[*] كمال قبعه
ستتناول هذه الدراسة خطوات الاتحاد الأوروبي العقابية ضدّ المستوطنات الإسرائيلية ومنتوجاتها، وستتبع ردّود فعل الحكومة الإسرائيلية عليها، ومدى تأثير هذه الخطوات في سياسة إسرائيل الاستيطانية في إقليم الدولة الفلسطينية المحتلّة، وبعض خفايا وخلفيات الاتفاق الأوروبي الفلسطيني بهذا الشأن، ودوره في استئناف المفاوضات، ودوره الحاسم في رضوخ حكومة الاحتلال، وكذلك متابعة خفايا الضغوط الإسرائيلية والأمريكية على دول الاتحاد الأوروبي لثنيها عن تنفيذ قراراتها بهذا الشأن أو على الأقل تأجيل تنفيذها.
وحتى يصبح ذلك ممكناً، كان لا بد من تناول الأثر العالمي لنداء المقاطعة الفلسطيني الذي صدر عام 2005، وتعليمات الاتحاد الأوروبي الجديدة الصادرة في 30 حزيران (يونيو) 2013، ومدى انسجام القرار الأوروبي مع مبادئ وقواعد القانون الدولي الإنساني، ومدى الدور الذي لعبته تقارير قناصل الدول الأوروبية الدورية، وجوانب تأثير ضغوط ومذكرات وفعاليات أوروبية مرموقة في اتخاذ القرار، وتبيان مدى الدعم الأوروبي لمنطقة (ج) ودعم المشاريع في القدس الشرقية، وتتبع أبعاد القلق الإسرائيلي وإرهاصاته من قرار المقاطعة، وإدراكه بأن ذلك يشكل خطوة نحو نزع “شرعية” الاحتلال، وخفايا وأبعاد الموافقة الفلسطينية المشروطة على استئناف المفاوضات بتعهدات دولية غير مسبوقة.
ولا بد من التنويه، إلى أن الدراسة قد استثنت تناول الجوانب المتعلقة بالمقاطعة الفلسطينية لمنتوجات الاحتلال ومؤسساته المختلفة، والتي تحتاج إلى دراسة منفصلة، وركزت على القرار الأوروبي وما سبقه من حملات مقاطعة قامت بها العديد من الشركات والجامعات والفعاليات في دول مختلفة من العالم.
الأثر العالمي لنداء المقاطعة الفلسطيني
لا بد بداية من التأكيد أن عام 2004 قد شهد انطلاقة الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل. وشهد عام 2005 صدور نداء مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS). وكان عام 2007 عام الإعلان عن تأسيس اللجنة الوطنية الفلسطينية للمقاطعة. وفي عام 2008، تشكلت اللجنة الوطنية لمقاطعة إسرائيل، والتي تعد أوسع ائتلاف فلسطيني يضم شبكات واتحادات ونقابات المجتمع المدني الفلسطيني وائتلاف القوى الوطنية والإسلامية، لتشكل المرجعية الوحيدة عالمياً لحملات BDS الدولية.
وكانت الخطوة الأهم في مسار حركة المقاطعة الدولية[1]، قد جاءت في التاسع من تموز (يوليو) من عام 2005، حيث صادفت الذكرى السنوية الأولى لصدور الرأي الاستشاري عن محكمة العدل الدولية، والذي اعتبر جدار الفصل العنصري “غير شرعي وغير قانوني”. وقد أصدرت مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني في هذه الذكرى، نداءً إلى المجتمع المدني الدولي تطالبه فيه بالعمل على مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، حتى تنصاع للقانون الدولي وتحقيق حقوق الشعب الفلسطيني. وكان أن وقع على هذا النداء أكثر من 170 نقابة واتحاداً ومؤسسة وحركة وجمعية وإطاراً فلسطينياً، تمثل جميع قطاعات الشعب الفلسطيني في فلسطين التاريخية والشتات.
ولعل من الضرورة بمكان التأكيد، أن قوة نداء المقاطعة الفلسطيني BDS الصادر بتاريخ 9 تموز (يوليو) 2005 عن أكثر من 170 حزباً ونقابة ومؤسسة وحركة في المجتمع الفلسطيني، تتمثل في كونه قد شكل إجماعاً فلسطينياً غير مسبوق، يستند إلى فهم عميق لدروس تجربة نضال شعب جنوب أفريقيا ضد سياسة الفصل العنصري/الأبرتهايد، تجاه كيفية تفعيل المجتمع الدولي للقيام بواجباتهِ تجاه سياسة وممارسات منهجية، لا تختلف عن ما تتبعها سلطات الاحتلال الإسرائيل إن لم تكن أشد وأقسى. وقد جاء في نداء المقاطعة الفلسطيني BDS ما نصه: “نناشد، نحن ممثلي المجتمع المدني الفلسطيني، ومنظمات المجتمع المدني في العالم وكل أصحاب الضمائر الحية بفرض مقاطعة واسعة لإسرائيل، وتطبيق سحب الاستثمارات منها، في خطوات مشابهة لتلك المطبقة ضد جنوب أفريقيا خلال حقبة الأبارتهايد. كما ندعوكم لممارسة الضغوط على حكوماتكم من أجل فرض المقاطعة والعقوبات على إسرائيل. ونتوجه إلى أصحاب الضمائر في المجتمع اﻹسرائيلي لدعم هذا النداء من أجل تحقيق العدالة والسلام الحقيقي”.
ولعل من الملاحظ أن حركة المقاطعة قد أنجزت مؤخراً جملة من النجاحات الملحوظة طوال الفترة السابقة، وحققت في الفترة القريبة إنجازات نوعية كانضام العالم ستيفن هوكنغ، إلى مؤيدي مقاطعة إسرائيل حين انسحب من المؤتمر الرئاسي الذي يرعاه شمعون بيريس، وقيام اتحاد أساتذة إيرلندة بتبني نداء المقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل. وقيام جامعة جوهانسبرج الجنوب أفريقية بخطوةٍ ريادية قبل عامين وذلك من خلال إنهاء علاقاتها الأكاديمية والبحثية مع جامعة بن غوريون الإسرائيلية. يأتي كل ذلك بعد إصدار العديد من اتحادات الطلبة في جامعات بريطانية، وأمريكية، وكندية، وجنوب أفريقية، وإسكتلندية، وإيرلندية وغيرها، قرارات إما بالمقاطعة أو دعوة إدارات جامعاتها لعدم الاستثمار في إسرائيل، أو في شركات تستفيد من ممارسات إسرائيل القمعية ضد الشعب الفلسطيني ومن تعديها على القانون الدولي والقانون الإنساني. وبرزت أيضاً مؤشرات وخطوات هامة إتخذها العديد من اتحادات النقابات العمالية في كل من جنوب أفريقيا، وبريطانيا، وإيرلندة، واسكتلندة، وكندا والعديد من الدول الأوروبية. وقد استجاب عدد كبير من الفنانين والكتاب، للنداءات التي وُجِّهَت لهم بعدم الغناء أو زيارة دولة الاحتلال. وقامت جمعية الدراسات الآسيوية الأمريكية بتبني المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل. وتبنى اتحاد الطلبة الناطقين بالفرنسية في بلجيكا والذي يمثل 100,000 من الطلبة مقاطعة كل الجامعات الإسرائيلية.
ومن اللافت أن تلك القرارات التي اتخذتها تلك النقابات والاتحادات ومنظمات المجتمع المدني، قد استندت وبشكل واضح وصريح كاستجابة لنداء المقاطعة الفلسطيني الصادر عام 2005، أو لنداء المقاطعة الأكاديمية الصادر عام 2004، عن الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل.
تعليمات الاتحاد الأوروبي الجديدة
ولعل تعليمات الاتحاد الأوروبي الجديدة الصادرة في 30 حزيران (يونيو) 2013 بشأن الامتناع عن تمويل، أو تعاون، أو منح تسهيلات، أو منح دراسية، أو منح بحثية أو جوائز، لأي طرف يتواجد داخل المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية وشرقي القدس، تعتبر وبحق أعظم تلك النجاحات. فقد طوّر الاتحاد الأوروبي خلال العقود الماضية مستوى علاقاته الاقتصادية مع إسرائيل في مختلف المجالات، ووقّع معها سلسلة من الاتفاقيات الاقتصادية التي منحت إسرائيل “مكانة الدولة المفضّلة” في مجمل علاقاتها الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من ذلك اتّسمت علاقات الاتحاد الأوروبي السياسية مع إسرائيل بالخلاف والتوتّر الناجميْن عن استمرار الاحتلال الإسرائيلي لإقليم الدولة الفلسطينية المحتلّة في عام 1967، وتزايد وتيرة واستمرار الاستيطان الإسرائيلي وتعاظم حجمه. وبدا واضحاً للاتحاد الأوروبي أنّ علاقاته الاقتصادية مع إسرائيل تمنح المنتوجات الإسرائيلية، ولا سيّما منتوجات المستوطنات، وضعًا مفضّلًا ومميّزًا ومُعفىً من الكثير من الضرائب، وتعطي للمستوطنات والمشاريع الاستيطانية المختلفة إمكانية الحصول على منحٍ ومساعدات ومشاريع استثمار من الاتحاد الأوروبي.
وفي إجتماع عُقد في كانون الثاني (يناير) 2013، أعاد وزراء خارجية الدول السبع والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، التأكيد على “إلتزامهم بتأمين التطبيق المستمر والكامل والفعال للتشريعات القائمة للاتحاد الأوروبي، والترتيبات الثنائية السارية على منتجات الاستيطان”، والتي ستكون العقوبات ضدها صفعة رئيسية توجه للاقتصاد الإسرائيلي؛ إذ يصدر المستوطنون في كل عام إلى أوروبا بمبلغ يصل إلى نحو من 300 مليون دولار[2]، بينما لا يعدو حجم الصادرات الفلسطينية إلى أوروبا 15 مليون يورو. وبهذا فان وزراء الخارجية الأوروبيين يقترحون حظر بيع السلع التي تنتجها، مستوطنات الأراضي الفلسطينية المحتلة – أو على الأقل طالما ظلت المنتجات تحمل ملصقات مزورة. وقد قام بهذا الصدد موظفو وكالة العمل الخارجي الأوروبي، الوكالة الدبلوماسية للاتحاد الأوروبي بمقتضى معاهدة لشبونة، بفحص كل جهاز التشريع في الاتحاد الأوروبي، لتقرير أي التوجيهات والقوانين التي يمكن أن يستند لها في سياق الجهود لحظر المنتجات التي من صنع المستوطنات[3]. وتبين أن قانون المجلس الأوروبي 1234/2007 يتضمن قواعد “حول أحكام خاصة ببعض المنتجات الزراعية”. ويحدد قانون المجلس 479/2008 المسؤول عن المراقبة. وتعتمد الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي عادة على المعلومات المزودة من جانب المصدرين الإسرائيليين عندما يتعلق الأمر بالفواكه والخضروات. ومن الصعب التحقق بالضبط من مكان قطف الكرمة ومكان مصدر النبيذ والبرتقالة أو الزيتونة[4]. ولدى المسؤولين في الاتحاد الأوروبي في بروكسل وجهة نظر مخالفة. فبموجب قانون الاتحاد الأوروبي 29/2005، يعتبر التاجر مستخدماً لممارسات مضللة عندما يقدم معلومات مادية بطريقة غير واضحة وغير قابلة للتحقق منها… وغامضة أو في غير وقتها”. وتعتبر المفوضية الأوروبية هذه الممارسات “حذوفات مضللة”. وقد توصل المسؤولون في بروكسل إلى استنتاج، أن الضباط في العديد من البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، ينظرون بعين عمياء إلى المنتجات التي تنشأ في المستوطنات الإسرائيلية. وأكدت مراجعة ديرشبيغل[5] لكل الحكومات الوطنية لدول الاتحاد الأوروبي الـ27 هذا الشك. وقد حث مسؤولو الحكومة الألمانية المفوضية الأوروبية، على توفير “مساعدة إرشادية في تنفيذ قانون الاتحاد الأوروبي ذي الصلة بالتوافق مع قانون الاتحاد الأوروبي والتعليم الصحيح”. وفي الوقت الراهن، ثمة واحد من الأشياء التي يدرسها المسؤولون في الاتحاد الأوروبي، هو التمور التي ينميها المستوطنون الإسرائيليون في وادي الأردن المحتل. كما أن منتجات أدوات التجميل الإسرائيلية من شركة “أهافا” خاضعة هي أيضاً للجدال، وتنتج الشركة المذكورة المستحضرات الطبية (الكريم) ودهون الرش (جل) التي تحتوي على معادن من البحر الميت. وتشتمل عبوات المنتجات على التفصيلات: “مختبرات البحر الميت. إسرائيل” وفي الحقيقة، فإن المنتجات تصنع في طرف البحر الميت الواقع في الضفة الغربية المحتلة.
