مراجعة: نعيم ناصر[*]

شكلت القدس، بشقيها الشرقي والغربي، منذ أن قدّر لها أن تكون منبع الديانات السماوية الثلاث، سبباً أو ذريعة للدول الأجنبية لفرض هيمنتها على فلسطين، نظراً لموقعها الاستراتيجي في الشرق الأوسط.

فبحجة تخليص قبر السيد المسيح، عليه السلام، من “براثن المسلمين الكفار” شن الغرب الأوروبي سلسلة من الحروب على فلسطين عرفت في علم التاريخ باسم “الحروب الصليبية” وتمكن من احتلالها لأكثر من مائتي عام.

وبحجة مماثلة مستندة، ليس على “تحرير” القدس، فحسب، بل تحرير “أرض إسرائيل الموهوبة من الله لهم” من “محتليها” العرب، نجحت الحركة الصهيونية في احتلال أجزاء واسعة من فلسطين، بما فيها القدس الغربية في العام 1948، بدعم من بريطانيا، ثم احتلال باقي فلسطين من قبل إسرائيل، بما فيها القدس الشرقية، في العام 1967.

واستناداً إلى الوعد الإلهي المزعوم– سارعت “الكنيست” الإسرائيلية، عقب احتلال الضفة الغربية إلى فرض القانون الإسرائيلي على القدس الشرقية، وتحديداً بتاريخ 28/6/1967، أي بعد 23 يوماً من حرب الأيام الستة. وبتاريخ 30/7/1980 ضمت إسرائيل القدس الشرقية إلى القدس الغربية، وأعلنتها عاصمة موحدة لها، دون رغبة سكانها الفلسطينيين، وبالتالي فصلتها عن باقي مدن وبلدات الضفة الغربية، وحاولت بشتى الطرق إفراغ سكانها الفلسطينيين منها لتضمن في القدس الشرقية أكثرية يهودية، مدعية أن ما أقدمت عليه، هو استرجاع “حق ضاع لليهود” منذ آلاف السنين.

وعملية فصل القدس عن محيطها الفلسطيني، لم تكن بالأمر الجديد على الشعب الفلسطيني بل سبقه القرار 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1947، والمعروف باسم قرار التقسيم، عندما نص على تدويل القدس ووضعها تحت إشراف الأمم المتحدة.

وأمام إصرار الشعب الفلسطيني على النضال من أجل دولته المستقلة، بعاصمتها القدس الشرقية، ادعى زعماء إسرائيل أن التاريخ لم يشهد قيام دولة للفلسطينيين، أو كانت القدس عاصمتهم، وبالتالي لا يحق لهم، من وجهة نظرهم، المطالبة بمدينة القدس.

وفلسطين من دون القدس، بالنسبة للفلسطينيين، لا معنى لها لا وطنياً ولا دينياً ولا أخلاقياً. ومع كل الإجراءات التي اتخذتها إسرائيل بحق القدس الشرقية منذ العام 1967 “إلا أنها حافظت على استقلالها في الكثير من القطاعات. كما أن هذه السياسة (الإسرائيلية) لم تساهم في وحدة القدس، ولا في تقريب السكان بعضهم إلى بعض، بل بالعكس تماماً، ازدادت الهوة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتعليمية بين شطري المدينة وازدادت التطلعات السياسية والوطنية أكثر بكثير لدى الفلسطينيين من تلك التي كانت قائمة عقب عام 1967″، على حد تعبير الكاتب الفلسطيني نظمي الجعبة في كتيبه المعنون بـ”القدس العربية.. أربعون سنة من الاحتلال الإسرائيلي”.

ومن هنا تنبع أهمية هذا الكتاب، موضوع المراجعة، كونه يتعمق بدراسة أبرز القضايا التي تهم الفلسطينيين، عموماً، وسكان القدس الشرقية، خصوصاً، والتي يحاول الاحتلال جاهداً تشويهها وتزويرها، وصولاً إلى تحقيق أهدافه السياسية وتهويد القدس الشرقية، وتهجير سكانها منها.

ويبرز الكتاب في المقابل جهود المقدسيين في مقاومة هذه الأهداف، رغم الصعوبات التي تواجههم.

والمؤلَّف الذي بين أيدينا يضم ست أوراق بحثية عن الأوضاع الاقتصادية، والثقافية، والاستيطان، والأوضاع الصحية، والقانونية، والتعليمية، للقدس الشرقية، لباحثين مقدسيين متخصصين كل في مجاله هم على التوالي: الاقتصادي محمد قرّش، والقاص والروائي محمود شقير، وخبير الخرائط خليل التفكجي، ود. محمود جاد الله، والخبير القانوني د. كمال قبعة، والأستاذ سمير جبريل مدير التربية والتعليم في القدس.

وركزت هذه الأوراق بمجملها على التغيرات التي حصلت في القطاعات المشار إليها بعد حرب حزيران العام 1967 “لتقرع ناقوس الخطر حول ما يتهدد الوجود العربي-الإسلامي والمسيحي في هذه المدينة”.

الورقة الأولى: “الوضع الاقتصادي الصعب في مدينة القدس”

تناولت هذه الورقة، التي أعدها الباحث محمد قرّش، العقبات التي حالت دون تنمية القدس، والتي لخصها في أربع مجموعات مهمة: الأولى، سياسة التهويد والإلحاق والضم ومصادرة العقارات والأراضي وتهجير المقدسيين ومصادرة هوياتهم، وفصلها عن محيطها الفلسطيني، وتغيير معالمها العربية، وتعطيل الاستثمار والتنمية فيها، وبناء جدار الفصل العنصري حولها لخنقها.

