“محمد فهاد” صبري الشلالدة
(أستاذ القانون الدولي- كلية الحقوق- جامعة القدس)
رفع حصول فلسطين، في العام 2012، على مركز قانوني جديد في الأمم المتحدة كدولة غير عضو، من مكانتها القانونية كشخص من أشخاص القانون الدولي تحت الاحتلال، ورتب لها آثاراً قانونية بأحقيتها للانضمام إلى العديد من المعاهدات الدولية. ويرتب ذلك التزامات قانونية على فلسطين، تنبع من متطلبات احترامها والتزامها بمبادئ وقواعد القانون الدولي، فضلاً عن أن ذلك بات ضروريّاً لتطوير النظام السياسي الفلسطيني، وإحداث تحول دستوري فلسطيني، من حركة تحرر إلى دولة تحت الاحتلال، وهو ما قد يحدث عبر آليات، منها الإعلان الدستوري أو جمعية تأسيسية أو استفتاء شعبي لبسط السيادة على الإقليم والشعب وفق مبادئ وقواعد القانون الدولي.
المركز القانوني لفلسطين تاريخيّاً
تمتعت فلسطين عند إنشاء هيئة الأمم المتحدة عام 1945، بوضع يمنحها الشخصية القانونية الدولية، لأنّها كانت خلال مرحلة عصبة الأمم (1920- 1946)، في سنوات ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، تحت الانتداب فئة (أ)، كدول عربية أخرى، مثل العراق وسوريا ولبنان والأردن. وكان وضع هذه الأقاليم من ناحية قانونية، حينها، أنّها بلغت تطورها السياسي الذي يؤهلها للاستقلال الكامل، لكنها لا تباشر اختصاص الدولة بذاتها، بل تنوب عنها في ذلك الدولة المنتدبة، التي كانت “بريطانيا العظمى”، في حالة فلسطين[1].
جاء هذا الوضع القانوني لفلسطين تحت الانتداب، في عهد عصبة الأمم، كونها كانت سابقاً جزءاً من الدولة العثمانية، وعُدّ تنازل هذه الدولة عن مشتملاتها الإقليمية وفقاً لاتفاقية لوزان عام 1923 استباقاً مقبولاً، تم به استرداد السيادة على فلسطين من الدولة العثمانية ووضعها في يد عصبة الأمم، الممثلة للمجتمع الدولي حينها، وأوكلت إدارة الإقليم، دون السيادة عليه، إلى بريطانيا وفق نظام الانتداب[2]. وهذا يعني أنّ السيادة على فلسطين ثابتة ومستقرة للشعب الفلسطيني منذ انسلاخ الدولة العثمانية عن فلسطين، ودور الدولة المنتدبة فقط إدارة إقليم فلسطين وتنظيم مصيرها وفقاً للمادة (22) من عهد عصبة الأمم.
وبالنسبة لوضع دولة فلسطين في جامعة الدول العربية، التي تأسست عام 1945، فقد منحت وضعاً خاصّاً ومتميزاً أقر لها ملحقاً خاصّاً، وقد ورد فيه أنّه “نظراً لظروف فلسطين الخاصة، وإلى أن يتمتع هذا القطر بممارسة استقلاله فعلاً، يتولى مجلس الجامعة أمر اختيار مندوب عربي من فلسطين للاشتراك في أعماله”[3].
بعد قيامها عام 1948، التزمت إسرائيل بإعطاء تأكيدات صريحة بالتزامها بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة، حتى يمكن قبولها كعضو في هيئة الأمم المتحدة، وخاصة القرار 181 الصادر بتاريخ 29/11/1947 حول تقسيم فلسطين إلى دولتين، والقرار 194 الصادر من الجمعية العامة عام 1948 بتدويل القدس وعودة اللاجئين[4].
إن الالتزامات الإسرائيلية من وجهة نظر القانون الدولي هي اعتراف إسرائيل بحق الفلسطينيين في إنشاء دولة وفقاً لقرار التقسيم عام 1947 مع تعديلات طفيفة[5].