وقد أصدر الاتحاد الأوروبي في 30 حزيران (يونيو) 2013، تعليمات تلزم جميع دول الاتحاد الـ27 بالامتناع عن أي تمويل، أو تعاون، أو منح تسهيلات، أو منح دراسية، أو منح بحثية أو جوائز، لأي طرف يتواجد داخل المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، وشرقي القدس. وحددت التعليمات الأوروبية كذلك، بأن يتضمن أي اتفاق مستقبلي سيتم توقيعه مع إسرائيل بنداً ينص على “أن المستوطنات ليست جزءاً من إسرائيل، وعليه فهي ليست جزءاً من أي اتفاق”. وستسري التعليمات الجديدة التي أصدرتها المفوضية الأوروبية -الذراع التنفيذي للاتحاد الأوروبي- للتعاون بين دول الاتحاد الأوروبي، وبين الأوساط الإسرائيلية للسنوات 2014-2020، وستدخل حيّز التنفيذ اعتباراً من يوم الجمعة 18-7-2013.
وقد نشرت المفوّضية الأوروبية هذه التعليمات بتاريخ 19 تمّوز (يوليو) 2013 في صحيفتها الرسمية[6]، في وثيقة من أربع صفحات تشمل خمسة أقسام. وقد تناول القسم الأوّل منها المبادئ العامّة التي تستند إليها الوثيقة. في حين تطرّقت الأقسام الأربعة الأخرى بالتفصيل، إلى طريقة فرض عقوبات على المستوطنات الإسرائيلية في المناطق المحتلّة منذ عام 1967. وأوضحت الوثيقة أنّ هدف هذه التعليمات هو تأكيد عدم اعتراف الاتحاد الأوروبي بالسيادة الإسرائيلية على المناطق العربية التي احتلّتها إسرائيل في عام 1967؛ وذلك انطلاقًا من القانون الدولي، وتمشّيًا مع مواقف الاتحاد الأوروبي المتكرّرة بهذا الشأن. وأكّدت الوثيقة أنّ الاتحاد الأوروبي يعدّ الضفّة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزّة وهضبة الجولان، مناطقَ محتلّة، وأن ليس لإسرائيل سيادة عليها ولا على أيّ جزء منها، وأنّ هذه المناطق المحتلّة ليست جزءًا من إسرائيل. وبناءً على ذلك، أكّدت الوثيقة أنّ الاتحاد الأوروبي يعدّ جميع نشاطات إسرائيل وأعمالها المدنيّة في مختلف أنحاء المناطق المحتلّة في عام 1967، بما في ذلك القدس الشرقية وهضبة الجولان بعد أن ضمّتهما إسرائيل إليها، غير قانونيّة، وأنّه لا يعترف بأيّ تغييرات في حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967 الإسرائيلية، سوى تلك التغييرات التي قد تتّفق عليها الأطراف في عملية السلام في الشرق الأوسط. وأشارت الوثيقة إلى أنّ تطبيق هذه التعليمات سيجري في الأوّل من كانون الثاني (يناير) 2014، وإلى أنّ أيّ اتفاق يجري توقيعه في المستقبل بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي أو أيّ دولة من دول الاتحاد الأوروبي، ينبغي له أن يتضمّن بندًا خاصًّا يؤكّد بصورةٍ واضحة لا يشوبها لبس ولا غموض، أنّ جميع المستوطنات الإسرائيلية في المناطق التي احتلّتها إسرائيل في عام 1967، ليست جزءاً من دولة إسرائيل. وبناءً عليه، فإنّ الاتفاقات بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل لا تشملها.
وأوضحت بقية أقسام الوثيقة الأربعة بالتفصيل كيف يجري منع وصول مساعدات ماليّة أو جوائز واستثمارات من مؤسسات الاتحاد الأوروبي أو صناديقه إلى المستوطنات، وآليّته؛ فأشارت إلى أنّه على كلّ مؤسسة أو هيئة إسرائيلية ترغب في الحصول على دعمٍ من الاتحاد الأوروبي، أن تقدّم بيانًا يؤكّد أنّ جميع نشاطاتها تنحصر في داخل حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967، وأن ليس لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة مع المستوطنات الإسرائيلية في القدس الشرقية والضفّة الغربية وهضبة الجولان. ويشمل ذلك جميع المؤسّسات والشركات الإسرائيلية الخاصّة والعامّة، والجمعيات والمنظّمات غير الحكومية، والمجالس البلدية، والمجالس الإقليمية، والبنوك. واستثنت التعليمات من هذا الحظر وزارات الحكومة الإسرائيلية التي توجد مقرّاتها في داخل الخطّ الأخضر، ولها نشاطات في المناطق المحتلّة. أمّا الوزارات الإسرائيلية التي توجد مقرّاتها في المناطق المحتلّة في عام 1967، ولا سيّما في القدس الشرقية (مثل وزارة القضاء)، فإنّ العقوبات تشملها. واستثنت التعليمات أيضًا منظّمات حقوق الإنسان الإسرائيلية التي تنشط في المناطق المحتلّة، والمنظّمات والجمعيات الإسرائيلية غير الحكومية التي تنشط في المناطق المحتلّة وتعمل من أجل تحقيق السلام.
تشير هذه التعليمات إلى تطوير الاتحاد الأوروبي لسياساته المناهضة للاستيطان والاحتلال الإسرائيليّين للأراضي الفلسطينية المحتلّة، باتخاذه خطوة كبيرة إلى الأمام. فللمرّة الأولى يقوم الاتحاد الأوروبي باتخاذ قرارات هامة جداً وينشر تعليمات واضحة ومفصّلة، تفرض عقوبات على المستوطنات الإسرائيلية بصورةٍ رسميّة وملزمة، وأنشأ الآليّة اللازمة لتنفيذها. وقال مسؤول إسرائيلي تعليقاً على ذلك: “إنها المرة الاولى التي تصدر فيها تعليمات مفصلة على هذا النحو من قبل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، لغاية هذا اليوم كانت هناك تفاهمات، وكانت اتفاقات صامتة أن الاتحاد الأوروبي لن يعمل خارج حدود الخط الأخضر، والآن فهم يجعلون من هذا الأمر قراراً رسمياً ومُلزماً”[7]. وتزداد أهمية هذه الخطوة في أنّها تتجاوب مع حملة المقاطعة غير الحكومية الناشطة في أوروبا، ضدّ المنتوجات الإسرائيلية بصورةٍ عامّة ومنتوجات المستوطنات بصفة خاصّة، والتي تقودها مجموعة واسعة من الفعاليات التي تشمل جمعيّات التضامن مع الشعب الفلسطيني والنقابات العمّالية والطلّابية ونقابات المستهلكين، التي تدعو إلى مقاطعة المنتوجات الإسرائيلية بسبب استمرار الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي، والتي باتت تحقّق نجاحات ملموسة في هذا المجال.
القرار الأوروبي والقانون الدولي الإنساني
تنسجم التعليمات الأوروبية تلك مع مقتضيات وواجبات دول العالم، بموجب مبادئ وقواعد القانون الدولي عامة والقانون الدولي الإنساني خاصة، التي تنطبق تماماً على إقليم دولة فلسطين المحتل من قبل إسرائيل. وقد جرت محاولات عدة لتطبيق العقوبات على سلطات الاحتلال الإسرائيلي، والتي لم تنجح بفعل سوء استخدام حق النقض/الفيتو من قبل الدولة المتنفذة في الأمم المتحدة. وقد أقرت الجمعية العامة العديد من القرارت التي تناشد دول العالم تطبيق عقوبات متنوعة على دولة الاحتلال منذ بداية ثمانينات القرن الماضي[8]، وبقيت تلك القرارات دون تطبيق بفعل الضغوط التي مارستها تلك الدولة المتنفذة في العلاقات الدولية المعاصرة. وكان للجمعية العامة حيال ذلك موقف جريء ونادر والذي تمثل في قرار[9] جاء فيه: «.. إن «إسرائيل» ليست دولة محبة للسلم لأنها […] لم تقم بالالتزامات المترتبة عليها بموجب قرار الجمعية العامة 273 المؤرخ في 11/5/1949. ولذلك تطلب الجمعية من كل الدول “قطع العلاقات الديبلوماسية والتجارية والثقافية مع «إسرائيل”.
وبموجب مبادئ وقواعد القانون الدولي الإنساني فإن دول العالم كافة والأمم المتحدة خاصة “تتحمّل مسؤولية كبيرة لكي تبذل كل ما يمكن عمله لتجنُّب الاستغلال الاقتصادي والسياسي والثقافي للشعب الفلسطيني، ولما يمتلكه من موارد طبيعية”. هذا “وقد أدّى الجهد الذي بذلته إسرائيل في مشروع الاستيطان – سواء من الناحية المالية أو القانونية أو البيروقراطية – إلى تحويل المستوطنات لتصبح بمثابة جيوب موسرة لصالح المواطنين الإسرائيليين، ضمن منطقة يعيش فيها الفلسطينيون تحت نير الحكم العسكري وفي ظروف من تفشّي الفقر على نطاق واسع”[10]. ويضيف ريتشارد فولك، المقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، أن “عدم إﻧﻬاء الاحتلال بعد 45 سنة يؤدي إلى خلق مسؤولية دولية مضافة تقضي بمساندة حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني، الذي بات على صعيد الممارسة يعيش بغير حماية تكفلها له سيادة القانون”[11]. ولهذا” يدعو المقرر الخاص الدول وكذلك المؤسسات التجارية إلى أن تكفل التنفيذ الكامل والفعّال للمبادئ التوجيهية المتصلة بالأعمال التجارية وحقوق الإنسان، في سياق عملياﺗﻬا التجارية المتصلة بالمستوطنات الإسرائيلية في الأرض الفلسطينية المحتلة”[12].
وحذّر ريتشارد فولك شركات عالمية بينها «كاتربلر» و«إتش بي» (HP) الأميركيتان من “انتهاكهما القانون الإنساني الدولي من خلال استمرار أعمالها في المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية”، مشيراً إلى أنهما وموظفيهما “يقعون تحت طائلة المحاسبة الجرمية”. وقال فولك في تقرير إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة إن شركات مثل «آسا أبوي» و«ديكسيا» (مكسيكية) و«G4S» (بريطانية) وDexia (بلجيكية) «استجابت إلى رسائله» وأوقفت أعمالها في المستوطنات، وأن منها ما “نقلت مقار الشركة من الضفة الغربية وأخرى تبحث عن الطرق لتلتزم عملياتها المعايير الدولية”. ويخلص المقرر الخاص أيضًا إلى أن” جميع الشركات التي تعمل في المستوطنات الإسرائيلية، أو لديها معاملات معها، لا بد من مقاطعتها، ريثما تعمل هذه الشركات على أن يصبح ما تباشره من عمليات، متسقاً بالكامل مع معايير وممارسات حقوق الإنسان الدولية”[13] .
ودعا فولك الجمعية العامة للأمم المتحدة والمجتمع المدني إلى “مقاطعة الأعمال والشركات التي تستفيد من العمل في المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية”. وأشار إلى شركات مثل «كاتربلر» و«HP» و«موتورولا» الأميركية، و«فويليا للبيئة» الفرنسية و«G4S» البريطانية و«فولفو» السويدية و«سيميكس» المكسيكية وسواها كأمثلة عن هذه الشركات. وقال فولك إن “الأعمال والشركات بموجب أحكام القانون الدولي يجب أن لا تنتهك القانون الإنساني الدولي، وإلا فإنها تصبح عرضة للمحاسبة الجرمية أو المدنية، التي يمكن أن تطاول الموظفين في هذه الأعمال”. ودعا إلى مقاطعة الشركات المذكورة في تقريره إلى الجمعية العامة “حتى تلتزم في أعمالها القانون الدولي لحقوق الإنسان ومعايير القانون الدولي”.
وقد قامت العديد من الشركات الدولية باتخاذ خطوات ملموسة، اتجاه مقاطعة الشركات الإسرائيلية الموجودة في المستوطنات الصناعية الإسرائيلية. فقد اغلقت شركة برقان لانتاج النبيذ التابعة لشركة هاينكن العالمية، والتي تقوم بصناعة النبيذ من العنب المزروع في مرتفعات الجولان السورية المحتلة مصانعها في مستوطنة برقان الصناعية منذ العام 2007 لعدم اعتراف الشركة الأم ‘هاينكن’ الهولندية بشرعية الاحتلال الإسرائيلي لمرتفعات الجولان السورية. وقامت شركة “اسسا البوي” السويدية المالكة لماركة “مالتي لوك”، باغلاق فرع الانتاج الخاص بها في مستوطنة برقان الصناعية، بعد الاعتراض الذي قدمته الكنيسة السويدية على إقامة فرع للشركة في مستوطنة إسرائيلية قائمة على أراضٍ فلسطينية بطريقة غير قانونية.
فمثلاً، انتهت بتاريخ 7/3/2010 فعاليات “أسبوع الفصل العنصري الإسرائيلي”[14]، الذي أقيم في أكثر من 40 مدينة عالمية. وقد بدأ هذا الأسبوع فعالياته عام 2005 لكنه وصل إلى آذان ومسامع العالم بشكل كبير عام 2009، حين عُرضت في جامعات شتى في العالم، أفلام عن الحرب الإسرائيلية على غزة وعُرضت صور الأطفال الشهداء والمنازل الفلسطينية المهدمة، وألقيت المحاضرات عن الفصل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يتعرض له السكان الفلسطينيون في الضفة وغزة وفي فلسطين 1948 أيضا. وكان لافتاً عدد اليهود وحتى عدد الإسرائيليين من اقتصاديين وعلماء وناشطي حقوق إنسان، الذين شاركوا في ذلك الأسبوع في جامعات بريطانية وكندية وأميركية وإسبانية، مما أثار الذعر في قلوب الدوائر الإسرائيلية وأنصارها، لأن القائمين على هذا الأسبوع يدعون إلى مقاطعة الجانب الإسرائيلي وفرض الحصار عليه، إلى أن يتراجع عن سياساته المتطرفة هذه.
