د. حسن أيوب
(رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية)
المقدمة
توجد صعوبة موضوعية تكمن في محاولة تحليل وفهم السياسة الخارجية لإدارة دونالد ترامب، نظراً لما تتسم به حتى اللحظة من تذبذب يصل في بعض الحالات إلى حد التناقض والتضارب. وتضيف شخصية ترامب، وأسلوبه غير المألوف، تعقيداً من نوع خاص في هذا السياق. إلا أنه، وبقدر ما تبدو الظواهر أمامنا في حالة من الفوضى، فإن البحث عن مبدأ ينظم فهمنا لها، يصبح أمراً ملحّاً. إن هذه المهمة تتطلب جهداً خاصّاً للتخلص من ضوضاء المشهد، وتمظهراته الثانوية في محاولة للكشف عن العوامل الجوهرية المتشابكة التي تقترب من تفسير ذلك الكم المروع من العدوانية والتنمر الظاهرين في سياسات الإدارة الأميركية الراهنة، وتلك التناقضات في الاستراتيجية، أو لنقل غياب مثل هذه الاستراتيجية.
نحاول في هذه الورقة أن نسهم في فهم وتحليل السياسة الخارجية لفريق دونالد ترامب منطلقين أولاً من توضيح الأساس الدستوري لصنع السياسة الخارجية الأميركية، وتداخله مع الاعتبارات السياسية. ومن ثم، نحاول اعتماد مبدأ ناظم لفهمنا لهذه السياسة، ينقلنا إلى فهم عوامل القوة والاقتدار التي تمتلكها وتوظفها واشنطن في سياق دولي له خصائصه الراهنة، بأوجه تشابهها واختلافها مع النظام الدولي الذي ساد حقبة الحرب الباردة. ونختم بربط أبرز معالم هذه السياسة بما يمكن وصفه بدبلوماسية الاستعلاء ذات الارتباط الوثيق بشخصية ترامب وأركان إدارته والأيديولوجيا العنصرية التي تحركها.
(1)
التوازن الصعب بين الدستور والسياسة
يمكن أن تكون نقطة الانطلاق في فهم السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية في عهد إدارة الرئيس الحالي دونالد ترامب هي الوقوف على ذلك التوازن المعقد في صنع هذه السياسة بين القواعد الدستورية والاعتبارات السياسية.
يخلط الكثير من الناس بين ما يحسب باعتباره تفضيلات وأولويات الرئيس في النظام السياسي الأميركي، وبين ما تمليه المؤسسة؛ أي الدولة ومصالحها العليا. هنا نجد رأيين: الأول، هو اعتبار الإدارة -أي الرئيس وطاقمه بما في ذلك وزارة الخارجية والهيئات ذات العلاقة- المسؤول الأول والأخير عن صنع السياسة الخارجية وتحديد مصالح الولايات المتحدة الأميركية وتحالفاتها الدولية، والثاني يرى في الإدارة والرئيس مجرد أدوات تنفذ ما تراه المؤسسة الرسمية؛ أي الدولة، ملائماً لمصالحها.
في حقيقة الأمر، فإن السياسة الخارجية الأميركية تحددها عوامل هي خليط بين الأمرين، يميل من الناحية الدستورية إلى جانب الإدارة والرئيس، باعتباره يجسد إرادة الأمة ومصالحها العليا بعيداً عن السياسات الحزبية، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة فيها. مع ذلك، فإن الدستور الأميركي يمنح للسلطة التشريعية -وهي في هذه الحالة تمثل المؤسسة الرسمية أو الدولة- حق الاعتراض على سياسات الرئيس، والقدرة على تعطيلها، بما في ذلك حق الاعتراض على التعيينات السيادية، ومن بينها على سبيل المثال منصب “سكرتيري الدولة” -أي الوزراء-، الذين يمنح الدستور الحق للرئيس بتعيينهم، لكن هذا مشروط بموافقة اللجان المختصة في الكونغرس. بذلك، تكون السياسة الخارجية للولايات المتحدة هي مخرج خليط بين تفضيلات ورؤية الرئيس وطاقمه، بمن في ذلك المستشارون الذين له حق تعيينهم دون الرجوع للكونغرس، وبين المصالح الثابتة للولايات المتحدة كدولة ومؤسسة رسمية. وهذا يعني أن السياسة الخارجية تتعلق غالباً بتوازنات ومقايضات داخلية اعتماداً على طبيعة القضية المطروحة، وأهميتها الاستراتيجية أو الجيو- سياسية للدولة من جهة، وقوة وخبرات الرئيس من جهة ثانية. هذا الأمر يمنح هامشاً واسعاً لدور القوى فوق- البرلمانية المنظمة، مثل مجموعات الضغط والمصالح، للتأثير على قرارات السياسة الخارجية من خلال الإدارة، والأكثر من خلال الكونغرس. إن خبرة الرئيس وقوته حاسمة في هذا السياق، خاصة أن الغالبية الساحقة من رؤساء الولايات المتحدة الأميركية يأتون للرئاسة من مجلس الشيوخ.