وفي 11 أيار (مايو) 1949 تم بالفعل، قبول إسرائيل عضواً في هيئة الأمم المتحدة. وأحاطت الجمعية العامة علماً على وجه التحديد، وفي معرض قبولها لإسرائيل، بالتصريحات والإيضاحات التي قدمتها إسرائيل في وقت سابق إلى اللجنة السياسية المخصصة التابعة للجمعية العامة، فيما يتعلق بتطبيق القرارين 181(د- 2) و194 (د -3). وقد أشارت هذه التصريحات والإيضاحات إلى جملة أمور منها النظام المتوخى للقدس، ومشكلة اللاجئين العرب، ومسائل الحدود[6].
وفيما يخص الوضع القانوني للضفة الغربية وقطاع غزة، فإن الضفة الغربية كانت تشكل خلال الفترة 1948- 1967 جزءاً من الأردن، مع الأخذ بعين الاعتبار ما نص عليه الميثاق القومي الفلسطيني من أن الشعب الفلسطيني هو صاحب الحق الشرعي في وطنه، وأنه يقرر مصيره بعد أن يتم تحرير وطنه، والأخذ بعين الاعتبار التحفظات التي وردت على قرار مجلس جامعة الدول العربية عام 1950، والتي تنظر إلى ضم الضفة الغربية إلى الأردن على أساس أنه إجراء مؤقت خالٍ من كل صفة من صفات الاحتلال والتجزئة لفلسطين.
أما بخصوص قطاع غزة، فقد وضع تحت الإدارة المصرية. ولم تحاول مصر ضم القطاع إلى أراضيها أو إعلان سيادتها عليه، بل حافظت على كيانه وعلى طابعه الفلسطيني باعتباره أرضاً فلسطينية يجب في النهاية أن تعود إلى الشعب الفلسطيني. وأنشأت حكومة عموم فلسطين، وجعلت مقرها غزة، ودعتها للاشتراك في مناقشات الجامعة العربية[7].
مع عدم التوصل إلى حل لقضية فلسطين، ظل يسود المنطقة سلام مزعزع، تخللته أعمال عنف استخدمت فيها القوة خلال الفترة من 1950 إلى 1967 حين احتلت إسرائيل كامل المنطقة التي كانت واقعة تحت الانتداب البريطاني على فلسطين.
في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1967، اتخذ مجلس الأمن بالإجماع القرار 242 لعام 1967 الذي يرسخ المبادئ لتسوية سلمية في الشرق الأوسط. ونص القرار على انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها في النزاع الأخير[8].
في شهر تشرين الأول (أكتوبر) 1973، اندلعت الحرب مرة أخرى في المنطقة بين إسرائيل والدول العربية. وفي 22 من ذات الشهر، اتخذ مجلس الأمن القرار (338) لعام 1973 الذي أعاد تأكيد مبادئ القرار (242)، ودعا إلى مفاوضات تهدف إلى إحلال “سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط”[9].
في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1974، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بدعوة منظمة التحرير الفلسطينية إلى الاشتراك في دورات الجمعية العامة وفي أعمالها بصفة مراقب. كما قام مجلس الأمن في عام 1975 بدعوة المنظمة للاشتراك في مناقشات المجلس حول الشكوى التي تقدمت بها الحكومة اللبنانية بشأن الغارات الجوية الإسرائيلية على معسكرات المدنيين الفلسطينيين.
ومما لا شك فيه أن منح صفة المراقب لمنظمة التحرير الفلسطينية في كلا الجهازين الرئيسيين: العام (الجمعية العامة)، والتنفيذي (مجلس الأمن)، للأمم المتحدة، يعتبر إقراراً لنظام العضوية المنتسبة في هيئة الأمم المتحدة[10]، كما أن ذلك يعتبر اعترافاً من قبل المنظمة الدولية للمنظمة بنوع من الشخصية الدولية[11].
إن الاعتراف الدولي بالوضع القانوني للشعب الفلسطيني لنيل حقه في تقرير المصير والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني من قبل المجتمع الدولي ممثلاً في هيئة الأمم المتحدة، يشكل العنصر الأساسي من الناحية القانونية لاتخاذ خطوات إيجابية لممارسة هذه الحقوق عمليّاً، كذلك فإن منظمة التحرير الفلسطينية تعتبر منظمة مشروعة يحميها القانون الدولي[12].