وشهدت الأشهر الأخيرة من عام 2010 ارتفاعا في عدد الشركات الأوروبية التي تسحب استثماراتها[15] في الشركات الإسرائيلية لأسباب سياسية، مما ألحق بها ضررا هائلا، وفقا لما ذكره رجل الأعمال الإسرائيلي دانييل بيتيني صاحب مصنع للزجاج في أرييل. وشكل قرار صندوق البترول النرويجي بسحب استثماراته من شركتي إفريقيا – إسرائيل ودانيا سيباس بسبب انخراطهما في البناء الاستيطاني، بداية خطوات أخرى اتخذت لتوسيع لائحة الشركات الأوروبية الحكومية والخاصة التي تقاطع الشركات الإسرائيلية لأسباب سياسية. وتدور معظم حالات المقاطعة حول منتجات تصنع في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وفي بعض الحالات الأخرى، ينصب الحديث على احتجاج سياسي ضد السياسة الإسرائيلية المنتهجة ضد الفلسطينيين، لكن الأشهر الأخيرة شهدت تصاعداً في مدى مقاطعة المنتجات الإسرائيلية لأسباب سياسية. وتمّ في أوائل شباط (فبراير) عام 2010 تنظيم حملة لمقاطعة الورود الإسرائيلية التي تُصدّر إلى هولندا، ووضعت لافتات تقول: “انتبه لا تهد محبوبتك وردة العار، لا تبتع وروداً مختومة باسم (هولندا) لأن معظمها يأتي من أرض محتلة”.
وبحسب آفي بن زفي الذي يملك مصنع بلاستكو للزجاج في أرييل، فإنه “منذ أعلن الفلسطينيون مقاطعة البضائع الإسرائيلية، طرأ انخفاض بقيمة 40٪ على الإنتاج”، وأضاف “أن الصادرات إلى أوروبا قد توقفت في المجمل، كما أن التجار من المناطق قد توقفوا عن التعامل معنا.” وبدوره، علق رئيس بلدية أرييل رون ناخمان بالقول إن المصانع في المنطقة تعرضت لضربة كبرى. وأضاف “نحن بحاجة الى حملة حكومية واسعة النطاق لتهديد البلدان المقاطعة بعدم المشاركة في العملية السياسية.” وشهد شهر آذار (مارس) 2010 قيام صندوق سويسري كبير للمعاشات التقاعدية، بمقاطعة شركة إيلبيت سيستمز الإسرائيلية بسبب دورها في بناء جدار العزل. وكان الصندوق أعلن بيعه سنداته المالية في شركة إيلبيت، بعد أن أوصت لجنته الأخلاقية بسحب استثماراته من الشركات المتورطة في انتهاكات المعاهدات الدولية.
وفي شهر أيلول (سبتمبر) 2010 اتخذ صندوق التقاعد النرويجي خطوة مماثلة بسحب استثماراته من شركة إلبيت الإسرائيلية. أما شهر أيار (مايو) من نفس العام، فقد حفل بإعلان بنك دويتش الألماني بيعه جميع أسهمه في شركة إلبيت، وذلك بعد تعرضه لضغوط من المنظمات المناهضة لإسرائيل والمتضامنة مع الشعب الفلسطيني. وقبل عامين، أصدرت الشركة السويدية العملاقة أسا أبلوي المالكة للشركة الإسرائيلية مالتي لوك المحدودة، اعتذارا لحقيقة أن شركتها القائمة في المنطقة الصناعية باركان متواجدة خارج الخط الأخضر. ووعدت الشركة بنقل فرعها إلى داخل الأراضي الإسرائيلية، بسبب الضغوط من إحدى المجموعات المسيحية السويدية المعنية بحقوق الإنسان. ويشار إلى أن شركة المياه الإسرائيلية سودا كلب قد تأثرت بالمقاطعة، حيث أن المتضامنين مع الشعب الفلسطيني أجبروا مدينة باريس على حرمان الشركة الإسرائيلية من المشاركة في معرض كبير للترويج لمياه الصنبور. وفي تموز (يوليو) من العام 2010، قررت شركة المواصلات الفرنسية فيولا التي تعمل على تشغيل القطار الخفيف في القدس، بيع أسهمها في المشروع بدون ذكر الأسباب لذلك، غير أنها مرتبطة بموافقة إحدى المحاكم الفرنسية قبل عدة أشهر من إصدار القرار، على بحث قضية مرفوعة ضد شركة فيولا وتورطها في بناء سكة القطار في القدس الشرقية.
وهكذا يتبين بأن مقاطعة المستوطنات والمستوطنين ومنتوجاتهم من قبل دول الاتحاد الأوروبي وشركات الاستثمار على إختلاف أنواعها، ليس فقط تنسجم مع مبادئ القانون الدولي عموماً والقانون الدولي الإنساني خاصة، بل هي واجبات على كافة دول العالم وشعوبه يتوجب تنفيذها والتقيد بها وتخضع للمساءلة القانونية الدولية.
دور تقارير قناصل الدول الأوروبية
قام القناصل الأوروبيون في الأراضي الفلسطينية المحتلة بدور تمهيدي ودؤوب، من أجل كشف الحقائق المتعلقة بالجرائم والانتهاكات الجسيمة التي يرتكبها الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، لدى حكوماتهم وأوساط أصحاب القرار في دولهم والمفوضية الأوروبية التي تجمعهم. وقد كان لتقارير القناصل الدورية كبير الأثر والتأثير في النقاشات الأوروبية بهذا الصدد. ولعل مراجعة سريعة ومكثفة لمضامين ونصوص المذكرات والتقارير تلك، تبين مدى الجهود الكبيرة التي يبذلها هؤلاء القناصل في كشف تلك الجرائم والإنتهاكات الإسرائيلية، وكذلك تظهر بوضوح الأهمية البالغة لتوصياتهم المتتالية لدولهم وللمفوضية الأوروبية، تلك التوصيات التي تشكل الآن أساس الموقف الأوروبي من الاحتلال والاستيطان ومنتوجات المستوطنات.
فقد أعد قناصل دول الاتحاد الأوروبي في القدس تقريراً[16]، يميط اللثام عن خطط للاحتلال تستهدف تغيير الهوية السكانية للمدينة المقدسة، وذلك بعدما كشف تقرير لوزارة الداخلية الإسرائيلي عن أن سلطات الاحتلال سحبت عام 2008 فقط أكثر من 4600 هوية من فلسطينيي القدس، بزعم أنهم لا يسكنون في المدينة، منذ سبع سنوات. ويقول تقرير قناصل دول الاتحاد الأوروبي، إن الإجراءات التي تتخذها الحكومة الإسرائيلية وبلدية الاحتلال في القدس المحتلة تأتي في إطار إستراتيجية ورؤية تهدف إلى تغيير الميزان الديمغرافي في المدينة، وفصل القدس الشرقية كلياً عن الضفة الغربية المحتلة. ودعا تقرير قناصل الدول الأوروبية إلى أن تبادر دول الاتحاد الأوروبي بسلسلة من الإجراءات والقرارات من أجل:
- تعزيز الوجود الفلسطيني في القدس المحتلة، وممارسة الضغط على إسرائيل لتوقف ممارساتها العدائية ضد الفلسطينيين في القدس المحتلة.
- إعادة فتح “بيت الشرق” في القدس المحتلة، الذي كان يعتبر مقر منظمة التحرير الفلسطينية، وأغلقته سلطات الاحتلال في العام 2001.
- وأن ترسل الدول الأوروبية دبلوماسيين ممثلين عنها إلى محاكم الاحتلال التي تنظر في قضايا تتعلق بإخلاء الفلسطينيين من بيوتهم في المدينة.
- اتخاذ إجراءات عقابية ضد المستوطنين ومنع تحويل أموال لجمعياتهم ومؤسساتهم من دول أوروبية.
- تبادل المعلومات بين الدول الأوروبية حول مستوطنين عنيفين في القدس المحتلة، من أجل فحص إمكانية فرض حظر على دخولهم إليها.
ودعا قناصل وممثلو الدول الأوروبية في القدس ورام الله في تقرير آخر في بداية عام 2011، الاتحاد الأوروبي إلى التعامل مع القدس على أنها عاصمة الدولة الفلسطينية بشكل فعلي، من خلال الإقرار بأنها ستكون العاصمة المستقبلية للشعب الفلسطيني من دون انتظار نتائج العملية السلمية. وقال التقرير[17]، الذي عالج جملة قضايا متعلقة بالقدس، بدءاً من القوانين التي تقوم بسنها إسرائيل وتهدف إلى تغيير معالم المدينة، ووصولاً إلى عمليات هدم منازل الفلسطينيين وبناء مستوطنات يهودية جديدة، إن السياسة الإسرائيلية القائمة على الإجحاف بحقوق سكان شرقي القدس في مجالات التخطيط وهدم المنازل والتربية والتعليم والاستثمارات والقوانين، تمنع تحول القدس الشرقية إلى عاصمة للفلسطينيين في المستقبل. يأتي هذا التقرير استمراراً لتقرير أعد من قبل القناصل الأوروبيين في كانون أول (ديسمبر) 2010، غير أن الجديد هذه المرة هو أن التقرير الحالي يحمل دعوة صريحة للاتحاد الأوروبي إلى التصرف باعتبار أن القدس الشرقية هي عاصمة الدولة الفلسطينية، وعدم الانتظار حتى التوصل إلى اتفاق سياسي بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.
أما القسم الثاني من التقرير، فحمل مجموعة من التوصيات لفرض عقوبات على إسرائيل، من ضمنها:
- مقاطعة المصالح الإسرائيلية مثل الفنادق، في إطار زيارات المسؤولين الأوروبيين.
- اعتراف الاتحاد بمكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في القدس الشرقية.
- الامتناع عن زيارة مواقع أثرية يسيطر عليها المستوطنون مثل ما يعرف بـ”مدينة داود” في سلوان.
- منع تصدير منتجات المصانع الإسرائيلية في القدس إلى أوروبا.
- العمل على زيادة الوعي الشعبي في أوروبا بشأن المنتجات التي يتم إنتاجها في المستوطنات.
- فرض مقاطعة شاملة على النشاطات كافة التي تقوم بها إسرائيل في القدس الشرقية.
- مقاطعة البضائع الإسرائيلية كافة التي تنتج في مناطق القدس الشرقية.
- دراسة منع مستوطنين متطرفين يعيشون في القدس من دخول دول الاتحاد الأوروبي.
- تحذير الجمهور الأوروبي من المخاطر الاقتصادية لشراء عقارات في القدس المحتلة.
- امتناع المسؤولين الأوروبيين عن الوصول إلى مكاتب الحكومة الإسرائيلية في القدس، ورفض خدمات الحماية الإسرائيلية لهم في المدينة.
- حضور ممثلين أوروبيين في كل عملية هدم منازل في القدس أو إخلاء عائلات مقدسية من منازلها.
- حضور الإجراءات القضائية ذات الصلة بهدم المنازل أو اعتقال ناشطين فلسطينيين بسبب نشاطهم السياسي في القدس.
- انتداب مراقبين عن دول الاتحاد الأوروبي لمتابعة سير هذه العمليات.
وفي خطوة تطبيقية لتوصيات القناصل الأوروبيين[18]، قدم هؤلاء احتجاجاً رسمياً لوزارة الخارجية الإسرائيلية على قرار الحكومة ترحيل السكان البدو من المنطقة A الواقعة بين القدس ومستوطنة معليه أدوميم وتدمير المنازل الفلسطينية. وكان سفير الاتحاد الأوروبي في إسرائيل، قد طالب بإيضاحات من الخارجية الإسرائيلية حول ما يدور في المنطقة من بناء استيطاني وإخلاء المواطنين الفلسطينيين، كما وأعرب السفير أمام الخارجية الإسرائيلية عن قلق الاتحاد الأوروبي من إزدياد هدم البيوت في الضفة الغربية. وقال دبلوماسي أوروبي أن تقديم سفير الاتحاد الأوروبي الاحتجاج الرسمي لإسرائيل جاء بقرار من وزراء خارجية 27 دولة أوروبية الذين إجتمعوا قبل ذلك بأسبوعين، وقدمت لهم تقارير من القناصل في القدس ورام الله حول وضع الفلسطينيين في المنطقة “سي” التي تخضع للسيطرة الإسرائيلية. وكان أيضاً قد صدر تقرير للجنة الخارجية في البرلمان الفرنسي يؤكد وجود تمييز عنصري إسرائيلي في توزيع المياه بالضفة الغربية، وأن نحو 450 ألف مستوطن يستهلكون كمية من المياه تزيد عن الكمية التي يستهلكها نحو 3،2 مليون فلسطيني، بالإضافة إلى التعقيدات التي تضعها إسرائيل أمام أية محاولة لحفر آبار ارتوازية فلسطينية، وسماح الجدار العنصري بالسيطرة الإسرائيلية على مصادر المياه في الضفة.