والثانية، عدم جدية منظمة التحرير الفلسطينية وتراخيها هي والسلطة الوطنية وإهمالهما الملموس، وبخاصة منذ التوقيع على اتفاقية أوسلو 13 أيلول (سبتمبر) 1993، في دعم وتثبيت الوجود الفلسطيني في القدس وتنشيط أوضاعها الاقتصادية.

والثالثة، تردد وعزوف القطاع الخاص الفلسطيني عن الاستثمار في المدينة لأسباب مختلفة، لعل أهمها الخشية من تحقيق خسائر بسبب عدم وجود ضمانات أو حوافز من قبل السلطة الفلسطينية، إضافة إلى عدم رغبته في الاستثمار، وضعف إحاطته وجهله بقواعد وشروط الاستثمار في القدس، والقدرة على التعامل مع القوانين والتشريعات والإجراءات الإسرائيلية ذات العلاقة، وعدم وجود حوافز مباشرة وغير مباشرة لتعويض القطاع الخاص.

والرابعة، التطبيع العربي المبكر، وفي مقدمها تبادل السفراء دون اشتراط عدم تغيير الطابع الديموغرافي للمدينة “بل والسكوت عما تقوم به قوات الاحتلال من حفريات أسفل المسجد الأقصى وجنوبه”.

وتناولت الورقة، كذلك، عدداً من القوانين والقرارات الإدارية التي ابتدعتها إسرائيل، بغرض تنفيذ أهدافها، وأبرزها قانون أملاك الغائبين الذي سنته في العام 1950، ومؤسسة التأمين الوطني الإسرائيلية، ومؤسسة حارس الأملاك اليهودية في القدس الشرقية، وتصنيف الأراضي، والمناطق الأثرية والتراثية.

واستناداً إلى الإحصاءات الإسرائيلية، تبين ورقة الباحث محمد قرّش، التغير في نسبة النمو السكاني للقدس الشرقية، حيث أصبحت نسبة الفلسطينيين في المدينة، بشطريها الغربي والشرقي، تلامس الـ40 في المئة، بعد أن كان مخططاً لها أن لا تزيد عن 22 في المئة عند احتلالها في العام 1967. “وأن كل المؤشرات الموجودة في سجلات البلدية (اليهودية)، بما فيها التقديرات المتحفظة، تؤكد أن نسبة الفلسطينيين في القدس ستتساوى مع اليهود في العام 2020 كحد أقصى”، على حد زعم مائير مارغليت، عضو مجلس بلدية القدس للفترة 1998–2012. أي أن عددهم سيصل إلى 400 ألف نسمة، ما يجعل من القدس ثنائية القومية وبحضارتين وثقافتين ولغتين ودينين كبيرين، مما يوسع الهوّة بين الفلسطينيين واليهود، ليس في القدس، فحسب، بل وفي فلسطين أيضاً.

وتنتقل الورقة الاقتصادية إلى الناتج المحلي للقدس، وتستعرض حجمه، رغم الصعوبات الفنية والإدارية العديدة التي تحول دون معرفته، “لأن ما ينتجه أو يغله المقدسي يدخل في الناتج المحلي الإسرائيلي تارة، وفي الناتج المحلي الفلسطيني تارة أخرى، بحكم عمله في القدس الغربية ومناطق السلطة الوطنية”.

وتتناول الورقة، كذلك، نسبة الفقر الآخذة بالتفاقم “فطبقاً للبيانات التي تصدرها مؤسسة التأمين الوطني الإسرائيلية، ونشرتها جمعية حقوق المواطن في إسرائيل، فإن 78 في المئة من الأسر المقدسية، و82 في المئة من الأطفال يعيشون حالياً تحت خط الفقر المزمن الذي بات كابوساً يهدد حياتهم. وتعتبر هذه النسبة هي الأكبر التي سجلت منذ الاحتلال عام 1967”.

ثم تعرض الورقة واقع القطاع السياحي والإيرادات الناجمة عنه، وعدد الفنادق الذي تراجع من 33 فندقاً في العام 1967 إلى 29 فندقاً في العام 2015، وعدد السائحين الذي يأتون للقدس الشرقية بالمقارنة مع القدس الغربية، حيث بلغ عددهم في القدس الشرقية في العام 2014 نحو 141 ألف سائح، في حين بلغ عددهم في القدس الغربية 783 ألفاً، ثم نقاط القوة والضعف لواقع القطاع السياحي في القدس. (نقاط القوة: مكانة القدس الدينية، ومناخها المعتدل، واحترام السياح من قبل المقدسيين، ورخص الخدمات. أما نقاط الضعف فتتمثل في الاحتلال، وانتشار الحواجز العسكرية، والجدار العنصري، وضعف الاستثمارات الفلسطينية ومحدوديتها، وضعف الأجسام التمثيلية للمرافق السياحية).

بعد ذلك تتطرق الورقة إلى المهن والمنتجات الحرفية في القدس، التي سجلت تراجعاً كبيراً وملموساً منذ الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، ولم تعد تنتج سوى 17 في المئة من احتياجات السائحين والباقي يتم استيراده من الخارج، وبخاصة من الصين (18 في المئة) والهند (13 في المئة).

وقدمت الورقة في هذا المضمار جملة توصيات ومقترحات لإنعاش المهن الحرفية وإعادتها إلى حاضنتها المقدسية مرة أخرى، من ضمنها أن تتعهد السلطة الوطنية والمؤسسات الرسمية، مثل البلديات والمجالس المحلية وشركات القطاع الخاص، بشراء المنتجات الحرفية أو أن تساهم في تسويقها.

