عيسى الشعيبي[*]
عندما اقترح عليّ مدير مركز الابحاث الفلسطيني الاطلالة مجدداً، بعد انقطاع طويل، من على صفحات “شؤون فلسطينية” المتربعة في الذاكرة الوطنية لرهط من قدامى بحاثي المركز، أيام عزّه خلال سبعينات القرن الماضي، لم اتردد في الاستجابة لهذا الاقتراح الطيب، لا سيما وان الموضوع يتعلق بأحد أبواب ذلك البحث التأسيسي الذي وضعته عام 1979، وصدر عن “المركز” تحت عنوان “الكيانية الفلسطينية.. الوعي الذاتي والتطور المؤسساتي 1948-1974” وغدا فيما بعد مرجعاً معتمداً لدى كثيرين ممن خاضوا في بحر هذا الموضوع الاجتماعي السياسي الثقافي المركّب.
ذلك أن المرء يجد لديه، بعد أكثر من ثلاثة عقود على إصدار أول دراسة تأصيلية من نوعها حول الكيانية الفلسطينية، وهي في طور تحققها الأول، الكثير مما يدعوه: إما إلى مراجعة بعض الأفكار والافتراضات والأحكام التي خلص إليها في بحثه المبكر، وإما إلى إضافة بعض الاستنتاجات الجديدة، التي راكمتها الخبرة الشخصية، والتجربة السياسية، ناهيك عن تراكم الوقائع والحقائق والمدركات، التي تضافرت معاً لتوسيع نطاق الرؤية الأولى، وتمحيص معطياتها الأساسية من جديد، ومن ثم إعادة قراءتها بوعي مكتسب فيما بعد.
والحق، أن البحث الرصين في معمار المفاهيم والنظريات، والسعي إلى إكسابها مضامين ملموسة، فضلاً عن القيام بمرافعة سياسية عن مغازيها العملية، كان يقتضي إجراء عمليات تنقيب عن الجذور التاريخية للأفكار الممهدة، ومتابعة تجلياتها المبكرة، ومن ثم وضعها في سياق زمني أوسع، كي يتمكن الباحث من رصد الحالة الجنينية، ومن ثم الوقوف على ديناميتها الذاتية، من منطلق أن تماثل المخرجات الاجتماعية والسياسية في مرحلة زمنية معينة هو تعبير عن معطىً جديد، كان يواصل –على هذا الصعيد- عبر الشتات الفلسطيني التبشير عن نفسه بنفسه، وراء غلالة رقيقة يمكن للعين الثاقبة اختراقها بسهولة.
وهكذا، فإنه يمكن الادعاء بعد كل هذا الكم من التطورات النوعية المتراكمة في المجرى التاريخي لمفهوم الكيانية الفلسطينية، وبعد هذا الفيض من التعبيرات العيانية، المرئية منها والملموسة، السائدة في فضاء الحالة الفلسطينية، أن ما بدا لديّ قبل أكثر من ثلاثين سنة على أنه مجرد ضرب من ضروب الرغبات الذاتية المكبوتة، أو قل عملاً تنظيرياً يقوم على أسس فكرية هشّة، إن لم نقل تمريناً في العصف الفكري الذي لا طائل من ورائه في العادة، قد بات الآن حقيقةً راسخة من حقائق حياة الشرق الأوسط، تتلو بيانها بكل بلاغة، وتدافع عن نفسها بنفسها بكل رشاقة.
وتستطيع عين المؤرخ والباحث السياسي أن ترى الآن، أي بعد أن باتت الكيانية الفلسطينية ذات مضامين غير قابلة للامحاء مهما كانت العواصف اللاحقة عاتية، وكانت رياحها عاتية، وذلك لكثرة ما احتشد في إطارها من حيثيات ملموسة قابلة للقياس، إن ما كان في أوائل النصف الثاني من القرن الماضي مجرد نوىً كيانية، جزئية ومتفرقة، تحاذر تقديم روايتها عن نفسها بصراحة، وتخشى الاصطدام بواقع التغييب والتهميش، بل والإلغاء، لكل ذي دلالة فلسطينية في زمن ما بعد النكبة، قد بات منذ عقدين على الأقل، أشبه بعمارة طابقية قائمة ملء السمع والبصر، حتى وإن لم يتم استكمال تشطيباتها الداخلية.
وعليه، فإنه يمكن القول بثقة وطيدة، إن قيام السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994، كان ذروة التطورات الكيانية التي كانت تشق دروبها بصعوبة في المنافي البعيدة، كما كان هذا التكوين نقطة تحوّل مفصلية حاسمة في مدار كل تلك التفاعلات البطيئة، التي صاحبت عملية انبعاث ما درجنا على تسميته بطائر الفينيق، حيث لم يعد الكيان الفلسطيني بعد قيام السلطة المعترف بها على أوسع نطاق، مجرد فكرة هائمة تحلّق في سماء عالية، ولا بيتاً تنظيمياً واسعاً لحاملي مشعل الحرية والعودة والاستقلال، مثل منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها الشعبية، خصوصاً بعد أن بات لدى الشعب الفلسطيني مؤسسات منتخبة، وإدارات حكومية، وأجهزة أمنية وقضائية، وصار يمسك على قدر كبير من مصيره بكلتي يديه.
وبنظرة تحليلية استرجاعية لمكونات المشهد الفلسطيني وفق ما بدا عليه بعد النكبة الأولى عام 1948، وما آل إليه هذا المشهد بعد أكثر من نصف قرن حافل بالإخفاقات الكثيرة والمكتسبات القليلة، فإنه يمكن رؤية مدى عمق التطورات التي تراصفت على مهلها في إطار هذا المشهد البانورامي الواسع، ومعاينة مظاهر التفاعلات الذاتية الفلسطينية، التي أنجزت بعد لأي شديد سلسلة لا حصر لها من التمثلات الكيانية الكاشفة، من إعادة بعث الهوية الوطنية، واستعادة الحضور السياسي الفلسطيني على الخارطة الإقليمية، إلى إرساء الحجارة التحتية الأولى لدولة فلسطينية مستقلة.
