ماجد كيالي[*]

     “دعوا العرب ينتحروا بهدوء…”

(أليكس فيشمان، “يديعوت أحرونوت”، 12/6/2013)

“إذا لم يوجد استقرار هنا في سورية فمن المستحيل أن يوجد استقرار في إسرائيل. ولا توجد طريقة ولا أحد يضمن ما الذي سيحصل إذا لا سمح الله حصل أي شيء لهذا النظام”.

(رامي مخلوف، نيويورك تايمز، 11/5/2011)

هذا هو ملخّص الموقف الإسرائيلي من الصراع الجاري في سوريا، منذ ستة أعوام، وهذه هي الرسالة الأولى التي خاطب فيها نظام الأسد إسرائيل، بعد اندلاع الثورة السورية (2011).

فمنذ بداية “الربيع العربي”، بما له وما عليه، وجدت إسرائيل نفسها في مواجهة واقع جديد لم تعتده، بعد أن كانت خبرت منذ قيامها، ولأزيد من ستة عقود، العيش مع أنظمة استبدادية، استطاعت إضعاف دولها وتقييد مواطنيها، وتهميش مجتمعاتها وإخراجها من معادلات الصراع ضد إسرائيل. على ذلك فإن موقف بنيامين نتنياهو (رئيس الحكومة الإسرائيلية)، من الثورات العربية، التي جاءت كردّة فعل على استعصاء التطوّر التدريجي والطبيعي والسلمي، في الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلدان العربية، لم يكن غريباً، إذ اعتبرها بالنسبة لإسرائيل بمثابة “هزّة أرضية…” تتطلب منها تعزيز أمنها (“وفا”، 10/9/2011). علماً أن هذا الموقف تعمّد الغموض، وادعاء انتهاج سياسة “النأي بالنفس”، وهو ما تمثل في دعوة نتنياهو أركان حكومته إلى عدم التعليق على الأحداث الدائرة في سوريا.

محددات الموقف الإسرائيلي

على أي حال فإن مطالعة الموقف الإسرائيلي، مما يجري في سوريا، ومن “الربيع العربي” عموماً، مع الآمال التي وعدت بها، أي بغض النظر عن مآلاتها ومشكلاتها، تأخذنا إلى ستة محدّدات، هي:

أولاً، إن هذه الثورات يمكن أن تمهّد، في حال نجاحها، لكسر احتكار إسرائيل لكونها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وذلك بعد أن استطاع الفلسطينيون في انتفاضاتهم كسر احتكارها لمكانة الضحيّة، سيما أنها كانت تروّج دوما لاستحالة الديمقراطية في البلدان العربية.

معلوم أن محاولة إسرائيل الترويج لذاتها كدولة ديمقراطية محاطة بأنظمة تسلطية يضفي عليها نوعاً من العطف في الدول الغربية، ويبرّر لها استخدام القوة لفرض هيمنتها بدعوى الحفاظ على أمنها، كما يخفف من الضغط عليها بخصوص الاستجابة لحقوق الفلسطينيين. وبدهي أنه كان سيكون من فضائل الثورات الشعبية العربية، التي كان يفترض أنها تحمل الآمال بالتحول نحو إقامة دولة المواطنين الأحرار والمتساوين، وإقامة نظم الحكم الديمقراطية، الإسهام في كشف إسرائيل على حقيقتها باعتبارها دولة استعمارية وعنصرية وعدوانية ودينية، وتبيّن واقعها باعتبارها بمثابة ظاهرة رجعية في المنطقة، ما ينهي الأسطورة التي طالما روّجتها هذه الدولة المصطنعة عن نفسها باعتبارها بمثابة «واحة» للحداثة والديمقراطية والعلمانية في «صحراء» الشرق الأوسط.

ثانياً، إن هذه الثورات كانت تعني حضور الشعب إلى مسرح التاريخ، بعد أن كانت المجتمعات العربية تعاني من التهميش، والحرمان من السياسة، بسبب الأنظمة التسلّطية، التي تبدو متجبّرة في مواجهة شعوبها وبالغة الهشاشة في مواجهة إسرائيل. وعليه فقد كان من تداعيات الثورات الشعبية إدخال المجتمعات العربية في معادلات الحرب والسلام وفي موازين القوى في الصراع الدائر مع إسرائيل، لأول مرة في تاريخ هذا الصراع، بعد أن كان هذا العامل مغيّبا. ويتّضح من ذلك أن إسرائيل كانت مستفيدة من الوضع السابق، الذي أتاح لها ابتزاز الأنظمة، والاستفراد بها والتغطرس عليها، فضلاً عن أنه جلب لها تعاطف العالم بادعاء فرادتها كدولة ديمقراطية في المنطقة.

