان، الجار اللدود لتركيا ومنافستها الإقليمية والتاريخية.
وبالرغم من الصورة النمطية لدى عموم الأتراك عن العرب بسبب موقفهم من الدولة العثمانية في أواخر أيامها، إلا أن الأتراك اعتبروا الفلسطينيين أكثر وفاءً وولاءً للخلافة العثمانية، خاصة لدورهم في الحروب والحملات العسكرية العثمانية في عقود الخلافة الأخيرة[8]. ومن المعروف من السجلات العثمانية ومن العديد من الدراسات المحكمة أن العثمانيين عارضوا في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر الهجرة اليهودية إلى فلسطين بسبب حساسيات دينية من جهة، وبسبب ارتباطات اليهود مع دول الغرب في تلك المرحلة من جهة أخرى، كما أن الدولة العثمانية تصدت للعديد من المحاولات الغربية لتسهيل مهمة هجرة اليهود إلى فلسطين في تلك الفترة[9].
الموقف التركي المتوجس من منظمة التحرير ارتبط بفترة السبعينيات بتقديم المنظمة التدريبات العسكرية والأمنية لبعض الجماعات الكردية والأرمنية والجماعات اليسارية المناهضة لتركيا، هذا إضافة إلى علاقات المنظمة الجيدة مع اليونان، التي أبدت وقدمت دعماً كبيراً للفلسطينيين خلال فترة السبعينيات والثمانينيات، كما استقبلت ياسر عرفات وبعض رفاقه بعد الخروج من بيروت عام 1982 في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان، مقابل ذلك كان موقف المنظمة داعماً للموقف اليوناني من القضية القبرصية، ما أغضب الأتراك[10].
رفضت تركيا الاعتراف بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني حتى العام 1976، حينما دخلت تركيا منظمة المؤتمر الإسلامي، وبعدها بثلاث سنوات سُمح للفلسطينيين بفتح مكتب تمثيل صغير لهم في أنقرة لم يرتقِ إلى درجة سفارة، وفي عام 1996، أي بعد انطلاق عملية أوسلو السلمية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وفي خضم استعداد الفلسطينيين لانتخاباتهم التشريعية والرئاسية الأولى، تقدم ياسر عرفات بطلب رسمي للحكومة التركية لإرسال 60 مراقباً تركياً من طرفها، لكن الاستجابة التركية كانت محدودة بإرسال 4 مراقبين فقط[11].
وبالرغم من حالة الخلاف مع منظمة التحرير، استمرت تركيا -رسمياً- بتقديم الدعم السياسي والاقتصادي للقضية الفلسطينية، مع احتفاظها بعلاقات وثيقة مع إسرائيل في نفس الوقت، فبعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في عام 1987، أدان البرلمان التركي الممارسات اللاإنسانية التي تقوم بها إسرائيل، والعنف الممارس على الفلسطينيين داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما اعتبر وزير خارجية تركيا ممتاز سويسال، أن ما تعتبره إسرائيل إرهاباً فلسطينياً، ما هو إلا محاولة فلسطينية خالصة للدفاع عن حقوق سياسية ومدنية، وقد تفاجأت إسرائيل حينما قامت تاتسو تشيللر رئيسة الوزراء التركية -في حينه- بزيارة بيت الشرق في القدس خلال زيارتها لإسرائيل في عام 1994، واجتماعها بوفد فلسطيني قاده فيصل الحسيني على أمل أن تقوم بلادها بدور الوسيط في عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية مستقبلاً[12].
ازدادت موجات التعاطف مع الفلسطينيين في الشارع التركي بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، إذ خرج آلاف الأتراك إلى الشوارع منددين بالسياسة الإسرائيلية في اقتحام المدن وقتل المدنيين واعتقال الآلاف وجرح المئات، بينما نظم المثقفون والأكاديميون والسياسيون الأتراك مظاهرات تضامنية مع الفلسطينيين، أخذت بعضها شكل إطفاء الأضواء الساعة التاسعة مساءً كتعبير عن رفض سياسات إسرائيل التي تقود إلى الظلام أو العتمة وقتل الحياة.
