أ-د/ إبراهيم أبراش[*]

 صراعنا مع الحركة الصهيونية من أكثر الصراعات تعقيدا، حيث يتداخل فيه الماضي مع الحاضر، الديني مع الدنيوي، المصالح مع المبادئ، وتتداخل فيها شريعة القوة والعدوان مع شرعية القانون والحق. في هذا السياق جاء وعد بلفور في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1917 ليجسد كل هذه المتناقضات حيث وعدت دولة احتلال– بريطانيا–حركة سياسية أجنبية– الحركة الصهيونية- وعدا بأن تُقيم لليهود وطنا قوميا في فلسطين، في تجاهل تام للحقائق التاريخية والدينية والواقع القائم الذي يؤكد أن فلسطين يقطنها شعب فلسطين واليهود مجرد أقلية دينية كما هو حالهم في كل بقاع الأرض.[1]

لا يمكن فصل هذا الوعد عن الأحداث الكبرى التي شهدها العالم في الربع الأول من القرن العشرين، وخصوصا الحرب العالمية الأولى وحساباتها وتوازناتها والاتفاقات التي تمت خلالها. الترابط موجود ما بين وعد بلفور واتفاقية سايكس–بيكو، وغير بعيد عن تفاهمات حسين-مكماهون، وبعده فيصل– وايزمان، ووعد بلفور حاضر في صك الانتداب، وكلها أمور مرتبطة بانهيار الإمبراطورية العثمانية. كل ذلك يتطلب قراءة جديدة في التاريخ والذاكرة لتفنيد الرواية الصهيونية، وتأكيد الرواية الفلسطينية حول حقيقة وعد بلفور وكيف يمكن مواجهة تداعياته.

بعد مرور 89 سنة على ذكرى وعد بلفور يحتاج الأمر لتجديد قراءته حيث تعودنا في كل ذكرى لهذا الوعد أن نصب جام غضبنا على بريطانيا واللورد بلفور، واعتبرنا واسترحنا إلى تفسير بأن دولة إسرائيل قامت بسبب هذا الوعد، متجاهلين أسباب الوعد، والظروف والملابسات التاريخية في النصف الأول من القرن العشرين، والأهم من ذلك دور العامل أو الشرط اليهودي الذاتي في قيام دولة إسرائيل والتقصير الرسمي العربي والإسلامي في مواجهته.

المحور الأول:-

فلسطين والفلسطينيون ما قبل وعد بلفور

حتى الحرب العالمية الأولى كانت فلسطين من ناحية إدارية جزءاً من سوريا الطبيعية[2] ولم تعرف لها كياناً سياسياً مستقلاً، ولم تتشكل في وحدة إدارية واحدة، حيث تداخلت تقسيماتها الإدارية في العهد العثماني مع تقسيمات بقية أجزاء سوريا الطبيعية، وعليه لم يكن حتى الحرب العالمية الأولى مجال للحديث عن دولة فلسطينية خالصة مستقلة ومتميزة عن محيطها الطبيعي الإسلامي والعربي والسوري.

ليس مجال بحثنا الحفر في تاريخ فلسطين القديم بل تصحيح مغالطات أراد الصهاينة أن يفرضوها كحقائق وعلى رأسها نفي وجود شعب فلسطيني وأن فلسطين هي إسرائيل، بالرغم من أن وعد بلفور نفسه يقول بمنح اليهود وطنا قوميا في فلسطين وليس في إسرائيل، كما أن عصبة الأمم أسندت لبريطانيا مهمة الانتداب على فلسطين وشعبها وليس على إسرائيل.

تاريخ فلسطين القديم يضرب بجذوره لآلاف السنين، حيث يعود لما قبل الكنعانيين، وقد ذكرت التوراة أنه عندما قَدِم العبرانيون لفلسطين وجدوا فيها الشعب الفلسطيني، وكما يقال المثل الشعبي (من لسانهم ندينهم) وهذه مقتطفات من كتبهم المقدسة لا نزيد أو ننقص منها.

ففي الكتاب المنسوب إلى نبيهم يشوع بن نون (يشوع) جاء: “وقد بقيت أرض كثيرة– لم يدخلها اليهود– وهي: كل دائرة الفلسطينيين وكل أرض الجاشوريين –أمام مصر– وأقطاب الفلسطينيين الخمسة –وهم: الغزي والأشدودي والأشقلوني والجتي والعقروني…”. وفي عصر (القضاة) الموالي لعصر يوشع جاء في سفر القضاة (10:7): “فحمى غضب الرب على بني إسرائيل– وباعهم بيد الفلسطينيين فحطموا إسرائيل ثماني عشرة سنة –في جميع أرض بني إسرائيل” وفي سفر القضاة (1:13) جاء: “ثم عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب – فدفعهم الرب إلى يد الفلسطينيين أربعين سنة”.

في العصر التالي – عصر النبي (صموئيل) جاء في الكتاب المنسوب إلى هذا النبي: (صموئيل الأول 1:4): “وخرج جيش بني إسرائيل للقاء الفلسطينيين– فانكسر (انهزم) بنو إسرائيل أمام الفلسطينيين} وتكررت الهزيمة”. وفي عهد الملك (طالوت) واسمه في كتابهم (شاول) جاء في (صموئيل الأول 5:13): “واجتمع الفلسطينيون لمحاربة بني إسرائيل أيام شاول الملك: ثلاثون ألف مركبة حربية وستة آلاف فارس وشعب (جيش) عدده كالرمل الذي على شاطئ البحر.. فاختبأ اليهود في المغارات والغيامن والآبار.. وكل شعب اليهود ارتعب من الفلسطينيين”.

في عهد داود جاء في سفر (صموئيل الأول 12:27) أن داود يهرب للمرة الثانية ويختبئ هو ورجاله عند ملك الفلسطينيين الذي أكرمهم، وظلوا عنده سبعة أشهر، وفي كتاب (صموئيل الثاني) جاء أنه بعد أن صار (داود) ملكا على اليهود، قام باسترداد والديه وزوجاته وأولاده من عند ملك الفلسطينيين الذي أكرمهم جدا. وفي عهد سليمان وفي كتاب (الملوك الأول 24:4) جاء أن حدود مملكة اليهود تنتهي عند حدود مدينة غزة التي لم تدخل أبدا ضمن مملكة اليهود. وظلت بعد ذلك ملكا للفلسطينيين. وفي كتاب (أخبار الأيام الثاني 11:17) صار ملوك الفلسطينيين أصدقاء لملوك بني إسرائيل (الذين ملكوا بعد موت سليمان).

كل ذلك يؤكد أنه قبل أن يعبر بنو إسرائيل إلى فلسطين كانت فلسطين عامرة بأهلها، واستمرت هكذا إلى يومنا هذا، وفي ظني أن الروايات التي تقول بأن شعب فلسطين جاء من بحر إيجة وسكن السواحل الجنوبية لفلسطين عارية عن الصحة، وهي روايات لمستشرقين يهود يريدون الزعم أن الفلسطينيين ليسوا أهل البلاد الأصليين.

ما هو أقرب للصحة أن كلمة (فلسطينيون) جاءت من كلمة فلسط أو فلست، والفلسط هم اسم إله وجد في الألف الثاني قبل الميلاد أو قبل ذلك، وكان موطنه الأصلي عقرون في فلسطين الحالية[3] وكانت الأرض التي تسمى اليوم بفلسطين مسكونة بشعبين، شعب (الفلسط في الجنوب وشعب (التكر) في الشمال، وما يؤكد هذا القول هو وجود نص فرعوني يعود للسنة الثانية عشرة من عهد رمسيس أحد فراعنة مصر القديمة، وجاء في هذا النص: (إنه هزم التكر وأرض الفلسطينيين)، ويذكر نص فرعوني قديم ما يفيد بأن الفلسطينيين كانوا شعباً متحضرا يسكن المدن، وجاء في النص الذي يصف الحال قبيل دخول الحرب مع الفلسطينيين بأن (الفلسط كانوا قلقين يختبئون في مدنهم)[4].