في خضم هذا البحر المتلاطم بأمواج لا تهدأ من التطورات والتراكمات والانقلابات التاريخية العاصفة، كانت التعبيرات الكيانية الفلسطينية المتدرجة تعيد إنتاج نفسها على نحو أكثر تماسكاً، وتدخل في مخاض عسير مع نفسها ومع محيطها المجاور، كي تتعرف على ذاتها، تقدم خطابها، وتستكمل قوامها، في وقت لم يكن فيه الشعب الفلسطيني قد استكمل وعيه بذاته الخاصة، كجماعة لها مشتركات وطنية عديدة، وهوية منفصلة السمات داخل الوعاء القومي العريض، لديه ذاكرة مشتركة، وقضية وجودية وتستبد به آلام وآمال مختلفة عن جواره السكاني.
وفيما يمكن اعتبار النوى الفلسطينية المعبرة عن وعي جنيني، المتكونة في مرحلة ما قبل حرب العام 1967م، على أنها مجرد تعبير عن لواعج الحنين إلى الديار السليبة وملاعب الذكريات الأولى، لا تنطوي على مدركات بالذات الخاصة، ولا على تطلعات سياسية تتعدى تحرير الأرض ولا تنصرف إلى ما هو أبعد من ذلك، مثل التطلّع إلى دولة مستقلة أو شيء من هذا القبيل، فإنه يمكن النظر إلى الحالة الفلسطينية في زمن ما بعد تلك الحرب الصادمة، على أنها مرحلة البدايات الأولى من عملية إنضاج وعي ذاتي بالكينونة الفلسطينية الملتبسة، التي كانت تقدم رجلاً وتؤخر أخرى على دروب متعرجة، زلقة ومعتمة.
ذلك أن هذه المرحلة الواقعة بين حربين كبيرتين (1967 و1973) بينهما نحو ست سنوات لاهبة بحضور فلسطيني صاخب، كان يعزز نفسه بنفسه على وقع مأثرة الكفاح المسلح، والعمليات الفدائية، والمواجهات الشعبية المختلفة، نقول لم تشهد هذه المرحلة انشغالاً فلسطينياً كافياً بالتطورات السياسية المتلاحقة في المنطقة، بما في ذلك ما كان يخاطب المستقبل الفلسطيني ذاته، وذلك لصالح تركيز كل الجهود الذاتية على خيار تعزيز الكفاح وتعضيد بنية الثورة، التي بدت حيية في التعاطي مع نوافل العمل السياسي، الذي لا محل له من الإعراب عند سادة الرفض المهيمنين على مقاليد الحياة السياسية الفلسطينية المهمومة بتحرير الأرض ليس أكثر.
إذ فيما عدا الحرص على انتظام عقد دورات المجلس الوطني الفلسطيني، الذي كان يراه الفلسطينيون على أنه برلمان للثورة وفصائلها المسلحة، ناهيك عن المشاركة في أعمال مجلس الجامعة العربية وقممها المتعاقبة، فقد كان الاهتمام الفلسطيني ينبني خارج إطار الحواضن السياسية، بل إنه كان يكاد لا يلقي نظرة سريعة على المجريات والمبادرات الدبلوماسية المتهافتة على ساحة الصراع التاريخي المقيم منذ عقود في المنطقة، باعتبار أنه صراع عربي إسرائيلي بالدرجة الأولى، لا يخاطب الثوار القابضين على جمر تحرير الأرض الفلسطينية المحتلة.
إذ لم تسعَ منظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها العنوان السياسي الفلسطيني الأبرز والأوحد للتعبير عن هموم الفلسطينيين واهتماماتهم، إلى منازعة منافسيها المتعاطين بالمبادرات الدبلوماسية الخاصة بمستقبل الأرض المحتلة، ولم تدخل في خصومة، أو حتى احتكاك ذي مغزى، مع عواصم عربية كانت تسد الفراغ التمثيلي الفلسطيني المغيب بمحض إرادة ذاتية، وذلك من منطلق أن العمل الدبلوماسي من سقط المتاع، وأن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، التي ستقع بعد نحو ستة أعوام على واقعة النكسة، وتفتح لمرحلة عربية فلسطينية مختلفة عما كانت عليه من قبل.
وأحسب أن هذا الزهد الفلسطيني بالاشتغال طويلاً على الهوامش السياسية للقضية المركزية، المتصدرة جدول الاهتمامات القومية، كان مرده ضعف الوعي العام لدى القيادة والنخب السياسية والفكرية الفلسطينية، بمتطلبات استكمال منجز استرداد الهوية الوطنية الخاصة، أو قل إعادة بعثها ومن ثم بنائها من العدم، خصوصاً وأن التعبيرات الكيانية الأولية لم تكن قد نضجت بما يكفي، وأن النزوع إلى الاستقلال الوطني لم يكن قد لامس بعد ذهنية مترعة بثقافة الرفض والشعارات العدمية، المتماهية مع مفردات الخطاب القومي المرسلة في الوحدة والحرية والاشتراكية.
ولعل من مفارقات تلك المرحلة المديدة، التي تلبدت فيها السماء السياسية الفلسطينية ببعض التمثلات الكيانية الهشة والمتفرقة، وأن الفضاء الثقافي الفلسطيني كان أسبق من نظيره السياسي، لجهة انبثاق الشخصية الروائية الفلسطينية، وامتلاكها وعياً أعمق بذاتها، وإدراكاً أوسع لخاصياتها الوطنية، وتماهياً أبعد مع تطلعاتها المستقبلية، ومع صورتها عن نفسها المعذبة باللجوء والمنافي والتهميش الاجتماعي، وذلك على نحو ما تجلّى عليه عدد من أبطال الروايات الأدبية الصادرة في تلك المرحلة، حيث كان الشعب فيها هو صاحب البطولة الكلية.