وقد نص البيان الأوروبي[19] الصادر بتاريخ 10 كانون أول (ديسمبر) 2012، على إدانة الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية والتحذير من عواقب تنفيذ المشروع الاستيطاني لتوسيع مستوطنة “معاليه أدوميم” باتجاه القدس. وقد تضمن البيان المواقف الرئيسية التالية:
- “الفقرة الرابعة: يؤكد الاتحاد الأوروبي مجدداً أنه لن يعترف بأي تغييرات على حدود ما قبل عام 1967، بما في ذلك ما يتعلق بالقدس غير تلك التي يتفق عليها الطرفان. ويعرب الاتحاد الأوروبي عن إلتزامه ضمان – تمشيا مع القانون الدولي – أن كل الاتفاقات المبرمة بين دولة إسرائيل والاتحاد الأوروبي يجب أن تشير بشكل لا لبس فيه وبشكل صريح على عدم انطباقها على الأراضي التي احتلتها إسرائيل في عام 1967، وهي مرتفعات الجولان، والضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية، وقطاع غزة. وإذ يشير إلى استنتاجات مجلس الشؤون الخارجية الذي اعتمد في أيار (مايو) 2012، فإن الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه يجددون التزامهم بضمان استمرار التنفيذ الكامل والفعال لتشريعات الاتحاد الأوروبي القائمة والترتيبات الثنائية التي تنطبق على منتجات المستوطنات.
- الفقرة الخامسة: يدعو الاتحاد الأوروبي إسرائيل إلى تجنب أي خطوة تقوض الوضع المالي للسلطة الفلسطينية. إن أي إجراء من هذا القبيل من قبل إسرائيل يقوض آليات التعاون القائمة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، سوف يؤثر سلباً على آفاق المفاوضات. إن الالتزامات التعاقدية، ولا سيما في إطار بروتوكول باريس، بشأن النقل الكامل وفي الوقت المناسب الذي يمكن التنبؤ به والشفاف للإيرادات الضريبية والجمركية يجب أن تحترم.
- الفقرة السادسة: في 29 تشرين ثاني (نوفمبر)، صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح قرار A/RES/67/19 بشأن منح فلسطين صفة دولة مراقب غير عضو. الاتحاد الأوروبي يدعو القيادة الفلسطينية إلى استخدام هذا الوضع الجديد بشكل بناء، وعدم إتخاذ خطوات من شأنها أن تعمق إنعدام الثقة تبعد الطرفين عن حل تفاوضي.”
وقد إرتقى التقرير السنوي للقناصل الأوروبيين[20] الـ(27) الصادر في كانون الثاني (يناير) الماضي عن العام 2012، خطوة إيجابية جديدة في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية المهددة لخيار الدولتين على حدود 67، حيث ركزت سبع من عشر توصيات للدول والاتحاد الأوروبي على حد سواء، على مواجهة الاستيطان في الأراضي المحتلة عموما والقدس الشرقيية خصوصاً. كما أن التقرير طالب باستخدام سلاح العقوبات ضد المستوطنات على أكثر من مستوى وصعيد. وتدل صياغة تقرير القناصل العام الماضي، الصادر مطلع 2012 عن إنتهاكات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة للعام 2011، الذي شابه الإرباك نتيجة غياب الإجماع في التصدي للاستيطان، لأن تشيكيا وغيرها من دول الاتحاد، كان لها موقف متحفظ، إلا أن هناك تطوراً وفرقاً بين التقريرين لصالح التقرير الجديد.
وكانت بعثة من دول الاتحاد الأوروبي إلى القدس قد حذرت في تقرير داخلي، من أن الاستيطان في القدس يهدف إلى عرقلة حل الدولتين. ووصف الاتحاد في “تقرير القدس 2012” البناء الاستيطاني بالقدس الشرقية بأنه “منهجي ومتعمد واستفزازي” و”يشكل جزءا من استراتيجية سياسية تهدف إلى جعل أن من المستحيل أن تصبح القدس عاصمة لدولتين”. كما أوصى الاتحاد دوله الأعضاء الـ27 بـ”منع أي تعاملات مالية تدعم الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة”، والعمل على منع تلك المساعدات والتحذير من تبعاتها، بما في ذلك الاستثمارات الأجنبية المباشرة من داخل الاتحاد الأوروبي التي تدعم الأنشطة والبنى التحتية والخدمات بالمستوطنات. وأوصى التقرير الذي أرسل إلى بروكسل بتكثيف جهود الاتحاد الأوروبي للتصدي للاستيطان في القدس الشرقية، وحول ما يشكل تهديداً خاصاً لحل الدولتين. كما دعا إلى ضمان التطبيق الصارم لاتفاق الشراكة بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي، لاسيما استثناء المنتجات المصنوعة في المستوطنات من المعاملة التفضيلية.
ورفع قناصل وممثلو دول الاتحاد الأوروبي في شهر شباط (فبراير) 2013، مجموعة من التوصيات لرئاسة الاتحاد الأوروبي ودولهم، أكدوا فيه على وجوب تعامل الاتحاد الأوروبي مع الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية وفقاً للقانون الدولي. وقد تضمن التقرير توصيات[21] بالغة الأهمية شملت سبعة وعشرين إقتراحاً، كتكثيف جهود الاتحاد الأوروبي لمواجهة النشاطات الاىستيطانية في القدس الشرقية وحولها، والتي تُشكل تهديداً لحل الدولتين، وبما يشمل التدخل الحثيث لدى إسرائيل.
وقد أولت التوصيات أهمية خاصة لمناهضة الاستيطان، بما يكفل تنسيق المراقبة الأوروبية ورد الفعل الأوروبي القوي بهدف منع بناء مستوطنة (E1)، بما يشمل ترحيل البدو من المنطقة؛ وضمان تطبيق بنود اتفاق الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، بما يضمن عدم حصول منتوجات المستوطنات على الأفضلية في التعامل؛ وتنفيذ القوانيين الأوروبية المعمول بها وكذلك الترتيبات الثنائية المتوجب تطبيقها فيما يتعلق بمنتوجات المستوطنات؛ والتأكد من عدم استخدام أي من برامج الاتحاد الأوروبي لمساعدة المستوطنات، وبما يشمل تمويل الأبحاث والتعليم، والتعاون التقني؛ ومنع نقل الأموال، أو الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة من الاتحاد الأوروبي للمستوطنات وبما يشمل الخدمات والبنى التحتية؛ وإعلام مواطني الاتحاد الأوروبي وشركاتها، بالمخاطر المادية والقانونية المترتبة على شراء ممتلكات أو تقديم خدمات من أي نوع في المستوطنات، والتذكير بأن الاستيطان غير شرعي تحت القانون الدولي، ومنع أي دعم للمنشآت الاستيطانية، وزيادة الرقابة الأوروبية على النشاطات الاستيطانية، وبحث إمكانية منع دخول المستوطنين الذين يرتكبون أعمال عنف إلى الدول الأوروبية.
وكانت التوصيات واضحة بشأن مدينة القدس، حيث إنها دعت إلى ضرورة فتح المؤسسات الفلسطينية المغلقة في القدس الشرقية كما جاء في خارطة الطريق، ودعم القيادة الفلسطينية في مجالات التطوير الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية والثقافية في القدس الشرقية، وتجنب قيام رجال أمن إسرائيليين وموظفي بروتوكول حكوميين إسرائيليين بمرافقة كبار الزوار الأوروبيين عند زيارتهم للبلدة القديمة في القدس الشرقية، وتكثيف التنسيق الأوروبي لدعم المؤسسات الفلسطينية في القدس الشرقية وخاصة تلك العاملة في المجال الاجتماعي – الاقتصادي، وذلك للحفاظ على حل الدولتين على أن تكون القدس عاصمة لدولتين، والعمل على توفير الدعم للفلسطينيين وخاصة في مجال الاسكان في القدس الشرقية وبما يشمل البلدة القديمة، وابداء القلق الأوروبي من سياسات إسرائيل تجاه سحب الهويات وطرد السكان وهدم البيوت وسياسة تهجير الفلسطينيين من القدس الشرقية، والإشارة في كل البيانات والاجتماعات رفيعة المستوى للقلق الأوروبي من عدم توفير الخدمات المطلوبة في مجال سيارات الإسعاف وإطفاء الحرائق والبوليس للفلسطينيين في القدس الشرقية، والمحافظة على التراث الثقافي للقدس الشرقية من خلال صيانة الأماكن التاريخية وحماية الهوية الفلسطينية، والتعاون مع الأوقاف للمحافظة على الحرم الشريف وصيانته والحفاظ على مكانته.
ضغوط ومذكرات وفعاليات أوروبية مرموقة
لم تقتصر الفعاليات الأوروبية على مذكرات القناصل سابقة البيان، فقد سبق الإجراء الأوروبي الأخير مخاض طويل من النقاشات، وتداول الأفكار، عن كيفية وقف استيراد منتوجات المستوطنات. واحتدم النقاش في أوساط قادة دول الاتحاد الأوروبي والمفوّضية الأوروبية في السنوات الأخيرة، بشأن وضع علامات مميّزة على منتوجات المستوطنات الإسرائيلية التي تصدّرها إسرائيل إلى الاتحاد الأوروبي.
وكانت نحو تسعين شخصية من أعضاء مجلس العموم واللوردات البريطانيين ومن المحامين والممثلين وشخصيات أخرى[22]، قد وجهت رسالة إلى الحكومة البريطانية تدعوها فيها للالتزام بالاتفاقات الدولية، التي تنصّ على ملاحقة مرتكبي انتهاكات الحرب بغض النظر عن منصب أو جنسية الملاحقين قانونياً. وظهر ضوء خافت لدعم العدالة في نفق الكونغرس الأميركي عندما دعا، في رسالة، نحو 54 نائبا ديمقراطياً أوباما، إلى العمل لتخفيف الحصار على المدنيين العزل في غزة. وتعالت دعوات أكاديميين أميركيين لفرض مقاطعة أكاديمية وثقافية واقتصادية على إسرائيل، على خلفية الحرب على غزة واستمرار فرض الحصار عليها. وإن كان المجتمع الدولي يبدو صامتاً إلى حدّ بعيد، أما الآن، وبغض النظر عن صمت الحكومات والحكام، فإن المثقفين والبرلمانيين وأساتذة الجامعات ومنظمات المجتمع المدني والوزراء السابقين، قد بدأوا بتشكيل عشرات المنتديات والفعاليات في العالم لكشف الانتهاكات الإسرائيلية وتقويض الادعاءات الإسرائيلية.
وفي رسالة[23] وصفت بأنها “غير عادية” موجهة إلى مسؤولة العلاقات الخارجية للاتحاد الأوروبي كاثرين اشتون، طالب عدد من السياسيين الأوروبيين بينهم رؤساء حكومات ووزراء خارجية ومسؤولون كبار، بتغيير جذري في التوجه إلى ما يسمى بـ”العملية السياسية” بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. والرسالة تم توقيعها من قبل 19 مسؤولاً من 11 دولة أوروبية، بينهم 4 رؤساء حكومات سابقين، و7 وزراء خارجية سابقين ورئيسة سابقة[24]. وتطالب الرسالة الاتحاد الأوروبي بمعارضة أي توسع، طبيعي أو غير طبيعي، في البناء في المستوطنات المقامة على أراضي الضفة الغربية، وألا يكون “وجود المستوطنات” نقطة البداية في أية مفاوضات مجددة، وأنه “يجب بذل الجهود بسرعة وبشكل مركز لمنع إزالة حدود 67 كأساس لحل الدولتين”. وأنه يجب على الاتحاد الأوروبي أن “يميز بشكل واضح بين إسرائيل الشرعية في حدود 67، وبين خرق القوانين الدولية في الأراضي المحتلة عام 67”.
وأضافت الرسالة أن “الأجيال القادمة سوف تعتقد أنه لا يمكن مسامحة الأوروبيين، على امتناعهم عن القيام بما يمكن أن يصحح استمرار تدمير حقوق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره”. واختتمت الرسالة بالقول إنه يجب أن يتحول الاتحاد الأوروبي إلى عنصر فعال في “العملية” بين إسرائيل والفلسطينيين، وأن “عدم أخذ دور أوروبي فعال مقابل الجمود الخطير غير أخلاقي وغير ذكي، فالأدلة تتراكم وتشير إلى فشل أمريكي في الكيل بمكيال واحد تجاه الفلسطينيين والإسرائيليين، في السعي نحو التسوية بموجب قرارات الأمم المتحدة”. وقد دعت هذه الشخصيات البارونة أشتون إلى اتخاذ عدد من الخطوات[25] أبرزها:
- اعتبار جميع المستوطنات الإسرائيلية المقامة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 غير شرعية، وأن الاتحاد الأوروبي لن يعترف أبداً بهذه الإملاءات.
- الاعتراف بالأراضي الفلسطينية كدولة تحت الاحتلال.
- تحقيق المصالحة الفلسطينية.
- التمسك بحدود 1967 وتحقيق مبدأ الدوليتن على هذه الحدود.
- أن يلعب الاتحاد الأوروبي دوراً سياسياً وليس فقط دوراً في الدعم المالي.
- أن يبدأ الاتحاد الأوروبي حواراً استراتيجياً مع القيادة الفلسطينية.