واختتم الباحث محمد قرّش ورقته بمناقشة موضوعين مهمين هما: سحب هويات سكان القدس العرب، وتأثير بلدية الاحتلال في اقتصاديات القدس، بما فيها الإجراءات التعسفية والمنغصات التي تتسبب بها للقطاعات التجارية والخدمية في المدينة.

فبخصوص الموضوع الأول “ووفقاً للمعلومات المتاحة فإن عدد الهويات التي سحبتها سلطات الاحتلال منذ العام 1967 وحتى نهاية العام 2014، قد بلغ 18360 هوية”. وفي ما يخص الموضوع الثاني فقد أبرز الباحث عدداً من منغصات الاحتلال على اقتصاديات القدس المتمثلة في ملاحقة المناضلين والنشطاء المقدسيين، وورش الأحياء الفلسطينية في القدس الشرقية بالمياه الآسنة، وإغلاق أصحاب المتاجر الفلسطينية محالهم لعدم قدرتهم على دفع الضرائب. وقد بلغ عددها 250 محلاً، وتأثير إقامة جدار الفصل العنصري في الحركة التجارية في المدينة.

الورقة الثانية: “تجليات الثقافة في القدس.. ثقافة وطنية ضد ثقافة الغزو”

سعى معدها القاص والروائي المعروف محمود شقير، إلى تسليط الضوء على تجليات الثقافة الوطنية في فضاء القدس، ورصد مساراتها غير الطبيعية التي عاشتها المدينة على امتداد القرن العشرين، وبخاصة عقب النكبة الفلسطينية في العام 1948، وما اصطلح على تسميتها بـ”النكسة” العام 1967، وقال: “حين وقعت النكبة الكبرى في العام 1948 وجهت ضربة قاصمة للحداثة التي كانت تترعرع في القدس جراء انهيار المجتمع وتشريد مئات الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني من مدنهم وقراهم. ومن مفارقات هذه النكبة أن الغزاة نهبوا ما يزيد عن ثلاثين ألف كتاب من مكتبات الفلسطينيين، ومن بينها مكتبة خليل السكاكيني التي كانت في بيته في حي القطمون، وكثير من هذه الكتب ما زال يقبع في مكتبة الجامعة العبرية في الجزء الغربي من القدس”.

وبقي الحال على ما هو عليه إلى أن وقعت هزيمة حزيران في العام 1967 “حيث انهار المجتمع الفلسطيني مرة أخرى، وتبددت الحركة الثقافية، وكان عليها أن تنتظر بضع سنوات لكي تنهض من جديد”.

وعقب هذا التراجع، تشير الورقة إلى تضافر عوامل عدة أدت إلى إقصاء الثقافة الوطنية والديموقراطية من حياة الناس، وإقصاء القدس من محيطها، وبخاصة حين بدأت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بنصب الحواجز وإقامة جدار الفصل العنصري “الذي ألحق أضراراً بالغة بالمدينة على جميع الأصعدة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية”.

وفي سياق التراجع هذا يتناول الكاتب حال الثقافة في الانتفاضتين الأولى والثانية، “حيث انشغل جيل الانتفاضة الأولى في ممارسة أشكال عملية النضال اليومي ضد الاحتلال، وتراجع اهتمامه بالتحصيل العلمي وبالثقافة، عموماً”. في حين “أولت الانتفاضة الثانية جل اهتمامها للمليشيات المسلحة” التي كان من نتيجتها صرف الاهتمام عن الثقافة.

وعقب توقيع اتفاق أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية، تشير الورقة إلى انكفاء دور الثقافة “حيث العزلة عن الناس، وحيث النخبوية التي تتضاءل الصلة بينها وبين جماهير المدينة. فالمؤسسات والمراكز الثقافية، التي نشطت في شارع صلاح الدين، وكذلك في شارع الزهراء، لم تعد قادرة على اجتذاب الجماهير بشكل منتظم وفعال إلا في القليل من الحالات”.

وبعد أن تناول القاص والروائي محمود شقير بالتفصيل الثقافة وهجمة التهويد التي شهدتها القدس، وبخاصة البلدة القديمة، تطرق إلى مسألة ترييف المدينة، والتحول الذي عصف بها وبقيمها “حيث لم تعد للعقلانية وللتنوير ولاحترام العلم والثقافة والفن حظوة ذات أثر ملموس، وحيث ازداد الميل إلى التزمّت والتعصّب، وما يرافق ذلك في العادة من ضيق الأفق، ومن التضييق على النساء، ومحاولة حرمانهن من المكاسب التحررية التي أحرزها نضال المرأة الفلسطينية خلال سنوات، وحيث أصبح الدفاع عن الوطن والانتماء إليه، يمر في حالات غير قليلة، عبر خليط من المشاعر والمواقف التحزبية، والنفعية والعشائرية، التي تستند إلى قيم الفزعة والاستعراض ورد الفعل والعصبية والانفعال”.

وبعد أن عرّج شقير إلى ظاهرة “الاحتفاء بالمكان” والدفاع عنه، وظهور منحى في الأدب الفلسطيني سماه بعض النقاد، عقب اتفاق أوسلو بـ”أدب العودة”، وانهيار التعليم في فلسطين، عموماً، وفي القدس الشرقية، خصوصاً، “بسبب عبث سلطات الاحتلال الإسرائيلي بالمناهج التعليمية، وفرض المناهج الإسرائيلية في بعض مدارسها” خلص في ختام ورقته إلى أن “ما يؤخذ على الواقع الثقافي في القدس كونه يعاني من التبعثر والتشتت، بحيث تعمل المؤسسات الثقافية في المدينة بشكل منفرد، كما لو أنها جزر معزولة عن بعضها بعضاً، فلا يتشكل فضاء ثقافي جامع يوحد الناس، ويخلق في صفوفهم قوة بشرية متراصة قادرة على التأثير الإيجابي في حياة المدينة وأهلها وفي مواجهة الاحتلال”.