وقد تطور المركز القانوني لمنظمة التحرير الفلسطينية في القانون الدولي، حيث اعترفت الجمعية العامة في قرارها (43/177) بتاريخ 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988 بإعلان دولة فلسطين الصادر عن المجلس الوطني الفلسطيني. وأعادت الجمعية العامة تأكيد الحاجة إلى تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة سيادته على أرضه المحتلة منذ عام 1967. وقررت الجمعية العامة أيضاً استخدام اسم “فلسطين” بدلاً من “منظمة التحرير الفلسطينية” في منظومة الأمم المتحدة، وذلك دون الإضرار بمركز المراقب الممنوح لمنظمة التحرير، ومهامها ضمن منظومة الأمم المتحدة[13].
وفي عام 1998، قررت الجمعية العامة في قرارها (52/250) بتاريخ 7 تموز (يوليو) أن تمنح فلسطين، بصفة المراقب، حقوقاً وامتيازات إضافية للمشاركة في دورات الجمعية العامة وأعمالها، فضلاً عن مؤتمرات الأمم المتحدة والمؤتمرات الدولية[14].
السلطة الفلسطينية والدولة غير العضو
نشأت السلطة الوطنية الفلسطينية أو ما تسمى سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني تنفيذاً لاتفاق أوسلو الموقع في واشنطن في 13 أيلول (سبتمبر) 1993، ومعنى هذا أن السلطة الوطنية الفلسطينية مرحلة انتقالية بين الاحتلال الإسرائيلي وانتهاء الاحتلال، فالسلطة أنشئت بموجب اتفاق بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. ولذلك، فالسلطة هي سلطة تمثيلية تستمد شرعيتها من سابق العلاقة بين منظمة التحرير والشعب الفلسطيني، وهي جزء لا يتجزأ من المنظمة[15].
لذلك، فإن منظمة التحرير الفلسطينية وما انبثق عنها كسلطة وطنية فلسطينية، تعتبر ممثلاً شرعيّاً ووحيداً للشعب الفلسطيني. وتعتبر المنظمة شخصاً من أشخاص القانون الدولي كحركة تحرر وطني تحت الاحتلال، وبناء عليه، فإن المنظمة تملك الأهلية القانونية الدولية التي تؤهلها للنشاطات الدولية المستقلة، ولمزاولة حقوقها وواجباتها المستقلة طبقاً للقانون الدولي، وهي تُجسّد الأهلية والشخصية القانونية الدولية للشعب الفلسطيني على المستوى الدولي.
بتاريخ 23 أيلول (سبتمبر) 2011، قدّم رئيس دولة فلسطين، الرئيس محمود عباس، طلباً للأمين العام للأمم المتحدة طالباً انضمام فلسطين إلى عضوية الأمم المتحدة، استناداً للإجراءات المتبعة في ميثاق الأمم المتحدة والنظام الداخلي للجمعية العامة والنظام الداخلي المؤقت، ولكن فشل هذا الطلب في الحصول على أصوات (9) دول من الدول الأعضاء في مجلس الأمن، بما فيها الدول الخمس الدائمة العضوية.
وقُدّم طلب دولة فلسطين للقبول في عضوية الأمم المتحدة، بناءً على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (181/2) بتاريخ 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، وكذلك إعلان استقلال دولة فلسطين بتاريخ 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 1988، واعتراف الجمعية العامة بهذا الإعلان من خلال القرار 43/177 الصادر بتاريخ 15 كانون الأول (ديسمبر) من العام 1988[16].
وبتاريخ 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، حصلت فلسطين في الأمم المتحدة على وضعية دولة غير عضو (مراقب). وهذا الوضع القانوني لدولة فلسطين في الأمم المتحدة رفع من مكانتها القانونية، حيث أصبحت دولة غير عضو، مراقباً في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وهذا يعني أن المركز القانوني قبل هذه الفترة كان يصنف فلسطين تحت بند كيانات أخرى تمثلها منظمة التحرير الوطنية الفلسطينية، وحاليّاً انتقلت إلى مسمى جديد وهو دولة فلسطين كدولة غير عضو في الأمم المتحدة.
وهذه الوضعية القانونية لدولة فلسطين في الأمم المتحدة رتبت لها آثاراً قانونية منحتها أحقية الانضمام إلى المعاهدات والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.