- على أوروبا أن لا تسمح لإسرائيل بتدمير حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
ومن أبرز تلك النقاشات إرسال 13 وزير خارجية[26] في دول الاتحاد الأوروبي في 12 نيسان (أبريل) 2013، رسالةً[27] إلى كاثرين آشتون مفوّضة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، أعربوا فيها عن تأييدهم للجهد الذي تبذله آشتون في صوغ تعليمات إلى جميع دول الاتحاد الأوروبي، بشأن وضع علامات على منتوجات المستوطنات التي تستوردها دول الاتحاد الأوروبي، وتُباع في شبكات التسويق الأوروبية، بنصها: “نحيي بحرارة تصميمكم على وضع قواعد أوروبية بشأن وضع بطاقة بيانات تعريفية على منتجات المستوطنات”. وأضافت الرسالة “إنها خطوة مهمة لضمان التطبيق السليم والمنسق لتشريع الاتحاد الأوروبي بشأن حماية المستهلكين وبطاقة التعريف (…) وهو ما يتفق مع السياسة التي يتبعها منذ وقت طويل الاتحاد الأوروبي حيال المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة”[28]. وتُوجت تلك النقاشات بأن أكدت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في 12 أيار (مايو) 2012 ثم في العاشر من كانون الأول (ديسمبر) من العام نفسه علناً، عزمها على تطبيق “التشريع الأوروبي والاتفاقات الثنائية المتعلقة بالسلع التي تنتجها المستوطنات” الإسرائيلية.
واستجابة لتلك المذكرات والمطالبات أرسلت كاثرين آشتون في الثامن من تمّوز (يوليو) 2013، رسالةً[29] إلى كبار المسؤولين في مفوّضية الاتحاد الأوروبي، دعتهم فيها إلى اتّخاذ جميع الخطوات القانونية والإدارية من أجل وضع علامات مميّزة على منتوجات المستوطنات الإسرائيلية قبل انتهاء عام 2013. وأكّدت آشتون في رسالتها أنّ هناك علاقة بين موقف الاتحاد الأوروبي المعارض لإقامة مستوطنات إسرائيلية في المناطق المحتلّة، وضرورة ضمان عدم تصدير منتوجات المستوطنات الإسرائيلية إلى الاتحاد الأوروبي، وكأنّها منتوجات من إسرائيل، القائمة بالنسبة إلى الاتحاد، في حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967.
دعم منطقة (ج) ودعم مشاريع في القدس الشرقية
تشكل القدس والمنطقة المسماة (ج) في الضفة الفلسطينية، حلبة صراع رئيسية مع المخططات والممارسات الاقتلاعية والتهويدية الشرسة من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلية. وقد أعار القناصل الأوروبيين هاتين المنطقتين أهمية استثنائية، سواءً أكان ذلك بتتبع وتوثيق تلك المخططات والممارسات، و/أو اتخاذ ما أمكنهم من خطوات ومواقف للتخفيف من وطأة تلك الإجراءات الاستيطانية، ومساعدة المواطنين الفلسطينيين للبقاء في أماكن سكناهم وفلاحة أراضيهم وتثبيت وجودهم وتمكينهم من الصمود، في وجه تلك الإجراءات الإلحاقية والتدميرية الاستيطانية.
وفي خطوة عملية وترجمة لتوصيات القناصل الأوروبيين، أعلنت المفوضية الأوروبية[30] عن تمويل جديد بقيمة 100 مليون يورو لفلسطين في مجالات المياه والصرف الصحي ودعم اللاجئين، فضلاً عن حزمة من الدعم للمنطقة (ج) ودعم مشاريع في القدس الشرقية وتقديم الدعم للنفقات الجارية للسلطة الفلسطينية. وتشمل الحزمة 7 مجالات أساسية وهي: الجزء الثاني من دعم للنفقات الجارية للسلطة الفلسطينية عبر آلية (بيغاس) بقيمة 31 مليون يورو، ودعم الحكم / سيادة القانون ومؤسسات القطاع الاجتماعي بقيمة 20 مليوناً و500 ألف يورو، والمساهمة في ميزانية 2012 العادية للأونروا بقيمة 11 مليوناً و500 ألف يورو، ودعم للقطاع الخاص في الضفة الغربية وقطاع غزة بقيمة 11 مليوناً و200 ألف يورو، وتطوير الأراضي والبنية التحتية الأساسية في المنطقة (ج) بقيمة 7 ملايين يورو، ودعم إيصال الخدمات المجتمعية في القدس الشرقية بقيمة 8 ملايين يورو، والإدارة المستدامة للموارد الطبيعية في غزة بقيمة 11 مليون يورو. وأشارت المفوضية الأوروبية إلى أن “المنطقة المصنفة (ج) في الأراضي الفلسطينية المحتلة تحتوي على موارد طبيعية وأراض تشكل عاملاً حاسماً للنمو الاقتصادي في المستقبل لدولة فلسطينية” وقالت “اليوم من المستحيل تقريباً على الفلسطينيين والمانحين الدوليين الحصول على تراخيص بناء في المنطقة، في حين أن المباني المجتمعية والبنية التحتية الأساسية الضرورية (مثل خزانات تجميع مياه الأمطار) يتم هدمها بانتظام. والتمويل الجديد من الاتحاد الأوروبي سيوفر التدريب والخبرة، لمساعدة وزارات السلطة الفلسطينية ذات الصلة على التخطيط وبناء بنية تحتية جديدة وتمكين الناس من استعادة وبناء أراضيهم هناك”. وأشارت إلى أن الحزمة الجديدة بقيمة 100 مليون يورو سترفع قيمة المساعدات من الاتحاد الأوروبي إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة لعام 2012 إلى ما مجموعه 200 مليون. وقالت “هذا المال هو جزء من المساعدة المقدمة في إطار آلية الجوار والشراكة الأوروبية (ENPI)، وهي الأداة الرئيسية للمالية والتعاون والتي يتم من خلالها توفير التمويل لسياسة بلدان الجوار الأوروبية (ENP) وروسيا”.
ورداً على قرار الاتحاد الأوروبي، قرر[31] وزير جيش الاحتلال موشيه يعالون وقف التعاون مع ممثلي الاتحاد الأوروبي في إقامة مشاريع للفلسطينيين في المناطق المصنفة “ج”، وتحديد حركتهم في الضفة الغربية، ومنع دخولهم من قطاع غزة وإليه. و”ألغيت لقاءات مع مندوبين عن الاتحاد الأوروبي، وجمدت مشاريع وهبات، ورفضت طلبات تجديد أذونات سفر إلى الضفة الغربية وقطاع غزة لمسؤولين أوروبيين وفلسطينيين”. وأعطى يعالون تعليمات “للتعامل باستعلاء” مع المسؤولين الأوروبيين. وفي 20 أيلول (سبتمبر) 2013 جرى تطبيق هذه التعليمات، إذ قام جنود إسرائيليون بتفريق مجموعة دبلوماسيين أوروبيين بالقوة، خلال عملية مصادرة خيم ومساعدات إنسانية موجهة إلى فلسطينيين قام الجيش بتدمير منازلهم في قرية مكحول في الأغوار الفلسطينية. وقال مصدر دبلوماسي أوروبي: إن الدبلوماسية الفرنسية ماريون فينو كاستنغ تم جرها بالقوة خارج الشاحنة التي كانت تحوي المساعدات. وتدرس الحكومة الإسرائيلية إمكانية الإعلان عن الدبلوماسية الفرنسية، ماريون كاستينج شخصية غير مرغوب بها، لأنها حاولت منع الجنود من مصادرة المساعدات الإنسانية للأهالي المنكوبين. واتهمت الخارجية الإسرائيلية في بيان أصدرته “الدبلوماسيين الأوروبيين بأنهم يستفزون الإسرائيليين ولا يتصرفون كدبلوماسيين، وتصرفاتهم غير مقبولة، وأنهم يخرقون القانون الإسرائيلي،[..و] أن الحكومات تقوم بإرسال الدبلوماسيين ليكونوا جسراً وليس كمحرضين”؟! وجاء في الرد الأوروبي الصادر عن مكتب وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاثرين اشتون “أن الاتحاد طلب توضيحات من السلطات الإسرائيلية إثر حادث الجمعة”. وقال مايكل مان المتحدث باسم آشتون في بيان أن “الاتحاد الأوروبي يأسف لمصادرة مساعدة إنسانية من جانب قوات الأمن الإسرائيلية”[32].
وتستشيط إسرائيل غضباً من أنشطة ومشاريع تعزيز صمود المواطنين الفلسطينيين في القدس ومنطقة (ج) من قبل وكالات المنظمات الدولية المتخصصة، الأمر الذي دفع بمسؤول إسرائيلي أن يعلن بأن إسرائيل “ستقوم بدراسة التسهيلات الممنوحة للمؤسسات الدولية العاملة في الضفة الغربية، حيث سيتم التنسيق بين وزارة الخارجية ومنسق شؤون المناطق، لاتخاذ خطوات تقلص عمل هذه المنظمات”[33]. وادعى أن ذلك يأتي بعد “تناقل الأحاديث حول تورط أفراد من هذه المنظمات في أعمال غير قانونية؟!”. وكشف المصدر عن التدهور الخطير في العلاقات بين إسرائيل ووكالات المنظمة الدولية، التي تعمل في تقديم الخدمات الإنسانية لسكان الضفة الغربية من الفلسطينيين. وأضاف أن “وكالات الأمم المتحدة قامت بتنفيذ العديد من المشاريع في مناطق (ج)، التي تشكل 55٪ من مساحة الضفة الغربية وتضم قرابة 120 ألف فلسطيني، وذلك دون الحصول على إذن من الإسرائيليين، إضافة إلى تورطها في أعمال بناء غير مشروعة”. وأشار إلى حجم الغضب الإسرائيلي قائلاً: “إن منسق شؤون المناطق أمر بوقف جميع المشاريع التي تشرف عليها الوكالة الدولية التي تتم بصورة غير قانونية، والهدم لهذه المشاريع في حال تطلب الأمر ذلك”. وأوعز أن يتم من خلال وزارة الخارجية تقديم احتجاجات رسمية ضد أعضاء الوكالة المشتركين في أعمال غير قانونية للمسؤولين عنهم بمقر الأمم المتحدة في نيويورك.
وفي السياق ذاته، جرى اجتماع بين وزارة الخارجية ومنسق شؤون المناطق وبعض الوزارات ذات الصلة؛ لبحث إمكانية فرض عقوبات ضد المنظمة الدولية للشؤون الإنسانية، وكان من ضمن العقوبات المقترحة وقف منح تأشيرات الدخول للعاملين في الوكالة الدولية، إضافة إلى إلغاء تصاريح العمل والمرور للعاملين في الضفة الغربية من أفراد الوكالة الدولية. يذكر أن رون بروشاور مندوب إسرائيل في المنظمة الدولية قام في العاشر من تموز (يوليو) 2013 بإرسال كتاب شديد اللهجة إلى فاليري ايموس مساعد السكرتير العام للأمم المتحدة لشؤون المساعدات الإنسانية جاء فيه “إن إسرائيل معنية بتنظيم عمل الوكالة الدولية في الضفة الغربية، وأنها ستقوم بفحص جدوى عمل هذه المنظمات في مناطق السلطة”. وأضاف” أن إسرائيل قلقة من عمل المنظمات كونه يضر بعمل المنظمات الأخرى التي تقدم المساعدة للفلسطينيين، حيث تمس هذه الوكالات بالشرعية الإسرائيلية من خلال التقارير الكاذبة التي تقوم بنشرها في أوساط المجتمع الدولي، ما سيلحق ضرراً غير مسبوق بالمنظمة الدولية نفسها”.[34]
يظهر مما تقدم، بأن ساحة المواجهة الرئيسية بين الاتحاد الأوروبي وسلطات الاحتلال هي انتهاكات الاحتلال في القدس والمنطقة (ج)، كونهما تخضعان لانتهاكات منهجية ورسمية في غاية القسوة، تشمل وتطال تدمير البيوت ومصادرة الأراضي والممتلكات والتطهير العرقي للمواطنين الفلسطينيين وغيرها.
في أبعاد القلق الإسرائيلي وإرهاصاته
ويتمثل القلق الإسرائيلي الرسمي من الموقف الأوروبي الناشئ، أنها تتخوف من أن ينعكس القرار الأوروبي مباشرة على الرأي العام الأوروبي، وانتقاله إلى الولايات المتحدة، مثلما حدث إبان انتفاضة 1987، ولذا قامت إسرائيل بممارسة أشكال من الضغوط المتعددة على دول الاتحاد الأوروبي، سواءً أكان ذلك من قبلها أو من الإدارة الأمريكية. وقد أخذ العديد من كتاب الرأي الإسرائيليين بإدراك أن “خطوة الاتحاد الأوروبي تظهر إلى أي درك وصلت مكانة إسرائيل في أوروبا، وكم هي خطيرة العزلة الدولية التي تنزلق إليها [..و] تثبت الخطوة الأخيرة للاتحاد الأوروبي بأن سياسة الاستيطان الإسرائيلية واستمرار الاحتلال خطر واضح وفوري على الاقتصاد”[35].