وفي تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2000، صوتت تركيا لصالح قرار أممي يدين إسرائيل لاستخدامها القوة المفرطة ضد الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما صدرت عبارات وتصريحات إدانة من الرئيس التركي أحمد نجدت سيزر، ووزير خارجيته إسماعيل جيم، ضد إسرائيل وانتهاكاتها بحق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة[13].
كما سبق ذكره كانت تركيا -وللمفارقة الغريبة- أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل بصورة رسمية في عام 1949 تحت تأثير القومية التركية الأتاتوركية، لكن في نفس الوقت كانت تركيا من أوائل الدول الإسلامية التي اعترفت بإعلان الاستقلال الفلسطيني في الجزائر عام 1988، وشهدت السياسة الخارجية التركية تجاه القضية والقوى الفلسطينية تطوراً بعد وصول حزب العدالة والتنمية Justice and Development Part AKP إلى السلطة السياسية في أنقرة عام 2002، إذ بدأ حزب العدالة والتنمية بالانحياز التدريجي للخطاب الفلسطيني، وهذا توج بدعوة قادة حماس لزيارة أنقرة في العام 2005.
وظهر هذا التوجه بشكل واضح في سياسات تركيا خلال حرب إسرائيل على غزة عام 2008/2009، وانتقاداتها اللاذعة لسياسات إسرائيل التدميرية في غزة، فاعتبر رجب طيب أردوغان -رئيس وزراء تركيا في حينه- أن صواريخ حماس التي تطلق من غزة باتجاه المدن والتجمعات الإسرائيلية المحاذية لغزة، لا يمكن لها أن تقتل بسبب ضعف إمكانياتها التقنية والتفجيرية، كما أنه -أي أردوغان- دعا إلى نزع مقعد إسرائيل في الأمم المتحدة بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان والاستخدام المفرط للقوة العسكرية.
بالمقابل طالب أردوغان العالم بالتعاطي مع حماس على اعتبار أنها حزب إصلاحي سياسي يستطيع أن يمثل الفلسطينيين والقضية الفلسطينية في المحافل الدولية والإقليمية، في كانون الثاني (يناير) عام 2009، وقف ما يقارب 15 مليون طالب وطالبة في المدارس والجامعات التركية دقيقة صمت دعماً للفلسطينيين وإدانة لإسرائيل وسياساتها.
ظهرت الكثير من مؤشرات الدعم التركي للفلسطينيين ومناهضة سياسات إسرائيل في الشارع التركي، حيث ألقيت قنابل على أحد فروع بنك (بوزتيني) الإسرائيلي في إسطنبول، كما أن الجمهور التركي واجه فريق كرة السلة الإسرائيلي النسوي أثناء وجوده في إسطنبول بالعبارات المؤيدة للفلسطينيين، ووزعت منشورات لمقاطعة المحلات التجارية والمؤسسات المالية المملوكة من اليهود في إسطنبول وأنقرة[14].
وهنا يجب الإشارة إلى أن حزب العدالة والتنمية الذي يقوده أردوغان الذي وصل إلى الحكم عام 2002 جاء نتيجة لتجمع مجموعة من النواب والشخصيات السياسية والقيادية المحسوبة على حزب الفضيلة الإسلامي، ويمكن القول إن العدالة والتنمية هو الجناح المعتدل لحزب الفضيلة، يُسوّق نفسه على أنه “حزب إسلامي تقدمي يحترم الحريات الدينية والفكرية، منفتح على الآخر وعلى مجمل المنظومة الدولية، ويتبنى سياسات التسامح والحوار”.