ثالثاً، تبعاً للمتغيّرين المذكورين سابقاً فإن هذه الثورات كان من المفترض أن تفتح، أيضاً، على احتمالات تغيّر البيئة الأمنية التي اعتادت عليها إسرائيل، ما يضعها أمام واقع جديد لم تعتد عليه، سواء أتى ذلك عبر تهديدات أمنية أو عبر تحديات بالوسائل السلمية. معلوم أن إسرائيل، بقيامها واستمرارها وتطوّرها، شكّلت تحدياً للعالم العربي في مختلف المجالات، أي في شكل النظام السياسي والإدارة الاقتصادية والتقدم العلمي والتكنولوجي، وفي النموذج الذي قدمته المتمثل بإقامة مجتمع من مهاجرين وفقا لمبدأ المواطنة والنظام الديمقراطي. ويفيد ذلك بأنها لم تتفوّق على العالم العربي بفضل قوتها العسكرية أو باعتمادها على الولايات المتحدة، فقط، على ما تعودّت الأنظمة العربية ترويجه لتبرير قصورها وإخفاقها في مواجهة التحدي الإسرائيلي في المجالات المذكورة، لذا فإن تغيير هذا الواقع كان من شأنه تخليق الظروف التي قد تحمل إمكانيات توفير الردود المطلوبة. وفي الحقيقة فقد كان من شأن التحوّل نحو الديمقراطية وإرساء دولة المواطنين أن يفضيا إلى انتهاج سياسات واضحة، عقلانية وواقعية تُوازِن بين الحقوق والقدرات، وبين المأمول والممكن في مجال الصراع مع إسرائيل.

رابعاً، وجدت إسرائيل في الثورات العربية فرصة سانحة لها لتأكيد وجهة نظرها بشأن أن أسباب الاضطراب وعدم الاستقرار في المنطقة لا تنبع من وجودها واحتلالاتها، وإنما من الأنظمة التسلطية والفاسدة؛ وهذا يتناسب مع كلام تيار “المحافظين الجدد” وإدارة جورج بوش الابن (السابقة)، باعتبارهم أن مشكلة العالم العربي تنبع من الفقر والاستبداد والفساد والإرهاب وليس من الاحتلال. مثلا، روج شمعون بيريز كثيرا، وضمن ذلك في كتابه: “الشرق الأوسط الجديد”، لاعتباره أن “الفقر والقمع في المنطقة غذّى الاستياء ضد إسرائيل، وكلما تحسّنت هذه الأوضاع لدى جيراننا كلما كان لدينا جيران أفضل.” (هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، 30/3/2011)

خامساً، تغيّر البيئة الإقليمية المحيطة بإسرائيل، ما سيكون له أثره الكبير على مكانتها في المنطقة، وعلى تفاعلات النظام الإقليمي، وطريقة تعامل العرب مع إسرائيل، وعلى رؤية إسرائيل لذاتها. وقد كان من المنتظر، في حال نجاح الثورات العربية، تعزيز مكانة النظام العربي، وتأكيد دوره كفاعل إزاء الفاعلين الإقليميين الآخرين (إيران وتركيا ولا سيما إسرائيل)، بعد أن كان في حال مريعة من الضعف والتشتت.

سادساً، تأكيدها على استمرار الاحتفاظ بهضبة الجولان تحت سيادتها، ورفض أية مطالبات بإعادتها إلى سوريا، تحت مبررات أمنية.

واضح أننا نتحدّث هنا عن الكيفيّة التي نظرت عبرها إسرائيل إلى الثورات العربية في حال نجاحها في تحقيق أهدافها، وهي النظرة السلبية القائمة على الحذر والقلق والتحريض والتخوف. ولعل ما يجدر الانتباه إليه أن إسرائيل في تخوفاتها من تداعيات الثورات العربية، كانت تنظر بقلق بالغ إلى ما يجري في سوريا بالذات، بالنظر إلى الحدود المشتركة، ومكانة هذا البلد في معادلات الصراع العربي-الإسرائيلي، وتأثيره الكبير في المشرق العربي.

التعامل الإسرائيلي مع المستجدّات

طبعا لم تأت الوقائع على قدر الآمال التي وضعت على الثورات العربية، مع النتائج الكارثية الحاصلة في معظم تجارب الربيع العربي (باستثناء تونس ربما)، لذا فإن ما حصل يمكن اعتباره بمثابة ربح خالص لإسرائيل، أقله في المدى المنظور، في مجمل النقاط التي طرحناها. على أي حال فإن محصلة الموقف الإسرائيلي من ثورة السوريين يمكن تمثّلها في الجوانب الآتية:

أولاً، مراقبة ما يجري والحرص على عدم بروز تهديدات أمنية جراء الصراع السوري، وهذا ما واجهته إسرائيل مباشرة عبر غاراتها الجوية على بعض الأهداف السورية، وضمن ذلك على شاحنات السلاح إلى حزب الله في لبنان، ومن خلال فرض سيطرة على حدودها مع سوريا، وحتى على تحركات بعض الجماعات العسكرية المتواجدة في تلك المنطقة، وخصوصا في دعمها لتدمير السلاح الكيماوي في سوريا. وعن ذلك كانت صحيفة “هآرتس” اعتبرت في افتتاحية لها بأن “الاتفاق الذي حقّقته الولايات المتحدة وروسيا لنزع السلاح الكيميائي السوري، إذا ما نفذّ نصاً وروحاً، ينطوي في داخله على فرصة كبرى لإسرائيل. فمخزونات غاز الأعصاب لدى نظام الأسد تعتبر تهديداً استراتيجياً على الجبهة الداخلية.” (“هآرتس”، 16/9/2013). أما بخصوص الغارات الجوية فقد اعترف بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية صراحة “أن إسرائيل قصفت عشرات المرات قوافل سلاح في سوريا مرسلة إلى حزب الله”. (“الجزيرة نت”، 7/6/2016)