إذن الشعب الفلسطيني شعب عريق ومن أقدم شعوب المنطقة، إلا أنه بفعل الحروب والهجرات، مرت على أرض فلسطين أقوام متعددة بعضها اختلط بشعب الفلسط الأصلي وأصبح جزءا منه وآخرون كانوا مجرد محتلين أو فاتحين، عمروا لفترات قد تطول أو تقصر: الرومانيون والصليبيون والأتراك والإنجليز، ولكنهم في النهاية تركوا البلاد لأهلها، كما أقامت في فلسطين أقوام متعددة وفدت لها بسبب الحج للأماكن المقدسة أو للتجارة والعلم، أو من بقايا الجيوش التي حاربت فيها، ويعتبر الاحتلال العبراني آخر موجات الاستعمار لأرض فلسطين.

مع اقتراب القرن التاسع عشر من نهايته بدأت تتضح معالم المخطط الصهيوني الاستعماري لإقامة وطن لليهود في فلسطين كحل لما سُمي بالمسألة اليهودية، وليشكل قاعدة للاستعمار تخدم أهدافه في المنطقة العربية، وكان نجاح هذا المخطط يعتمد اعتماداً كلياً على قدرة أصحابه على جلب اليهود من بقاع المعمورة لإسكانهم في فلسطين، ومن هنا بدأت تتدفق أفواج المهاجرين اليهود مشبعين بالعقيدة الصهيونية والتطرف الديني، وكانوا لا ينظرون لدخولهم إلى فلسطين على أنه مجرد زيارة للأراضي المقدسة أو مهرب من الاضطهاد المسلط عليهم في أوروبا، بل اعتبروا دخولهم فلسطين عودة إلى “أرض الميعاد”، العودة التي وعدهم فيها “ربهم” وتعاملوا مع السكان الفلسطينيين أصحاب الأرض على أنهم محتلون لا حق لهم في فلسطين، وعليه اتسمت العلاقة بين الطرفين منذ البداية بالتوتر والتشاحن، وشعر الفلسطينيون بأن هؤلاء الدخلاء يشكلون تهديداً عليهم، وعلى استقرارهم ومعيشتهم فارتفعت النداءات الفلسطينية تندد بهذا الخطر الداهم وتحذر أولي الأمر من السكوت على المشروع الصهيوني الاستيطاني.

حتى بداية الربع الأخير من القرن التاسع عشر حيث بدأت الهجرات اليهودية بالتدفق على فلسطين، لم تكن هناك حركة قومية عربية، بل لم تكن هناك دول عربية مستقلة يتوجه إليها الفلسطينيون لطلب العون، لذا فقد اتجه الفلسطينيون إلى الإمبراطورية العثمانية التي كانت فلسطين جزءاً منها. ففي 24/6/1891 أرسل عدد من زعماء القدس رسالة إلى الصدر الأعظم في الآستانة يطالبون فيها بمنع اليهود من دخول فلسطين وتحريم شرائهم الأرض فيها، وقد أصدر الباب العالي قراراً في عام 1901 يمنع بمقتضاه أي يهودي من دخول السلطنة إلا إذا كان سيغادر بعد ثلاثة شهور، إلا أن القرار لم يطبق بفعل تدخلات خارجية، كما أن السلطان عبد الحميد رفض الخضوع للإغراءات التي عرضها عليه الصهاينة من أجل أن يبيعهم فلسطين أو يسهل عليهم الهجرة والإقامة فيها.

بعد وصول جماعة الاتحاد والترقي إلى الحكم في الإمبراطورية العثمانية، ونظراً للعلاقة الجيدة التي كانت تربطهم بالحركة الصهيونية، والتأثير الذي كانت تمارسه الحركة الماسونية عليهم، تزايد النشاط الصهيوني في فلسطين، الأمر الذي أدى بالفلسطينيين إلى أن يرفعوا شكواهم إلى مجلس “المبعوثان” العثماني، حيث تساءل حافظ بك السعيد نائب يافا في المجلس، في يونيو 1909، عما إذا كانت الحركة الصهيونية ومشاريعها الاستيطانية متوافقة مع مصلحة الإمبراطورية العثمانية وطالب النائب بأن تتخذ الحكومة الإجراءات الكفيلة بالحد من الهجرة اليهودية، وأن تغلق ميناء حيفا في وجه المهاجرين.

لم تجد المناشدة الفلسطينية بدرء الخطر الصهيوني أي تجاوب من الحكومة العثمانية أو من الرأي العام العربي الذي كان مشغولاً آنذاك بظهور حركة جنينية لفكرة القومية العربية والاستقلال العربي، وكانت الاهتمامات منقسمة ما بين الحركات القومية وأبرزها حزب العربية الفتاه وحزب العهد وكان نشاطها محدودا وتطالب بالانفصال عن الإمبراطورية وإقامة حكومة عربية، وبين دعاة اللامركزية الذين كانوا يطالبون بإعطاء العرب حكماً لا مركزياً في ظل الإمبراطورية العثمانية، وحيث إن هذا التيار الأخير كان نشاطه علنياً وكان على علاقة بالسلطة العثمانية، فقد اتجه إليه الفلسطينيون عسى أن يتفهم قضيتهم ويوصلها إلى المعنيين بالأمر في الآستانة. بنى الفلسطينيون آمالاُ عريضة على انعقاد المؤتمر العربي الأول في باريس في حزيران (يونيو) 1913، الذي دعا إليه دعاة اللامركزية، واعتقد الفلسطينيون أن المؤتمرين سيولون القضية الفلسطينية الاهتمام الذي تستحقه إلا أن المؤتمر تجاهل الفلسطينيين ولم يتطرق للخطر الصهيوني، الأمر الذي أثار استنكارا فلسطينياً عكسته الصحف الفلسطينية وأهمها صحيفة الكرمل التي كان يصدرها نجيب نصار، حيث تساءلت الصحيفة “هل جرى الاتفاق على الرضا بمناهضة كل حركة حياتية تظهر منا وترك أبناء الصهيونية يحيون قوميتهم بموت قوميتنا؟. هل جرى الاتفاق على أن نبيعهم وطننا قطعة ليرحلونا عنه فرادي وجماعات؟” وأوضحت الصحيفة بأن الدفاع عن عروبة فلسطين واجب قومي فهو دفاع عن الأمة العربية وأن المصلحة القومية تتطلب إيلاء اهتمام للمسألة الفلسطينية[5].

أدى تفاقم الخطر الصهيوني الذي أصبح الهم اليومي للفلسطينيين والموقف السلبي للسلطات العثمانية وللرأي العام العربي المغيب، عن مجريات الأحداث، تجاه الخطر الصهيوني والهجرة اليهودية، إلى الحاجة لأن يتلمس الفلسطينيون حلولا ذاتية لقضيتهم، ومن هنا بدأت الدعوة للتأكيد على الخصوصية الفلسطينية، والدعوة إلى وجود شكل ما لحركة وطنية فلسطينية تدافع عن مصالح الفلسطينيين ضد الخطر الصهيوني، فكتب نجيب نصار يحض الفلسطينيين في جريدته الكرمل إلى “أن تجتمع كلمتهم بتأليف جمعية وطنية لا صهيونية تحفظ البلاد لأهلها لترقية شؤونهم الزراعية والاقتصادية والعلمية وإيجاد الألفة الاجتماعية فيما بينهم”[6].