شهدت السياسة الخارجية التركية في الشرق الأوسط تحولات كبيرة خاصة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وقد كان هذا واضحاً من خلال المواقف والتصريحات والمبادرات الدبلوماسية التي أطلقتها تركيا إقليمياً ودولياً لدعم الفلسطينيين في مختلف المحافل والمنصات الدولية، كما أن تركيا شاركت في العديد من المؤتمرات الدولية ذات الطابع الاقتصادي لتحسين أوضاع الفلسطينيين، والتي كان آخرها مؤتمر باريس للمانحين الذي عقد في نهاية عام 2017، وبموجبه تعهدت تركيا بتقديم 150 مليون دولار للسلطة الوطنية الفلسطينية على مدار 3 سنوات، ويضاف إلى ذلك قناعة حزب العدالة والتنمية أن فلسطين تمثل محورية خاصة في الحالة الإسلامية، ولها مركزية في التاريخ التركي والعثماني، فقد أيد هذا الحزب العلاقات الثقافية مع فلسطين بناء على قيم التاريخ والثقافة والدين، وشجع التبادل الثقافي والأكاديمي بين تركيا وفلسطين. كما أن فلسطين وقضيتها السياسية تمثلان حالة وجدانية بالنسبة للعديد من الأتراك لارتباطات مع التاريخ والجغرافيا والثقافة الوطنية والدين، ولأن فلسطين تمثل حلقة هامة من حلقات إحياء العثمانية الجديدة التي بدأ أردوغان بتبنيها بعد وصول حزبه إلى السلطة[15].
البحث عن علاقات متوازنة مع الفلسطينيين
تدهورت العلاقات الإسرائيلية التركية بشكل كبير في العقد الأخير، خاصة بعد حادثة سفينة مرمرة في شهر أيار (مايو) عام 2010، التي ستأتي الورقة على تفصيلها لاحقاً، إلى جانب العديد من الأسباب والمتغيرات والفواعل المحلية والإقليمية والدولية التي أسهمت في توسيع الفجوات الإستراتيجية بين إسرائيل اليمينية وتركيا الأردوغانية، منها صعود حركة حماس في الحالة الفلسطينية كمكون من مكونات الإسلام السياسي المعاصر وتقاربها مع نظام الحكم في تركيا، خاصة أن الإشارات الداخلية في تركيا شجعت هذا التقارب، حيث إن أغلب المصوتين لحزب العدالة والتنمية وغالبية قواعده الجماهيرية تعلي العامل الديني في السياسة الخارجية التركية، وتؤمن بضرورة التقرب أكثر من القضايا الإسلامية، خاصة في سياق الحديث التركي المطول عن تجديد تخوم الإمبراطورية العثمانية[16].
لكن في نفس الوقت، احتفظت تركيا بعلاقات جيدة مع السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله على كافة الأصعدة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في محاولة تركية واضحة للموازنة بين فتح وحماس في معادلة إقليمية معقدة، إذ وقعت الحكومة الفلسطينية اتفاقية لتشجيع الاستثمار المتبادل مع تركيا، ويبدو أن هناك توجهاً فلسطينياً رسمياً لتشجيع الأتراك على الاستثمار داخل القدس لاحتواء التهويد الإسرائيلي للمدينة المقدسة ومواجهة حلقات الاستيطان الداخلية والخارجية التي تقوم بها إسرائيل في عاصمة دولة فلسطين.
قام رئيس الوزراء الفلسطيني د. محمد اشتية بزيارة لتركيا في أيار (مايو) عام 2019، ليس فقط للحديث عن الأوضاع الاقتصادية والمالية الصعبة وتشجيع الاستثمار التركي في الأراضي الفلسطينية، لكن أيضاً لأهداف سياسية وإستراتيجية كون تركيا لاعباً مهماً في منطقة الشرق الأوسط ولها نفوذها الإقليمي والدولي، ويمكن أن تكون جزءاً من الرؤية الفلسطينية الإستراتيجية لمواجهة التوغل الإسرائيلي في العديد من دول العالم، خاصة أن المعركة مع إسرائيل سياسية بامتياز تحددها موازين القوى ومعادلة المصالح.
في القطاعات الخدماتية والإغاثية والتنموية والاقتصادية، ما زالت تركيا تقدم ما يقارب العشرين مليون دولار سنوياً كمساعدات للفلسطينيين، مع حجم التبادل التجاري الذي يقارب حوالي 400 مليون دولار.