وبالعودة إلى السياقات التاريخية لعملية انبعاث التمثلات الكيانية الفلسطينية المبكرة، وصعودها فوق عدد قليل من درجات سلم التطورات الكيانية الطويل، فإنه يمكن اعتبار متغيرات ما بعد حرب عام 1973، وما أعقبها من زخم سياسي تحقق بقوة دفع الانتصار العسكري الجزئي، والمهم، في تلك الحرب الكبيرة، مرحلة الارتقاء عالياً بالوعي الكياني الفلسطيني إلى درجة غير مسبوقة، وفق ما بدت عليه وقائع تلك السنوات التي بدأت بانتزاع وحدانية التمثيل الفلسطيني في قمتي الجزائر والرباط عامي 1973م و 1974م، ثم مشاركة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974م.
في ذلك الوقت المبكر من تلك المرحلة الغنية بالمعطيات السياسية الجديدة، بدأ أول نقاش فلسطيني داخلي حول ضرورات الاستجابة لما بدا أنه مخاض وشيك في التحركات الدولية الجارية لإحراز تسوية سياسية للصراع العربي – الإسرائيلي، حيث انقسمت النخبة السياسية الفلسطينية بين ما بات يعرف فيما بعد بجبهة الرفض، الأمينة على تراث مديد من التعالي على الواقع والتنكر لمقتضياته، وبين أكثرية مركزية فلسطينية رأت أن من المحذور مواصلة الزهد بالعمل الدبلوماسي، بل ومن المحظور مرور قطار التسوية السياسية المحتملة، دون أن يحجز الفلسطينيون مقعداً لأنفسهم، والوصول مع الواصلين إلى محطته النهائية.
ومع أنّ قطار التسوية السياسية هذا لم ينطلق في واقع الأمر، وأن الزخم الدبلوماسي الذي ولدته حرب العام 1973م تبدد شيئاً فشيئاً مع مرور الوقت، إلا أن النقاش الداخلي الفلسطيني العاصف، تمكن من تدوين واقعة حدوث أول تحول نوعي كبير في الذهنية السياسية الفلسطينية، التي تفتحت على وعي أعمق من ذي قبل، بأهمية العمل في المجال الدبلوماسي، أي كسر التابوهات القديمة، وتطوير خطاب سياسي قابل للترجمة والفهم، والعمل بأدوات لم يجر العمل بها من جانب كل الذين قدموا الخيار العسكري وحرب الشعب طويلة المدى، على خيار المناورة السياسية والاشتباك الدبلوماسي.
وقد يكون ما عرف باسم برنامج “النقاط العشرة” أو ما يسمى بالبرنامج المرحلي، الذي تم التحاور عليه في إطار فصائلي، ومن ثم اعتماده في المجلس الوطني الفلسطيني عام 1974م، هو النقلة النوعية الأبرز حتى ذلك الحين، في مدار التطور الكياني الفلسطيني، حيث جرى لأول مرة الحديث عن “سلطة وطنية على أي شبر من الأراضي الفلسطينية المحتلة” الأمر الذي فتح باباً لن يغلق فيما بعد، للحديث عن الشرعية الدولية، وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، والاهتمام في غضون ذلك بالمجريات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الأرض المحتلة.
ورغم أن الثقل السياسي والتمثيلي كان لا يزال قائماً في ديار الشتات إبان تلك المرحلة، إلا أن التيار المركزي الفلسطيني بات مشغولاً آنذاك بالمتغيرات الجارية في الأرض المحتلة عام 1967م، ومعنياً أكثر من أي وقت مضى على تأكيد حضور منظمة التحرير الفلسطينية في بيئة ديمغرافيا الداخل، ومنغمساً في الحوارات السياسية المتعلقة بتأسيس الجامعات، والانتخابات البلدية، وغرف الصناعة والتجارة، وكل ما من شأنه أن يعزز نفوذ منظمة التحرير ويمنحها المزيد من الشرعية في الساحة التي لم تكن خياراتها التمثيلية مع الأردن قد حسمت بعد، لا سيما في القدس والضفة الغربية.
لقد كان العقل السياسي الفلسطيني، بتعبيراته الكيانية غير المكتملة بعد، معنياً طوال اواسط عقد السبعينات، بإجراء ما يمكن أن نسميه مجازاً “تحسين قيافته السياسية” وذلك بترشيد خطابه، وعقلنة لغته، وترشيق حضوره، وتعزيز مظاهر اعتداله، ورفع مستوى ممثلياته وبعثاته الخارجية، وعمل كل ما من شأنه التدليل على نضوجه السياسي، ورغبته في المشاركة في أي جهد دبلوماسي قد تتم المبادرة إليه في إطار البحث عن تسوية سياسية محتملة، ناجمة عن قوة الدفع التفاوضي التي كونتها نتائج حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، بما في ذلك صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 338، المبني على قرار المجلس السابق رقم 242.
والحق أن السماء السياسي لمنطقة الشرق الأوسط قد تلبدت في حينه بغيوم أخرى كثيفة، واعدة بعقد مؤتمر دولي يطلق عملية سلام جديدة، تحت رعاية الدولتين العظميين في تلك الآونة، إلا أن تلك الغيوم سرعان ما تبددت، ولم تمطر غير عقد جلسة واحدة حضرها في جنيف وزراء خارجية كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، إلى جانب بعض الدول العربية، وبغياب سوريا ولبنان التي لم تتمكن من تأمين مقعد فلسطيني على مائدة ذلك المؤتمر، أو قل تلك الجلسة اليتيمة، وذلك بفعل ضغوط إسرائيلية علنية، قادها موشيه ديّان وزير خارجية إسرائيل آنذاك، أدت إلى تراجع وزير الخارجية الأمريكي سايروس فانس عن العودة إلى مائدة التفاوض في جنيف مرة أخرى.