 المحور الثاني:-

ملابسات ظهور وعد بلفور واتفاقات الحرب العالمية الأولى

بلفور ليس الوحيد الذي وعد اليهود

لم تقم إسرائيل بوعد بلفور فقط بالرغم من خطورته في مسار الصراع مع الحركة الصهيونية السابقة في وجودها على صدور الوعد، الأمر الذي يتطلب قراءة مغايرة لوعد بلفور ودوره في قيام الكيان الصهيوني، بعيدا عن الشعارات والتفسيرات المريحة للذات لكونها تُبعِد المسؤولية الذاتية –الفلسطينية والعربية والإسلامية- عما حل بنا خلال قرن من الزمن تقريبا.

هناك وعود سابقة ووعود لاحقة لوعد بلفور ومع ذلك فليست هذه الوعود هي التي أقامت دولة إسرائيل. لقد قامت دولة إسرائيل نتيجة التقاء مصالح حركة صهيونية توراتية صاعدة تؤمن بفكرة الوطن اليهودي في فلسطين مع مصالح استعمارية طامعة في المنطقة العربية، وقامت دولة إسرائيل وتوسعت نتيجة تخطيط وجهد يهودي صهيوني لا يكل مقابل تخاذل رسمي عربي إن لم يكن تواطؤاً.

لا شك أن بريطانيا الانتدابية عملت كل ما من شأنه تطبيق وعد بلفور ولكن عدم جدية الأنظمة والحركات العربية والإسلامية المتواجدة آنذاك بل وتخاذل بعضها سهل المأمورية على بريطانيا وعلى الحركة الصهيونية للهيمنة على فلسطين، كما أن استمرار التخاذل العربي بعد صدور الوعد وأثناء حرب 1948 وما بعدها جعل دولة إسرائيل على ما هي عليه اليوم.

وعد آرثر بلفور لم يكن الوعد الوحيد الذي منح بمقتضاه من لا يملك لمن لا يستحق، فقد سبق وعد بلفور وتلاه وعود كثيرة. فإن تجاوزنا خرافة وعد (الرب) لليهود بأن يمنحهم فلسطين، هناك وعد نابليون بونابرت لليهود بأن يقيم لهم دولتهم الموعودة في فلسطين إن ساعدوه في حملته العسكرية وكان آنذاك يستعد لتوجيه حملة عسكرية للشرق 1798، وفي عام 1907 وفي مسعى محموم من بريطانيا الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس لتثبيت نفوذها العالمي صدر تقرير كامبل بنرمان وهو رئيس وزراء بريطانيا آنذاك، حيث أوصى بتقسيم العالم العربي إلى مشرق ومغرب وإسكان اليهود في الجسر الرابط بينهما، هذا التقرير جاء بعد عشرة أعوام من المؤتمر الصهيوني الأول في بال بسويسرا وقبل عشرة أعوام من وعد بلفور.

عوامل واتفاقات متعددة تزامنت مع صدور وعد بلفور في تشرين الثاني (نوفمبر) 1917 وصيرورته دولة بالفعل بعد خمسين عاما، وكلها ذات علاقة بتفاهمات واتفاقات الحرب العالمية الأولى، وفي هذا السياق وبداية ما كانت تقوم دولة إسرائيل آنذاك لو انهزمت بريطانيا في مواجهة الإمبراطوريتين العثمانية والألمانية، أيضا ما كانت تكون دولة إسرائيل لو كانت نتائج الحرب العالمية الثانية معاكسة.

متطلبات الحرب كانت تبدو سببا وجيها لصدور وعد وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور لليهود بمنحهم وطناً قومياً في فلسطين نتيجة التقاء المصالح بين الحركة الاستعمارية المتطلعة للهيمنة على المنطقة والحركة الصهيونية المتطلعة لتأسيس وطن في فلسطين كما طالب المؤتمر الصهيوني الأول في بال عام 1897، بالإضافة إلى رغبة بريطانيا بمكافأة اليهود على دعمهم لها في الحرب بشراء سندات خزينة بملايين الجنيهات والمشاركة اليهودية بمجهودات الحرب عملياً بالإضافة إلى الأسباب الدينية الكامنة وراء صدور الوعد. وقد عمل وعد بلفور على منح شرعية للهجرة اليهودية إلى فلسطين وفتح المجال أمام اليهود لمباشرة سياسة السطو على الأرض الفلسطينية تحت ذرائع شتى، إلا أن وعد بلفور كان جزءا من مرحلة حفلت بالتفاهمات والاتفاقات السرية والعلنية جعلت الوعد يتحول لواقع لاحقا وهو قيام دولة إسرائيل.

نعتقد أن وعد بلفور الذي أسس لدولة إسرائيل لم يكن الوعد الذي أصدره أرثر بلفور في الثاني من نوفمبر 1917 بل حزمة من الاتفاقات والتفاهمات المرتبطة بهذا الوعد:

  • لا يمكن أن نفصل وعد بلفور عام 1917 عن اتفاقية سايكس-بيكو 1916 وهي الاتفاقية التي قسمت المناطق العربية التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية بين فرنسا وبريطانيا وأوجدت للعرب كيانات سياسية شغلتهم عن مواجهة الخطر الصهيوني، وقد صور ساطع الحصري ما آلت إليه الأوضاع العربية بعد سايكس-بيكو بقوله “فهذا فلسطيني يعتبر الصهيونية أول ما يجب أن يهتم به من مشاكل، وذلك سوري يرى في أطماع فرنسا أكبر الأطماع والأخطار التي تهدد قضيته، وذاك عراقي يقول بوجوب الثورة ضد الإنكليز أولاً”.
  • لم يكن التخاذل والتواطؤ من الأوروبيين فقط بل كان للعرب دور في فشلهم من الاستفادة من نتائج الحرب العالمية الأولى ومسؤولية عن صدور وعد بلفور. فخلال عام 1915 وما بعده جرت محادثات أو تفاهمات بين والي مكة آنذاك وقائد الثورة العربية على الأتراك الشريف حسين من جانب والبريطاني مكماهون في العام نفسه. ففي الفترة الأولى من قيام الثورة أوضح الشريف حسين مطالب الحركة القومية العربية في رسالة بعثها إلى هنري مكماهون. ونظراً لسياسة بريطانيا المتسمة بالمماطلة والغموض والمعادية لطموحات العرب، فقد رد مكماهون على مطالب الشريف حسين لبريطانيا بالتعهد باستقلال العرب باستثناء بعض المناطق، وهي التي حددت في رسالة مكماهون بأنها أجزاء من بلاد الشام، الواقعة في الجهة الغربية لولايات دمشق الشام حمص وحماة وحلب، وكان تفسير بريطانيا لذلك، أنه لا يمكن أن يقال إن هذه المناطق عربية تماماً[7].

أثار الغموض الذي صاحب موافقة حسين على هذا الاستثناء كثيراً من الالتباس حول مدى جدية قادة الحركة القومية العربية في التمسك بعروبة فلسطين، وخصوصاً أن الحركة الصهيونية وبريطانيا فسرتا الاستثناء المشار إليه في مراسلات حسين- مكماهون بأنه موافقة ضمنية من العرب على استثناء فلسطين من المناطق المطالب باستقلالها، واعتبروا أن فلسطين تقع ضمن المناطق الواقعة غرب دمشق وحمص وحماة. في تصريح لتشرشل في 11/7/1922 -كان آنذاك وزيراً للمستعمرات – أكد أن فلسطين كانت مستثناة من تعهدات الحكومة البريطانية للعرب بالاستقلال. وادعى بأن فيصل بن الشريف حسين كان قد اتفق أثناء مباحثاته مع البريطانيين عام 1921 على ذلك. أثيرت المسألة من جديد مع تدهور الأوضاع في فلسطين، والصدامات التي وقعت في عام 1929 –انتفاضة البراق– بين شعب فلسطين والحركة الصهيونية، ففي التاسع من كانون الأول (ديسمبر) 1929، وأثناء بحث المسألة الفلسطينية في لندن، أعلن شليز وكيل وزارة المستعمرات أن فلسطين لم تكن مشمولة بالوعد الذي قطعته بريطانيا للشريف حسين.