ولفت الخبير الإسرائيلي ألون ليئيل إلى أن مستقبل العلاقات بين تركيا وإسرائيل سيبقى عرضة للمد والجزر، في ظل وجود حقيقتين: الأولى أن القيادة السياسة التركية الحالية ذات المنابت الإسلامية ستبقى في سدة الحكم إلى فترة طويلة سواء في رئاسة الجمهورية أو البرلمان أو رئاسة الوزراء، أما العامل الثاني فهو أن هناك روابط عقائدية تجمع الحزب الحاكم في تركيا- العدالة والتنمية، وبين حركة حماس، وليس بإمكان إسرائيل أن تعول كثيراً على تباعد الموقفين في المستقبل المنظور[17].
من القيود المفروضة على علاقة تركيا التحالفية مع إسرائيل البعد الاجتماعي والتضامن الشعبي التركي مع الفلسطينيين، وهذا عائد جزئياً -كما تقدم- إلى التركة التاريخية والحقبة العثمانية، حيث كانت فلسطين جزءاً من الإمبراطورية العثمانية عظيمة الامتداد. ومع اندلاع انتفاضة الأقصى الثانية كثرت أعمدة الصحافيين والإعلاميين والمحللين الأتراك المتضامنين مع الفلسطينيين، التي شكلت رأياً عاماً اعتبر أن استمرار العلاقة مع إسرائيل -خاصة عسكرياً، في ضوء قيام الجيش الإسرائيلي “بانتهاكات وفظائع في الأراضي الفلسطينية”- غير مقبول لدى جموع الأتراك.
إن ما زاد من حنق الشارع التركي وغضبه على إسرائيل هو الزيارة الاستفزازية لشارون إلى المسجد الأقصى في أيلول عام 2000، التي كانت الشرارة التي فجرت الانتفاضة الثانية، إذ إن هذا الحدث لم يستفز الفلسطينيين فقط، بل جموع المسلمين في العالم، وقد زاد اهتمام الشارع التركي بما يجري في فلسطين، حيث أظهرت استطلاعات الرأي في السنة الأولى للانتفاضة أن أكثر من 40% من الأتراك يتابعون ما يجري في فلسطين بشكل دوري، مع وجود نسبة 15% تعتقد أن على تركيا أن تساعد الفلسطينيين وتساندهم في كل الوسائل المتاحة بما فيها السلاح والجهد العسكري[18].
علاقات مأزومة مع إسرائيل
دخلت العلاقة الإسرائيلية التركية في مرحلة تأزم وتدهور عميقين في أعقاب قيام إسرائيل بمهاجمة أسطول الحرية المتجه إلى غزة في نهاية أيار (مايو) عام 2010 لكسر الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ عام 2006، وكان من نتائج العملية الإسرائيلية مقتل تسعة نشطاء أتراك كانوا على متن السفينة التركية “مرمرة” التي كانت جزءاً من أسطول الحرية المكون من ست سفن.
لاقت هذه الخطوة الإسرائيلية رد فعل تركي غاضباً، إذ قامت أنقرة باستدعاء سفيرها في تل أبيب، وأبلغت السفير الإسرائيلي في تركيا رسالة احتجاج قوية، كما ألغت تركيا مناورات مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، فضلاً عن إلغاء صفقات سلاح وتعطيل التنسيق الأمني والتعاون العسكري، كما هددت تركيا في أعقاب حادثة سفينة “مرمرة” بخفض مستوى العلاقات بين البلدين إلى أدنى مستوى، ولوحت بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل إن لم تقم إسرائيل بالاعتذار على قتل مدنيين أتراك في المياه الدولية، وأصرت تركيا -إلى جانب ذلك- على تشكيل لجنة تحقيق دولية، ورفضت اللجنة التي شكلتها الحكومة الإسرائيلية في أعقاب الضغط الدولي عليها، ما جعل حادثة “مرمرة” حدثاً هاماً وذروة لا مثيل لها في تأزم العلاقات بين البلدين.
ويبدو للعديد من المحللين أن إسرائيل في الآونة الأخيرة بدأت تظهر عدم ارتياح، بل غضباً من سياسة تركيا في ظل حكومة العدالة والتنمية، ومن السياسة الخارجية التركية المرتبطة بفلسفة أردوغان ومواقفه السياسية، حيث أخذت تركيا تميل إلى إظهار السياسة المتشددة تجاه إسرائيل فيما يتعلق بالملف الفلسطيني وحصار إسرائيل لقطاع غزة، كما أن إسرائيل تدرك أن تركيا تحاول ملء فراغ القوة الواضح في الشرق الأوسط لتنافس إسرائيل على مساحة التأثير الجيوسياسي عبر تبني موقف مؤيد للفلسطينيين ولحركة حماس.