والحقيقة التي بات يدركها العالم تتمثل في “أن الجمود السياسي، الخوف على مستقبل الدولتين، وأكثر من كل ذلك الإحساس بأن حكومة إسرائيل غير معنية حقا بإنهاء الاحتلال في المناطق، دفع الاتحاد الأوروبي إلى أن يجعل كل ما كان نظرية شفوية إجراءات إدارية رسمية، ملزمة وموثقة[36]. وكانت بريطانيا وفرنسا وألمانيا قد سعت منذ كانون الأول (ديسمبر) في العام 2011، إلى طرح مبادرة عبر مجلس الأمن الدولي لاستئناف المفاوضات على أساس الاتفاق على حدود الدولتين، بناء على حدود 4 حزيران (يونيو) 1967 مع تبادل الأراضي بين الطرفين، والاتفاق على ترتيبات أمنية تحترم السيادة الفلسطينية، وتثبت أن الاحتلال قد انتهى، وتحمي أمن إسرائيل وتمنع ظهور الإرهاب وتتعامل بفعالية مع أي تهديدات جديدة، وإيجاد حل عادل متفق عليه لقضية اللاجئين، وتحقيق تطلعات كلا الطرفين بالنسبة للقدس، وأنه لا بد من وضع حل للقدس كعاصمة مستقبلية للدولتين من خلال المفاوضات. غير أن الولايات المتحدة أحبطت هذا المسعى، الذي حظي لاحقا بدعم جميع دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما يخشى من تكراره الآن، في حال تقديم الاتحاد الأوروبي مبادرة لا ترضى عنها الولايات المتحدة، وبالتأكيد لا ترضى عنها إسرائيل. ونشر أربعة من أعضاء الاتحاد الأوروبي في مجلس الأمن[37]، بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا والبرتغال، بياناً بتاريخ 19 كانون الأول (ديسمبر) 2012، ينتقد قرار حكومة إسرائيل تسريع بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة. وجاء البيان في ذات اليوم الذي لم يتمكن أعضاء مجلس الأمن في أثنائه، من نشر بيان شجب مشترك للإجراءات الاستيطانية بسبب الاعتراض الأميركي. ويشكل بيان الأربعة سجلا آخر في المعركة ، التي بدأت بتصويت أعضاء الاتحاد على مشروع القرار لمنح مكانة دولة مراقب غير عضو للسلطة الفلسطينية.
وقد استشعرت الولايات المتحدة وإسرائيل تطور الموقف الأوروبي، فقد ذكرت الصحف الإسرائيلية[38]، أن الرئيس الأميركي باراك أوباما، سيقدم إنذاراً قاسياً لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وتهديداً بفرض عقوبات على إسرائيل، بكل ما يتعلق بالمفاوضات مع الفلسطينيين. وأضافت الصحيفة، أن الإنذار الأميركي يعتمد على مبادرة قدمها وزراء خارجية بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وهو أنه في حال مواصلة إسرائيل سياستها في المناطق الفلسطينية ولا تعمل على التقدم بعملية السلام، سيتم فرض عقوبات قاسية عليها. وأكدت الصحيفة أن وزراء الخارجية من الاتحاد الأوروبي يهددون بوقف دخول الإسرائيليين إلى دول الاتحاد دون الحصول على تأشيرة، وإلغاء اتفاقيات اقتصادية ومعونات أوروبية، ووضع علامات واضحة على منتجات المستوطنات. وقال مسؤول أوروبي رفيع: نتنياهو خدع الاتحاد الأوروبي عندما أعلن عن استعداده التقدم بعملية السلام، لكنه واصل سياسة الاستيطان التي تثير قلق الأوروبيين.
وتحدثت بعض المصادر[39] عن العقوبات التي يبلورها وزراء الخارجية الأوروبيون، ويعتزمون رفعها إلى وزير الخارجية الأميركي جون كيري حديث العهد آنذاك، قُبيل وصوله إلى إسرائيل مع أوباما. وأكدت محافل رفيعة المستوى جداً في الاتحاد الأوروبي، أن الحديث يدور بالفعل عن قائمة بعيدة الأثر من العقوبات إذا ما فرضت فستضع إسرائيل تحت ضغط شديد. وزُعم، ضمن أمور أخرى، أن الحديث يدور عن تغيير الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، بحيث لن تنطبق كل الامتيازات التي تأتي من الاتحاد إلا على المناطق في حدود 67. كما يظهر على الأرجح في قائمة العقوبات تهديد بالتأشير إلى المنتجات التي تنتج خلف الخط الأخضر عند بيعها خارج البلاد، وكذا التراجع عن الاستعداد للسماح للإسرائيليين بالدخول بدون تأشيرة إلى دول الاتحاد، وإلغاء جملة من الامتيازات الأخرى التي اتفق عليها في الماضي.
وأشارت بعض المصادر[40] بأن الولايات المتحدة لا تعارض الخطة الأوروبية، الخاصة بوسم وتمييز منتجات المستوطنات الواردة للأسواق الأوروبية. ونقلت تلك المصادر عن السفير الهولندي في إسرائيل كاسبر فيلدكامب قوله: “إن الولايات المتحدة لم تعارض المبادرة الأوروبية الخاصة بوضع علامات على هذه المنتجات”، التي ترى أوروبا أنها تنتج في مناطق فلسطينية محتلة. وأكد فيلدكامب “إن الأميركيين لم يمارسوا ضغوطاً على دول الاتحاد الأوروبي لاستبعاد خطتهم، وهو أمر سيسهل وضع ملصقات على هذه المنتجات”. وبين “أن المبادرة الأوروبية تحظى بتأييد واسع في دول الاتحاد الأوروبي، وبموافقة ضمنية من الولايات المتحدة”. وقد كشفت المصادر الإسرائيلية[41] عن أن القرار اتخذ في إطار التنسيق مع الإدارة الأميركية، وهدفه ممارسة الضغط على إسرائيل حتى تغير موقفها وتجمد الاستيطان لفتح الطريق أمام استئناف المفاوضات. وقالت هذه المصادر، إن الرئيس باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري اطلعا على القرار الأوروبي قبل صدوره. وإن الغرض الأساسي منه هو دفع نتنياهو إلى تجميد كل القرارات بخصوص مشاريع الاستيطان.
وعلى ما يبدو فإن جهود جون كيري لاستئناف المفاوضات في أيار (مايو) 2013 قد دفعته لاستخدام سياسة العصا والجزرة، إذ إنه كان لا يمانع التوجهات الأوروبية كعصا، إلا أنه لوح للإسرائيلين بأنه قادر على فعل شيء بشأنها في حال وافق الإسرائيليون على استئناف المفاوضات. وهكذا، فقد أثمر الضغط الأمريكي بأن قام الاتحاد الأوروبي بتأجيل خطط لوضع بطاقة بيانات تعريفية، على منتجات المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة في متاجر الدول الأعضاء في الاتحاد، والتي كان من المفترض أن يصادق وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي في منتصف أيار (مايو) الماضي على الخطة، ولكن تم تأجيل ذلك إلى أواخر حزيران (يونيو) الماضي، وذلك بعد أن تدخل وزير الخارجية الأميركي جون كيري لدى وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون بطلب من إسرائيل، الذي كان يحاول جاهداً إعادة إطلاق مفاوضات السلام المتعثرة بين الفلسطينيين،. وكشفت الصحف الإسرائيلية[42]: “طلب كيري وغيره من المسؤولين الأميركيين من آشتون وموظفيها، بالإضافة إلى عدد من الدول الأوروبية الكبرى تأجيل التطبيق الكامل”. وأضافت “بحسب مسؤولين أوروبيين اثنين فإن الأميركيين قالوا إن تطبيق القرار في هذا الوقت سيضر بجهود كيري في إحياء المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين”. على أن مماطلة حكومة إسرائيل تجاه الوزير كيري قد دفعت إلى تجديد آشتون في الرسالة المؤرخة في الثامن من تموز (يوليو) 2013، والموجهة إلى رئيس المفوضية الأوروبية جوزيه مانويل باروسو للتأكيد: “أطلب منكم أن تلتزموا بتطبيق القانون الحالي حول ملصقات منتجات المستوطنات، من خلال إقرار الخطوط التوجيهية لمجموع الاتحاد الأوروبي أو أي تدبير أوروبي آخر”. وأوضحت آشتون أن ضرورة وضع ملصقات لمنتجات المستوطنات “مرتبط ارتباطاً وثيقاً” بموقف الاتحاد الأوروبي الذي يدين الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة[43].
ولم تتوقف إسرائيل عن الطلب من أمريكا لوقف تنفيذ وإلغاء الخطوط التوجيهية لمجموع الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي دفع كيري أن يدعو الاتحاد الأوروبي إلى وقف العمل بالتعليمات الجديدة التي أصدرها في تموز (يوليو) 2013، والتي تستثني المستوطنات في الأراضي المحتلة من تعاونه مع إسرائيل، بقوله “طلبت من الاتحاد الأوروبي أن يبحث في تعليق هذا الأمر”، مضيفاً “لا نطلب منهم اتخاذ خطوة سياسية بل تعليق أو إرجاء تطبيق هذا الإجراء طوال انعقاد هذه المفاوضات”. وكشف[44] النقاب عن أن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، مارس في الآونة الأخيرة ضغوطاً كبيرة على الاتحاد الأوروبي لتخفيف نطاق ودرجة المقاطعة المفروضة على المستوطنات الإسرائيلية والمصانع العاملة فيها، بما فيها مراكز الأبحاث العلمية وجامعة مستوطنة “أريئيل”[45]، خلال التقائه مع 28 وزيراً أوروبياً خلال مداولات مؤتمر مجموعة الجي 20 في سان بيترسبيرغ، ومارس ضغوطاً عليهم لتخفيف شروط ونطاق المقاطعة الأوروبية على المستوطنات، حتى يتسنى إشراك إسرائيل في مشروع البحث العلمي الدولي هوريزون 2020؛ مما يعني حصول مراكز الأبحاث الإسرائيلية والجامعات على تمويل يزيد عن 250 مليون$ سنوياً. وكان الاتحاد الأوروبي قد أعلن أن بمقدور الجامعات ومراكز البحث العلمي الإسرائيلية، المشاركة في المشروع المذكور فقط إذا تعهدت بعدم التعامل مع مراكز وشركات، تقوم على أراضي المستوطنات وراء الخط الأخضر. وقد استقر رأي الحكومة الإسرائيلية على عدم مشاركة الاتحاد الأوروبي في المجال العلمي، إذا أصرت أوروبا على أن المستوطنات ليست جزءًا من إسرائيل. وبذلك، تتخذ حكومة إسرائيل قرارا يمنع عنها تمويلا وهبات تبلغ نحواً 300 مليون يورو، مما سيكلف دافع الضرائب ملياراً ونصف مليار شيكل، إذا أرادت الحكومة أن تعوض مؤسسات البحث عن الخسارة[46].
وقد أدت ضغوط كيري إلى إرسال وفد أوروبي بتاريخ العاشر من أيلول (سبتمبر) 2013 إلى تل أبيب، لتبديد المخاوف الإسرائيلية حيال توجه الاتحاد الأوروبي باستثناء الأراضي المحتلة من تعاونه مع إسرائيل. ونتيجة للجهود الدبلوماسية الإسرائيلية وضغوط جون كيري على الأوروبيين، استطاعت إقناع الاتحاد الأوروبي بضرورة تقديم توضيحات، حول الطريقة التي يعتزمون بموجبها تطبيق هذا التوجيه. ويبدو أن الموقف الأوروبي لم يتغير في الجوهر وبقي على حاله مع إبداء بعض المرونة في التنفيذ، بدليل ما قالته كاثرين آشتون مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي للصحافيين[47]، رداً على سؤال بشأن موقفها من تصريحات كيري، أن هذه التعليمات “تسجل على الورق الموقف الحالي للاتحاد الأوروبي”، إلا أنها أعلنت أن الاتحاد سيبعث بوفد يرأسه دبلوماسي أوروبي رفيع إلى إسرائيل، للاطمئنان إلى تنفيذ التعليمات الجديدة على أكمل وجه”. وقال مصدر بالاتحاد الأوروبي إن وفد الاتحاد سيتباحث مع الإسرائيليين بشأن تنفيذ التعليمات الجديدة وليس التفاوض بشأنها.
خطوة نحو نزع “شرعية” الاحتلال
وقد أدى القرار الأوروبي إلى ردود فعل إسرائيلية ترمي إلى التلويح مجدداً بفزاعة “اللاسامية” القديمة الجديدة. فمثلاً كتب أحدهم: “الخطوة الأوروبية جديرة بالفعل في أن تبعث ذكريات سوداء، فهي تشبه المقاطعة التي فرضها النازيون على محلات اليهود في ألمانيا في العام 1933. […] ويجدر بنا أن نفترض بأن هذا أيضا ما يفعله الأوروبيون اليوم”[48]. وكتب آخر: “إن التراث الأوروبي المعادي للسامية، الذي انقطع انقطاعا طفيفا في الفترة التي تلت المحرقة، ظهر من جديد، وهو يوجه الآن ضد الدولة اليهودية. وتشير استطلاعات الرأي العام على الدوام إلى أن الأوروبيين يؤمنون بأن إسرائيل هي تهديد أو هي أخطر على السلام العالمي يساوي كوريا الشمالية وإيران. وأثبت استطلاع تم مؤخراً أن 150 مليون أوروبي يؤيدون رأي أن الإسرائيليين يعاملون الفلسطينيين كما عامل النازيون اليهود”[49].