إن الوضع القانوني لمنظمة التحرير الفلسطينية في الأمم المتحدة هو وضع لم تتمتع به أي حركة تحرر وطني أخرى في تاريخ هيئة الأمم المتحدة، بل إنها تتمتع بامتيازات شبيهة بالدول، والمنظمة عضو كامل العضوية في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، وهي عضو كامل العضوية في المنظمات الإقليمية الأخرى كجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي وحركة دول عدم الانحياز.
والمركز القانوني لدولة فلسطين في القانون الدولي أن منظمة التحرير الفلسطينية كشخص من أشخاص القانون الدولي تتمتع بالشخصية القانونية الدولية بصورة مؤقتة، لأن الغرض الأساسي من قيام هذه الحركات التحررية هو التحول إلى دولة؛ أي إلى شخص من أشخاص القانون الدولي الذي يملك هذه الشخصية الدولية بصورة دائمة، وهي دولة فلسطين الآن[17].
التوصيف القانوني للسلطة الوطنية الفلسطينية
نشأت السلطة الوطنية الفلسطينية بموجب قرار صادر عن المجلس المركزي الفلسطيني في دورته المنعقدة من 10-12/10/1999 في تونس، واستناداً إلى قرار المجلس المركزي، كلفت اللجنة التنفيذية بمنظمة التحرير الفلسطينية بتشكيل مجلس السلطة الوطنية الفلسطينية في المرحلة الانتقالية من عدد من أعضاء اللجنة التنفيذية وعدد من الداخل والخارج، ويكون ياسر عرفات رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية رئيساً لمجلس السلطة الوطنية الفلسطينية[18].
ونشأت السلطة الوطنية الفلسطينية، وهي ما تسمى سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني وفقاً لاتفاق أوسلو الموقع في واشنطن في 13 أيلول (سبتمبر) 1993، والسلطة الوطنية الفلسطينية مرحلة انتقالية بين الاحتلال وانتهاء هذا الاحتلال، أي أن انتهاء الاحتلال يتم وفقاً لاتفاق أوسلو الموقع بين الطرفين[19].
أما بخصوص الطبيعة القانونية للسلطة الفلسطينية، فإن السلطة تقف في موقف وسط ينسجم مع الطبيعة القانونية للمرحلة الراهنة من تطور عملية السلام بين مرحلة الشعب المحتل وسلطاته الوطنية الممثلة له والمعبرة عن آماله، وبين سلطات الدولة الفلسطينية المستقلة.
ولذلك، فان السلطة الوطنية الفلسطينية تتسم بالطابع الإداري من حيث وظائفها الإدارية دون الطابع السيادي. وتتسم السلطة الوطنية الفلسطينية بالطابع السياسي لكونها سلطة تمثيلية تستمد شرعيتها من سابق العلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وهي من ناحية ثالثة، تحولت من مرحلة السلطة السياسية في المنفى بوصفها حركة تحرر وطني إلى كونها سلطة تقوم على ترابها وبين قواعدها، وتعمل على تطوير وتحرير أراضيها وإرادتها بالاتفاق مع الجانب الإسرائيلي، استناداً إلى إعلان المبادئ الفلسطيني الإسرائيلي في 13 أيلول (سبتمبر) 1993[20].
إن السلطة الوطنية الفلسطينية منحت بموجب الاتفاقيات الفلسطينية الإسرائيلية صلاحيات ذات طبيعة تشريعية وقضائية وتنفيذية، وقد تم تحديد هدف المفاوضات وفقاً لإعلان المبادئ 1993 بتأسيس سلطة حكومة ذاتية فلسطينية انتقالية. وتم التأكيد في غزة- أريحا 1994 والمعروفة باسم اتفاقية القاهرة على الوحدة الإقليمية المتكاملة للضفة الغربية وقطاع غزة خلال المرحلة الانتقالية. وبناء عليه، فإن النطاق المكاني لممارسة السلطة الوطنية الفلسطينية صلاحياتها وولايتها في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتم تأجيل البحث في قضايا القدس، والحدود، واللاجئين، والمستوطنات، والمياه، التي سيتم التفاوض عليها في مفاوضات الوضع الدائم[21].