  • ما عزز من الرأي الذي يتهم الشريف حسين بالتقصير تجاه شعب فلسطين موقف ابنه فيصل، ففي أثناء وجود فيصل في باريس 1919 اجتمع في كانون الثاني (يناير) من العام نفسه مع الصهيوني وايزمان، بوساطة بريطانيا، وحسبما هو ثابت في محاضر اللقاء تعهد فيصل بتوثيق التعاون مع الحركة الصهيونية وفتح باب الهجرة أمام اليهود، واعترافه بوعد بلفور. وقد حاول فيصل تبرير موقفه هذا بالحالة النفسية التي كان يعيشها وحيداً محاصراً في أوروبا، وبالضغوط التي مارستها عليه بريطانيا، وخداع لورنس له!.

4-   الانتداب البريطاني: إعلان بريطانيا وفرنسا كدولتين منتدبتين على الأقاليم التي تحتلانها حيث أعلن مجلس السلام الأعلى في نيسان (أبريل) عام 1920 هذا القرار دون الرجوع إلى رغبات وأماني الشعوب. وعلى أثر ذلك قامت بريطانيا بممارسة صلاحيتها على فلسطين، وقد ذكر هربرت صموئيل المندوب السامي الذي نصبته بريطانيا في فلسطين أوائل تموز (يوليو) 1920 أن مهمته هي “اتخاذ التدابير لضمان إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين بالتدريج”.

5 – العامل الذاتي لليهود في نجاح وعد بلفور: صحيح أن وعد بلفور شجع اليهود على الهجرة إلى فلسطين وخصوصا أن بريطانيا التي وعدت اليهود احتلت فلسطين، وكلفت عصبة الأمم المتحدة بريطانيا بالانتداب على فلسطين، وصحيح أن وضع العرب خلال الربع الأول من القرن العشرين لم يكن من القوة بحيث يقف في وجه الهجرة اليهودية والمخططات الاستعمارية بل كان متواطئا أحيانا، ولكن صحيح أيضا أن اليهود لم يركنوا فقط إلى وعد بلفور بل بذلوا جهودا ذاتية كبيرة ليحققوا حلمهم بقيام دولة إسرائيل، فالاستيطان بدأ في فلسطين قبل وعد بلفور، ومنذ العشرينات نظم اليهود أنفسهم وأقاموا مؤسسات مثل المنظمة العمالية اليهودية (الهستدروت) وأقاموا جامعة خاصة بهم عام 1925، ونظموا أنفسهم في حركات سياسية مقاتلة نسميها نحن بالعصابات الصهيونية كمنظمة (شتيرن) و(الهاجاناة) و(البلماخ)، وقاموا بعمليات إرهابية ضد العرب وحتى ضد الجيش البريطاني، وبعض قادتهم صدرت بحقهم أحكام بالإعدام من البريطانيين، وخلال حرب 1948 دفع اليهود للحرب عددا من المقاتلين أكثر من مجموع الجيوش العربية السبعة التي ذهبت للقتال في فلسطين ومارسوا عمليات قتل وترويع وإرهاب بحق سكان البلاد الأصليين، وبعد الحرب وقيام دولة إسرائيل لم يُرهن الإسرائيليون أنفسهم بدولة أجنبية بعينها بل أسسوا جيشا قويا وامتلكوا السلاح النووي وخاضوا عدة حروب عدوانية على الفلسطينيين والدول العربية الخ.

 المحور الثالث:-

الشعب الفلسطيني في مواجهة وعد بلفور

صدور وعد بلفور المُهدِد للشعب الفلسطيني ولفلسطين دون بقية الأراضي العربية  كان من أهم عوامل انبثاق حالة وطنية فلسطينية أو ظهور الشعب الفلسطيني الحديث، فالنقيض لوجود فلسطين أرضا وشعباً دفع الفلسطينيين لمواجهة هذا الخطر الداهم على وجودهم الوطني، حيث بدأوا يتلمسون خصوصية وضعهم مع بداية الأطماع الصهيونية الهادفة لاقتلاعهم من أرضهم ونفي هويتهم الوطنية. وهكذا وجد الفلسطينيون أنفسهم منذ بداية القرن العشرين في وضع لا يحسدون عليه، حيث عملت التحالفات والمساومات الدولية لغير مصلحتهم. فقد شهدت بداية هذا القرن تبلور الحركة الصهيونية ووضوح أهدافها وانتقالها من مرحلة الفكر وتحديد الأهداف إلى مرحلة التنفيذ والفعل، هذا الجهد الصهيوني ترافق مع تكثيف المخططات الاستعمارية للهيمنة على المنطقة العربية.

مع انكشاف حقيقة المؤامرة على فلسطين، أخذ الفلسطينيون يتلمسون طريقهم الخاصة في النضال، وليخوضوا مسيرة العمل الوطني بما يكتنفها من غموض وصعوبة، نظراً لجسامة الأخطار المحدقة بفلسطين، وكانت أهم صعوبة واجهت الحركة الوطنية الفلسطينية في بداية مسيرتها تتجسد في قوة الخصم الواقف في مواجهتها والمتمثل في التحالف الصهيوني الاستعماري، وكان هذا أكبر من طاقتها على المواجهة، مما دفعها إلى محاولة الفصل في هذه المرحلة ما بين الصهيونية وبين سلطات الانتداب البريطاني، وانتهاجها لسياسة مهادنة مع بريطانيا واعتبار الحركة الصهيونية هي الخطر الأساسي، وقد استغلت السلطات البريطانية هذه السياسة المهادنة تجاهها ونصبت نفسها حكما في الصراع الدائر على أرض فلسطين. وهذا ما تجسد في تشجيعها على بلورة نشاط سياسي فلسطيني أخذ اسم “الجمعيات الإسلامية–المسيحية”.

ابتداء من آذار (مارس) عام 1918 بدا تشكيل جمعيات إسلامية – مسيحية في كل مدن وقرى فلسطين، وأخذت على عاتقها قيادة العمل السياسي في البلاد، وتوجيه الجماهير إلى أنجح الطرق والوسائل الكفيلة بمواجهة المشاكل التي تواجهها البلاد. وفي بداية تشكلها كانت تحمل اسم (المؤسسات العربية) ولكن البريطانيين اقترحوا تسميتها بالجمعيات الإسلامية – المسيحية، ولم يخف مؤسسو هذه الجمعيات دور بريطانيا في ظهور هذه الجمعيات وتشجيعها لهم، فقد ذكر أحد هؤلاء –حمدي الحسيني بأن “…. مجموعة من قادة البلاد قابلوا الحاكم العسكري البريطاني لفلسطين عام 1918 وأعربوا عن مخاوفهم من نتائج وعد بلفور. وقد طلب منهم الحاكم العسكري البريطاني أن يسلكوا نفس مسلك اليهود حين طالب هؤلاء بالوطن القومي، وفعلا خرج قادة البلاد ليشكلوا “الجمعيات الإسلامية – المسيحية” في كل مدينة وقرية، لمطالبة الحكومة البريطانية من خلال تلك الجمعيات وكنصيحة الحاكم العسكري بإلغاء وعد بلفور”.