إلا أن نهج الاعتدال الفلسطيني الذي لم يكن قد اشتد عوده في تلك المرحلة من عقد السبعينات، قد توقف على نحو لا إرادي، بفعل جملة من المتغيرات الصاخبة التي وقعت في أواخر ذلك العقد، والتي شهدت الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس المصري أنور السادات إلى الكنيست عام 1978، وأفضت في العام التالي إلى عقد أول معاهدة سلام بين إسرائيل ودولة عربية، وهو الأمر الذي أدى إلى حشر الفلسطينيين في ما بات يعرف باسم جبهة الصمود والتصدي العربية، التي ضمت سوريا والعراق وليبيا والجزائر، ومنظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت في واقع الأمر رهينة الجغرافيا السياسية، وأسيرة النفوذ السوري الطاغي في لبنان، حيث مقر القيادة الفلسطينية.
على أنه يمكن، رغم ذلك كله، رؤية ذلك الانعطاف الحاد في مجرى الصراع العربي – الإسرائيلي، وفق ما تجلت عنه مفاوضات كامب ديفيد المصرية – الإسرائيلية، على أنه انعطاف تاريخي، كان بمثابة افتتاحية أولى لدفق من المتغيرات المؤسسة لحقبة طويلة ومختلفة عما كانت عليه سمات الصراع التاريخي المديد في المنطقة، حيث أفردت اتفاقية السلام المصرية- الإسرائيلية ملحقاً خاصاً حول الشق الفلسطيني من عملية السلام المنشودة، نص لأول مرة على إقامة حكم ذاتي إداري فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهي المرة الأولى التي تتحدث فيها إسرائيل عن كينونة فلسطينية، حتى وإن كانت محدودة وسطحية وغير مقبولة بطبيعة الأمر.
وبقفزة زمنية إلى الأمام، ومن أجل تكثيف الضوء على مغزى البند المتعلق بالحكم الذاتي الإداري للسكان الفلسطينيين، فإننا نجد أن هذه البذرة التي زرعتها توافقات مصرية – أميركية – إسرائيلية، من وراء ظهر الشعب الفلسطيني عام 1979، قد نبتت وأورقت ثم طرحت أولى ثمراتها، في اتفاق أوسلو عام 1993م، الذي بنى على ذلك البند، وحسّن مخرجاته، وأرسى قاعدة راسخة لعملية سلام تدريجية، تبدأ بحكم ذاتي محدود السيادة، وتنتهي بإقامة دولة فلسطينية مستقلة في غضون خمسة أعوام تنقضي في أواسط عام 1999م، وفق ما جاء في اتفاقية إعلان المبادئ المشترك، واتفاقية إقامة الحكم الذاتي المعقودة عام 1994م.
بكلام آخر، فإن الجذر الضارب عميقاً في التربة السياسية لعملية السلام التي بدأت في أوسلو وراء أبواب مغلقة، كان لا يزال كامناً محتفظاً بقدرته على الانبثاق من تحت تلك التربة المخصبة لبذرة الحكم الذاتي المحدود، منذ معاهدة كامب ديفد وملحقاتها عام 1979م. ومع أن فكرة الحكم الذاتي الإداري تم نبذها بشدة من الجانب الفلسطيني، وتم غض البصر عنها حتى بعد أن تحررت القيادة الفلسطينية من دكتاتورية الجغرافيا السورية بعد الخروج من لبنان إثر حرب العام 1982م، إلا أن هذه الفكرة عادت إلى رؤية النور من جديد، وتم التعاطي معها بإيجابية فلسطينية بعد مرور نحو خمسة عشر عاماً من طرحها لأول مرة، وذلك بعد أن جرى تحسين شروطها بدرجة ملموسة، ووضعها في سياق تفاوضي أوسع يعد بدولة مستقلة.
وبالعودة إلى الوراء قليلاً، لاستجلاء بعض التمثلات الكيانية نصف الناضجة على وقع سنوات عقد السبعينات من القرن الفائت، نجد أن منظمة التحرير التي تعتبر المنجز الكياني الأبرز في مسار انبعاث القضية الفلسطينية، قد أصبحت في غضون تلك الفترة ذات صفة تمثيلية جامعة لعموم الفلسطينيين في الداخل والخارج، وغدت عنواناً سياسياً وحيداً لشعب لم يعد منذ ذلك الوقت كمية سكانية مهمشة كما كان عليه في زمن ما بعد النكبة، وفوق ذلك صارت المنظمة أقرب ما تكون إلى كيان فلسطيني معنوي، تحظى بالاعتراف على نطاق واسع، وتنال عضوية منظمات إقليمية عديدة، من الجامعة العربية إلى مجموعة عدم الانحياز إلى منظمة المؤتمر الاسلامي.
على هذه الأرضية المتماسكة، التي بات الشعب الفلسطيني يقف عليها بصلابة، ويطور أدواته الكفاحية بجسارة، ويعيد صياغة خطابه السياسي، ورؤيته المستقبلية، جاء عقد الثمانينات محمولاً على جناحين متغيرين كبيرين متعاكسين في النتائج المترتبة على كل منهما. حيث شهدت بداية هذا العقد الحرب الإسرائيلية الكبيرة على لبنان، ومن ثم خروج منظمة التحرير الفلسطينية إلى منافٍ بعيدة، فيما شهدت أواخر العقد ذاته اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الباسلة، التي أعادت التوازن المعنوي والسياسي للمنظمة التي كانت قد فقدت الكثير من عافيتها، ليس فقط جراء الحرب الإسرائيلية، وإنما كذلك بفعل الحرب الإلغائية التي تعرضت لها على أيدي النظام السوري، سواء بمحاولة شق المنظمة والاستيلاء على القرار الوطني الفلسطيني المستقل، أو بالحرب على طرابلس، ثم على المخيمات الفلسطينية في لبنان.