من المفيد تقديم مثال يتعلق بإعلان الحرب من الناحيتين الدستورية والسياسية يوضح هذه الحالة المركبة: ينص الدستور الأميركي في المادة (1) البند الثامن على أن “للكونغرس صلاحية إعلان الحرب”، بينما تنص المادة (2) البند الثاني إن “الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة والبحرية”. أي أن الكونغرس ليست له صلاحية قيادة الجيش، كما أنه ليست للرئيس صلاحية إعلان الحرب. بالرغم من ذلك، فقد أعلن رؤساء سابقون الحرب دون الرجوع للكونغرس. إدارة ترامب من هذه الزاوية ليست الاستثناء أبداً في إعلانها الحرب على “داعش” أو في استهدافها العسكري لسوريا. بل إن إدارة ترامب تستغل التشريع الشهير الذي أعقب هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، الذي يمنح للرئيس صلاحيات واسعة وغامضة في هذا الشأن. مع ذلك، فإن عدداً من المشرعين في الكونغرس لا يقبل مثل هذا الاستخدام، باعتبار أنه لا يوجد لا لداعش ولا للنظام السوري صلة بهجمات العام [1]2001. من الناحية السياسية، فإن الكونغرس سيحجم عن اتخاذ قرار بإعلان الحرب، بخاصة عندما تكون انتخابات تجديده النصفي على الأبواب. لقد توجه الرئيس السابق باراك أوباما للكونغرس للحصول على قانون يخوله إعلان الحرب على سوريا، ولكن الأخير لم يقم حتى بمناقشة القانون، وتراجع الرئيس عن تهديده باستخدام القوة في سوريا. بينما لم يذهب ترامب للكونغرس لتشريع الهجمات على ذات البلد، وبدوره، لم يقم الكونغرس بالاعتراض. وفي الوقت الراهن، تشهد علاقة الرئيس مع الكونغرس أزمة تشريعية بحكم اقتراب انتخابات التجديد النصفي؛ إذ لم يستطع الرئيس طرح عدة مشاريع قوانين، من بينها قانون تقييد الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية، والمرحلة الثانية من قانون الضرائب الجديد. في مثل هذه الأوضاع، فإن أي مشروع قانون من شأنه أن يحدث استقطابات سياسية حزبية، سيتجاهله الكونغرس[2]. الاعتبارات السياسية والحزبية في الحالتين تجاهلت الدستور. إذاً، لا بد لنا من معالجات من طبيعة متعددة المستويات لفهم السياسة الخارجية الأميركية، وبخاصة عندما يدور الحديث عن إدارة ترامب بكل مظاهر عدم الاتزان، والمشهدية وغياب الرؤية الاستراتيجية التي تتسم بها.
(2)
تأطير فهم السياسة الخارجية لفريق ترامب
يستند المختصون في السياسة الخارجية وشؤون النظام الدولي، وبخاصة ما يتعلق بالولايات المتحدة الأميركية، إلى فهم وتحليل سياساتها الخارجية من خلال مداخل نظرية محددة؛ فيميز الدارسون والمحللون مثلاً بين سياسات الإدارات المتعاقبة من زاوية التعارض بين “الواقعية” و”الليبرالية”. في سياق هذا التعارض، تعتبر السياسة الخارجية لإدارة بيل كلينتون “الديمقراطية” أكثر ميلاً لليبرالية، وقد كانت محل انتقاد الجمهوريين، كونها -حسب رأيهم- ورطت واشنطن في تدخلات لا علاقة لها بمصالح الولايات المتحدة الأميركية، بقدر ما تستجيب لتوجهات كلينتون. لكن لم تلبث إدارة جورج بوش الابن أن انتهت إلى التدخل لأسباب لا تقل “ليبرالية” وربما “مثالية” عن تلك التي ميزت إدارة كلينتون. بدورها، فإن إدارة الرئيس أوباما أظهرت سجلاً مختلطاً من تجنب التدخل، إلى التدخل الحذر.