وأضاف: “وما يؤخذ على هذا الواقع الثقافي الراهن في المدينة كون الثقافة الوطنية الديموقراطية لم تتغلغل بعد في النسيج الاجتماعي للناس، بحيث تسهم في تغيير حياتهم وقناعاتهم، ومناحي سلوكهم، وذلك بسبب ضعف الاهتمام بها، إلا لدى نخبة محدودة، لا يصل تأثير الثقافة إلى سواها، ولا يمس القطاعات العريضة من أهل المدينة”.

وأمام هذا الواقع القائم يدعو الكاتب إلى ضرورة تطوير المناهج الدراسية والجامعية، وبخاصة في القدس الشرقية “بما يساعد طالباتنا وطلابنا على استيعاب الثقافة الحديثة وهضم منجزاتها والتعاطي معها بأفق مفتوح لتطوير ذائقتهم الأدبية وترغيبهم في القراءة وفي تحصيل الثقافة بمختلف تجلياتها”.

وعن خطر التهويد الذي يتهدد القدس يدعو شقير “إلى خلق ثقافة قادرة على استعادة المدينة لدورها الحضاري باعتبارها مصدر إشعاع ثقافي”.

ويرى أن هذا قد يتحقق عن طريق “الاحتفاء بشكل منهجي بالرموز الثقافية المقدسية، التي عاشت في المدينة وتركت فيها أثرها الملموس، أمثال روحي الخالدي، وخليل السكاكيني، وبندلي الجوزي، وإسعاف النشاشيبي، وإسحق موسى الحسيني، وعارف العارف، وغيرهم، وذلك بإقامة احتفالات ومهرجانات سنوية خاصة بهم، وبتحويل بيوتهم التي أقاموا بها إلى متاحف تشتمل على مقتنياتهم الشخصية ومؤلفاتهم”.

الورقة الثالثة: “الصراع الجغرافي (الديمغرافي) في مدينة القدس”

وهي من إعداد خبير الخرائط خليل التفكجي، وقد استعرض فيها بالتفصيل كيف بدأت إسرائيل، منذ احتلالها للضفة الغربية مباشرة بتجريف حارة المغاربة، والبدء بتغيير معالم المدينة المقدسة. ولبلوغ هدفها هذا فقد وسعت حدود البلدية، وفق خطة معدة سلفاً، وللسيطرة على أكبر مساحة ممكنة من القدس. وقد شمل التوسع هذا أراضي 28 قرية وبلدة، محيطة بالقدس.

واعتبر الباحث أن التغييرات التي طرأت على القدس، اعتباراً من العام 2000، كانت هي الأوسع منذ العام 1967. “فلم تعد القدس (هي) المدينة التي كانت في تسعينات القرن الماضي، عندما بدأ الإسرائيليون والفلسطينيون التفاوض حول مصيرها للمرة الأولى، مما عقد مهمة تقسيم القدس، وفقاً للصيغة التي اقترحها الرئيس (بيل كلنتون). لقد فرضت الحكومة الإسرائيلية وقائع على الأرض، خلال السنوات الماضية، حتى بات شائعاً، في بعض الأوساط أن التقسيم لم يعد قابلاً للتنفيذ، بالنظر إلى تسارع بناء المستوطنات”. وبالنتيجة عمد الاحتلال إلى خلق واقع يصعّب في المستقبل إيجاد حلول سياسية أو جغرافية لإعادة تقسيم المدينة مرة أخرى، للوصول إلى هدفه المعلن ومفاده أن المدينة هي عاصمة لدولة واحدة هي إسرائيل. ولتحقيق ذلك اتجه الاحتلال لإقامة المستعمرات الاستيطانية على الأراضي الفلسطينية وملأها بالمستوطنين اليهود.

ولإضفاء “الصبغة القانونية” على تهويد القدس، استخدم الاحتلال –حسب التفكجي- عدداً من “القوانين” والأنظمة، منها قانون مصادرة الأراضي للمصلحة العامة، حيث تم مصادرة 24 كيلومتراً مربعاً من مساحة القدس الشرقية، أنشأت عليها إسرائيل 15 مستعمرة، وشيدت 60 ألف وحدة سكنية. ويعد هذا القانون من أبرز القوانين التي استخدمها الاحتلال للاستيلاء على الأرض الفلسطينية. ومنها قوانين التنظيم والبناء، للحد من النمو العمراني (العربي) والسيطرة على هذا النمو، حيث لجأ الاحتلال، منذ احتلاله للقدس، إلى إغلاق مناطق حدود البلدة القديمة بإعلانها مناطق خضراء يمنع البناء فيها، لإقامة مستعمرات عليها كما حدث في جبل أبو غنيم ومنطقة “الراس” في بلدة شعفاط.

كما استخدمت إسرائيل ما عرف بـ”قانون أملاك الغائبين” الذي سنته في العام 1950، للاستيلاء على أراضي وأملاك اللاجئين الفلسطينيين الذين هجروا من مدنهم وقراهم عقب النكبة.

وبموجبه اعتبرت إسرائيل سكان القدس، الذين يقطنون خارج الحدود التي رسمتها للمدينة، ويملكون عقارات وأراضي فيها، غائبين، وبالتالي أعطت لنفسها الحق بالاستيلاء عليها. عدا أنها اعتبرت من هم في داخل القدس، مقيمين وليسوا مواطنين مقدسيين أصليين.