الوضع القانوني للسلطة الوطنية الفلسطينية في ضوء القانون الدولي
لا تعتبر الدولة الشخص أو الكائن القانوني الوحيد الموجود على الصعيد الدولي حاليّاً. إذ توجد إلى جانبها مجموعة من الأشخاص والكائنات القانونية الأخرى، ذات الطبيعة المختلفة والأهليات القانونية المتغايرة، وأهم هذه الكائنات القانونية حاليّاً: المنظمات الدولية، وحركات التحرر الوطني، والفرد، والشركات متعددة الجنسيات[22].
ويتولى كل نظام قانوني تحديد الأشخاص التابعين له والخاضعين لأحكامه. والقانون الدولي العام، بصفته نظاماً قانونيّاً، هو الذي يعين الأشخاص الدوليين الخاضعين لقواعده ورقابته. والشخص الدولي يتمتع بالشخصية الدولية. وهذه الشخصية تتحدد بصفة عامة بأمرين: القدرة على الإفصاح عن إرادة ذاتية خاصة في ميزان العلاقات الدولية، وبالقدرة على ممارسة بعض الاختصاصات الدولية وفقاً لأحكام القانون الدولي العام[23].
وبناء على ما تقدم، فإن السلطة الوطنية الفلسطينية تتمتع بشخصية دولية ذات صلاحيات محددة استمدتها من منظمة التحرير الفلسطينية وفقاً لاتفاقية أوسلو، وهي تعبر عن إرادة ذاتية ضمن صلاحياتها في مجال العلاقات الدولية، ولها أهلية ممارسة بعض الاختصاصات الدولية وفقاً لأحكام القانون الدولي العام.
إن السلطة الوطنية الفلسطينية هي كيان خاص، تتمتع بشخصية قانونية محدودة وفق اتفاقية أوسلو، وهي سلطة حكم ذاتي انتقالي أنشأتها منظمة التحرير الفلسطينية وفق إعلان المبادئ الفلسطيني الإسرائيلي. والأساس القانوني للسلطة الوطنية الفلسطينية كمرحلة انتقالية يستند إلى القرارات الدولية الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة التي تؤكد على الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، وخاصة حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وفق قرارات الشرعية الدولية. وكذلك الأساس القانوني الذي تستند إليه منظمة التحرير وسلطتها الانتقالية بتوافر الدولة وعناصرها، وهي الشعب والإقليم والسلطة السياسية.
الالتزامات القانونية المترتبة على “العضوية المراقبة” والانضمام إلى الاتفاقيات الدولية
يمكن تعريف الانضمام بأنه العمل القانوني الذي بمقتضاه تصبح دولة طرفاً في اتفاق دولي يربط بين وحدات من أشخاص القانون الدولي العام، ويتحقق ذلك إما باتفاق تبرمه الدولة مع أطراف الاتفاق الأول، وهذا هو الطريق التقليدي، وقد يتم بمجرد التوقيع على الاتفاق، أو في صورة إعلان توجهه بإرادتها إلى أطراف الاتفاق الدولي[24].
واستناداً إلى نص المادة (15) من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات عام 1969، فقد عالجت هذه المادة الالتزام بالمعاهدة عن طريق الانضمام، وحيث إن دولة فلسطين تتمتع بمركز قانوني، وهي شخص من أشخاص القانون الدولي كدولة غير عضو في الأمم المتحدة، وهي كذلك دولة طرف في معاهدة فيينا للمعاهدات الدولية لعام 1969، فهذا الوضع القانوني ينشئ التزامات قانونية دولية على دولة فلسطين كطرف منضم أو مصادق على المعاهدات الدولية وواجب عليها تنفيذ كافة المعاهدات الدولية بالطرق الدستورية المناسبة وفقاً لتشريعاتها الوطنية.