ويأخذ أنصار المدرسة الواقعية على إدارة أوباما بأنها لم تتصرف بما يكفي من “الواقعية” مع التحديات التي فرضتها تحولات السياسة الدولية على واشنطن، مثل تعاظم قوة روسيا، أو التقارب الروسي الصيني. في سياق هذه الانتقادات استُحضرت قدرات ومواهب واحد من أهم رموز “الواقعية” في السياسة الخارجية الأميركية، وهو جورج كينان مصمم استراتيجية الاحتواء.[3] هذا التقدير يشير إلى اعتقاد واسع في أوساط صانعي السياسة الخارجية الأميركية مفاده أن حالة النظام الدولي الراهن تشبه إلى حد معين حالة الحرب الباردة، الأمر الذي يتطلب صياغة محددة للدور المتصور لواشنطن عبر العالم، وبخاصة في مناطقه الأكثر أهمية وحساسية للمصالح المدعاة لأميركا في ظل ما يعتبر تحدياً جديّاً من قبل روسيا والصين لهذه المصالح عبر قوس المواجهة الدائرة مع روسيا، بدءاً من بحر البلطيق، مروراً بالبحر الأسود وإيران، وليس انتهاء بسوريا.
فهل تمتلك إدارة ترامب تصوراً محدداً لدور أميركا في النظام الدولي الحالي يتجاوز الافتراض المسبق لدى كل الإدارات بأن أميركا هي “أمة لا غنى للعالم عنها”، بما تجسده من قيم ومبادئ؟ فتحويل هذا الشعار إلى سياسات محددة وواضحة يبنى على فهم الإدارة لقوتها، ومدى استعدادها لتحويل هذه القوة إلى اقتدار وفعل في مواجهة القوى الدولية التي تشكل تحدياً لها من جهة، وإلى تقدير الإدارة الأميركية للفرص وللكلف والتحالفات القائمة في النظام الدولي الراهن.
(3)
النظام الدولي الراهن، وخلق توازنات جديدة
ثمة ما يبرر القول إن أميركا لا تزال قوة عظمى ذات نفوذ هائل في السياسة الدولية من حيث أبرز عوامل القوة: الاقتصادية والعسكرية. إلا أن هذه القوة لم تعد كافية في ظل وجود قوى صاعدة على الحلبة الدولية كما يشير كل من جوزيف ناي، وجوزيف ستيغلتز[4]، الأمر الذي يشير إلى أن النظام الدولي الحالي يعيش حالة من السيولة واللاتحديد من حيث القطبية وغياب أي من حالات التوازن التي تأتي معها قواعد السلوك الدولي التي تضبط علاقات القوى العظمى وحلفائها. استناداً إلى هذا التقدير، فإن السلوك الخارجي لإدارة ترامب يعكس حالة التشابه والاختلاف التي يعيشها النظام الدولي الراهن إذا ما قورن بحقبة الحرب الباردة.
لعل أبرز مظاهر هذا السلوك هو التوجهات الصقرية لإدارة ترامب في الشأنين الروسي والإيراني، التي تتبلور بشكل عنيف على الساحة الشرق أوسطية عموماً وفي سوريا بشكل خاص. تقدم إدارة ترامب سياساتها في هذا الصدد بما هي معكوس -بل نقيض- سياسات الإدارة السابقة لباراك أوباما، وبما يعكس فهمها للنظام الدولي الحالي كميدان حرب باردة من نوع مختلف تتطلب فرض ميزان قوى جديد يتم فيه وضع حد لقدرات القوى الصاعدة في سعيها لاحتلال مكانة قوى عظمى.
في هذا السياق، تبرر إدارة ترامب سياساتها الخارجية بالادعاء القائل إن إدارة أوباما “الضعيفة” قد عرضت مصالح الولايات المتحدة وقدرتها على الفعل والردع للتآكل، بخاصة تجاه كل من إيران وروسيا. فلا يكاد يتكلم الرئيس دونالد ترامب عن منطقة الشرق الأوسط، إلا ويكرر انتقاده للاتفاق النووي مع إيران، معتبراً إياه جائزة للسلوك الإيراني التخريبي في المنطقة. ويربط ترامب بين بقاء القوات الأميركية في سوريا، ومنع “وصول إيران إلى البحر المتوسط”؛ هذا ما قاله في مؤتمره الصحفي مع الرئيس الفرنسي في 24/4/2018. فقد شدد ترامب “على أن الإدارة الأميركية الحالية لن تكرر أخطاء الإدارة السابقة، وستواصل حملة الضغوط على إيران، مؤكداً أن بصمات إيران تظهر مع كل مشكلة يعيشها الإقليم”[5]، وهو الموقف الذي قاد إلى إعلان انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي والعودة إلى نهج العقوبات ضد إيران.