ثانياً، انتهاج مبدأ عدم التدخل رسمياً في الصراع السوري، وتبني مقولة: “دع العرب يقتلوا بعضهم”، على أساس أن هذا الصراع سيؤدي لإضعاف كل الأطراف ما يفيد إسرائيل لعقود من الزمن. وكان الموقف أن التصارع في سوريا (كما حصل في العراق) يمكن أن يضعف هذا البلد، وأن يستنزف طاقاته، بحيث تبقى إسرائيل هي الدولة الأكثر قوة واستقرارا في المشرق العربي، ومن جميع النواحي، سيما بعد انتهاء التهديدات التقليدية.

ثالثاً، غلبة وجهة نظر مفادها الإبقاء على النظام، باعتبار أن نظام الأسد (الأب والابن) حافظ على حدود هادئة معها طوال أربعة عقود، وأن النظام الذي تعرفه أفضل من الذي لا تعرفه، لذا كان موقفها بأن هذا النظام سيكون ضعيفاً وبدون حول ولا قوة إذا بقي. في هذا الإطار، مثلاً، حذر رئيس الهيئة الأمنية والسياسية في وزارة الدفاع الإسرائيلية، الجنرال عاموس جلعاد، من “أن سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد سيترتّب عليه حدوث كارثة تقضي على إسرائيل، نتيجة لظهور إمبراطورية إسلامية في منطقة الشرق الأوسط بقيادة الإخوان المسلمين في مصر والأردن وسوريا”. (“المستقبل”، 17/11/2011 عن نشرة الرصد الصحفي الصادرة عن مركز الزيتونة- بيروت، 2013) أما الرئيس السابق لجهاز “الموساد الإسرائيلي أفرايم هليفي فبرأيه أن التغيير في سوريا قد لا يكون لمصلحة إسرائيل”. (“المستقبل”، 14/12/2011) وعند المحلّل الإسرائيلي ألوف بن فإن: “الميّزة الكبرى لنظام الأسد كانت في انعدام جرأته وميله للامتناع عن المخاطرات والمواجهات المباشرة. ردود فعله كانت متوقّعة ومنحت حرية عمل لإسرائيل بلغت ذروتها في قصف المفاعل النووي الذي بني بالسرّ في الشمال الشرقي من سوريا، في أيلول 2007. الأسد امتصّ القصف دون أن يردّ بل واستأنف بعد عدّة أشهر من ذلك محادثات السلام مع رئيس الوزراء في حينه ايهود اولمرت..” (“هآرتس”ـ 23/3/2011)

رابعاً، التنسيق مع روسيا، وهو ما تجلى بقيام نتنياهو بعدة زيارات إلى روسيا، وتأكيد الطرفين على متانة العلاقات التي تربطهما في المجالات المختلفة، وضمنها ما يتعلق بالوضع السـوري، وهو ما استتبعه تنسيق أمني بينهما، أطلق يد إسرائيل في ضرب كل ما تعتقد أنه يهدد أمنها.

خامساً، ترك الأمر للولايات المتحدة، إذ ثمة تقاطع كبير بين التصورات الإسرائيلية والتصورات الأميركية فيما يخص الشرق الأوسط، وتشابكات في مراكز صنع القرار والمصـالح السيـاسية والأمنيـة والاقتصـاديـة، أي أن المسألة لا تتعلق بفرض إسرائيل لوجهة نظرها على الولايات المتحدة، فهي ليست بحاجة إلى ذلك، وإنما الأمر يتعلق بالتشابك الكبير في السياسة والتصورات، وصناع القرار عند الطرفين.

المهم أن إسرائيل، في كل هذه الأمور، تحاول أن تثبت موقفها في أربع مسائل هي:

أولاً، التمسك بهضبة الجولان، وتأكيد عدم الانسحاب منها.

ثانياً، تأكيد قدرتها على الردع، وعلى ذراعها الطويلة، سواء إزاء سوريا أو إزاء “حزب الله”، وتأكيدها أن نقل شحنات أسلحة خط أحمر لن تسمح به. في هذا الإطار يمكن رصد أكثر من 22 اعتداء على السيادة السورية، على شكل طلعة جوية، أو ضرب لأهداف معينة، منذ تدمير إسرائيل ما اعتبرته بمثابة محاولة بناء مفاعل نووي في دير الزور (2007)، بادعاء أنها تستهدف شحنات أسلحة إلى حزب الله. هكذا، فإضافة إلى الغارة الإسرائيلية التي حصلت في شهر آذار/مارس، مستهدفة مواقع في تدمر، يمكن تعداد عديد من الغارات الجوية والضربات الصاروخية التي نفذتها إسرائيل ضد أهداف في الأراضي السورية، في 13 و22 فبراير/شباط 2017، و8 و10 و13 و14 و18 سبتمبر/أيلول 2016، وفي 9 فبراير/شباط 2016، ثم في 20 ديسمبر/كانون الأول 2015 (أدت إلى مصرع القيادي في حزب الله اللبناني سمير القنطار في جرمانا). وفي 27 سبتمبر/أيلول، و28 يناير/كانون الثاني من عام 2015. وفي العام 2014 نفذت اعتداءين في 5 سبتمبر /أيلول، و23 يونيو /حزيران. وفي العام 2013 شنت إسرائيل ثلاثة اعتداءات في – 13 يوليو/تموز 2013، و21 مايو/أيار 2013 و-5 مايو/أيار 2013، وفي 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2012.