وعرج الباحث، عقب ذلك، إلى تداعيات جدار الفصل العنصري على القدس وسكانها، وقال إنه “بالرغم من القرارات الدولية، وخاصة قرار محكمة العدل الدولية، والتي اعتبرت بناء الجدار غير قانوني، إلا أن السلطات الإسرائيلية أمعنت بتجاهلها للقوانين والأعراف الدولية، واستمرت بتشييد الجدار والنظام الملحق به. وفي نهاية 2012 تم اكتمال بناء جدار الفصل حول مدينة القدس (…) وهكذا عزل الجدار في منطقة شمال القدس (كفر عقب وسمير اميس) ومنطقة (الشياح) شرق المدينة، والجنوب الشرقي (أبو ديس) والجنوب الغربي (بير عونا) من أراضي بيت جالا، نحو 125 ألف فلسطيني”.

وهذا الوضع الجديد الناشئ عن الجدار سلب من الفلسطينيين أراضيهم وأملاكهم التي انتقلت إلى الحارس على أملاك الغائبين. وقد بات هذا الجدار “كسكين يقطع شرايين الحياة وطوقاً خانقاً يمنع النفس أحياناً لمن يقطنون بجواره”. ويعيش في القدس –حسب الباحث- 350 ألف فلسطيني يحملون بطاقات زرقاء مقدسية، منهم 260 ألفاً يعيشون داخل الجدار والباقي خارجه.

ثم يستعرض التفكجي، مستعيناً بالخرائط، تسلسل إقامة المستعمرات التي أقيمت في القدس وما حولها، ومصادرة الأراضي، التي كان من نتيجتها أن أصبح الفلسطينيون يملكون 13 في المئة من القدس الشرقية، بعد أن كانوا يسيطرون على 100 في المئة منها.

وهذه المستعمرات التي ذكرها الكاتب في ورقته هي: الحي اليهودي ويقع في البلدة القديمة (1967)، والنفي يعقوب (1968 و1980)، وراموت (1972)، وجيلو (1971)، وتلبيوت (1973) ومعلوت دفنا (1968)، ورامات شلومو (1990)، ورامات أشكول (1968)، وبسجات زئيف وبسجات عوفر (أقيمتا على أراضي قرى بيت حنينا وشعفاط وحزما وعناتا في السنوات الأولى للاحتلال)، وعطروت (1970)، وجبعات هماتوس (1991)، وجبل أبو غنيم (1999) إضافة إلى قرية داود التي تقع غربي باب الخليل في منطقة حي الشماعة (1970)، والتلة الفرنسية التي تعتبر من أوائل المستعمرات التي أنشئت في القدس.

وتناولت ورقة البحث هذه عدداً من المشاريع الاستيطانية أبرزها: المشروع الاستيطاني E1، الذي تم الإعلان عنه في العام 1994، والذي سيقضم أراضي مساحتها 12443 دونماً من أراضي قرى الطور وعناتا والعيزرية وأبو ديس، والمخطط 2020 ويهدف إلى تقليص الوجود الفلسطيني في القدس بعد أن وصل عددهم إلى 35 في المئة من المجموع العام للسكان في المدينة، ومشروع 30/1، الذي يعد المخطط الهيكلي اللوائي لمنطقة القدس، الذي يمتد من منطقة اللطرون حتى حدود بلدية القدس الموسعة، ويهدف “إلى تأمين وتطوير لواء القدس من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والتربوية”.

وخلص التفكجي في ختام ورقته قائلاً: “إن سلطات الاحتلال قد خلقت واقعاً سياسياً وديموغرافياً جديداً في مدينة القدس. فالديموغرافيا والمصالح الإسرائيلية كانت على حساب الجغرافية الفلسطينية، من خلال مصادرة الأراضي وبناء المستعمرات، والمناطق الخضراء، وسياسة هدم البيوت، ورفض منح تراخيص البناء. وقد أدت مجمل هذه الانتهاكات الإسرائيلية بحق الأرض والشعب الفلسطيني إلى خلق اختلال ديموغرافي، ثم جاء بناء جدار الفصل العنصري، كوسيلة ضغط إضافية ستستخدم في أية مفاوضات قادمة”.

الورقة الرابعة: “الوضع الصحي الراهن في مدينة القدس”

تناولت الورقة، التي أعدها الدكتور محمد جاد الله، بداية الواقع الصحي في القدس قبل العام 1967 والمؤسسات والمرافق البنيوية التي كانت قائمة. فباستثناء عدد قليل من المستشفيات التي أقامتها الإرساليات الأجنبية والبعثات التبشيرية، خلال فترة الحكم العثماني الطويل لفلسطين، وبعد فترة الانتداب البريطاني، لم تكن في القدس مرافق صحية حكومية عامة، أو مراكز أهلية سوى بعض العيادات الطبية الخاصة. فقد عرفت القدس مستشفيات روسية ونمساوية وألمانية وبريطانية، كانت في الأصل نزلاً للحجاج المسيحيين والزائرين للمدينة، ثم تحولت في ما بعد إلى مستشفيات مثل مستشفى الهوسبيس، ومستشفى المطلع.

وعقب نكبة الشعب الفلسطيني في العام 1948، وتقسيم القدس، فقدت القدس الشرقية، كما يشير د. جاد الله، عدداً من مستشفياتها، مثل مستشفى مار يوحنا لأمراض العيون، ومستشفى بيت صفافا للأمراض السارية والمعدية، والمستشفى الفرنسي أو مستشفى القديس لويس، ومستشفى سان جون لأمراض العيون، والمستشفى الفرنسي/سانت جوزيف، ومبرة الأميرة بسمة للأولاد المعاقين.