ويدعي الجمهوريون أن إحجام إدارة أوباما عن التحرك الفعال والحازم لكبح اندفاعات روسيا في جوارها الإقليمي مثلما حدث في جورجيا وشبه جزيرة القرم، وتدخلاتها في دول البلطيق، وفي الشرق الأوسط، وبخاصة في سوريا ودورها في الملف النووي الإيراني؛ قد شجع روسيا على مواصلة نهجها في تحدي نفوذ ومصالح الولايات المتحدة وحلفائها. ولم يكن كافياً بالنسبة لباراك أوباما ذلك التبرير المعمول به منذ عقود في واشنطن لاستخدام القوة العسكرية، والذي يقول إن على أميركا أن تترجم تهديداتها إلى فعل لكي لا تخسر مصداقيتها. يقول أوباما في مقابلته الشهيرة مع مجلة “الأتلانتيك” إنه ليس كافياً أبداً اللجوء للعمل العسكري بكل ما يترتب عليه من نتائج قاسية لمجرد إثبات أننا إذا قلنا فعلنا[6]. من هذه الزاوية، فإن ترامب، وبعكس أوباما، لا يريد فقط ألا يترك مجالاً للشك بأنه إذا قال فعل ما دام قد وضع خطوطاً حمراء للنظام السوري[7]، بل يريد توجيه رسالة لروسيا بأن واشنطن اليوم ليست كأمس.
تبلور هذا النهج حتى اللحظة على شكل هجومين على سوريا: الهجوم الصاروخي الأميركي المنفرد العام الماضي على قاعدة “الشعيرات”، الذي أخذ ذات الطابع الآني؛ والهجوم الأخير بالشراكة مع بريطانيا وفرنسا. وفي الحالتين، اتسم العمل بالسرعة والمشهدية؛ أي أنه هجوم سريع ولمرة واحدة ينتهي بإلإعلان الشهير: “تمت المهمة”، لإظهار أن واشنطن في ظل إدارة ترامب إذا قالت فعلت، وأنها تضع الخطوط الحمراء التي لا ينبغي تخطيها. هذا المسلك الأميركي ربما يجد تفسيره في اندفاعات روسيا لتثبيت نظام علاقات دولية order يعترف بها كقوة عظمى.
لا تخفي موسكو عزمها على خلق توازن جديد للقوى في النظام العالمي، وهو ما عبر عنه الرئيس فلاديمير بوتين أكثر من مرة. فعلى سبيل المثال، أشار بوتين في أواخر عام 2016 إلى أن بلاده “ستواصل القيام بكل ما هو ضروري من أجل ضمان التوازن الاستراتيجي للقوى”، واصفاً محاولات تغيير هذا النظام أو الإخلال به، بأنها “خطيرة للغاية”. وذكَّر بأن هذا التوازن الاستراتيجي الذي قام في أواخر الأربعينيات وفي الخمسينيات من القرن الماضي، جنّب العالم اندلاع صراعات عسكرية كبيرة [8]. وبقدر ما يمكن أن نقرأه في هذه المواجهة من معالم للحرب الباردة، فبين تلك وهذه فوارق جوهرية لا يتسع المقام هنا لذكرها، أقلها عدم إقرار الولايات المتحدة الأميركية بأن روسيا قوة عظمى، أو على الأقل قوة لها مصالح عالمية يجب الاعتراف بها. لقد تعززت نزعة الاستخفاف بقوة روسيا وبالنظام الدولي ومؤسساته التي كانت تستمد جزءاً كبيراً من حضورها في سياق توازنات الحرب الباردة، بفعل خيارات دونالد ترامب لطاقم إدارته، ونهجه الدبلوماسي العدواني.
(4)
دبلوماسية الاستعلاء والتنمر
تظهر هذه الإدارة نزوعاً مفرطاً للإحساس بالتفوق والاكتفاء بالذات يتجاوز نزعة “الانعزال” المعروفة في التاريخ الأميركي نحو نمط من الشوفينية العدوانية لكل ما هو غير أميركي أبيض. لقد كانت أولى خطوات هذه الإدارة التنصل من اتفاقيات دولية في ميادين التجارة الحرة والبيئة والعلاقات الدولية مثلما هو معروف. تترجم هذه السياسات بصورة متطرفة وخطيرة شعار ترامب الانتخابي “أميركا أولا”، الذي يتعزز بنزعة الازدراء والاستخفاف بالقانون الدولي والمؤسسات الدولية.
من ذلك أيضاً مغامرات واشنطن في الخليج فيما يتعلق بالأزمة القطرية والحرب في اليمن. في ذات السياق، جاء قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل بالضد من موقف كل حلفاء واشنطن الدوليين وخصومها على السواء، ما يشكل خلطاً في الأوراق وإرباكاً للقواعد الناظمة للسياسة الدولية في مرحلة يفتقد فيها النظام الدولي حالة الاستقرار والتوازن.