ثالثاً، فرض ذاتها لاعبا إقليميا في تقرير مستقبل سوريا، ولا سيما بما يتلاءم ورؤيتها إلى ما تعدّه أمنها القومي، سيما إزاء الأطراف الفاعلين الآخرين في الملف السوري، بخاصة روسيا، وإيران. وبحسب المحلل الإسرائيلي أليكس فيشمان فإن “إسرائيل تهاجم في سوريا ليس فقط كي تمنع قوافل السلاح الإيراني إلى حزب الله. فإسرائيل تستعرض حضورا في سوريا وذلك أيضا كي توضح للروس أساسا: لن تكون أي تسوية في سوريا بدونها.” (“يديعوت”، 19/3/2017)

رابعاً، إضعاف أو تقويض بنى المشرق العربي الدولتية والمجتمعية لضمان أمنها على المدى الاستراتيجي.

التأثير الإسرائيلي في الموقف الأميركي

بدهي أنه لا يمكن لنا الحديث عن موقف إسرائيل من الصراع السوري من دون التطرق إلى تأثير إسرائيل على الموقف الأميركي، أو من دون العلاقة بموقف الولايات المتحدة من هذا الصراع، فهمها له وكيفية إدارته، بخاصة أن موقع سوريا الجغراسي، في المشرق العربي، وعلى الحدود مع إسرائيل، لعب دوراً كبيراً في التدخّلات الخارجية فيها، سواء لصالح النظام أو لصالح المعارضة، وهذا أمر معروف، مع الفارق بين الجانبين إذ تقف روسيا وإيران وراء النظام بكل إمكانياتهما السياسية والاقتصادية والعسكرية، وبشكل مباشر وعملي، في حين لا يفعل “أصدقاء الشعب السوري” شيئاً من ذلك، باستثناء التعبير عن القلق وإصدار البيانات والإدانات، مع وضع القيود على الثورة السورية وعلى إمكانية تسلحها، وفق صيغة لا غالب ولا مغلوب، لا النظام ولا المعارضة، ما يعني إدامة الصراع واستمرار عذابات ومعاناة السوريين.

سأقتصر هذا العرض على مناقشة تأثير إسرائيل على السياسة التي كانت انتهجتها إدارة أوباما (المنصرفة) إزاء الصراع السوري، لاعتقادي بأن الولايات المتحدة هي الفاعل الرئيس، أو المقرر، في هذا الشأن، وأن الأطراف الأخرى تشتغل بناء على الفراغ الذي تتركه لهم في هذا الصراع. لكن ينبغي التنويه هنا إلى أن دور إسرائيل في التأثير على موقف الولايات المتحدة (والموقف الدولي عموما) يكتنفه الغموض، إذ ليس له تجليات علنية، بخاصة مع معرفتنا بعمق التشابك في المصالح والسياسات وحتى صناعة القرار في الدولتين المذكورتين.

مع ذلك فمن الواضح أن إسرائيل هي المستفيد الأول من كل ما يجري، وضمنه استمرار الصراع السوري من دون أي حسم، واستقبالها ما يحصل بكثير من الاطمئنان، باعتبار أنها باتت في محيط استراتيجي آمن لعقود، بعد تقوض البيئتين الدولتية والمجتمعية في دول المشرق العربي (بخاصة العراق وسوريا)، وبحكم استنزاف الدول الإقليمية الأخرى في الصراع السوري، ولا سيما إيران وتركيا.

لذا، ورغم الحديث عن الخلافات السياسية بين الإدارة الأميركية السابقة وحكومة نتنياهو، في عديد من الملفات، إلا أن ذلك لا يغطّي حقيقة أن هذه الإدارة خدمت إسرائيل أكثر من أية إدارة أميركية سابقة، وإن بطريقة غير مباشرة، وبالطرق السياسية، وليس بالطرق العسكرية. طبعا قد يبدو هذا الاستنتاج غريباً للوهلة الأولى، لكن التمعّن في الكيفية التي تتصرّف بها الإدارة الأميركية في المشرق العربي، ربما يشرح ذلك.