وفيما يمكن النظر إلى النتائج الجانبية للخروج من لبنان على أن بعض مضاعفاتها كانت إيجابية، مثل تحرير الإرادة الفلسطينية من قبضة النظام السوري، وبالتالي جعلها أكثر استقلالية من أي وقت مضى، حيال كل ما قد يتم عرضه من خيارات وبدائل سياسية، فإنه يمكن بالمقابل النظر إلى انتفاضة الحجارة، التي أعادت طرح الموضوع الفلسطيني، بعد غياب، على صدارة جدول الاهتمامات العربية والدولية، على أنها نقطة تحول عميقة الغور في مجرى التمثلات الكيانية، التي استردت على وقع المواجهات بين الدم والسيف، مصداقية كادت أن تتبدد شيئاً فشيئاً، في المنفى التونسي البعيد عن محيط الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ولعل الأهمية الكبرى لتلك الانتفاضة المجيدة، التي وقعت في أواخر عام 1987م واستمرت لعدة سنوات لاحقة، لن تتضح إلا في بداية عقد التسعينات، عندما حدث أعمق تحول في مجرى التطورات الكيانية الفلسطينية وأهمها على الإطلاق، ونعني بذلك قيام أول سلطة وطنية معترف بها على نحو شبه شامل، اجتازت مرحلة الشرعية الثورية التي حققت لها ذلك الحضور الباذخ في ديار الشتات، وخطت برشاقة نحو مرحلة الشرعية الدستورية، التي وفرت لها رئيساً منتخباً ومجلساً تشريعياً، ونظاماً قضائياً ومؤسسات لضبط النظام العام، وغير ذلك من التعبيرات التي تفوق رتبة الحكم الذاتي وتقل عن درجة دولة مستقلة.
فكما كانت حرب تشرين الأول (أكتوبر) عام 1973م، المعادل النفسي لدى الدول الغربية، كونها أرست الأرضية الملائمة لعملية تفاوضية فيها شيء من التكافؤ والندية، ثم أطلقت حراكاً دبلوماسياً دولياً في نطاق البحث عن حلول سياسية، شكلت الانتفاضة أيضاً معادلاً موضوعياً مماثلاً بالنسبة للفلسطينيين، الذين ملأوا شاشات التلفزيون بحجارتهم، وأملوا على الإسرائيليين جدول أعمالهم السياسي في الانتخابات اللاحقة، وتلقوا من الأردنيين عام 1988 ما يشبه الجائزة، ونعني بذلك قرار فك الارتباط السياسي والإداري مع الضفة الغربية، التي لم تعد منذ ذلك القرار السيادي محل أي نزاع على حصرية تمثيل منظمة التحرير لكل الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
وهكذا جاء عقد التسعينات كعقد اكتمال نصاب المشروعية الفلسطينية، وفض الالتباسات المتعلقة بالخيارات النهائية لشعب لم يعد مجرد فائض سكاني يغص به حلق الشرق الأوسط، ويفيض على حدود كياناته. فقد انتزع الفلسطينيون بكفاحهم الطويل وتضحياتهم الثمينة، بما في ذلك انتفاضة الحجارة، أثمن الاعترافات بهم على الإطلاق، ونعني بذلك اعتراف إسرائيل بأن على الرقعة الجغرافية الواقعة بين البحر والنهر، شعباً له خصوصية وطنية، يتطلع إلى إنهاء الاحتلال والظفر بالحرية والاستقلال، وهي حقيقة كيانية كبرى في طور التحقق والاكتمال، إن لم ينص عليها صراحة اتفاق إعلان المبادئ الموقع بين حكومة إسرائيل وبين منظمة التحرير بصفتها ممثل الشعب الفلسطيني، فإنها كانت حاضرة في مضمون ذلك الاتفاق الممهور بين طرفين معبرين عن خصوصيتين قوميتين منفصلتين، ومتحاربتين في الوقت ذاته.
وعليه، فإنه يمكن اعتبار الانتفاضة، التي حدثت بعد أن كادت السماء تنطبق على الأرض أمام الشعب الفلسطيني وقيادته السياسية، كفعل مقاومة مدنية جماعية شارك فيها أبناء الشعب الفلسطيني كافة، كل بحسب قدراته، فكانت بحق بمثابة إبداع فلسطيني مميز، لا سابق له أيضاً، لدى الشعوب المكافحة من أجل نيل حريتها واستقلالها، وهو ما أدى إلى نقل ساحة المواجهة الرئيسية إلى الداخل الفلسطيني، وإكساب النضال الوطني الفلسطيني مشروعية متزايدة، بعد أن ملأت مشاهد تكسير العظام وحجارة الأطفال، وصور المسيرات الشعبية السلمية، شاشات شبكات التلفزيون العالمية، وقاعات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وأعمدة الصحف، وضمائر قادة الرأي العام، الأمر الذي أعاد طرح السؤال الفلسطيني على مقدمة جدول الاهتمامات العربية الدولية، بل على الشارع السياسي الإسرائيلي، وقيادات الأحزاب وأركان الحكومة وأجهزة الأمن والمثقفين والصحافيين، وكل أولئك الإسرائيليين الذين لم يجدوا، في خطابهم الرسمي، الإجابات الشافية عن تلك الأسئلة الفلسطينية الملحة.