لم يكن تشجيع السلطات البريطانية، على خلق نواة حركة سياسية في فلسطين، حرصاً منها على شعب فلسطين وتفهماً لعدالة قضيته ورغبة صادقة في خلق معارضة عربية تقف في وجه المخططات الصهيونية في فلسطين. ولكن الهدف الأساسي من وراء ذلك كان إبعاد الشعب الفلسطيني عن محيطه العربي وحرف تطلعاته الوحدوية القومية، من خلال خلق مجالات للعمل السياسي الإقليمي مسيطر عليها وموجهة من قبل بريطانيا. وبذلك تضع إسفينا بين شعب فلسطين وبين حركة الوحدة العربية التي كانت آنذاك تطالب بإقامة دولة عربية موحدة في البلاد التي كانت خاضعة لتركيا بما فيها فلسطين.

تغاضت السلطات الانتدابية بداية عن نشاط الجمعيات الإسلامية، وبرزت الإرهاصات الأولى لإقليميات عربية عبر عنها ساطع الحصري في كتاب (يوم ميسلون) كما يلي: “فهذا فلسطيني يعتبر الصهيونية أول ما يجب أن يهتم به من مشاكل، ذلك سوري يرى في أطماع فرنسا أكبر الأخطار التي تهدد القضية العربية، وذلك عراقي يقول بوجوب الثورة ضد الإنجليز قبل كل شيء”. في ظل هذه الأوضاع اتجهت الجمعيات الإسلامية –المسيحية، نحو التمركز التنظيمي، فدعت إلى عقد مؤتمر عام لها ما بين السابع والعشرين من كانون الثاني (يناير) والعاشر من شباط (فبراير) عام 1919، اتخذ نشاط هذه الجمعيات في البداية طابعاً قومياً وظهر ذلك جليا في النقاشات التي دارت بين الأقطاب الفلسطينيين قبل انعقاد المؤتمر، فيذكر أنه مع وجود تيار إقليمي يدعو إلى أن تكون فلسطين للفلسطينيين ’إلا أن التيار الغالب كان تيار الوحدة العربية، وأن وجهة النظر الغالبة قبيل انعقاد المؤتمر هي “رأينا أن نجرب أن نوحد كلمة الوفود كلهم على عقيدة الجامعة العربية، وأن فلسطين ليست للفلسطينيين بل هي للجامعة العربية، وقررنا أن تقيم الأندية الوطنية في القدس حفلات تكريم لهم، ويقوم فيها الخطباء ويدعون إلى الجامعة العربية”.[8]

وقد تأكد عمق الانتماء القومي عند الفلسطينيين وإيمانهم بالوحدة العربية من خلال القرارات التي أصدرها مؤتمرهم الوطني هذا فالإضافة إلى إصدار قرار من المؤتمرين بتسمية فلسطين (سوريا الجنوبية) فقد ورد في القرارات ما يلي:

أولاً: إننا نعتبر فلسطين جزءاً من سوريا العربية، إذ لم يحدث أن انفصلت عنها في أي وقت من الأوقات ونحن مرتبطون بها بروابط قومية ودينية ولغوية، وطبيعية واقتصادية وجغرافية.

ثانياً: إن التصريح الذي أدلى به المسيو بيكو وزير خارجية فرنسا وقال فيه: “إن لفرنسا حقوقاً في بلدنا مبنية على رغائب ومطامح السكان”، ليس لها أساس. ونحن نرفض جميع التصريحات التي أدلى بها في الخطاب في 29 كانون الأول (ديسمبر) عام 1918 لأن تمنياتنا ومطامحنا تنحصر في الوحدة العربية والاستقلال التام.

ثالثاً: بناء على ما تقدم، إننا نعرب عن رغبتنا بأن لا تنفصل سوريا الجنوبية (فلسطين) عن حكومة سوريا المستقلة، وأن تكون متحررة من جميع أنواع النفوذ والحماية الأجنبية[9]. وفي نهاية المؤتمر قرر المؤتمرون إرسال وفد إلى بلاد الشام للاجتماع مع قادة البلاد القوميين وللتعبير عن عواطف أهل (سوريا الجنوبية) في بقائهم وإياهم كتلة عربية مستقلة، إلا أن الإنكليز منعوا الوفد من السفر إلى دمشق.

كان أمل الانضمام وتأكيد الانتماء لسورية الطبيعية قد راود أحلام الفلسطينيين، باعتباره المخرج الوحيد أمامهم من المأزق الذي كانوا يواجهونه، ولم يتركوا مناسبة إلا وعبروا عن طموحاتهم هذه. ففي اجتماع لقادة الحركة الوطنية الفلسطينية يوم الثاني عشر من نيسان (أبريل) 1919 حددوا المطالب الواجب تقديمها للجنة “كنج كرين”[10]، والتي تركزت على اعتبار “سوريا” التي تمتد من جبال طوروس شمالاً إلى ترعة السويس جنوباً مستقلة استقلالاً تاماً ضمن الوحدة العربية وأن فلسطين جزء لا يتجزأ منها[11].

وفي كانون الثاني (يناير) 1920 رفعت الجمعية الإسلامية المسيحية بنابلس مذكرة إلى مؤتمر الصلح في باريس قالت فيها. “إننا لا نريد غير استقلال بلادنا السورية واحدة غير متجزئة وإننا نرفض المزاعم الصهيونية والهجرة اليهودية…. ففصل فلسطين عن سوريا يفهمنا بصراحة تامة أن المراد منه تمزيق البلاد العربية إرضاء للمصالح الاستعمارية، وأنه لم يكن إلا تطبيقا لمعاهدة 1916، التي هي تعد صريح على حقوقنا والتي يقصد من ورائها تلاشي قوميتنا[12].

إن المتتبع للعمل السياسي داخل فلسطين منذ صدور وعد بلفور وحتى أواخر 1920، يلاحظ تقاطع النضال الفلسطيني مع نضال الحركة القومية العربية وأنه امتداد لها بالرغم من الالتباس الذي صاحب نشوء الأولى. ويرجع هذا التداخل كما سبقت الإشارة إليه إلى عدة عوامل. كان الخطر الصهيوني وقوة معسكر الأعداء سبباً/ لا يستهان به في هذا المجال، وهو ما أكده تقرير المخابرات البريطانية في تشرين الثاني (نوفمبر) 1919، حيث أوضح أن الخوف من الصهيونية هو “السبب الرئيسي الذي يدفع الشباب من العناصر الموالية للوحدة العربية نحو العطف على الاتحاد مع سوريا العربية المستقلة، فبانضمام فلسطين إلى سوريا العربية، يصبح في وسع شعب فلسطين، بمساعدة العرب الآخرين، أن يقاوموا بنجاح الهجرة اليهودية[13].

إلا أن سنة 1920 شهدت متغيرات جديدة. فرضت على الحركة الوطنية الفلسطينية انتهاج سياسة جديدة وتبني مواقف جديدة تجاه الوحدة العربية.

فشل المراهنات وانتهاج سياسة الاعتماد على الذات

منذ منتصف عام 1920 شهدت فلسطين والقضية العربية عموماً أحداثاً مهمة شكلت بالنسبة لتطور الحركة الوطنية الفلسطينية منعطفاً ذا دلالة. فبالإضافة إلى الظروف الداخلية في فلسطين، والتي كان أهمها زيادة الهجرة اليهودية وانتقال الحركة الصهيونية من مرحلة التنظيم والترتيب إلى مرحلة خلق وقائع جديدة والتحرش بالسكان العرب في فلسطين.