أيضاً، فإن إسرائيل غير راضية فيما يتعلق بالدور التركي في محاولة معالجة الملف النووي الإيراني، خاصة بعد نجاح المبادة التركية– البرازيلية المشتركة في إقناع إيران بإمكانية تخصيب اليورانيوم بنسبة معينة في تركيا من أجل إعادته للاستخدام المدني داخل إيران[19]. مثل هذا التحرك التركي، بحسب وجهة النظر الإسرائيلية، يساعد إيران في “خداع العالم” لشراء الوقت من أجل استغلاله لتكثيف عملية المضي قدماً بالبرنامج النووي للأغراض العسكرية، كما أن هذه الخطوة التركية يمكن أن تساعد إيران في التملص من العقوبات الدولية التي تحاول الدول الكبرى فرضها عليها ووضعها في الزاوية بحيث تفقد خياراتها المختلفة في التعامل مع هذه القضية.
التأزيم في العلاقة مع تركيا جاء في أعقاب العديد من الأحداث التي أوصلت الروابط بين البلدين إلى هذا الطريق المسدود والتأزيم المشحون ومن هذه الأحداث:
- مداخلة أردوغان في دافوس في كانون الثاني (يناير) عام 2009 والترحاب الحار له في تركيا بعد مناوشته الكلامية مع شمعون بيريس.
- انتقاد تركيا لتصريحات إسرائيلية اعتبرت أن تركيا قوة احتلال في شمال قبرص، وذلك في شباط (فبراير) عام 2009.
- في تشرين الأول (نوفمبر) عام 2009، منعت تركيا مشاركة إسرائيل في مناورات حلف الناتو فوق الأراضي التركية، ما أدى إلى إلغاء المناورات نفسها.
- احتجاجات إسرائيلية على أكثر من مسلسل وفيلم تركي تظهر فيه إسرائيل كدولة معادية للإنسانية تقوم بقتل الأطفال واغتصاب النساء بدم بارد.
- إهانة السفير التركي في إسرائيل من قبل نائب وزير الخارجية الإسرائيلي داني أيالون[20].
ما يخيف المصادر الإسرائيلية، الرسمية وغير الرسمية، أن العلاقة التركية مع كل من إيران وسوريا أخذت تتجذر وتأخذ طابعاً إستراتيجياً عميقاً مع تزايد في مستوى العلاقات السياسية والاقتصادية والتبادل التجاري، فبينما لم يتجاوز التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل بضعة مليارات، وصل التبادل الإيراني التركي في عام 2009 إلى ما يقارب 11 ملياراً، وقفز التبادل التجاري التركي مع سوريا إلى 4 مليارات دولار[21].
ويبدو أن التطورات على صعيد العلاقة الإسرائيلية التركية ماضية باتجاه التصعيد في ضوء التحشيد المعنوي والإعلامي وغضب الرأي العام خاصة داخل تركيا، حيث لا تنفصل هذه التطورات المتلاحقة عن التصريحات النارية التي يطلقها بعض السياسيين الأتراك ليعبروا فيها عن غضبهم من إقدام إسرائيل على قتل أتراك بدم بارد. فقد اعتبر أردوغان أن مهاجمة إسرائيل لأسطول الحرية وقتل الأتراك على متن سفينة مرمرة يعد عملاً منظماً من إرهاب الدولة، وعلى القائمين على القانون الدولي أن يحاسبوا ويعاقبوا إسرائيل على مثل هذا “العمل الشائن”[22].
خاتمة
إن تتبع المواقف التركية من القضية الفلسطينية في آخر عقدين -تقريباً- يظهر أن هذه المواقف لا يمكن أن تفهم وتقيّم بعيداً عن العلاقات التركية الإسرائيلية على اعتبار أن إسرائيل عنصر هام في معادلة تطور السياسات التركية تجاه فلسطين وقضيتها، وبالرغم من العلاقة الجيدة التي ربطت تركيا بإسرائيل خاصة خلال الحرب الباردة، إلا أن التحولات من القضية الفلسطينية بدأت تتبلور في بدايات القرن الحادي والعشرين مع صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا في العام 2002.
في هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن تركيا حاولت فعلاً، بالرغم من تناغمها وتأييدها للفلسطينيين، أن توازن مصالحها مع إسرائيل وأميركا والغرب، عبر الاستمرار في علاقات اقتصادية وثقافية متصاعدة مع إسرائيل، مع أن مواقفها السياسية كانت ناقدة بشكل علني ومستمر لسياسات وإجراءات دولة الاحتلال على أرض الواقع.
للتحميل اضغط هنا
الهوامش
* أستاذ العلوم السياسية في الجامعة العربية الأمريكية.
[1] Alsaftawi, Mohammed. 2017. “Turkish Policy Towards Israel and Palestine : Continuity and Change in the Relations of the Turkish-Palestinian-Israeli Triangle Under the Rule of the Justice and Development Party (AKP) (2002-2016)” (PhD thesis). Ghent, Belgium: Ghent University. Faculty of Political and Social Sciences., p.90.
[2] Abadi, J. (1995). Israel and Turkey: From Covert to Overt Relations. Journal of Conflict Studies, 15(2). Retrieved from https://journals.lib.unb.ca/index.php/JCS/article/view/4548.
[3] بلا مؤلف، تركيا والفلسطينيون، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت: لبنان، 2010، ص. 38-40
[4] MOFA. Free Trade Agreement between Turkey and the PLO for the benefit of Palestinian Authority, available from: http://www.mofa.gov.ps/MneModules/agreements/Atur-pal.pdf.
[5] Bayraktar, Bora, The Palestinian Question in Turkish Foreign Policy from 1990s to 2010s, Akademik Bakış, Issue, 24, Vol. 12, 2019.
[6] Ibid.
[7] Ibid.
[8] Kibarogulu, Mustafa, Turkey and Israel Strategize, Middle East Quarterly, Winter 2002, p.65
[9] Benbassa, Esther, Zionism in the Ottoman at the end of 19th century and Early 20th Century, Studies in Zionism Journal, Vol. 11, No. 2. 1990
[10] Aykan, Mahmout Bali, Palestine Question in Turkish Foreign Policy from 1950’s to 1990″s, International Journal of Middle East Studies, Feb. 1993, P. 100
[11] Aras, Bulent, Palestinian-Israeli Peace Process and Turkey, New York: Nova Science Publishers, 1998, P. 125
[12] Candar, Cengiz, Turkey : An Unexpected Response in the Street Reacts to the Operation Defensive Shields: Span shots from the Middle East, Journal of Palestine Studies, Summer 2002, P. 63
[13] Ibid
[14] Cagaptay, Sonor, Turkish- Israeli: Ties After The Deluge, Jerusalem Post, Feb. 14, 2009
[15] Ertousun, Erkan, Turkey and the Palestinian Question: The Shift of Roles in Foreign Policy: Turkey and the Palestinian Question, Digest of middle East Studies, 26 (2), 2016.
[16] Karanfil, Gokcen, and Buru Eglimez, Politics, Culture and Media: Neo Ottomanism as transnational cultural policy on TRT Elarabia and TRT Avaz, Popular Culture and Markets in Turkey, 2(4), 2017.
[17] أنطوان شلحت، ما بعد الأزمة الأخيرة في العلاقات التركية- الإسرائيلية، رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الفلسطينية، 2009، ص. 1-3.
[18] Bacik, Gokham, The Limits of an Alliance: Turkish-Israeli Relations Revisited, Arab Studies Quarterly, vol. 23, no.3, July 2001, p. 49-56
[19] http://www.nytimes.com/2010/06/01/world/middleeast/01turkey.html
[20] http://in.reuters.com/article/idINIndia-48961020100601
[21] http://www.wsws.org/articles/2010/jun2010/turk-j11.shtml
[22] http://www.irishtimes.com/newspaper/breaking/2010/0531/breaking25.html