والحاصل فإن الإدارة الأميركية، بالسياسات التي انتهجتها في عهد أوباما، في الشرق الأوسط، بدت وكأنها تسلم العراق لإيران، بعد انسحابها منه، بل إنها بدت كأنها تسهّل على إيران تعظيم نفوذها في المنطقة، من اليمن إلى لبنان، مرورا بالعراق وسوريا؛ هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن هذه الإدارة تمنّعت عن القيام بأي عمل لوقف تدهور الأوضاع في سوريا، بل تركت النظام يمعن فيه قتلا وتدميراً. والنتيجة فإن أميركا “الاوبامية”، بدت حتى وهي “تدير” ظهرها للمنطقة، كما يعتقد البعض، كمن سهّل وصول العراق وسوريا إلى مرحلة الانفجار والخراب والتصدّع المجتمعي والدولتي، لا سيما مع تحول النظام فيهما إلى نوع من ميلشيا، ومع تعمق تبعيتهما لإيران، وظهور الجماعات الإسلامية المسلحة والمتطرفة مثل داعش والنصرة وأخواتهما، وحزب الله، وكتائب أبو الفضل العباس، وعصائب الحق، و”فاطميون” و”زينبيون”، ناهيك عن سكوتها عن التدخل الروسي في سوريا.

طبعا، هذا الكلام لا يفيد بأن الولايات المتحدة فعلت ما فعلته لعيون إسرائيل فقط، إذ هي فعلت ذلك خدمة لسياستها على المدى البعيد، سيما سياسة عدم التدخل، وترك الآخرين يتقاتلون، إدراكا منها أنه لا توجد قوة أو دولة غيرها يمكن أن تستثمر ذلك، وأن تستدعى كقوة ضبط وتحكّم، في اللحظة المناسبة. ويمكن تحديد التأثير الإسرائيلي على التعامل الدولي، وضمنه الأميركي، مع الثورة السورية، في الآتي:

1 ـ الحرص على عدم تزويد جماعات المعارضة العسكرية بأسلحة نوعية، أو من وقوع هكذا نوع من أسلحة في أيديهم. يقول المحلل الإسرائيلي انشل بابر: “لفترة طويلة حذرت إسرائيل، على كل المستويات الدبلوماسية والأمنية، من تزويد الثوار بالسلاح، بدعوى أن الوسائل القتالية المتطورة ستصل إلى ناشطين إسلاميين متطرفين، وستوجه في المستقبل ضد إسرائيل وضد أهداف غربية. وساهمت المعارضة الإسرائيلية التي قادها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في محادثاته مع زعماء الدول الغربية، في التردد المستمر في تسليح الثوار.” (“هآرتس”، 16/9/2013)، أي أن هذا حصل من البدايات، وحتى بعد قيام النظام بالقصف الكيماوي في الغوطة.

2 ـ الترويج إلى أن الصراع في سوريا من طبيعة طائفية، الأمر الذي يخدم إسرائيل على المدى الطويل في تعميم خاصيتها، باعتبار نفسها دولة يهودية أي ذات طابع طائفي. ومعلوم أن إسرائيل تشتغل على هذا النحو بالتعامل مع الفلسطينيين من مواطنيها ليس على أنهم عرب وإنما باعتبارهم مسلمين ومسيحيين ودروزاً وبدواً الخ. في هذا الإطار يمكن الحديث عن التصورات الإسرائيلية للمنطقة العربية، والتي كانت مراكز الأبحاث الإسرائيلية تصدرها، والتي تقوم على أن البلدان العربية لم تتأسس على أساس متجانس، وأنه ينبغي أن تقوم عدة دول في سوريا، واحدة للمسلمين السنة وثانية للعلويين وثالثة للدروز، ورابعة للأكراد، وهذا ينطبق على العراق أيضا.

ومن بين الخطط المعروفة، وكلها منشورة، يمكن التذكير بخطتين يمكن اعتبارهما الأكثر شبهاً بالأحداث التي بتنا نعيشها في السنوات الخمس الماضية في سوريا (والعراق): الأولى، وهي “استراتيجية إسرائيل في الثمانينات” (1982). والثانية، وهي “استراتيجية جديدة لنتنياهو” (1996). الخطة الأولى، كان أعدها عوديد ينون (من الخارجية الإسرائيلية) ونشرت في مجلة المنظمة الصهيونية العالمية (“كيفونيم”)، وترجمها إلى الإنكليزية إسرائيل شاحاك وعصمت سيف الدولة إلى العربية  http://www.ikhwanpress.com/Abhat%20wa%20Dirasates/Watika%20Zionist.pdfوقد انطلقت من أن “العالم العربي الإسلامي هو بمثابة برج من الورق أقامه الأجانب (فرنسا وبريطانيا في العشرينات)”. وتضمنت الخطة تحليلا لواقع الانقسامات في المجتمعات العربية، وهشاشة النظم القائمة، وإمكان الاستفادة من ذلك لتقسيم البلدان العربية، سيما مصر والعراق وسوريا، وفقا للخطوط الطائفية والمذهبية؛ وبديهي أن هذا يفضي إلى تأكيد وجهة نظر إسرائيل وتقوية مكانتها كدولة يهودية في المنطقة. أما الخطة الثانية، فهي بعنوان: “استراتيجية جديدة لنتنياهو”، وقد جاءت على شكل توصيات أو خطة طريق لنتنياهو (في أول ولاية له 1996) تحثه على إجراء تغيير استراتيجي في إسرائيل والمنطقة، بالانقلاب على عملية التسوية، وعدم الإصغاء للإدارة الأميركية، بل الاستقلال عنها سياسيا وحتى اقتصاديا، وضمن ذلك رفض مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، لأنه يقوض شرعية إسرائيل؛ في رأي معدي الخطة. http://www.geocities.ws/nassershamali/new_page_40.html وبحسب هذه الخطة فإن إسرائيل باستطاعتها أن تشكّل المنطقة بما يتلاءم مع مصالحها، ومع تأكيد ذاتها كدولة يهودية. وكانت الخطة اقترحت إزاحة صدام حسين عن حكم العراق، وتنفيذ عمليات عسكرية في لبنان، وإزالة ياسر عرفات، وانتقدت الدول العربية بذريعة أنها غير ديمقراطية. ومعلوم أن هذا الخطة اعدتها مؤسسة “الدراسات الاستراتيجية والسياسية المتقدمة الاميركية”، وكتبها صانعو رأي بارزون بمن فيهم ريتشارد بيرل ودوغلاس فايث ودايفد وورمسر، وهم من تيار “المحافظين الجدد”.