أما بخصوص آثار المعاهدات الدولية التي انضمت إليها دولة فلسطين بشكل عام، فإنها ملزمة بتنفيذ كافة المعاهدات المنضمة لها، وهذا يعني في القانون الدولي للمعاهدة -أثناء نفاذها- قوة القانون بين أطرافها، فهي تلزم جميع الدول التي صدقت عليها أو انضمت لها تطبيقاً لقاعدة أنّ “المتعاقد عبد تعاقده”، وعلى أطراف المعاهدة أن يتخذوا الإجراءات والوسائل الكفيلة بتنفيذها، فإن قصّروا في القيام بهذه الالتزامات، ترتبت عليهم المسؤولية الدولية. وليس لدولة أن تمتنع عن تنفيذ معاهدة ارتبطت بها، بحجة أن التزاماتها فيها أصبحت مجحفة، أو أنها أكرهت على قبولها تحت تأثير ظروف خاصة، لأن هذا يؤدي إلى العبث والفوضى وإلى منازعات وحروب لا نهاية لها[25].
في ضوء ذلك، تترتب على دولة فلسطين بانضمامها للمعاهدات الدولية التزامات قانونية دولية بملاءمة تشريعاتها الوطنية بما ينسجم والقانون الدولي. وهذا يتطلب من دولة فلسطين اتخاذ كافة الإجراءات القانونية التي ينبغي اتخاذها لضمان وكفالة الاحترام الكامل للمعاهدات الدولية.
ولكن السؤال المطروح أنه بعد انضمام دولة فلسطين للمعاهدات الدولية، فكيف يمكن طرح مسألة التنفيذ بالنسبة لدولة فلسطين للمعاهدات الدولية؟ وهناك إشكالية بالنسبة لدولة فلسطين بخصوص المعاهدات الدولية، وهي أنّه لا يوجد نص دستوري فلسطيني ينظم من هي الجهة المخولة دستوريّاً بالمصادقة على المعاهدات الدولية، سواء في الميثاق الوطني الفلسطيني لمنظمة التحرير الفلسطينية، أو في القانون الأساسي للسلطة الفلسطينية.
والمقصود في قضية التنظيم للمعاهدات في دولة فلسطين، مسألة إصدار المعاهدة بشكل قانوني داخلي، فهناك دول تنص دساتيرها على اعتبار المعاهدات في حكم القانون بتمام إبرامها دون حاجة إلى تشريع داخلي، وهناك دول أخرى تنص دساتيرها على وجوب اتخاذ إجراءات تشريعية داخلية حتى تصبح المعاهدة ملزمة نافذة[26].
لكن هناك دساتير عديدة لا تتضمن أي نص يشير إلى هذه المسألة. وانقسم الفقهاء إلى فريقين: فريق يرى أن المعاهدة التي لا يصدر بها قانون داخلي لا يمكن أن تلزم الأفراد والسلطات الداخلية، وفريق يرى أن إبرام المعاهدة وفقاً للأوضاع الدستورية يكسبها قوة القانون داخل البلاد.
ولكن معظم الفقهاء يستندون إلى الحكمة من إصدار القوانين ونشرها، فيستحسنون نشر المعاهدات في البلاد، حتى يتسنى للسلطات المحلية وللأفراد الاطلاع عليها واحترام نصوصها وتطبيق أحكامها[27].
ولكن بالنسبة لدولة فلسطين، وفي ضوء عدم وجود نص دستوري عن العلاقة بين المعاهدات الدولية والقوانين والتشريعات الوطنية الفلسطينية، أي العلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي، وفي حالة التعارض بين القانون الدولي وبين القانون الداخلي، واستناداً إلى اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969 (المادة 27) وما قرره القضاء الدولي؛ تكون الغلبة لقواعد القانون الدولي والاتفاقيات الدولية على قواعد القانون الداخلي، حيث إنه لا يجوز لدولة أن تتذرع بقواعد دستورها أو قانونها الداخلي للتحلل من التزاماتها الدولية[28].
لذلك، فإن دولة فلسطين ملزمة باتخاذ كافة الإجراءات الوطنية اللازمة للوفاء بالتزاماتها الدولية المترتبة من خلال انضمامها للعديد من المعاهدات الدولية.
هذا ما أكدته كافة المعاهدات الدولية ذات الصلة بالقانون الدولي لحقوق الإنسان، وعلى ضرورة قيام الدول الأطراف باتخاذ كل ما يلزم من إجراءات في تشريعها الوطني لكفالة كل صور التعاون بما يتلاءم والاتفاقيات الدولية. كذلك يفترض ذلك قيام الدول بإدخال تعديلات قانونية أو دستورية لجعل دستورها وقوانينها متوائمة من الناحية الموضوعية، مع ما جاء في المعاهدات الدولية[29].