لقد تفوقت هذ الإدارة على إدارة جورج بوش الابن في ازدرائها للمنظمات الدولية والقانون الدولي. وهذا ينسجم تماماً مع إحساسها العميق بأنها تقف في جانب الخير والحق، حتى لو وقف العالم كله ضدها، فإنها ستلجأ للمزيد من القوة حيث لا تنجح القوة. إذاً، ليس من الغريب أن تبدأ نيكي هالي وظيفتها بالتلويح بأنها ستضرب بالحذاء كل من سيجرؤ على انتقاد أو ملاحقة إسرائيل في الأمم المتحدة، وتنتهي إلى تهديد دول العالم التي ستعترض على قرارات إدارة ترامب. إنها دبلوماسية الاستعلاء والتنمُّر التي تجد تعبيراً فظّاً في تهديد ترامب بقطع المساعدات المالية عن تلك الدول “التي تأخذ مالنا، وتصوت ضدنا” حسب تعبيره. هذه مرحلة أشد تشوهاً من شعار بوش الابن: “إما معي أو ضدي”، وتعكس إلى حد كبير شخصية دونالد ترامب الإشكالية، وأسلوبه الشخصي الفظ الذي يبدو كمغناطيس مشاكل.
تعصف برئيس الولايات المتحدة الأميركية تحقيقات فدرالية، وتحيط حالة من عدم الاتزان إدارته، تشهد عليها التغييرات المتلاحقة في طاقمها، وشجاراته العلنية مع أقرب مستشاريه المستقيلين أو المقالين، وهجومه على وسائل الإعلام ومكتب التحقيقات الفدرالية، إلى الحد الذي دفع بالعديد من أعلام السياسة والرأي في أميركا لاتهام الرجل بتهديد الديمقراطية الأميركية والاستقواء على قوانينها[9].
تبقى سمة عدم الاستقرار والتأرجح في السياسات، وبخاصة الخارجية، علامة بارزة في سلوك هذه الإدارة منذ تولي ترامب للرئاسة. وربما دفعته هذه المسألة إلى استقدام عناصر رئيسية للإدارة تتماشى تماماً مع سياساته. فقد انضم إلى إدارته مؤخراً كل من جون بولتون كمستشار للأمن القومي، ومايك بومبيو كوزير للخارجية، ما يعزز من التوجهات العنيفة والتفردية لواشنطن بحكم ما يعرف عن الرجلين من يمينية مفرطة، في ظل إقالة وزير الخارجية ريكس تيلرسون، الذي كان على خلافات مع الرئيس ترامب حول العديد من قضايا السياسة الخارجية، ومن بينها الموقف من الملف النووي الإيراني. وتعتبر التعيينات الجديدة أخباراً جيدة بالنسبة لبعض حلفاء واشنطن الإقليميين، وبخاصة إسرائيل؛ فقدوم الرجلين إلى الإدارة بما يحملانه من عداء شديد لإيران وللإخوان المسلمين وما يعرف بمحور الممانعة، يعني أن إدارة ترامب ستكون بصدد مواقف أكثر تشدداً تجاه هذه الأطراف، حتى لو تطلب الأمر اللجوء للعمل العسكري، مثلما حدث في سوريا، وبمعزل عن القانون الدولي والمنظمات الدولية. إن هذا الميل الفظ للاستعلاء والتنمر سيتعزز أكثر فأكثر في ظل وجود شخصيات مركزية في الإدارة الأميركية لا تخفي -مثلها مثل ترامب- استخفافها بالمنظمات والأعراف الدولية.
في أول تصريح له كوزير للخارجية ومن الرياض -الخصم العنيد لإيران- قال مايك بومبيو إن إيران تعمل على “زعزعة المنطقة، وتدعم الميليشيات والجماعات الإرهابية، وتعمل كتاجر سلاح، إذ إنها تسلح المتمردين الحوثيين في اليمن، وإيران تقوم بحملات قرصنة إلكترونية. وتدعم نظام الأسد القاتل”. وتابع في ذات التصريح: “على العكس من الإدارة السابقة، نحن لا نتجاهل إرهاب إيران الواسع النطاق”[10]. من هذه الزاوية، يبدو العدوان الأخير على سوريا بمثابة اختبار لردود الأفعال الدولية والإقليمية، وقياس للمدى الذي يمكن أن تذهب إليه واشنطن وحلفاؤها في التصعيد ضد إيران وحلفائها انطلاقاً من اليمن وسوريا وبما يكفل إحراج روسيا ورسم قواعد اللعبة الإقليمية والدولية استناداً إلى تحالف أميركي- إقليمي يتسم بالعدوانية والحزم.