جدير بنا التذكير بأن تيار “المحافظين الجدد” عبر وقتها عن هذه السياسات علنا وبجلافة، فيما سمي “مشروع القرن الأميركي”، الذي اشتغلوا عليه عبر تحكمهم بالإدارة الأميركية في عهد الرئيس بوش الابن (2001-2009)، وبقوة نفوذهم في البيت الأبيض ووزارتي الخارجية والدفاع، ومراكز الدراسات الاستراتيجية. وكان أبرز هؤلاء ريتشارد بيرل رئيس “مجلس سياسة الدفاع” في البنتاغون (مجلس استشاري) وبول وولفويتز نائب وزير الدفاع في عهد بوش الابن، ودوغلاس فايث (وزارة الدفاع) وروبرت كاجان، وزالمان خليل زاده (البيت الأبيض)، ووليام كريستول، وإليوت أبرامز (مجلس الأمن القومي)، وجون بولتون (وزارة الخارجية). وكانت دعاوى هؤلاء تتركز على أهمية استغلال أميركا جبروتها العسكري لفرض ما تريد، في العالم، ولا سيما في الشرق الأوسط، واستخدام الحرب الوقائية، والتدخلات العسكرية، وذلك بدعوى محاربة الإرهاب ونشر الديمقراطية. وضمن ذلك فقد عمل هؤلاء على تطبيق آرائهم بخصوص العالم العربي، بدءاً من غزو العراق، ثم في تفكيك جيشه وأجهزة دولته، وبعدها في فرض صيغة حكم طائفية فيه، وصولا إلى تلزيمه لإيران.

نستنتج من ذلك أن ثمة تقاطعاً كبيراً بين التصورات الإسرائيلية والتصورات الأميركية فيما يخص الشرق الأوسط، وتحديداً المشرق العربي، أي أن المسألة لا تتعلق بفرض إسرائيل لوجهة نظرها على الولايات المتحدة، فهي ليست بحاجة إلى ذلك، وإنما الأمر يتعلق بالتشابك الكبير في السياسة والتصورات وصناع القرار عند الطرفين كما ذكرنا.

3 ـ أخيراً تأتي الفكرة الأساسية وهي ترك العرب يتصارعون فيما بينهم، ويستنزفون قواهم، ويدمرون عمرانهم، وأنه لا حاجة لأي تدخل لوقف هذا المسار في المشرق العربي. ولعل توصيف المحلل الإسرائيلي عاموس هرئيل كان الأكثر بلاغة في هذا الأمر، إذ يقول: “المعركة في سورية تجري بين معسكرين معاديين جوهريا لإسرائيل. والاستنزاف المتبادل بينهما، من دون حسم في الأفق، مجدٍ لإسرائيل. إن عدم الاستقرار في سورية خطير، وكذا احتشاد ناشطي الإرهاب من منظمات الجهاد العالمي على الحدود في الجولان مقلق، ولكنه لا يوازي المنفعة التي تنشأ عن تآكل القدرة العسكرية السورية، التقليدية وغير التقليدية. لا يوجد لإسرائيل أي سبب يدعوها إلى تمني انتصار أي من الطرفين الصقريين. (“هآرتس”، 25/9/2013) وكان المحلل الإسرائيلي أليكس فيشمان الأكثر صراحة وفجاجة في التعبير عن هذا الرأي، ففي مقالة له عنوانها: “اتركوا العرب ينتحروا بهدوء”، كتب يقول: “لماذا يجب علينا نحن بسبب عدد من الجنرالات الذين لا يهدأون ورئيس حكومة متسرع إلى الحرب أن نمنحهم سببا للاتحاد حول القاسم المشترك الوحيد بينهم وهو كراهية إسرائيل؟ دعوهم ينتحروا في هدوء. إن السلاح إلى لبنان خطير لكنه ليس تهديدا وجوديا، فهو ليس القنبلة الذرية الإيرانية”. (“يديعوت”، 12/6/2013)

في تفسير السياسة الأميركية

من كل ذلك يمكن الاستنتاج بأن إسرائيل ظلت تشتغل من الخلف، تاركة معالجة الملف السوري للإدارة الأميركية، خصوصا أن هذه المعالجة تتقاطع مع المصالح الإسرائيلية في شأن الحفاظ على استقرارها وأمنها الآني والمستقبلي.