وعلى عكس ذلك، فإن الكثيرين من كتاب الرأي الإسرائيليين يرون في الإجراءات الأوروبية، بأنها ضرورية لتصحو إسرائيل من غرورها وصلفها، كما كتب جدعون ليفي: “شكراً لك يا أوروبا. فقد نجحتِ بقرار إداري واحد في زعزعة سكينة إسرائيل التي لا تطاق. وضعضعتِ غرور إسرائيل وصلفها اللذين يريان أن موقف العالم كله ليست له صلة بها ألبتة، بقرار إداري واحد يقتضيه الواقع ولا يوجد ما هو أكثر عدلاً منه.[..] استيقظت قارة التنوير والحضارة والفظائع متأخرة. فهي تتحدث منذ سنين ولا تفعل شيئاً. والرأي العام فيها كان عاصفاً منذ سنين وكانت حكوماتها مشلولة بسبب فظاعات الماضي والخوف من الولايات المتحدة. […] جاءت دعوة الاستيقاظ الأوروبية في أصح توقيت تقريباً قبل أن يصبح ذلك متأخراً جداً. [..] ليس حق أوروبا فقط أن توقف دعم الاحتلال بل هذا واجبها. فمن الواجب على القارة أن تفعل كل ما تستطيع كي تنهي الظلم المستمر. وهذا واجب على العالم كله ومنه الولايات المتحدة التي لا تفعل شيئا”[50]. ويكتب أيضاً جدعون ليفي: “الانتقاد وإن يكن الأشد الموجه إلى الدولة، موجه إلى نظام حكمها، وأكثره موجه لكونها دولة احتلال، وهو واقع غير شرعي على نحو سافر، وأقله موجه إلى تعريفها بأنها دولة عرقية قومية هي دولة اليهود. ولم تعد توجد اليوم دولة احتلال عسكري أخرى كإسرائيل، ولا توجد دولة أخرى تُعرّف نفسها اعتماداً على النقاء العرقي أو الديني أو القومي فيها. […]”[51].
والحقيقة أن الذعر الإسرائيلي الحقيقي يتمثل في أنه ” تبين للحكومة الإسرائيلية أنها قد سُلبت الحق في رسم حدودها، وأنها صاحبة سيادة وهمية على مستوطناتها لأنه لا أحد في أوروبا أو في الولايات المتحدة يعترف بشرعيتها. إن تلك المستوطنات التي كانت ترمي إلى توسيع حدود إسرائيل، هي التي تُعلُم الخط الصحيح من جديد وهو الخط الأخضر المعروف. وأميركا صامتة بل قد تفكر في حسد بمبلغ نجاح أوروبا، بحركة واحدة صغيرة في أن تدفع قدماً بمسيرة السلام وتُجلس نتنياهو مع عباس. وقد يفكر أوباما أيضا بأن هذه هي الطريقة التي يجب على واشنطن أن تستعملها[52].
وقد بات لدى القيادة الإسرائيلية قناعة، بأن الخطوة الأوروبية ليست منفصلة عن ضوء أخضر أميركي، وذلك لمساعدة كيري في إحداث اختراق في الاستعصاء الإسرائيلي على طريق دفع العملية السياسية للأمام، من خلال العودة لطاولة المفاوضات وحماية خيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967 قبل فوات الأوان. وباتت أيضاً على معرفة وقناعة من أن فشل مساعي كيري سيجعل دول الاتحاد الأوروبي تقوم باتخاذ خطوات ومبادرات أشد من الخطوة المطروحة للتنفيذ ضد المستوطنات. وبأن الأوروبيين بذلك يمنحون واشنطن مهلة لاستكمال محاولات إحياء المفاوضات، وإن لم تنجح تلك الجهود، فإن أوروبا ستتخذ خطوات شديدة.
وتوجد مؤشرات على أن نتنياهو يفهم الثمن الذي ستدفعه إسرائيل بسبب المستوطنات. “وفي ظل استغلال هذا الخوف، حذر كيري نتنياهو في الأسابيع الأخيرة من أنه إذا لم تعط المحاولة الحالية لتحقيق السلام ثماراً، فستقف إسرائيل قريباً أمام حملة نزع شرعية دولية شاملة”[53]. ويكشف الصحافي جيفري غولدبرغ عن أنه “وحسب موظفين رسميين تحدثت معهم، يعتقد كيري بأن الأمر الوحيد الذي يخشاه نتنياهو بذات القدر الذي يخشى فيه التهديد الإيراني هو العزلة الدولية لإسرائيل. فنتنياهو يخشى الضرر الاقتصادي بإسرائيل بسبب العزلة الدولية، إذا ما حصلت، ولكن أكثر من كل شيء يخشى أن تضر المقاطعة على إسرائيل بقدرتها على الدفاع عن نفسها”[54].
وفي هذا السياق أصدر “معهد ريئوت”/رؤية الإسرائيلي الذي يعنى بشؤون الأمن القومي تقريراً[55]، يُحذر فيه أن الوضع قد أدى إلى “تآكل خطير في مكانة إسرائيل، تحول في الكثير من الأماكن إلى تحدٍ لحقها في الوجود”، وأن هذه الفعاليات العالمية تهدف إلى “نزع الشرعية عن إسرائيل”، وهي ترقى إلى مستوى “التهديد الحقيقي لوجود إسرائيل، والذي يتوجب التعاطي معه كما تتعاطى مع أي تهديد إستراتيجي آخر”. ويحدد هذا التقرير أن التحدي المنتصب أمام إسرائيل ينبع من نضج سيرورتين:
أولاً: نجاعة ما يسميه ب “إستراتيجيا الانهيار” التي تتبعها منظومة المقاطعة والتنديد العالمية، وشد إسرائيل عبر زيادة عبء الاحتلال، وتطوير نظرية قتال غير متناظرة في مواجهتها على الجبهتين العسكرية والداخلية؛
ثانياً: النجاحات التي حققتها شبكة من الأفراد والشخصيات والمنظمات العاملة في الساحة الدولية، في إظهار إسرائيل ك “دولة مارقة” عن الشرعية. ويضيف التقرير:” تعمل شبكة نزع الشرعية على تلطيخ وجه إسرائيل وتكبيل قوتها العسكرية”، في الوقت الذي تستند فيه هذه الحملة الدولية، التي يُسميها التقرير بحملة “نزع الشرعية”، إلى منظومة من الأفكار المنطوية على درجة كبيرة من التطور والإحكام والنضج والمنهجية والوضوح.
ويقترح واضعو التقرير جملة من التوصيات والتي أسموها ب” اتجاهات للتفكير والعمل”، أبرزها:
- تحديث نظرية الأمن الإسرائيلية بحيث تضمن تحقيق “انتصارات مدمجة” ومتزامنة، أي بما فيها التصدي لحملة التعرية والمقاطعة الدولية لإسرائيل؛
- “تهديد نزع الشرعية عن إسرائيل يمكن أن يتحول إلى تهديد وجودي، وبالتالي ينبغي التعاطي معه على هذا الأساس، مما يستدعي تجنيد أجهزة الاستخبارات وخلق المعرفة والخبرة والدمج بين مجمل الهيئات والأجهزة ذات الصلة وتطوير نظرية قتالية” ؟!
- تقوم هذه “النظرية القتالية” ضد الحملة المناهضة لإسرائيل على “تشخيص مراكز شبكة نزع الشرعية في العالم (لندن، تورنتو، باريس، مدريد، ومنطقة خليج سان فرانسيسكو)” من جهة؛ و”تشويش عمل حوافز هذه الشبكة الدولية والفصل بين مكوناتها”؟!
يكشف هذا التقرير عن مدى أبعاد المأزق الذي تعيشه دولة الاحتلال، فقد باتت المقاطعة بحسب واضعي التقرير “تهديداً بنزع الشرعية عن إسرائيل” وليس الاحتلال وسياساته وتطبيقاته على أراضي إقليم دولة فلسطين، وبذلك فإنه “تهديد وجودي[…] مما يستدعي تجنيد أجهزة الإستخبارات وخلق المعرفة والخبرة والدمج بين مجمل الهيئات والأجهزة ذات الصلة وتطوير نظرية قتالية”؟! والحديث يجري بصراحة عن “تهديد وجودي” و”تطوير نظرية قتالية”؟! ضد حملات المقاطعة للمستوطنات ومؤسساتها ومنتجاتها. ويكشف هذا التقرير عن أن هناك في إسرائيل ومراكز صنع القرار فيها حالة هي أقرب ما تكون إلى الهستيريا تجاه ما يتوجب فعله بشأن المقاطعة. والحقيقة التي يطمسها هؤلاء، يميط اللثام عنها الصحافي المرموق جدعون ليفي[56] بتأكيده: “إن التخويف بسلب الشرعية يرمي إلى طمس الواقع، وأن يُسقط عن إسرائيل المسؤولية عن طابعها الذي هو الأصل لعدم شرعية نظام حكمها […] إن منتقدي إسرائيل وكارهيها أيضا – ومن المؤسف جداً أنه يوجد كثيرون كهؤلاء – يعترضون على نظام حكمها وسياستها لا على وجودها. وهم يعتقدون أن قيم العدل الطبيعي تقضي بوجود إسرائيل مختلفة غير محتلة وغير يهودية (فقط). ومن هنا فإن المسؤولية عن سلب الشرعية هي مسؤولية من يؤيدون استمرار الوضع الراهن”.
يظهر ما تقدم، مدى تأثير وإرهاصات الإجراءات الأوروبية على إسرائيل وعلى كتاب الرأي فيها. ولعل في موافقة الحكومة الإسرائيلية على العودة للمفاوضات كانت إحدى نتائج تلك الإجراءات، للالتفاف عليها، واستشعاراً لما هو أشد وأمضى من إجراءات في قادم الأيام والشهور، ضمن السقف الزمني للمفاوضات الذي تحدد بستة إلى تسعة شهور، في حال استمرار التعنت والتسويف ومحاولة فرض إعادة صوغ الوجود الاحتلالي بصيغ ومطالبات تسعى لتثبيته واستمراره.
موافقة فلسطينية مشروطة بتعهدات دولية
وعلى ما يبدو، فإن ما تسرب عن المفاوضات يشير إلى تعثرها ومراوحتها وعدم جدواها وعبثيتها، وأنها تشكل لإسرائيل غطاءً لاستشراس الاستيطان وفرض المزيد من الحقائق المادية الاستيطانية على أراضي إقليم دولة فلسطين. فقد كشف أمين سر منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عبد ربه[57]، أن فرص نجاح المفاوضات مع إسرائيل “معدومة”، وأنها إذا استمرت بهذا الشكل “ستؤدي إلى كارثة سياسية”. وأضاف أن “الوضع لا يشير إلى أي تقدم في المفاوضات، لكن التقدم الوحيد في مجال التوسع الاستيطاني”. وأضاف بأن قبول إسرائيل العودة للمفاوضات قد جاء كمحاولة ل “استغلال المفاوضات للتأثير على مواقف دولية وعربية، خاصة تجميد قرار الاتحاد الأوروبي بمقاطعة منتوجات المستوطنات”. وأعرب عبد ربه عن “استغرابه” لموقف كيري، مشيراً إلى أن الاتحاد الأوروبي “يتعرض لضغوط أميركية وإسرائيلية للتراجع عن قراره”.
وقد جاء قرار القيادة الفلسطينية بالعودة للمفاوضات مقروناً ومدعوماً بعدة عوامل كما كشف عنها د. صائب عريقات[58]. ولعل أبرز تلك العوامل تتمثل في أن القيادة الفلسطينية “وافقت على استئناف المفاوضات لفترة 6-9 أشهر، حيث وعدتنا دول كثيرة في أوروبا وآسيا وعدد من الدول الأخرى التي لم تعترف بدولة فلسطين، أنه في حالة رفض إسرائيل خلال فترة 6-9 أشهر تحقيق مبدأ الدولتين على حدود 1967، فإنها سوف تبادر إلى الاعتراف بدولة فلسطين على حدود 1967 بعاصمتها القدس الشرقية، وسوف تؤيد انضمامنا للمؤسسات والمواثيق والمعاهدات الدولية، وأنها سوف تتعامل مع المستوطنات الإسرائيلية بما فيها القدس الشرقية وفقاً للقانون الدولي وعلى اعتبارها غير شرعية”.
ويشير د.صائب عريقات بشكل محدد إلى أن “الإعلان عن هذه التوجهات الأوروبية كان عاملاً أساسياً في اتخاذ القرار الفلسطيني، لاستئناف المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي وبرعاية الإدارة الأميركية ممثلة بالوزير كيري. إذ ساهمت هذه التوجهات بسد الثغرة القائمة باستمرار النشاطات الاستيطانية الإسرائيلية؛ فاعتبار كافة النشاطات الاستيطانية عملاً غير شرعي وغير قانوني لم يعد مجرد حبر على ورق القوانين الدولية، حيث أصبح بهذا القرار الأوروبي، قانوناً ساري المفعول يضع إسرائيل تحت المراقبة والمساءلة والمحاسبة أيضاً. ولقد طالبنا دول العالم وتحديداً دول أميركا اللاتينية، واليابان، والصين، وروسيا، ودول الاتحاد الإفريقي، وباقي دول العالم باتخاذ قرارات مماثلة لتلك التي اتخذتها دول الاتحاد الأوروبي”.