وعلى الرغم من كل ما اعتور مسيرة الانتفاضة المجيدة هذه من عيوب وإخفاقات، وخصوصاً في أعوامها الأخيرة، فإن إفرازات هذا الفعل الوطني الباهر أدت إلى خلق معادل موضوعي فلسطيني يوازن، إلى حد كبير، ذلك المعادل الذي أوجدته حرب العام 1973م لدى العرب الآخرين، الأمر الذي هيأ أرضية أصلب من ذي قبل، ومناخات أكثر مؤاتاة مما كان عليه الحال الفلسطيني في السابق، للتقدم بشجاعة سياسية أكبر نحو التعامل مع خيار البحث عن سلام عادل مع العدو المحتل، والإقدام بصورة أوضح من أي وقت مضى على دروب التفاوض، وسط شعور وطني عارم بالجدارة والاستحقاق والندية النسبية، وكل تلك المشاعر الإيجابية الأخرى التي خلقتها الانتفاضة، وعززها ذلك التعاطف الدولي الهائل، والتفاهم الذي لا حدود له، مع المطالب الوطنية الفلسطينية المشروعة، تلك المطالب التي كان يتقدمها مطلب الخلاص من الاحتلال، وتحقيق الحرية والاستقلال، أسوة ببقية الشعوب الأخرى على وجه الأرض.
وهكذا، فإن هذا المسار الوطني الطويل، الذي سار عليه الفلسطينيون لعقود مضنية من الكفاح والصمود والمقاومة، كان في أوائل عقد التسعينات قد استكمل تطوره البطيء، في صورة حركة وطنية ناضجة، تتسم بالواقعية والاعتدال، تنبذ التطرف والمزايدات، وترى الواقع الفلسطيني بكل صعوباته وآلامه وآماله، وتقرأ المتغيرات الإقليمية والدولية بكل حصافة، وتمتلك ذلك الشعور المتزايد بالجدارة، والوعي المشوب بالقلق، إزاء مضاعفات استمرار فرض الحصار والعزلة على الشعب الفلسطيني وقيادته الوطنية المعترف بها، وتستند فوق ذلك كله على الرافعة الكبرى من المكتسبات الصغيرة والمتفرقة التي راكمتها الانتفاضة، الأمر الذي أدى في واقع الأمر إلى ترشيد الخطاب السياسي الفلسطيني، وعقلنته إلى أبعد الحدود، بتخليصه من الخطابة والجملة الثورية، والشعارات الطنانة، وترجمته بكل مهارة إلى لغة مفهومة، ومفردات سياسية مقبولة، ليس لدى جانب من الرأي العام الدولي وحكوماته الديمقراطية فقط، بل أيضاً من جانب أوساط إسرائيلية واسعة، بدت أكثر استعداداً من ذي قبل للتعامل مع لغة هذا الخطاب المتسم بالواقعية، والإصغاء إلى مضمونه المتميز بالاعتدال.
وإذا كانت الرغبة الفلسطينية في التعامل مع خيار المفاوضات، والجلوس إلى طاولة الحوار، قد تم تجاهلها سنة 1974م، إبان انعقاد مؤتمر جنيف الدولي، تم فيه منع الفلسطينيين من الاشتراك في جلسته الوحيدة التي رعتها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق، فإن هذه الرغبة لم تكن قابلة للتجاهل أو التجاوز عندما تهيأت الفرصة، بعد أعوام طويلة، لانعقاد مؤتمر جديد لسلام الشرق الأوسط، في مدريد سنة 1991، إذ فرضت الحقيقة الفلسطينية نفسها على الداعين إلى هذا المؤتمر، وإن كان ذلك على نحو مجزوء ومنقوص، حيث تمت دعوة الفلسطينيين إلى المشاركة في أعمال ذلك المؤتمر، وفي المفاوضات الثنائية المنبثقة منه، في إطار وفد أردني – فلسطيني مشترك، إلا أنها أكدت، على الرغم من ذلك كله، أن العنصر الفلسطيني في معادلة صراع الشرق الأوسط بات حقيقة سياسية أكبر من أن يتم القفز عنها، أو تفويض أي طرف عربي تمثيلها أو التحدث بالنيابة عن أصحابها، وذلك على نحو ما كان عليه الوضع الفلسطيني خلال كل المبادرات الدبلوماسية التي شهدها هذا الصراع منذ ما بعد حرب 1967م.
ومن رحم كل هذه المتغيرات والتطورات والنتائج والتجليات انبثقت روح أوسلو، التي لم تخلق من فراغ، ولم تولد كنبت مقطوع الصلة بأرض الواقع المعاش. وتحقق اتفاق إعلان المبادئ المشترك كمحصلة منطقية لميزان قوى ذاتية، إقليمية ودولية، فرضت نفسها على الطرفين المشتبكين مباشرة في إطار صراع لم تؤد لغة القوة، ومفردات الحديد والنار، إلى حله على هذا النحو أو ذاك، لمصلحة هذا الطرف أو ذاك.
وهكذا أيضاً دارت مفاوضات قناة أوسلو السرية، كخيار ذاتي لكلا الطرفين، على العكس من مفاوضات مدريد وواشنطن، تلك المفاوضات التي كانت بمثابة نوع من الإملاء الدولي فرضه انهيار عالم الحرب الباردة، وبروز الولايات المتحدة كقطب وحيد ومركز أوحد، لا حد لنفوده على مختلف الدول والشعوب والقارات.
وكما سبق ذكره، فإن مفاوضات أوسلو لم تنبت من فراغ، ولم تكن مجرد فكرة سابحة في الفضاء، فقد كانت مكوناتها الأساسية قائمة على هيئة مادة أولية نصف مصنعة، سواء في نص خطاب الدعوة إلى مؤتمر مدريد، أو في رسالة التطمينات الأمريكية الموجهة إلى الجانب الفلسطيني (في إطار وفد مشترك مع الأردن)، وعلى ترسيم لبنية تفاوضية مكوّنة من عدة مراحل (أي إجراء المفاوضات على مرحلتين متعاقبتين ومتداخلتين)، وكذلك على جدول زمني خاص بكل مرحلة، تسفر كل منها عن أهداف معينة على وجه التحديد، وتقوم على أساس قرارات مجلس الأمن الدولي. فقد جاء في ذلك الخطاب: “بخصوص المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين الذين هم جزء من وفد أردني – فلسطيني مشترك، تجري المفاوضات على مراحل. تبدأ بالمحادثات عن ترتيبات الحكومة الذاتية الانتقالية، من أجل الوصول إلى اتفاقية خلال سنة واحدة. ولدى الاتفاق، فإن ترتيبات الحكومة الذاتية الانتقالية تستمر لمدة خمس سنوات. ومع بداية السنة الثالثة تبدأ المفاوضات على الوضع الدائم. سوف تجري مفاوضات الوضع الدائم هذه، والمفاوضات بين الدول العربية وإسرائيل، على أساس قراري مجلس الأمن رقم 242،338”.