القصد أنه لا يمكن تفسير الموقف الأميركي بخصوص عدم حسم الصراع السوري، بتسامحها مع نظام قتل شعبه ودمر عمرانه وشرد ملايين منه، وسكوتها عن صعود النفوذ الإيراني فيها، وتركها الأمر لروسيا، بمجرد تغير الأولويات الأميركية، أو بالانكفاء وعدم التدخل في الصراعات العسكرية في الخارج، أو باحترام سيادة الدول والانصياع لعدم توفر قرار في مجلس الأمن الدولي، لأنها فعلت على الضد من ذلك في كثير من الحالات وضمنها مؤخرا في ليبيا؛ ولو بالتدخل الجوي وفي إدارة الصراع من الخلف؛ وهو ما فعلته الإدارة الجديدة، برئاسة دونالد ترامب، بقصف مطار الشعيرات قرب حمص.

أما بخصوص سيادة الدول وتوفّر الإجماع في مجلس الأمن، فثمة في القانون الدولي مبدأ الحماية الإنسانية، بموجب قرار مجلس الأمن (1674/2006) الخاص بمبدأ حماية المدنيين، الذي يؤكد في المادة الثالثة منه أن “الاستهداف المتعمد للمدنيين.. يشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني”، ويؤكد في مادته الرابعة على “المسؤولية عن حماية السكان من الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية”، علماً أن هذا القرار، في ديباجته، وفي مادته الثانية، يربط بين سيادة الدول واستقرارها وبين التزام حقوق الإنسان والديمقراطية والحكم الرشيد، أي أن السيادة باتت مقترنة بحقوق الإنسان، والحفاظ على أمن المواطنين، وأن الاخلال بهذه العناصر يشكل خطرا على الأمن الدولي، ما يستدعي تفعيل مبدأ الحماية للمدنيين.

هكذا، لا يمكن فهم السياسة الأميركية في سورية، بدون مراجعة ما فعلته في العراق (منذ 2003)، لجهة تلزيمه لإيران، وتسهيل صعود نفوذها في المشرق العربي؛ فهذا ما أسس لما حصل لاحقًا، مع رعونة النظام الإيراني والسياسات التي انتهجها فيه، وقد نتج عن كل ذلك إثارة النعرة الطائفية – المذهبية في المشرق العربي، وشقّ المجتمع العراقي، وتقويض الدولة في العراق، وسيادة الميلشيات الطائفية– المذهبية المدعومة من إيران، على نحو ما شهدناه طوال عهد أوباما؛ هذا أولًا. ثانيًا، لا يمكن فهم ما يجرى دون ملاحظة أن الولايات المتحدة ليست في عجلة من أمرها، إذ لا يوجد ما يؤثر عليها لا سياسياً ولا أمنياً ولا اقتصادياً، ولا لناحية مكانتها الدولية، وهي تتفرّج على ما يحدث، دون أن تدفع أي ثمن، ودون أن تتورّط مباشرة، إذ بحسب تعبير لبريجنسكي (في كتابه: بين عصرين) هي التي توزّع التناقضات، وهي -أيضًا- التي توزّع المكاسب، وضمنه بتشغيلها الآخرين كوكلاء، والشاهد أن كل الأطراف تتوجه إليها، أو تنتظر كلمتها النهائية، وفي المقدمة روسيا ذاتها.

ثمة تفسيران لهذه اللامبالاة أو لحالة الفرجة الأميركية، إزاء ما يجري، أولهما، أن الولايات المتحدة تبدو مشغولة باستنزاف القوى الأخرى، التي تحاول مناكفتها، على الصعيدين الدولي والإقليمي، وهذا يشمل روسيا وإيران وتركيا وبعض الدول العربية، لذا فهي في هذه الحال معنيّة بإضعاف هذه القوى وإنهاكها، وإبقائها في مواجهة بعضها، سيما أنها لا تدفع شيئاً من كيسها جراء هذا الصراع، لا بشرياً ولا مادياً، وهذه ليست إدارة ظهر، وإنما لعب وتورية، وليست إدارة صراع أو أزمة، وإنما كاستثمار في صراع أو في أزمة، مع إدراكها لواقع قدرتها على التحكم، فهي التي تقرر الحسم ومتى، لأنها هي التي تملك المقدرة وأوراق القوّة. وثانيهما، أن الصراع الجاري في هذه المنطقة يؤدي إلى إضعاف دولها وتصديع وحدة مجتمعاتها ما يفيد إسرائيل، وهذا ما حصل من العراق إلى لبنان، التي باتت بمثابة الدولة الأقوى والأكثر استقراراً وقدرة على الحياة في المشرق العربي.