يبدو أن تضافر العوامل الداخلية والخارجية شكل أساساً موضوعياً لتنحو الحركة الوطنية الفلسطينية للاهتمام بمتطلبات النضال الداخلي، بعيداً عن الهموم العربية، دون انتظار عون خارجي اعتماداً على أن فاقد الشيء لا يعطيه. فالسلطات الاستعمارية أخذت منذ نهاية العشرينات تسوى مشاكلها المعلقة مع تفرعات الحركة القومية العربية، سواء من خلال سياسة المساومات والإغراءات، أو بالضغط وفرض سياسة الأمر الواقع عليها. بالإضافة إلى العوامل السابقة يبدو أن الفلسطينيين وجدوا بأن التركيز على مسألة الوحدة العربية وتسبيق مطلب الوحدة على غيره من المطالب الوطنية، يفسح المجال للحركة الصهيونية أن تتفرغ لحسم الموقف لمصلحتها على أرض فلسطين. عدا عن كون فكرة الوحدة العربية لم تجد استحسانا من قبل السلطات الانتدابية، التي كانت تعادي كل عمل وحدوي وتحارب الاتجاهات الوحدوية، في الوقت الذي تدعم فيه الشخصيات الفلسطينية المعارضة لفكرة الوحدة العربية.

تبلورت حالة تراجع الفكر الوحدوي في المؤتمر الفلسطيني الثالث، المنعقد ما بين الثالث عشر والتاسع عشر من كانون الأول (ديسمبر) عام 1920، تحت رئاسة موسى كاظم الحسيني، فرغم اعتبار البعض هذا المؤتمر تكراراً للمؤتمر الأول إلا أنه تميز بالدعوة إلى تشكيل حكومة وطنية، هذا المطلب الأول من نوعه في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية وفي تاريخ شعب فلسطين العربي على الإطلاق. وفي الثامن عشر من كانون الأول (ديسمبر) رفع رئيس المؤتمر موسى كاظم الحسيني تقريراً إلى المندوب السامي البريطاني في فلسطين –هربرت صموئيل– طلب فيه “… تشكيل حكومة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابي ينتخب أعضاؤه من الشعب المتكلم باللغة العربية القاطن في فلسطين حتى أول الحرب”[14].

مثلت (مطالب الحكومة الوطنية) منعطفاً في الإستراتيجية الفلسطينية، وانفصالاً للحركة الوطنية الفلسطينية عن الحركة القومية العربية، وبالرغم من أن مطلب الحكومة الوطنية لم يكن بالطلب الشاذ أو الغريب عن مطالب الحركات النضالية في الأقطار العربية الأخرى، إلا أن الأمر مختلف بالنسبة للفلسطينيين، فالسلطات البريطانية التي توجه إليها المؤتمرون بمطلبهم السالف الذكر كانت تنهج نهجاً مناقضاً للطموحات بالاستقلال، فالسياسة التي اتبعتها بريطانيا في فلسطين تدخل ضمن مخطط شامل يهدف أساسا لتطبيق وعد بلفور وإقامة وطن قومي لليهود فيها وبالتالي نفي عروبة فلسطين، وهو الأمر الذي أعلنه بصراحة المندوب “السامي” هربرت صموئيل كما سبق ذكره، هذا إلى جانب الخصوصية التي تأخذها فلسطين في الإستراتيجية الاستعمارية، والتي تجعل أية سياسة تراهن على إمكانية تحييد بريطانيا في النزاع العربي مع اليهود، سياسة ساذجة ومآلها الفشل نظراً للعداء التناقضي بين الهدف الوطني الفلسطيني والهدف الصهيوني الاستعماري.

لقد خاض الفلسطينيون وطوال فترة العشرينات تجربة العمل الوطني ضمن حدود فلسطين ولجأوا لمختلف السبل والطرق لتحقيق استقلالهم الوطني ومحاولة زحزحة بريطانيا عن مواقفها المنحازة تماماً لجانب الصهاينة، دون جدوى. ابتداء من عام 1929 شهدت فلسطين أحداثاً عنيفة، تميزت بتحرك الجماهير الفلسطينية وأخذها زمام المبادرة للتعبير عن السخط والغضب على التعديات الصهيونية على مقدسات المسلمين، ورفضها لسياسة المهادنة التي اتبعتها قيادة الحركة الوطنية تجاه السلطات الانتدابية في فلسطين. وكانت الشرارة التي فجرت الأحداث، قيام اليهود بمظاهرة في تل أبيب في آب (أغسطس) 1929 قام العرب على إثرها بمظاهرة مضادة في اليوم التالي، وبدأت معها سلسلة من أعمال العنف استمرت عدة أيام، ما أدى إلى سقوط العديد من القتلى والجرحى.[15]

مع تزايد أعمال العنف في فلسطين وشموله مجمل التراب الفلسطيني وقفت بريطانيا موقفاً معادياً للعرب ووضعت قوتها إلى جانب اليهود حيث جلبت قوات إضافية من مصر وشرق الأردن لقمع المجاهدين العرب. هذا الموقف العدائي السافر لبريطانيا ادخل تحولا على الإستراتيجية الفلسطينية، حيث أكد فشل سياسة المراهنة على حياد بريطانيا، وفشل سياسة المهادنة التي كانت تتبعها القيادة التقليدية للوصول إلى أهدافها. ومن هنا شعر الفلسطينيون أنهم يقفون في تحد مباشر أمام تحالف صهيوني استعماري، وهو الأمر الذي كانوا يتخوفون منه أو يتجاهلون وجوده. وهذا ما حتم عليهم البحث عن المعادل الموضوعي القادر على ترجيح ميزان القوى لمصلحتهم، فكانت العودة للقومية العربية والاستنجاد بالوحدة العربية هما الحل الوحيد القادر على مواجهة الوضع المستجد.

أثار الانحياز البريطاني المكشوف إلى جانب الحركة الصهيونية موجة من العنف والاضطرابات عمت كل البلاد، اقترنت هذه الحالة بموجة من المشاعر الوحدوية التي عمت فلسطين جميعها. كانت المشاعر الوحدوية عند الفلسطينيين في هذه المرحلة من الكفاح الفلسطيني تعبر عن وحدة نضالية كفاحية، وحدة من خلال المعركة المشتركة مع العدو المشترك، وهي الظاهرة التي ميزت فيما بعد مضمون الفكر الوحدوي عند الفلسطينيين. وقد شعر البريطانيون بالعلاقة القائمة بين تفجير اضطرابات 1929 وبين المشاعر الوحدوية التي عمت فلسطين. حيث كتب تشانسلور المندوب “السامي” البريطاني في فلسطين آنئذ إلى اللورد ما سفيلر وزير المستعمرات يصف نتائج انفجار 1929 قائلاً: “… إن موجة من المشاعر العربية الوحدوية قد عمت فلسطين والأقطار العربية المجاورة، ومن المؤكد أن الحالة السياسية لن تعود مرة أخرى إلى ما كانت عليه قبل آب (أغسطس) الماضي”[16].

ويبدو أن قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية الممثلة بـ”اللجنة التنفيذية” شعرت بتيار الوحدة العربية الجارف، وبوصول سياستها إلى الطريق المسدود فلجأت إلى محاولة ركوب هذه الموجة وإشراك العرب بالهموم الفلسطينية وتحميلهم جزءاً من مسؤولية ما يحدث على أرض فلسطين، فوجهت في 21 شباط (فبراير) عام 1931 بياناً إلى الأمة العربية، دعت فيه العرب “إلى الاقتصاص لإخوانكم الفلسطينيين وبمعاملة اليهود في البلاد العربية بمثل ما يعامل اليهود العرب في فلسطين، وأن يعملوا بدون انقطاع للمحافظة على عروبة البلاد المقدسة واستقلالها”، وفي الوقت نفسه دعت لعقد مؤتمر إسلامي في القدس في محاولة منها لاستثارة المشاعر الإسلامية في العالم ضد السياسة الصهيونية البريطانية في فلسطين.