وبالنسبة لموقف القانون الفلسطيني من أساليب إدماج اتفاقيات حقوق الإنسان في القانون الداخلي، نلاحظ أن هناك العديد من الأساليب التي يمكن من خلالها إدماج الاتفاقيات الدولية في النظام القانوني الداخلي، منها اتخاذ أي إجراء قانوني معترف به يؤدي إلى إعمال مضمون الاتفاقية بالنسبة للدولة التي ستكون ملزمة بها، وعلى هذا، فليست هناك شكلية[30] محددة بالضرورة تؤدي إلى التزام الدول بالمعاهدة عن طريق اتخاذ إجراء دون آخر.[31]
وبناء عليه، انضمت دولة فلسطين إلى اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969، وتنص المادة (11) من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات على أنه “يجوز للدولة أن تعبر عن ارتضائها الالتزام بالمعاهدة بالتوقيع عليها أو بتبادل الوثائق المكونة لها، أو بالتصديق، أو بالقبول، أو بالموافقة، أو بالانضمام إليها، أو بأية وسيلة أخرى يتفق عليها”.
واستناداً على ما تقدم، فإن دولة فلسطين، من خلال انضمامها للمعاهدات الدولية، عبرت عن ارتضائها الالتزام بكافة المعاهدات الدولية.
ويعتبر انضمام دولة فلسطين إلى المعاهدات الدولية تكريساً قانونيّاً للشخصية القانونية الدولية لدولة فلسطين في القانون الدولي، وبالتالي، يمثل الانضمام كذلك رفع المركز القانوني لدولة فلسطين في سبيل توظيف هذا الوضع القانوني لمواجهة الانتهاكات الإسرائيلية الجسيمة ضد حقوق الشعب الفلسطيني في الأرض الفلسطينية المحتلة.
التوصيات
بناء على ما تقدم، يمكن الخلوص إلى التوصيات التالية:
1- تعزيز وتطوير المركز القانوني لدولة فلسطين كشخص من أشخاص القانون الدولي تحت الاحتلال، وذلك استناداً إلى التحول الدستوري من وضعية منظمة التحرير الفلسطينية كشخص من أشخاص القانون الدولي، وكحركة تحرر وطني تحت الاحتلال، إلى دولة فلسطين كشخص من أشخاص القانون الدولي تحت الاحتلال.
2- التحول الدستوري الفلسطيني من حركة تحرر تقودها منظمة التحرير الفلسطينية إلى دولة فلسطين تحت الاحتلال يتم عبر الإعلان الدستوري أو جمعية تأسيسية أو استفتاء شعبي، وذلك لبسط السيادة على الإقليم والشعب وفق مبادئ وقواعد القانون الدولي.
3- مطالبة المجلس الوطني الفلسطيني بتحديد العلاقة القانونية بين دولة فلسطين ومنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية، وذلك بالإبقاء على منظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، ونقل الصلاحيات الدستورية إلى الدولة من السلطة الوطنية الفلسطينية.
4- واجب دولة فلسطين اتخاذ الإجراءات القانونية والدستورية اللازمة للوفاء بالتزاماتها الدولية، وذلك بإدخال التعديلات القانونية أو الدستورية لمواءمة دستورها وقوانينها بما يتلاءم مع المعاهدات الدولية المنضمة لها دولة فلسطين.
الهوامش
[1] محمد سرحان، مقدمة لدراسة الدولة الفلسطينية، (القاهرة: دار النهضة العربية، 1989)، ص 26.
[2] عبد الله الأشعل، القانون الدولي المعاصر.. قضايا نظرية وتطبيقية، الطبعة (القاهرة، بدون، 1996)، ص 199.
[3] عبد السلام صالح عرفة، المنظمات الدولية والإقليمية، (مصراتة: الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، 1993)، ص271.
[4] عصام الدين حواس، الحكم الذاتي وحقوق السيادة وتقرير المصير في ضوء قواعد القانون الدولي، مع معالجة تطبيقية لحالة الضفة الغربية وقطاع غزة، المجلة المصرية للقانون الدولي، المجلد 36، الجمعية المصرية للقانون الدولي، 1980، ص 26.