في هذا السياق يجدر لفت الانتباه إلى أن كل التطورات منذ غزو العراق (2003)، وفسح الولايات المتحدة في المجال واسعاً لصعود النفوذ الإيراني في المنطقة، من العراق إلى لبنان مرورا بسوريا، إنما يصبّ في هذه الاستراتيجية، التي اضطلعت فيها إيران بدور كبير، ما يفسّر كل هذا التسامح معها، أي مع برنامجها النووي (بالقياس للعراق)، ومع تدخلاتها الميلشياوية الطائفية المسلحة (بالقياس مع حالات أخرى)، في عهد إدارة أوباما، إن في العراق أو سوريا ولبنان واليمن. فمع التأكيد على خطورة دور إسرائيل، ينبغي التذكير بدور إيران، الني باتت أكثر قوة خارجية تقتحم المشرق العربي، أي أكثر من إسرائيل وتركيا، بحيث أضحت بمثابة عامل داخلي في عديد من دوله، علماً أن ذلك لا يمكن أن يحدث بدون رضى الولايات المتحدة وإسرائيل، ولو ضمنياً، لتساوقه مع مصلحتهما إن في إضعاف المشرق العربي، من مدخل شق وحدة مجتمعاته، أو لجهة إشغال واستنزاف إيران. وفي المحصلة فإن إيران هذه نجحت، بالضبط حيث اخفقت إسرائيل، بإثارتها الانقسامات المذهبية في بلدان المشرق العربي، وتصديع وحدتها الجغرافية والمجتمعية، حتى بواسطة الميليشيات المسلحة، بل وباسم الصراع ضد إسرائيل وفلسطين والمقاومة.

ربما ثمة من يعترض على التفسيرين المذكورين، لكن تفحّص الأمور عن كثب لا يفتح على تأويلات أخرى، إذ لا يمكن فهم سكوت الولايات المتحدة أو لامبالاتها إزاء كارثة نجم عنها مصرع حوالي نصف مليون سوري، وتشريد أكثر من عشرة ملايين منهم، كما نجم عنها تمدد روسيا وإيران في المشرق العربي، وبالوسائل العسكرية، أو بما بات يعرف كاحتلال روسي وإيراني لسوريا (ناهيك عن الاحتلال الإيراني للعراق). وعلى الأقل فإن أحداً لم يأت حتى الآن بكلام آخر يفسّر سياسة “اللامبالاة” الأميركية، إذا تجاوزنا الكلام المبسّط عن الاستدارة الأميركية من الشرق الأوسط إلى المنطقة الهندية- الصينية، أو الانكفاء الأميركي إلى الداخل.

الآن، ثمة ملامح استراتيجية أميركية جديدة، مع إدارة الرئيس دونالد ترامب، تتمثل في التركيز على تحجيم نفوذ إيران في سوريا والعراق، وضبط الدور الروسي في سوريا، وإفهام نظام الأسد أنه غير صالح للتعويم. وقد تم تكرار هذه المواقف مؤخّراً، سيما بعد قصف مطار الشعيرات السوري (7/4/2017)، رداً على مجزرة خان شيخون التي ذهب فيها العشرات ضحية القصف بغاز السارين، وذلك عبر تصريحات الرئيس ذاته، إضافة لتصريحات وزيري الخارجية والدفاع الأميركيين، ومستشار الأمن القومي، وسفيرة الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي. بيد أن هذه الاستراتيجية فيها الكثير من الاستراتيجية السابقة، التي كانت معتمدة في عهد سلفه أوباما، أما التغير الحاصل فهو نتاج استنفاد تلك الاستراتيجية، أو نتيجة اقتناع صناع القرار الأميركيين بأنها حققت الأغراض المطلوبة منها، بحيث بات يمكن إدخال تغييرات عليها لأغراض الاستثمار السياسي والتحكم بالترتيبات المستقبلية في المنطقة. بمعنى أن الاستراتيجية الأميركية إزاء الشرق الأوسط لا يحددها الرئيس لوحده، وإنما تحددها المؤسسة، ولوبيات الضغط، في الولايات المتحدة.

ولعل هذا بالضبط ما يلائم إسرائيل، التي صعّدت، مؤخراً، من موقفها بشأن المطالبة بوضع حد لنفوذ إيران في المشرق العربي، بعد أن قام نظام “الولي الفقيه” بما عليه، لجهة شق وحدة المجتمعات العربية، في سوريا ولبنان والعراق واليمن، على أسس مذهبية، ولجهة ضرب الاستقرار الدولتي والمجتمعي في هذه الدول.

المهم أن كل ذلك يجري، في ظل غياب النظام العربي، إذ تبدو المنطقة متروكة للأطراف الدوليين والإقليميين، من الولايات المتحدة وروسيا إلى تركيا وإيران وإسرائيل، كما يجري ذلك في ظل تحول الصراع السوري من صراع داخلي على السلطة، وعلى شكل سوريا المستقبل، إلى صراع دولي وإقليمي على النفوذ في سوريا.

[*] كاتب وباحث فلسطيني، مقيم في تركيا.