أما رسالة التطمينات الأمريكية، فقد نصت على أنه “نظراً لأن القضايا ذات العلاقة معقدة كثيراً، والعواطف عميقة، فإن الولايات المتحدة كانت ترى منذ أمد طويل بأن فترة انتقالية ضرورية من أجل هدم جدران الشك وعدم الثقة، لوضع الأساس لمفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين، فإن المفاوضات سوف تجري على مراحل، ابتداء من المباحثات حول ترتيبات الحكومة الذاتية الانتقالية… وإن غرض المفاوضات على الترتيبات الانتقالية هو تنفيذ النقل السلمي للسلطة من إسرائيل إلى الفلسطينيين، الذين هم بحاجة إلى سيطرة سريعة على القرارات السياسية والاقتصادية وغيرها التي تؤثر في حياتهم …”.
على هدي كل ما تقدم، دارت مفاوضات أوسلو في إطار من السرية والتكتم، بينما كانت مفاوضات واشنطن تجري في العلن وتحت الأضواء. واستمرت هذه المفاوضات في إطار علاقة اختيارية إرادية، على العكس من مفاوضات واشنطن التي ساد الجبر والإملاء تشكيل وفودها وجدول أعمالها. حيث دارت مفاوضات أوسلو على أساس تفاوضي ابتكاري، قوامه إيجاد علاقة جديدة، وفحواه تغيير طبيعة العلاقات وتطوير فلسفة تستند إلى بناء نهج مشترك، قائم على إيجاد حل تعاوني، يعظم الأرباح والمنافع المشتركة لكلا الجانبين، بعيداً عن منهج المساومة، ويعمل على خلق الثقة المتبادلة، وإيجاد فرص الحل المناسبة والحلول الوسط، وابداء التفهم من كل طرف لحاجات الطرف الآخر.
لقد انطلقت مفاوضات أوسلو، واستمرت نحو تسعة أشهر كاملة لتثمر في نهاية المطاف اتفاقاً تاريخياً، احتفل به العالم كله يوم 13/9/1993م، برعاية الدولة العظمى الوحيدة، فكان بمثابة احتفال باذخ بعيد ميلاد الكيان الفلسطيني، وتكريسه كحقيقة مادية تملأ سمع العالم وبصره، وتطويبه كفاصلة كبرى بين حقبتين وزمنين مختلفين في الشرق الأوسط، وفرْضه كأحد أهم معطيات مرحلة جديدة أملت نفسها على حياة الفلسطينيين والإسرائيليين، وغيرت الرؤية والمفاهيم والخطط والإستراتيجيات لكل واحد من الطرفين إزاء الآخر، وانهت الوضع الشاذ في منطقة كانت فيها خمسة شعوب تتنازع داخل أربعة كيانات، إذ أرسى هذا الاتفاق حجارة الأساس لمعمار الكيان الخامس، كيان الشعب الفلسطيني الذي لم يعد، منذ ذلك اليوم، مجرد فائض سكاني في جغرافيا شرق المتوسط.
كذلك فقد كان اتفاق أوسلو بمثابة محصلة موضوعية لميزان قوى ذاتية، إقليمية ودولية، تقدم الفلسطينون عبره من عتبة التاريخ إلى حيّز الجغرافيا، وأوجد أفضل ظرف دولي مر به الفلسطينيون منذ سنة 1948م، وخلق حالة من التوازن النسبي، الذي كان مفقوداً بينهم وبين إسرائيل، وقلل من ذلك الخلل الهائل الذي حكم ميزان الصراع بينهم وبين المحتلين، وراكم فوق ذلك كثيراً من عوامل الندّية والتكافؤ بينهم وبين سائر الأطراف التي لم تعد تتصارع بشأن وجود الكيان الفلسطيني من عدمه، وإنما بشأن حدود هذا الكيان وزمن انبثاقه كدولة مستقلة، وذلك بعد أن تم إغلاق الباب نهائياً أمام أي دور عربي محتمل لحل القضية الفلسطينية بالنيابة عن أصحابها، الذين لم يعودوا قاصرين سياسياً أبداً، وإنما أصبحوا راشدين تماماً، بعد أن اكتملت دائرة الاعتراف الدولي بهم، وبقضيتهم الوطنية، وقيادتهم الشرعية.
وبعيداً عن المرافعة السياسية التي قد تطول عن اتفاق أوسلو، الذي تحقق فعلاً لأن الطرفين أراداه، ورغبا معاً في التوصل إليه، بلا إكراه، وبالحد الأدنى من وساطة طرف ثالث، هو النرويج، تلك الدولة الاسكندنافية التي أدت دورها بصمت وكرم وتواضع، وحققت لنفسها مكانة دولية متميزة على خريطة العلاقات الدولية، نقول بعيداً عن مثل هذه المرافعة، فإننا نجد أن هذا الاتفاق اتبع نهج تحقيق الهدف المرغوب فيه بالتدريج، على مراحل زمنية متعاقبة ومترابطة، ومحددة الآجال. وكان الهدف من التدرج والمرحلية، بحسب المفهوم الفلسطيني، يتمثل في إحداث اختراق، عبر هذا القناة التفاوضية.