وقد خصص الباحث حيزاً في ورقته للخدمات التي تقدمها “الأونروا” للاجئين الفلسطينيين المقيمين في مخيمات القدس، وتحديداً مخيمي قلنديا وشعفاط. وضم المركز الصحي أو العيادة الذي تديره الوكالة خمس وحدات صحية هي: وحدة الطب العلاجي، ووحدة الطب الوقائي، ووحدة التمريض، ووحدة الصحة البيئية، ووحدة التغذية والتغذية الإضافية.

ثم تناول الباحث السمات والخصائص المميزة للمجتمع الصحي المقدسي، والطاقة الاستيعابية للمستشفيات الرئيسية وهي المقاصد، والمطلع، والهلال الأحمر، ومستشفى العيون. وبخصوص السمات المشار إليها اعتبر الباحث المجتمع الصحي الفلسطيني في القدس، حسب التوصيفات العالمية، أشبه بمجتمع العالم الثالث، الذي يعاني من الأمراض الخاصة والمعروفة في المجتمعات الفقيرة. وهناك أسباب خاصة وحصرية طرأت على حياة الفلسطينيين في ما بعد بسبب وجود الاحتلال الإسرائيلي وممارساته القمعية المختلفة، التي تؤثر بشكل أو بآخر في الصحة.

وفي ما يخص المؤسسات الصحية الفلسطينية في القدس فقد حصرها الباحث في ثلاث جهات هي: المؤسسات الأهلية غير الحكومية، ووكالة “الأونروا”، والقطاع الخاص، حيث تشكل المؤسسات الأهلية الطرف الرئيسي فيها.

بعد ذلك تناول د. جاد الله النظام الصحي السائد في القدس، الذي يفرضه الاحتلال على الفلسطينيين، ولا ينسحب على اليهود، ويقول: “إننا لا نتجنى إذا قلنا إن الفجوات الملموسة (بين العرب واليهود) واسعة وتتسع يوماً بعد يوم بين السكان اليهود والسكان العرب في كل ما يتعلق بالخدمات الصحية وجودتها وسهولة الوصول إليها”.

وفي ختام ورقته يتطرق الباحث إلى التحديات المباشرة التي تواجه القطاع الصحي في القدس الشرقية، وبخاصة مشكلة مديونية المستشفيات المقدسية على السلطة الوطنية الفلسطينية، التي بلغت في نهاية العام 2015 للمستشفيات الأربعة الرئيسية (المقاصد والمطلع والفرنساوي والهلال الأحمر) 203 ملايين شيكل.

ثم عرّج إلى الاحتياجات المطلوبة للحفاظ على المرافق والمؤسسات الصحية المقدسية، وأبرزها: حل الأزمة المالية للمؤسسات الصحية، وإيجاد نظام لتحويل المرضى من خارج القدس إلى مستشفياتها في المدينة ليحفظ استمرارها في العمل المتقن، والاهتمام بالصحة النفسية ووضع البرامج الملائمة، وتطوير برنامج صحي خاص بالبيئة، وتطوير وتحسين أداء مراكز الإسعاف والعلاج السريع والطوارئ، وتعزيز تجربة الشراكة والتنسيق بين مستشفيات القدس.

الورقة الخامسة: “القدس في ضوء الشرعية الدولية”

عرضت هذه الورقة التي أعدها الخبير القانوني د. كمال قبعة، بالتفصيل الإطار القانوني لمدينة القدس في ضوء مبادئ وقواعد الشرعية الدولية، التي تم تحديدها عبر قرارات وأحكام عديدة صدرت بهذا الشأن، وبخاصة قرار التقسيم “181” الذي صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1947.

وعن موقف إسرائيل من هذه القرارات يقول قبعة: “تميزت مواقف إسرائيل تجاه الشرعية الدولية بالمراوغة، والتسويف، والانتقائية، بما يخدم أهدافها وإسقاط الحق الفلسطيني، والتكيف معها، من خلال إظهار مجاراتها مع التزامها بعدم التطبيق. فلم تف إسرائيل بشروط قبولها عضواً في الأمم المتحدة، ولم تنفذ قرار التقسيم (الخاص بالدولة العربية) ولم تلتزم بإعادة اللاجئين، كما لم تحترم الوضع القانوني لمدينة القدس، ولم تدلل على احترامها لميثاق الأمم المتحدة”.

وأضاف أنه بعد انطلاق عملية البحث عن تسوية في أعقاب إبرام إعلان المبادئ في أوسلو في العام 1993 “عملت إسرائيل، مدعومة من قبل الولايات المتحدة الأميركية على أساس أن شرعية النظام الدولي المنهار، وما صدر عنها من قرارات وتوصيات ومفاهيم لم تعد صالحة. فسعت جاهدة داخل أروقة النظام الدولي لإلغاء قرارات الشرعية الدولية السابقة حول فلسطين أو إضعاف قيمتها القانونية. وبالفعل فقد تمكنت بدعم من الولايات المتحدة الأميركية وبتواطؤ أطراف أخرى من إسقاط قرار مساواة الصهيونية بالتمييز العنصري عام 1991”.

وتطرق الباحث إلى أبرز الإجراءات والممارسات الإسرائيلية وموقف القانون الدولي منها، عبر القرارات المتواترة الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، وغيرها من المنظمات الدولية، وبخاصة “اليونسكو” ومجلس حقوق الإنسان، لتحديد طبيعتها اللاشرعية وأبعادها وانتهاكها الصريح لالتزاماتها القانونية.