(5)
شخصية ترامب وأساليبه غير السوية
إن حالة الفوضى المدمرة التي تحدثها سياسات وتصريحات ترامب هي حالة ملائمة تماماً لنزوع شخصيته غير المستقرة نحو الإثارة والمشهدية “الهوليوودية” والتنمر. لم يحدث -ولا يحدث- مع أي رئيس دولة في العالم أن يقيل أحد أركان إدارته من خلال تغريدة على “تويتر” مثلما فعل ترامب مع وزير خارجيته ريكس تيلرسون. وهي ليست حادثة معزولة، ولا يحتاج الأمر إلى توثيق لاستخدام ترامب المكثف لتويتر في إدارة شؤون الرئاسة، والعلاقات الخارجية، وإطلاق التهديدات. وقد سبق له أن شغل الرأي العام والصحافة في بعض تغريداته غير المفهومة[11].
في سياق التحضير للضربة ضد سوريا، كرر ترامب عبر تويتر تهديده بقرب الضربة، وقدم إيحاءات بموعدها، تاركاً العالم كله يرقب الفعل الآتي. ولا تخلو لغته من حالة إعجاب “بذكاء” و”جمال” السلاح الأميركي. فقد قال في تغريدته عشية العدوان وهو يتوعد روسيا: “صواريخنا قادمة، وستكون جديدة، وجميلة، وذكية”[12]. فأي قائد سياسي، بل أي إنسان سوي هذا الذي يمنح صفة الجمال والذكاء لتكنولوجيا الدمار والموت؟! في حقيقة الأمر، فإن هذا الرجل يعاني من أعراض لمرض ذهاني خطير ويصعب علاجه، وأعراضه تميز أصحاب جرائم القتل والاغتصاب غير المستقرين ذهنيّاً بفعل مرض “رُهاب الوهم”[13]. وهي ذات المشهدية التي في سياقها عرض ترامب في مؤتمر صحفي مشترك مع ولي العهد السعودي مستخدماً لوحة تصويرية نوعية وحجم صفقات الأسلحة التي سيتم توريدها للسعودية، والتي ظهر فيها مقدار سعادته وهو يعرضها أمام العالم، مفصلاً إياها واحدة واحدة بمئات ملايين الدولارات. في هذا المؤتمر، وجه ترامب حديثه لمحمد بن سلمان قائلاً: “هذا فستق بالنسبة لكم”، أي أن كل هذه المبالغ بالنسبة للسعودية لا تعني الكثير. ولم يبدُ ولي العهد السعودي أقل فرحاً ورضا من مضيفه بهذه الصفقة، ولا بنظرة ترامب لبلده السعودية باعتبارها مصدراً لإثراء الولايات المتحدة الأميركية وصناعاتها العسكرية، الأمر الذي ينطوي على قدر فظ من العنصرية والشعور بالتفوق.
يعتبر دونالد ترامب أحد أبرز المؤمنين بتفوق العرق الأبيض، وهو ما أبرزته حملته الانتخابية بكل ما حملته من شعبوية وتحريض على المهاجرين الملونين، وعداء للديمقراطية. ففي أوج حملته الانتخابية، أعلن ترامب أنه لن يعترف بالنتيجة إن فازت منافسته هيلاري كلينتون. يمثل عداء هذه الإدارة للمنظمات الدولية امتداداً منطقيّاً لقيم العداء للديمقراطية والاستعلاء من قبل فريق لا يعتد بقيم الديمقراطية بقدر اعتداده بما يمثله من قيم شعبوية تراهن على ملايين “المؤمنين” الذين ضاقوا ذرعاً بالديمقراطية الليبرالية. في مستوى أكثر عمقاً، فإن التقاء السياسات الداخلية مع السلوك الدولي يشيران إلى تبلور نظام شوفيني، الأمر الذي دفع الرئيس السابق إلى التحذير من أن الولايات المتحدة تواجه خطر الوقوع في مسار يفضي إلى فاشية، مثل نظام أدولف هتلر.
أظهرت الإدارة الحالية في واشنطن، وترامب ذاته، درجة غير معهودة من العنصرية والتزمت العرقي. ففي الأزمة التي فجرتها أحداث مدينة “تشارلوتزفيل” قبل بضعة أشهر، حيث هاجم المتعصبون البيض خصومهم من التقدميين بعنف مروع، وقف ترامب علناً مسانداً للبيض من “الكو كلوكس كلان”، والنازيين الجدد وأشباههم. ثمة نقطة التقاء جوهرية هنا بين شوفينية ترامب والبيض المتطرفين وقناعتهم بِسُمو العرق الأبيض، وبين شوفينية الصهيونية، يضاف إلى قناعتهما المسيائية (المسيحانية) بتمثيلهما للحق، وهنا تكمن إحدى أهم خلفيات قرار ترامب بشأن مدينة القدس، التي تضمنتها تبريراته للقرار. بهذه المعاني، فإن السياسة الخارجية لإدارة ترامب تجسد حالة من التوافق بين نزوعه الأيديولوجي المتعصب وشخصيته العدائية داخليّاً، وبين سلوك إدارته على الساحة الدولية، وهو ما ينذر بمزيد من السياسات العدائية والمنسجمة مع التوجهات اليمينية المتطرفة في أميركا، التي تلتقي إلى حد التطابق مع سياسات اللوبي الإسرائيلي.