وفي واقع الأمر، فإن مفاوضات قناة أوسلو عبرت المرحلة الأولى، التي كانت عبارة عن عملية اكتشاف واستطلاع وجس نبض، إلى المرحلة الثانية التي هي مرحلة إقامة قناة اتصال معتمدة، وتأسيس بنية تفاوضية مؤهلة لإجراء بحث معمق في مختلف جوانب الصراع، ومنها إلى المرحلة الثالثة، وهي مرحلة التكوين الجنيني لاتفاق محتمل، يخلق قوة دفع قادرة على الانطلاق بهذه المفاوضات إلى آفاق أوسع، لننتهي إلى المرحلة الرابعة، التي تم فيها إضفاء الصفة الشرعية على القناة التفاوضية، واكسابها الصبغة الرسمية من جانب الحكومة الإسرائيلية، وخصوصاً أن مفاوضات هذه القناة السرية بدأت على نحو تجريبي، بعناوين أكاديمية وآفاق غير واضحة، الأمر الذي يعني أن إسرائيل في تلك المرحلة اعترفت، على نحو واقعي، بمنظمة التحرير الفلسطينية، وأقرت بمبدأ إجراء مفاوضات رسمية مع المؤسسة الفلسطينية التمثيلية الجامعة، والمعترف بها على أوسع نطاق دولي، كقائد لكفاح الشعب الفلسطيني، ومعبّر عن آماله الوطنية.
وبعد أن تم الاعتراف الإسرائيلي بمنظمة التحرير الفلسطينية، خلال مرحلة مبكرة من مفاوضات أوسلو، تم انتزاع الاعتراف الرسمي الإسرائيلي بالمنظمة، عشية التوصل إلى اتفاق إعلان المبادئ، وذلك من خلال رسائل الاعتراف المتبادل بين رئيس منظمة التحرير ورئيس الحكومة الإسرائيلية، إذ تم دمج هذه الرسائل في إطار اتفاق المبادئ، واعتبرت جزءاً من الاتفاق، وهو ما شكل ترقية سياسية في مكانة منظمة التحرير، ومن ثم السلطة الوطنية الفلسطينية، سواء أكان ذلك على الصعيد الإقليمي أم على الصيعد الدولي، وخصوصاً على صعيد العلاقة الفلسطينية – الأمريكية، التي دخلت في الأعوام القليلة اللاحقة على توقيع اتفاق أوسلو، طوراً لم يرتق إليه كثير من علاقات الدول الأخرى، الأكثر قِدماً واستقراراً وشرعية، بالدولة العظمى الممسكة بمقاليد القوة والنفوذ في العالم كله.
وهكذا فقد كان اتفاق أوسلو، بوصفه نقطة التحول الأكبر في مسار التطورات الكيانية الفلسطينية، عبارة عن إطار سياسي مفصل إلى أبعد الحدود، يخص تطبيقات المرحلة الانتقالية، المقرر وضعها موضع التطبيق العملي، في نطاق من الخطوات المتتابعة والمتصلة بمختلف الشؤون الفلسطينية، تؤسس وفق جدول زمني محدد سلفاً، لمرحلة تالية، ومتداخلة على نحو مترابط، تم تعريفها بوضوح كامل، وتحديد بنود وموضوعات جدول أعمالها من دون لبس، ناهيك عن تحديد آجال البداية والنهاية لكل مرحلة بعينها، الأمر الذي جعل من هذا الاتفاق خطة عمل مفصلة وملزمة، لا للطرفين الذين وقعاه فحسب، بل أيضاً للدولة العظمى التي احتضنته، ووقعته كشاهد وضامن لحسن تنفيذه.
وبمعيار ما، فإنه يمكن اعتبار خطة العمل التي انطوى عليها اتفاق أوسلو على أنها خطة استراتيجية، تم تبنيها كإطار عام منظم للسلوك التفاوضي، وموجه له، ومحدد لاتجاهاته الأساسية، ولا سيما لجهة الأهداف بعيدة المدى. فبمعيار ميزان القوى يُعتبر الاتفاق وما انطوى عليه بمثابة استراتيجية دفاعية، وبمعيار النتائج المتحققة يُعد استراتيجية هجومية، وبمعيار المراحل المترابطة، والإجراءات التنفيذية المتعاقبة والمتداخلة معاً، فإنه يمكن النظر إليه على أنه تجسيد لاستراتيجية الخطوة خطوة، أي استراتيجية التدرج من الخطوة الأسهل إلى الخطوة الأصعب ثم الأكثر صعوبة، أي على العكس من استراتيجيا الصفقة الواحدة، التي إما أن تحقق من خلالها كل شيء، وإما لا تحقق شيئاً على الإطلاق.
وبجملة أخيرة، فقد تحولت تلك النويات الكيانية الفلسطينية المبكرة، التي انبثقت في ديار الشتات، وسط شعور بالرغبة الجارفة في القيام بدور وطني خاص إزاء قضية كانت في حينه قضية عربية بامتياز، إلى حقيقة سياسية من حقائق الشرق الأوسط، وذلك بفعل المقاومة المسلحة، والمكاسب الجزئية المتراكمة على مدى زمني طويل، إلى أن امتلك الفلسطينيون تدريجياً، هويتهم الذاتية، وحضورهم الكامل، وأرسوا عبر كفاح متعدد الأشكال، رأسَ جسرٍ عريضاً عبر النهر، لإقامة كيان وطني لا يزال في طور السيرورة التاريخية، وبناء على تمثيل على أسس ديمقراطية فوق أول أرض فلسطينية متاحة، وفق ما تنطق به سائر التعبيرات القائمة مع واقع سياسي معقد، يواصل غذّ خطاه على الطريق المفضي إلى قيام دولة مستقلة.
[*] باحث مقيم في عمّان.