“فالقدس قد تميزت بوضع فريد على الصعيد القانوني الدولي، وكذلك السياسي والديني والتاريخي، الأمر الذي تنبهت إليه الشرعية الدولية مبكراً. لقد كانت مدينة القدس، ولا تزال، واحدة من أعقد قضايا الصراع العربي–الصهيوني راهناً ومستقبلاً، وتبوأت موقعاً مركزياً، علماً أن المدينة المقدسة قد وضعت في إطار قانوني دولي خاص، إدراكاً من الشرعية الدولية لموقعها وأهميتها وأبعادها الفريدة أيضاً. وهي، وخاصة شطرها الشرقي، تتبوأ مركز الصدارة في عمليات الاستيطان والقضم التدريجي المنهجي للأرض، وتغيير بناها التحتية والفوقية، بما في ذلك، الديمغرافية والطبيعية، وكذلك الحضارية والتاريخية”.

وعرض قبعة في ورقته مبادئ وقواعد وقرارات الشرعية الدولية في المجالات الأكثر أهمية، وخصوصاً بشأن عدم إجازة الشرعية الدولية لقرارات إسرائيل بضم القدس بشطريها الغربي والشرقي، ذلك الضم الذي لم تعترف به دول العالم كافة حتى الآن، بما في ذلك إدانتها للاستيطان، ومحاولات تغيير الطابع الديموغرافي والجغرافي فيها، ومحاولات تهويد المقدسات والتراث الثقافي العربي الإسلامي والمسيحي، والحفريات الأثرية فيها، ومن ضمنها الاستيلاء على المسجد الأقصى وتقسيمه مكانياً وزمانياً، واعتبار تلك التدابير الإسرائيلية كافة بمثابة انتهاكات جسيمة لا يترتب عنها أي حقوق مكتسبة لسلطة الاحتلال، ولا تنشئ أي التزامات على الشعب الفلسطيني. لذا فإن كل الإجراءات التي اتخذتها تعتبر باطلة وغير مشروعة وتندرج ضمن إطار الانتهاكات الجسيمة لقواعد وقرارات الشرعية الدولية. وقد غدت مبادئ وقواعد القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية تلك، بمثابة حقوق مشروعة غير قابلة للتصرف أو التنازل أو الإلغاء، باعتبارها حقوقاً محمية من قبل القانون الدولي الإنساني، والمنظمات الدولية ذات العلاقة.

وأمام هذا الوضع دعا قبعة إلى إعادة النظر في وثيقة الاعتراف التي بعثها الشهيد ياسر عرفات في حينه لإسحق رابين في التاسع من شهر أيلول (سبتمبر) 1993، وذلك بسحبها والعمل على استبدالها بوثيقة جديدة بعد أن أصبحت فلسطين دولة، بموجب قرار صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 29/11/2012، وفيه تقرر أن تمنح فلسطين مركز دولة غير عضو لها صفة المراقب، وتعترف بها 137 دولة في الأمم المتحدة، وتحتل مقعداً بين هذه الدول ويرفع علمها إلى جانب أعلام بقية الدول الأعضاء أمام مقر الأمم المتحدة.

وليس هذا، وحسب، بل دعا إلى ملاحقة عضوية إسرائيل، بإعادة متابعة شروط عضويتها في الأمم المتحدة، وذلك بدراسة إمكانية تعليق هذه العضوية وكذلك عضويتها في المؤسسات والمنظمات الدولية، إلى أن تلتزم بقرارات الشرعية الدولية ذات العلاقة، وبما يضمن إنهاء الاحتلال.

وتناول قبعة في ورقته سلسلة من الاستنتاجات والتوصيات اشتملت “على أن الأساس المرجعي هو القانون الدولي لمسألة القدس، مما يتوجب التمسك به، والتسلح بأحكامه وقراراته لإسقاط الإدعاءات الإسرائيلية وإقرار الحقوق الوطنية الفلسطينية الثابتة وغير القابلة للتصرف في فلسطين بما فيها القدس الشرقية”.

ويرى الباحث أنه يجب الاستناد إلى قرارات الشرعية كافة لإنهاء الاحتلال والاستيطان لأرض دولة فلسطين وفي مقدمها القدس الشرقية، باعتبارها محتلة منذ العام 1967 وينطبق عليها ما ينطبق على الأراضي الفلسطينية التي احتلت في ذلك العام.

الورقة السادسة: “التعليم في القدس”

تنبع أهمية هذه الورقة من كون معدها هو الأستاذ سمير جبريل الذي يشغل مديراً للتربية والتعليم ولديه خبرة واسعة بأحوال مدينته، وبخاصة في مجال التربية والتعليم. وقد أشار في استهلاله لهذه الورقة إلى واقع التعليم في القدس الشرقية قبل الاحتلال وبعده، وركز بشكل خاص على أحوال التعليم في المدينة المحتلة، واعتبره واقعاً معقداً ومتداخلاً بسبب السيطرة والاحتواء، الذي حاولت الحكومات الإسرائيلية المتتابعة انتهاجه، حيث تجاهلت حاجات السكان الفلسطينيين في المدينة المحتلة منذ العام 1967، ومحاولاتها المتكررة لخلخلة النسيج التعليمي في الوسط الفلسطيني، عبر تمرير المنهاج الإسرائيلي، أو تحريف المنهاج الفلسطيني، أو من خلال إنشاء مدارس المقاولات، أو تقديم التمويل للمدارس الخاصة بحجة المساعدة، في حين تهدف سلطات الاحتلال إلى الهيمنة على هذه المدارس، وكذلك إشغالها بصفوف أقل بكثير عن حاجة الطلاب العرب من سكان القدس.