استغل القوميون انعقاد المؤتمر الإسلامي الذي حضرته العشرات من الشخصيات القومية العربية، فدعوا إلى عقد مؤتمر قومي عربي على هامش المؤتمر الإسلامي. وبالفعل عقد المؤتمر في بيت عوني عبد الهادي وحضره خمسون شخصية عربية، حيث أصدر المؤتمرون بياناً يوم الثالث عشر من كانون الأول (ديسمبر) عبروا فيه عن أهداف المؤتمرين وتطلعاتهم القومية، وأشادوا بالجهود التي بذلت من أجل تحقيق كيان عربي مستقل يشمل الأقطار العربية المختلفة، ويوصل الأمة العربية إلى الاستقلال الذي تتمتع به أمم العالم الحرة، وهاجموا السياسة الاستعمارية الهادفة إلى تجزئة الأمة العربية بهدف إشغال أهل كل قطر من الأقطار العربية عن إخوانهم في الأقطار الأخرى بقضايا إقليمية مصطنعة وأوضاع محلية متقلبة”[17].

كان أهم ما تمخضت عنه أعمال المؤتمر ما سُمّي بـِ”الميثاق القومي العربي” الذي يعتبر وثيقة مهمة من وثائق الحركة القومية العربية آنذاك، عبرت عن عمق الإيمان بالوحدة العربية، والإحساس بالخطر الذي تمثله الحركة الصهيونية ليس على شعب فلسطين فحسب، بل على الأمة العربية عموماً.

وصلت الاضطرابات في فلسطين إلى ذروتها عام 1936 حيث شهدت البلاد قيام ثورة من أعظم الثورات في المنطقة، صاحبها إضراب استمر ستة شهور واتسمت الثورة بلجوء الجماهير إلى ممارسة الكفاح المسلح ضد السلطات البريطانية والحركة الصهيونية، وشملت جميع أنحاء فلسطين. وكان أهم تعبير عن التضامن العربي مع ثورة شعب فلسطين مشاركة متطوعين عرب إلى جانب الشعب الفلسطيني، فمن العراق جاء فوزي القاوقجي على رأس قوة قوامها 500 مناضل وتسلم قيادة الثورة في البلاد، ومن سوريا وصلت قوتان إحداهما بقيادة سعيد العاص، والأخرى بقيادة محمد الأشمر، وكان لهذه القوات تأثير في رفع معنويات شعب فلسطين وإشعاره بأنه ليس وحده في ميدان المعركة.

مقابل التضامن الشعبي العربي مع شعب فلسطين، والذي أخذ شكل المساهمة المباشرة في الكفاح، والقيام بتظاهرات تأييد ودعم لشعب فلسطين، وقفت الحكومات العربية موقف الحذر والترقب للأحداث الجارية في فلسطين، وعندما قررت أن تتدخل فإنها تدخلت كوسيط وكطرف محايد في النزاع، وساوت بين شعب فلسطين وبين السلطات الانتدابية، هذا التدخل لعب دوراً أساسياً في وقف الثورة والإضراب.

شكل نداء الحكام العرب لشعب فلسطين بوقف الثورة والإضراب، بداية مرحلة جديدة تميزت بالتدخل الرسمي العربي في الشؤون الفلسطينية، وانتقال مركز القرار بالشأن الفلسطيني من فلسطين إلى العواصم العربية، خصوصاً بعد نهاية الثورة وتوقفها النهائي في عام 1939. استمر النضال الفلسطيني متقطعاً ومرتبكاً إلى أن قررت بريطانيا وضع حد للانتداب على فلسطين وكان قرار التقسيم رقم 181 عام 1947 الذي رفضه العرب والفلسطينيون.

على أثر إعلان اليهود عن قيام دولتهم في أيار (مايو) 1948، طالبت الحركة الوطنية الفلسطينية ممثلة في الهيئة العربية العليا، بإقامة حكومة فلسطينية، استناداً على قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، وكان دافع الهيئة العليا وراء ذلك هو الخشية من حدوث فراغ سياسي في المناطق المخصصة للعرب حسب قرار التقسيم إلا أن طلب الهيئة العربية العليا لم يجد تجاوباً عربياً في حينه. وفي خريف العام نفسه، مع اقتراب دورة الأمم المتحدة الخاصة بالقضية الفلسطينية، وما يتطلبه الأمر من وجود فلسطينيين يمتلكون الشرعية لتمثيل الشعب الفلسطيني قانونياً، تحمست الدول العربية لإيجاد هؤلاء الممثلين[18]. وانتهزت الهيئة العربية العليا الفرصة ودعت إلى عقد مؤتمر غزة في تشرين الأول (أكتوبر) 1948، وأهم ما خرج به المؤتمرون هو تشكيل حكومة عموم فلسطين، وقد جاء في قرار الإعلان الذي أبلغت به الدول العربية “تقرر إعلان حكومة فلسطين بأجمعها وبحدودها المعروفة وإقامة حكومة فيها تعرف بحكومة عموم فلسطين على أسس ديمقراطية”[19].

وعقب الإعلان عن تشكيل حكومة عموم فلسطين، عقد “المجلس الوطني الأول، الذي أعلن عن استقلال فلسطين، حيث جاء في المقررات الختامية للمجلس: “بناء على الحق الطبيعي والتاريخي للشعب العربي الفلسطيني في الحرية والاستقلال، هذا الحق المقدس الذي بذل في سبيله أزكى الدماء، وقدم من أجله أكرم الشهداء وكافح دونه قوى الاستعمار والصهيونية التي تألبت عليه وحالت بينه وبين التمتع به، فإننا نحن المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في غزة هاشم نعلن استقلال فلسطين كلها التي يحدها شمالا سوريا ولبنان وشرقا الأردن، وغرباً البحر الأبيض المتوسط وجنوب سيناء”.

إلا أن هذه الحكومة جوبهت بالرفض ليس فقط من قبل العدو الصهيوني، بل أيضا بالتجاهل من قبل أطراف عربية ودولية، كانت الوقائع تتعزز وتتكرس بقوة السلاح وقوة الباطل الصهيوني الاستعماري، فالأرض الفلسطينية التي من المفروض أن تمارس حكومة فلسطين سيادتها عليها والتي أعلن عن استقلالها، كانت إما خاضعة للقوات الصهيونية، أو تتواجد عليها جيوش عربية تفرض قوانينها العسكرية عليها، وزاد من حرج موقف حكومة عموم فلسطين واهتزاز شرعيتها أن الأمم المتحدة في دورتها الخريفية لعام 1948 رفضت الاعتراف بها كحكومة شرعية، واعتبرتها حكومة صورية، كما مارست بريطانيا ضغوطا على الدول العربية لتهميش فاعلية حكومة عموم فلسطين ونسقت جهودها مع الأردن، الذي حاول أن يسحب بساط الشرعية الفلسطينية من تحت أقدام الحكومة الفلسطينية بدعوته إلى عقد مؤتمر فلسطيني مناوئ لمؤتمر غزة.

فبعد حوالي شهرين من مؤتمر غزة عُقد مؤتمر فلسطيني سمي “المؤتمر الفلسطيني الثاني”، وحضرته شخصيات فلسطينية استمالها الملك عبد الله أو أجبرت على الحضور -حيث أن المجتمعين كانوا من سكان المنطقة الخاضعة لسيطرة الجيش الأردني– وقد اتضحت أهداف المؤتمر المعادية للهوية الوطنية الفلسطينية والاستقلالية الفلسطينية من خلال القرار الصادر عن المؤتمر والذي جاء فيه: “إرسال برقية للهيئة العربية يشعرها بأنه نزع منها ثقة عرب فلسطين، فهي لا تمثلهم ولا حق لها أن تنطق باسمهم أو تعبر عن رأيهم لأن الحكومات العربية قد احتضنت قضية فلسطين، وهي أصبحت وديعة بين يدي الملوك العرب الذين يطمئن الشعب الفلسطيني إلى مساعيهم في سبيل صيانة عروبتها وتحقيق وحدتها”.