واستشعاراً لعبثية المفاوضات الجارية وعدم جدواها و”كارثيتها”، والتي وافق الطرف الفلسطيني على استئنافها بالشروط المذكورة السابقة، بما في ذلك الامتناع عن السعي للحصول على العضوية للانضمام للمؤسسات والمواثيق والمعاهدات الدولية لفترة 6-9 أشهر، تجاوباً مع رغبة الأوروبيين والإدارة الأمريكية وتجنباً لتحميلنا أوزار فشل تلك المساعي؛ فإن على الجانب الفلسطيني الاستمرار والاستعداد والتجهيز لانضمام دولة فلسطين إلى المؤسسات والمواثيق والمُعاهدات الدولية، خاصة وأن الحكومة الإسرائيلية قد تتراجع عن التزاماتها بخصوص الاستيطان والأسرى، الأمر الذي سيضعنا أمام الخيار الوحيد وهو استئناف التوجه للانضمام إلى المؤسسات والمواثيق والمُعاهدات الدولية، بما فيها تجديد تقديم طلب الحصول على العضوية الكاملة في منظومة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة والانضمام للمحكمة الجنائية الدولية. ويستشعر الإسرائيليون ذلك ويبدون الخوف من أن “المحطة التالية الجمعية العمومية للأمم المتحدة والمنظمات الدولية. وكلما عزز الفلسطينيين مكانتهم في هذه المؤسسات فقد الاحتلال الإسرائيلي شرعيته. فإسرائيل لا تُعرض على أنها دولة احتلت أرضاً بل على أنها دولة احتلت دولة. وهذه مرحلة مهمة في الطريق إلى توسيع القطيعة، إن لم تكن من قبل دول فمن قبل جهات أكاديمية واقتصادية ورياضية”[59].
وفي الختام، لعل من الأهمية بمكان التأكيد بأن الخطوات التي اتّخذها الاتحاد الأوروبي، تشير إلى إمكانية بدء مرحلة جديدة وجدّية في تعامل الاتحاد الأوروبي مع الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي، على الرغم من أن هذه العقوبات ضدّ المستوطنات غير كافية للتأثير في وقف إسرائيل الاستيطان، ولا في ازدياد الاستيطان واستفحاله، إن لم تتبع هذه الإجراءات بقرار واضح يقضي بمقاطعة منتوجات المستوطنات كلّية، وعدم السماح لها بدخول دول الاتحاد الأوروبي؛ فهي منتوجات مستوطنات غير شرعية قائمة في الأراضي المحتلّة والمصادرة عنوةً من اًصحابها الشرعيّين الفلسطينيين. وكذلك اتخاذ قرار بمقاطعة المستوطنين أنفسهم، بما في ذلك منعهم من دخول الاتحاد الأوروبي، وتنفيذ كافة التوصيات التي تم تدوينها في المذكرات المتتابعة للقناصل الأوروبيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة سابقة الذكر، ودعوة دول العالم لاتخاذ قرارات مماثلة. ولا تقل أهمية ما يترتب على الطرف الفلسطيني من واجبات بشأن إعادة تفعيل مقاطعة منتوجات المستوطنات، خاصة وأننا نملك الحق بذلك ويمليه علينا واجبنا الوطني.
الهوامش
[*] باحث ومستشار قانوني.
[1] حازم جمجوم، مقاطعـــة إسرائيل: الدروس والعبــر، جريدة حق العودة، العدد 27- 28.
[2] تسفي برئيل، كلمة السر: مقاطعة!، هآرتس/ الأيام 15 آب (أغسطس) 2013.
[3] كريستوف شولت، الاتحاد الأوروبي يقاوم منتجات الاستيطان الإسرائيلي، دير شبيغل/ القدس المقدسية، 4/3/2013.
[4] صدّرت إسرائيل في العام 2010 فواكه وخضروات بقيمة 2.1 مليار دولار، 66٪ من هذه المنتوجات صُدِّرت إلى الأسواق الأوروبية. بعض هذه المنتجات تأتي من المستوطنات والتي تستغل المياه والأرضي في الضفة الغربية، مما يمنع تطوير الزراعة الفلسطينية من جهة، ومن جهة أخرى يساهم بأرباح الشركات الإسرائيلية الزراعية.
[5] يعتبر تحقيق مجلة دير شبيغل نادراً في ضوء حساسية الموقف التاريخي بين إسرائيل وألمانيا بشأن قضية الهولوكست. ويبدو أن ألمانيا بدأت بتخطي تلك العقدة، بدليل أن صحيفة “يديعوت أحرونوت”، في عددها الصادر يوم 19/2/2013 قد كشفت أن مصادر حكومية إسرائيلية أعربت عن غضبها إزاء قيام مكتب المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل بـ”تأخير متعمد” لعملية تنظيم دفعات “التعويضات” للناجين اليهود من المحرقة النازية، وربطها ذلك بإعلان إسرائيل عن وقف البناء في المستوطنات.
[6] الوثيقة بنصّها الأصلي في اللغة الإنجليزية، نشرتها صحيفة هآرتس بتاريخ 16/7/2013.
[7] المصدر السابق.
[8] قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم د-أ 9/1، بتاريخ 5 شباط (فبراير) 1982. وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 38/180 أ بتاريخ 19 كانون أول (ديسمبر) 1983.
[9] قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 38/180 تاريخ 19/12/1983.
[10] تقرير، ريتشارد فولك، المقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، المقدَّم طبقًا لقرار مجلس حقوق الإنسان ه/1. الأمم المتحدة، الجمعية العامة للأمم المتحدة، الوثيقة رقم A/67/379، بتاريخ 19 أيلول (سبتمبر) 2012، ص 4 و5.
[11] الفقرة 88 من المصدر السابق.
[12] الفقرة 89 من المصدر نفسه.
[13] الفقرة 91 من المصدر نفسه.
[14] بثينة شعبان، هذا الأسبوع…! صحيفة القدس المقدسية. الثلاثاء 9 آذار (مارس) 2010، ص 19.
[15] صحيفة القدس المقدسية، 29/8/2010، ص 16.
[16] صحيفة هآرتس/ الأيام بتاريخ 3/12/2009.
[17] صحيفة هآرتس، بتاريخ 9 كانون الثاني (يناير) 2011، القدس العربي بتاريخ 10/1/2011، صحيفة الشرق الأوسط، بتاريخ 11 كانون الثاني (يناير) 2011.
[18] صحيفة هآرتس في عنوانها الرئيسي بتاريخ 23 كانون الأول (ديسمبر) 2011.
[19] صحيفة القدس 11/12/2012.
[20] صحيفة “هآرتس” بتاريخ 27/2/2013.
[21] صائب عريقات “مفترق طرق – لحظة الحقيقة – القرارات المصيرية”: ماذا بعد “فلسطين” ؟ بتاريخ 5 نيسان (آبريل) 2013، موقع دنيا الوطن m.alwatanvoice.com/show/379186.html، تاريخ الإقتباس 21 أيار (مايو) 2013.
[22] بثينة شعبان، هذا الأسبوع…! صحيفة القدس المقدسية. الثلاثاء 9 آذار (مارس) 2010، ص 19.
[23] “الدول الغربية تعمل على إدامة الاحتلال”، معاريف 19/04/2013، عن موقع عرب 48.
[24] وكان بين الموقعين على الرسالة رئيس حكومة فرنسا سابقاً ليونيل جوسبان، ورئيس حكومة هولندا سابقاً، ورئيس حكومة إيرلندا سابقاً، ورئيس حكومة إيطاليا سابقاً، إضافة إلى ميغيل موراتينوس.
[25] د.صائب عريقات، لماذا الموافقة على استئناف مفاوضات الوضع النهائي؟ وكالة معاً الإخبارية www.maannews.net/arb/ViewDetails.aspx?ID=626689، تاريخ الزيارة 16 أيلول (سبتمبر) 2013.
[26] والموقعون هم إضافة إلى وزيري خارجية فرنسا وبريطانيا وزراء خارجية النمسا وبلجيكا والدنمارك وإسبانيا وفنلندا ولوكسمبورغ ومالطا وهولندا والبرتغال وجمهورية إيرلندا وسلوفينيا.
[27] براك رفيد، نصف دول الاتحاد الأوروبي تؤيّد وضع علامات على منتوجات المستوطنات، هآرتس، 20/4/2013،
[28] 13 وزيراً أوروبياً يؤيدون وضع بيانات تعريفية على منتجات المستوطنات، عرب48/ وكالات، تاريخ النشر: 20/04/2013.
[29] براك رفيد، الاتحاد الأوروبي يعتزم وضع علامات على منتوجات المستوطنات في شبكات التسويق قبل نهاية 2013، هآرتس، 23/7/2013.
[30] الأيام 15 أيلول (سبتمبر) 2012.
[31] صحيفة هآرتس/ الحياة الجديدة 27 تموز (يوليو) 2013.
[32] موقع صحيفة هآرتس/ الأيام/ الحياة الجديدة 23 أيلول (سبتمبر) 2013.
[33] موقع هآرتس/ صحيفة القدس بتاريخ 15 تموز (يوليو) 2012.
[34] المصدر نفسه.
[35] باراك رابيد، المستوطنات خطر يهدد الاقتصاد الإسرائيلي، هآرتس/ الأيام 17 تموز (يوليو) 2013.
[36] المصدر نفسه.
[37] شمعون شتاين، المستوطنات ..خط أوروبي أحمر. صحيفة الأيام 28/12/2012.
[38] صحيفة يديعوت أحرونوت/ الأيام 13 شباط (فبراير) 2013.
[39] شمعون شيفر، رسالة أوباما الحازمة، يديعوت/ الأيام 12/2/2013.
[40] صحيفة “جروزاليم بوست”/ الحياة الجديدة26 نيسان (آبريل) 2013.
[41] صحيفة هآرتس/ الأيام، بتاريخ 17 تموز (يوليو) 2013.
[42] صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية/ الحياة الجديدة بتاريخ 19 أيار (مايو) 2013.
[43] صحيفة هآرتس/ الأيام 24 تموز (يوليو) 2013.
[44] صحيفة “يديعوت أحرونوت” بتاريخ 8 أيلول (سبتمبر) 2013.
[45] ولعل من اللافت للنظر امتداد حملات المقاطعة لتصل إلى الفنانين والأكاديميين الإسرائيليين، إذ أعلن 53 فناناً يهودياً من أبرز شخصيات المسرح في إسرائيل، ومن أهم مسارحها في رسالة جماعية، رفضهم الظهور والمشاركة في تقديم أعمال مسرحية، في نادٍ ثقافي بني في مستوطنة أرئيل التي أقيمت على أراضٍ فلسطينية احتلت بالقوة العسكرية، معتبرين الاحتلال وبناء المستوطنات مناقضاً للقانون الدولي، ومنافياً لحقوق مئات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني سكان المناطق الفلسطينية المحتلة. وقد إنبرى العديد من الأدباء اليهود البارزين والمحاضرين الأكاديميين للدفاع عن الفنانين، وقال أحد المحاضرين من الجامعة العبرية:” إن الفنون والعلوم هي رموز إنسانية عالمية، تتطور فقط في ثقافة مبنية على الحرية والنقد، ولا يمكن أن تندمج مع نظام قمع واحتلال”. ويبدو أن توقيت رسالة ال 53 فناناً يهودياً، والتي جندت معها مئات المحاضرين والأدباء ورجال المجتمع الإسرائيلي، لها هذه المرة قيمة مضاعفة وصفعة مدوية غير متوقعة في لحظتها التاريخية وبالغة الحراجة والدقة بالنسبة لإسرائيل؛ مما أثار سخط واستنفار مؤسساتها وأركانها.
[46] تسفي برئيل، كلمة السر: مقاطعة!، هآرتس/ الأيام 15 آب (أغسطس) 2013.
[47] الحياة الجديدة 8 أيلول (سبتمبر) 2013.
[48]أمنون لورد، معاريف/ الأيام 13 آب (أغسطس) 2013.
[49]ايزي لبلار، الانقضاض الأوروبي على إسرائيل، إسرائيل اليوم 24 تموز (يوليو) 2013.
[50] جدعون ليفي، شكراً لك أوروبا، هآرتس/ الحياة الجديدة 19 تموز (يوليو) 2013.
[51] جدعون ليفي، الاحتلال يسلب إسرائيل شرعيتها، هآرتس 24 حزيران (يونيو) 2013.
[52] تسفي برئيل، كلمة السر: مقاطعة!، هآرتس/ الأيام 15 آب (أغسطس) 2013.
[53] جدعون ليفي، الاحتلال يسلب إسرائيل شرعيتها، هآرتس 24 حزيران (يونيو) 2013.
[54] جيفري غولدبرغ، الخوف من العزلة. معاريف/ الأيام 15 آب (أغسطس) 2013.
[55] المشهد الإسرائيلي، المدار، إصدار المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، العدد230، السنة الثامنة، بتاريخ 9/3/2010، ص8.
[56] جدعون ليفي، الاحتلال يسلب إسرائيل شرعيتها، هآرتس 24 حزيران (يونيو) 2013.
[57] القدس بتاريخ 9 أيلول (سبتمبر) 2013.
[58] د.صائب عريقات، لماذا الموافقة على استئناف مفاوضات الوضع النهائي؟ وكالة معاً الإخبارية، www.maannews.net/arb/ViewDetails.aspx?ID=626689، تاريخ الزيارة 8 أيلول (سبتمبر) 2013.
[59] ناحوم برنياع، هل تتعرض إسرائيل ل ” تسونامي سياسي” في أيلول؟، يديعوت/ الأيام 29 حزيران (يونيو) 2013.