ويتناول الباحث واقع هذه المدارس وأنواعها والجهة التي تتبع لها ومرجعياتها الإدارية، وهي الأوقاف الإسلامية، والمعارف والبلدية، ومدارس شبه المعارف (المقاولات)، والمدارس الخاصة، وتلك التي تتبع “الأونروا”. ثم انتقل إلى رياض الأطفال، التي لا يشملها نظام التعليم الفلسطيني، وعددها 50 روضة، ولكن العدد الحاصل على ترخيص للعام 2015، 38 روضة فقط. وتعاني هذه الروضات عدداً من الصعوبات تتمثل في البنية التحتية والموازنات، والتجهيزات والملاعب والساحات.

وعرج الباحث إلى المدارس المهنية في القدس وعددها ست مدارس، تتمثل مصاعبها في عدم إقبال الطلبة على الالتحاق بها، حيث بلغ عددهم في العام الدراسي 2015–2016، 72 طالبة وطالباً فقط، بسبب معاناتها من نقص في المدربين الفنيين، وتدني سلم الرواتب فيها، وعدم توفر برامج تعليم مهني تتناسب مع طبيعة وقدرات الملتحقين بها، إضافة إلى صعوبة المباحث النظرية التي تدرس لهم.

ثم عرض الصعوبات التي تواجه التعليم في القدس بمراحله كافة، وبخاصة تلك المرتبطة بالاحتلال نفسه، عبر محاولاته فرض المنهاج الإسرائيلي، الذي لم يحظ بقبول الأهالي وإدارة التربية والتعليم الفلسطينية، وبالتالي مقاومتهم له. ثم انتقل جبريل إلى المصاعب المهنية والتربوية التي تواجهها المسيرة التعليمية في القدس، عموماً، وأبرزها النقص الملموس في الغرف الصفية والتسرب من المدارس، والعجز الدائم في الموازنات، وجدار الفصل العنصري، الذي لعب إنشاؤه دوراً في تعقيد العملية التعليمية وتأثيره السلبي على الطلبة.

وخصص الباحث سمير جبريل حيزاً واسعاً لأبرز التحديات التي تواجه العملية التعليمية والتربوية في القدس، من جهة محاولة الاحتلال إخضاع التعليم لإرادته وإصراره على تغيير المناهج، أو تحريفها، عبر إعادة طباعة المناهج الفلسطينية، بعد حذف كل ما يتعلق بالهوية والرموز الوطنية والمسميات العربية منها.

وأشار إلى أن الاحتلال نجح في العام 2013 في تمرير المنهاج الإسرائيلي إلى المدارس الخاضعة للبلدية والمعارف وتسويقها كمنهاج أسهل وأفضل من وجهة نظره. كما جمد الاحتلال بناء المدارس حتى أصبح التعليم الفلسطيني في القدس يعاني من نقص شديد في الغرف الصفية زاد عن 1200 غرفة. وفي الوقت ذاته لم يتح لسكان القدس العرب فرصة الاعتماد على أنفسهم لتوفير الغرف الصفية اللازمة، عبر فرض إجراءات ورسوم وضرائب تعجيزية باهظة لترخيص بناء المدارس، التي تستغرق عادة أكثر من عشر سنوات وبكلفة تزيد على مليون دولار للمدرسة الواحدة. عدا عن ذلك تلجأ سلطات الاحتلال إلى تغريم كل من شيّد مدرسة من دون ترخيص.

وناقش جبريل في ورقته أسباب التسرب من المدارس، معتبراً إياه مشكلة حقيقية تواجه التعليم في القدس، حيث تصل نسبته، عموماً، إلى 10 في المئة، وفي المرحلة الثانوية 40 في المئة. “ما يعني ولوج المزيد من أبناء القدس إلى سوق العمل الإسرائيلي دون أية مؤهلات مهنية تضمن أمنهم الوظيفي، ما يعرضهم للانجراف والسقوط في مستنقع المخدرات والجريمة، وما يسببه من مشاكل اجتماعية لأسرهم”.

وحتى المدارس الخاصة لم تسلم من تدخلات الاحتلال وهيمنته عبر تقديم أموال لها بحجة المساهمة في التعليم، وهدفه تحقيق طموحاته السياسية في تهويد القدس.

ولمواجهة هذه التحديات التي تواجه المسيرة التعليمية في القدس، تقدم جبريل بمقترحات يعتبرها مهمة أبرزها: التوجه العام للمدرسين للحفاظ على التعليم العربي الذي كان معمولاً به في مدارس القدس كافة منذ العام 1967، والاستمرار في تقديم امتحان الثانوية الفلسطيني (التوجيهي)، والتوجه إلى القضاء ضد المعارف والبلدية الإسرائيلية لإهمالهما حق أطفال القدس في التعليم عبر تجميد بناء المدارس، وشراء أبنية سكنية وتحويلها إلى مدارس، بالتعاون مع دائرة الأوقاف العامة في القدس وبتمويل من البنك الإسلامي للتنمية والصناديق العربية، والاهتمام أكثر فأكثر بتدريب المعلمين من قبل السلطة الفلسطينية، وتوزيع الكتب على الطلبة مجاناً، وتنظيم قاعدة بيانات إحصائية للتعليم، وتكليف مديرية التربية والتعليم في القدس بوضع الخطط التطويرية والتشغيلية لتحسين مستوى التعليم وزيادة الطاقة الاستيعابية.

[*] كاتب وصحافي مقيم في رام الله.