خاتمة
يمكن تلخيص السياسة الخارجية لهذه الإدارة، وبخاصة في الشرق الأوسط، بوصف عدائي-سلبي[14]: فهي من جهة عدوانية، بحيث باتت تزيد من اشتعال الصراعات القائمة عبر التدخل المباشر الذي يتسم بتغيير الاستهدافات والخصوم، وبذات الوقت، عدم اتخاذ أية سياسات لمعالجة الصراعات المندلعة. أبعد من ذلك، فإن توجهات فريق ترامب الجديد باتت تؤسس حالة من الفوضى “غير الخلاقة”، إذا ما استعرنا معكوس ما عرف باسم سياسات “الفوضى الخلاقة” أو “البناءة”[15] التي انتهجتها الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط، وأماكن أخرى في العالم عبر العقود الأخيرة من القرن الماضي، وبخاصة في العراق بعد احتلاله عام 2003، ما أدخل هذا البلد في حالة من الفوضى والصراعات الطائفية والإثنية والمذهبية.
بخلاف ثلاثة جوانب رئيسية تبدو على درجة عالية من الثبات في سياسة الإدارة الأميركية الحالية، فإن مجمل سياساتها في المنطقة والعالم تتسم بالتأرجح مع درجة عالية من صعوبة التنبؤ بها. هذه القضايا الثلاث هي: سياساتها تجاه القضية الفلسطينية وثباتها على تبني مواقف إسرائيل، وليس أدل على ذلك من قرار الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة العبرية ونقل سفارة واشنطن إليها، والعداء لإيران والتنصل من الاتفاق النووي معها يشير إلى إصرار الإدارة على سياسات التوتير والتصعيد بخلاف وبالضد من موقف كل حلفائها والأطراف التي وقعت على الاتفاق، وأخيراً الاستمرار في سياساتها في العراق وسوريا، التي يمكن أن تمنح داعش فرصة استغلال الفراغ الذي ستخلفه سياساتها الراهنة، وبخاصة إذا سحبت قواتها من شمال شرق سوريا، الأمر الذي يمكن أن يقود إلى حرب إقليمية بين إسرائيل وحلفائها الإقليميين في العالم العربي من جهة، وإيران وحلفائها من جهة ثانية.
الهوامش
[1] لوندون، مارتن (2018). الرئيس ترامب لا يستطيع إعلان الحرب، الكونغرس يستطيع لكن لماذا لا يفعل. (باللغة الإنجليزية)، TIME
http://time.com/5245014/president-donald-trump-congress-syria-war-authorization/
[2] برونينغر، كيفين (2018). ترامب يستمر بالدعة لتشريعات جديدة، لكن الكونغرس لا يستجيب. تقرير لشبكة “سي.أن.بي.سي” باللغة الإنجليزية. الرابط: https://www.cnbc.com/2018/04/03/trump-congress-dont-expect-big-legislation-in-2018.html
[3] روجانسكي، ماثيو (2016). جورج كينان ما زال هو الخبير الروسي الذي تحتاجه أميركا. مجلة فورين بوليسي باللغة الإنجليزية
[4] في كتابه باللغة الإنجليزية المنشور عام 2015، والموسوم: “هل انتهى القرن الأميركي”، يناقش (جوزيف س. ناي) تلك المقولة الخلافية حول تراجع قوة الولايات المتحدة الأميركية باعتبارها القوة العظمى في النظام الدولي. يقول (ناي) إنه من المخالف للمنطق الاعتقاد بأن أمة ما ستبقى على رأس هرم القوة الدولية للأبد. يعتبر (ناي) أن قوة الولايات المتحدة تشهد تراجعاً نسبيّاً، وتواجه تحديات من قوى دولية في المجالات المختلفة، وبخاصة الاقتصادية مثل الصين، وروسيا، وأوروبا، واليابان. لكن بالمعايير العسكرية والاقتصادية، ما زالت الولايات المتحدة قوة عظمى دون “ال” التعريف، وهو ما يشير -حسب الكاتب- إلى تغيرات في بنية توزيع القوة على المستوى الكوني. في ذات السياق، يشير عالم الاقتصاد- السياسي الحاصل على جائزة نوبل (جوزيف ستيغليتس) إلى أن عدداً من اللاعبين الدوليين أخذوا يقلصون فجوة القوة الاقتصادية بينهم وبين الولايات المتحدة الأميركية في العقدين الأخيرين، في إشارة إلى ذات القوى العالمية التي تحدث عنها (ناي). وأضاف (ستيغليتس) أنه وفق معيار “القدرة الشرائية النتافسية” PPP، فإن الصين بدءاً من عام 2015 هي الدولة الأكبر في العالم من الزاوية الاقتصادية، رابط المقابلة:
[5] ترامب، دونالد (2018). تصريحات، عن وكالة “معا” للأنباء، 25/4/2018، https://www.maannews.net/Content.aspx?id=947275
[6] أوباما، باراك (2016). تصريحات في مقابلة مع مجلة أتلانتك باللغة الإنجليزية، نقلاً عن موقع عربي 21، https://arabi21.com/story/894670
[7] هانا، جون (2018). ترامب كان على صواب عندما هاجم سوريا. مجلة فورين بوليسي باللغة الإنجليزية. الرابط:
http://foreignpolicy.com/2018/04/16/trump-was-right-to-strike-syria/
[8] بوتين، فلاديمير (2016). مقابلة صحفية، عن ار. تي للأنباء، https://arabic.rt.com/news/850232
[9] في مقالة باللغة الإنجليزية في صحيفة نيويورك تايمز نشرها طاقم تحريرها في 10/4/2018، يشير الطاقم إلى تهجم الرئيس على جهات إنفاذ القانون للتغطية على دوره المفترض في عمليات خرق القانون الأميركي، وفي ذلك تهديد لأهم أسس الديمقراطية الأميركية، على حد تعبير الكتاب. المقالة على الرابط:
https://www.nytimes.com/2018/04/10/opinion/trump-michael-cohen-raid.html?
وفي مقالة ثانية، تحذر وزيرة الخارجية الأميركية الأسبق مادلين أولبرايت من التهديد الذي يشكله ترامب للديمقراطية في أميركا، بحيث عنونت مقالتها “هل سنوقف ترامب قبل فوات الأوان”، https://www.nytimes.com/2018/04/06/opinion/sunday/trump-fascism-madeleine-albright.html
[10] بومبيو، مايك (2018). تصريحات منقولة عن جريدة القدس المقدسية. 29/4/2018. الرابط:
http://www.alquds.com/articles/1525018037525430400/
[11] وجه ترامب تهديداً صريحاً لكوريا الشمالة ولوزير خارجيتها عبر تويتر في 24 أيلول (سبتمبر) 2017 بأنها ستزول من الوجود، ما يعد مخالفاً لسياسات تويتر. وفي إحدى تغريداته الليلية في العام 2017 استخدم كلمة “كوفيف” في وصف وسائل الإعلام، الأمر الذي أثار موجة عارمة من التكهنات حول معناها، وما المقصود منها. ولم يستطع أحد أن يجد لها معنى في أي قاموس لغوي.
[12] ترامب، دونالد (2018). عن موقع شبكة مايكروسوفت، https://www.msn.com/ar-eg/news/middleeast
[13] نقلت صحيفة الإنديبندنت وغيرها من وسائل الإعلام نتائج المؤتمر الذي عقده أكثر من خمسة عشر مختصاً بارزين في الأمراض النفسية في الولايات المتحدة الأميركية بكلية الطب في جامعة (يال) العريقة (وهي من بين أول عشر جامعات في أميركا)، الذين أجمعوا على أن (دونالد ترامب) يعاني من هذا الرهاب الخطير، ما يستدعي اتخاذ موقف أخلاقي وتحذير الأميركيين من نتائج أعماله وقراراته
[14] كاتوليس، بريان (2018). سياسة ترامب العدائية- السلبية في سوريا تهدد بمزيد من الفوضى في الشرق الأوسط. مجلة فورين بوليسي باللغة الإنجليزية، , http://foreignpolicy.com/2018/04/16/trumps-passive-aggressive-syria-policy-risks-creating-more-mayhem-in-the-middle-east/
[15] يقف وراء هذه الاستراتيجية مجموعة من الأكاديميين أمثال المستشرق برنارد لويس والمفكر السياسي فؤاد عجمي، والسياسيين من المحافظين في الولايات المتحدة الأميركية، وتستند على فكرة مفادها أن حالات الفوضى وعدم الاستقرار تحمل في طياتها فرصة التغيير. اعتمدت هذه الاستراتيجية في إيران في عقد الخمسينيات من القرن الماضي، وتم اللجوء إليها بشكل مكثف في عهد إدارة الرئيس جورج بوش (الأب) لإيجاد ما يعرف بالشرق الأوسط الكبير من الفوضى التي خلفتها حرب الخليج الثانية 1991.
للتحميل اضغط هنا