ترافقت الخطوة الأردنية هذه مع بداية شعور الحكومات العربية وخصوصاً المحيطة بفلسطين، بأن حكومة عموم فلسطين أصبحت تشكل عبئاً عليها وحجر عثرة في طريقها نحو إنهاء المشكل الفلسطيني بأي شكل من الأشكال، وخصوصاً بعد توقيع الحكومات المشاركة في حرب 1948 على اتفاقيات الهدنة مع إسرائيل، والتي بمقتضاها تخلصت الحكومات العربية من التزاماتها العسكرية في فلسطين. وعلى المستوى الدولي فمنذ الدورة السابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة 14/10-21/12/1952 طوت الجمعية العامة البند المسمى: “القضية الفلسطينية” عن جدول أعمالها كقضية سياسية وأصبحت المسألة تبحث كقضية لاجئين تابعة للبند الخاص بالتقرير السنوي العام لوكالة الإغاثة.

مما ساهم في سرعة طي القضية الفلسطينية في المنتظم الدولي، أن الحكومات العربية الممثلة في هيئة الأمم المتحدة لم تقف جدياً في دعم حكومة عموم فلسطين دولياً، ولم تستغل علاقاتها مع الدول الأجنبية لكسب هذا التأييد، الأمر الذي ترتب عنه عدم اعتراف دول أجنبية بالحكومة الفلسطينية في الوقت الذي اعترفت غالبية أعضاء الأمم المتحدة بالكيان الصهيوني، كما كان من نتيجة عدم الالتزام العربي اتجاه حكومة عموم فلسطين – التي مثلت الهوية الوطنية الفلسطينية والحق الفلسطيني – أن احتاج الشعب الفلسطيني والأمة العربية لتقديم قوافل الشهداء وخوض نضال على كافة المستويات حتى تستعيد القضية الفلسطينية موقعها الحقيقي كقضية سياسية، قضية شعب تُحتل أرضه، وليس مجرد قضية لاجئين، وما زالت القضية بين أخذ ورد على المستوى الدولي.

الخاتمة:-

إن ما نود الخلاصة إليه أن بريطانيا اخطأت بل وارتكبت جريمة إنسانية دولية بحق الشعب الفلسطيني من خلال وعد بلفور والعمل على تحقيقه على الأرض، وقد استحسنا مطالبة الرئيس أبو مازن يوم الثاني والعشرين من أيلول (سبتمبر) الماضي 2016 من بريطانيا الاعتذار للشعب الفلسطيني عن إصدارها وعد بلفور، وأن تعترف بالدولة الفلسطينية. لا شك أن قيام دولة فلسطينية على أرض فلسطين يعتبر ردا مناسبا على المنطق والأسس التي قام عليها وعد بلفور، فقيام دولة فلسطينية على أرض فلسطين يعني إبطال مقولة إن فلسطين وطن قومي لليهود.

ولكن هناك عوامل أخرى جعلت الوعد قابلاً للتحقيق. دولة إسرائيل قامت نتيجة وعد بلفور ونتيجة توازنات وقرارات وتفاهمات دولية ولكن أيضا نتيجة جهود صهيونية بدأت قبل أن يصدر الوعد واستمرت بعده، وبالتالي فإن دولة فلسطين لن تقوم فقط من خلال العمل الدبلوماسي ووعود وقرارات دولية أو بمطالبة بريطانيا بالتراجع عن قرارها أو الاعتذار للشعب الفلسطيني بل تحتاج لجهود ذاتية ونضال متواصل على الأرض يفرض الدولة الفلسطينية. وفي هذا السياق نحذر من التفكير السياسي عند البعض لتهميش وإلغاء دور الجماهير، سواء من خلال المقاومة المسلحة أو الشعبية السلمية، هؤلاء يراهنون فقط على العامل الخارجي للوصول إلى الدولة المنشودة.

دعونا نتساءل: ماذا لو اعترفت عشرات الدول بدولة فلسطينية وصدرت عشرات القرارات تدعو لقيام دولة للفلسطينيين؟ فهل ستنسحب إسرائيل وتُقام الدولة الفلسطينية تلقائيا؟ أم سيحتاج الأمر للفعل الذاتي للشعب الفلسطيني متجسدا بكل أشكال المقاومة والمجابهة، بل قد نحتاج لخوض حروب مع دولة الاحتلال؟.

الهوامش:-

[*] استاذ العلوم السياسية، جامعة الأزهر – غزة.

[1] في أول تقدير سكاني جرى في فلسطين عام 1914، قدر سكان فلسطين عام 1914 بحوالي 689 ألفاً، منهم 634 ألفاً من العرب، و55 ألفاً من اليهود أي أن نسبة اليهود كانت تبلغ في ذلك العام 8% من مجموع السكان، ومع بداية الاحتلال البريطاني بدأت الهجرة اليهودية إلى فلسطين بالتصاعد مما أدى إلى زيادة نسبة اليهود فارتفعت إلى 9% في العام 1920.

[2] سوريا الطبيعية أو سوريا الكبرى أو بلاد الشام، تسمية كانت تطلق على المنطقة التي تضم سوريا ولبنان والأردن وفلسطين  قبل تقسيم هذه المنطقة باتفاقية سايكس– بيكو عام 1916.

[3] زكريا محمد طه؟، نخله طيء: كشف لغز الفلسطينيين القدامى، دار الشروق للنشر والتوزيع، رام الله، فلسطين، 2005، ص13.

[4] المصدر نفسه، ص:16.

[5] خيرية قاسمية، مواقف عربية من التفاهم مع الصهيونية (1913-1919) شؤون فلسطينية عدد 31– تاريخ آذار (مارس) 1974-ص 135.

[6]المصدر نفسه.

[7] جورج أنطونيوس، يقظة العرب، بيروت، 1902، ص259.

[8] خليل السكاكيني، كذا أنا يا دنيا: يوميات خليل السكاكيني، إعداد هالة السكاكيني (القدس: المطبعة التجارية، 1955)، ص166.

[9] عبد الوهاب الكيالي، تاريخ فلسطين الحديث (بيروت: المؤسسة العربية الدراسات والنشر)، ص127.

[10]هي اللجنة التي قرر مؤتمر الصلح تشكيلها للبحث في المطالب العربية، وكان من المفروض أن تشارك فيها فرنسا وبريطانيا، إلا أنهما رفضتا المشاركة، فاقتصرت عضويتها على أميركا.

[11] السكاكيني، كذا أنا يا دنيا: يوميات خليل السكاكيني، ص175.

[12]كامل خلة، فلسطين والانتداب البريطاني، 922-1939، الملحق رقم 16، ص528.

[13] الكيالي، تاريخ فلسطين الحديث، ص126

[14]عبد الوهاب الكيالي، جامع، وثائق المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال البريطاني والصهيونية، 1918-1939، سلسة الوثائق العامة، (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1968) ص16.

[15]وقد أُطلق على هذه الأحداث “هبة البراق” وبدأت عندما حاول مستوطنون تغيير الأوضاع عند حائط البراق والذي دعاهُ اليهود حائط المبكى، وتصدى الفلسطينيون لهم وحدثت اشتباكات دامية سقط فيها عشرات من القتلى والجرحى من الطرفين، وقد انحازت بريطانيا لجانب الصهاينة واعدمت الشهداء الثلاثة: محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي.

[16] الكيالي، الموجز في تاريخ فلسطين الحديث، ص 112.

[17] الكيالي، المصدر نفسه، ص253.

[18] محمد عزة دروزة، القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها، بيروت المكتبة العصرية، 1960، ص221.

[19] المصدر نفسه.