[5] المصدر السابق، ص37.
[6] إدارة شؤون الإعلام بالأمم المتحدة، قضية فلسطين والأمم المتحدة، نيويورك، 2008، ص 14.
[7] حواس، الحكم الذاتي، ص 27، 28.
[8] إدارة شؤون الإعلام، قضية فلسطين والأمم المتحدة، ص 17، 18.
[9] المصدر السابق، ص 20.
[10] نظام العضوية المنتسبة: (Associate Membership) هو من صور العلاقات الخارجية التي تقيمها المنظمة الدولية مع الدول غير الأعضاء والأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي، وتعطى العضوية المنتسبة لإفساح المجال أمام الكيانات للحصول على مركز قانوني يتيح لها المساهمة في نشاط المنظمة الدولية.
[11] أحمد محمد رفعت، بعثات المراقبة الدائمة لدى المنظمات الدولية مع دراسة خاصة للوضع القانوني لبعثة المراقب الدائم لمنظمة التحرير الفلسطينية لدى الأمم المتحدة، (القاهرة: دار النهضة العربية، 1992)، ص 169.
[12] محمد فهاد الشلالدة، إعلان قيام الدولة الفلسطينية والقانون الدولي، مجلة آفاق، العدد 5، السنة الثانية، أكاديمية المستقبل للتفكير الإبداعي، رام الله، 1999، ص 108.
[13] إدارة شؤون الإعلام، قضية فلسطين والأمم المتحدة، ص 26.
[14] المصدر السابق، ص 27.
[15] الأشعل، القانون الدولي المعاصر، ص 208.
[16] القصة الكاملة لعضوية فلسطين في الأمم المتحدة.. محطات ووثائق، حركة التحرير الوطني الفلسطيني – فتح، مفوضية الإعلام والثقافة، 2011، ص 13.
[17] محمد المجذوب، القانون الدولي العام، (بيروت: منشورات الحلبي الحقوقية، 2007)، ص 253.
[18] معين البرغوثي ورشاد توام، النظام القانوني لمنظمة التحرير الفلسطينية، سلسلة القانون والأمن، جامعة بيرزيت، معهد الحقوق، 2010، ص 167.
[19] الأشعل، القانون الدولي المعاصر، ص 206.
[20] المصدر السابق، ص 208.
[21] عبد الرحمن أبو النصر، اتفاقية جنيف الرابعة لحماية المدنيين لعام 1949 وتطبيقها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، (مطابع مركز رشاد الشوا الثقافي، بلدية غزة، 2000)، ص 328.
[22] أحمد أبو الوفا، الوسيط في القانون الدولي العام، (القاهرة: دار النهضة العربية، 2004)، ص 559.
[23] المجذوب، القانون الدولي العام، ص 180.
[24] عبد العزيز سرحان، المدخل ومصادر القانون الدولي العام، (القاهرة: كلية الحقوق، جامعة عين شمس، 2006)، ص 129.
[25] عبد الكريم علوان، الوسيط في القانون الدولي العام، الكتاب الأول، المبادئ العامة، (عمّان: مكتبة دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1997)، ص 295.
[26] المجذوب، القانون الدولي العام، ص 650.
[27] المصدر السابق، ص 651.
[28] شريف عتلم، المحكمة الجنائية الدولية.. المواءمات الدستورية والتشريعية (مشروع قانون نموذجي)، (القاهرة: اللجنة الدولية للصليب الأحمر، 2003)، ص 58.
[29] المصدر السابق، ص 59.
[30] حسب المادة 11 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات (يجوز للدولة أن تعبر عن ارتضاءها الالتزام بالمعاهدة بالتوقيع عليها أو بالتصديق …أو بأي وسيلة أخرى يتفق عليها). فبانضمام دولة فلسطين للعديد من المعاهدات الدولية وتوقيع الرئيس عليها تحتاج إلى شكلية لنفاذها والالتزام بها وهناك طريقتين 1- وحدة القانون بمعنى بمجرد الانضمام أو التصديق تصبح سارية النفاذ وعلى الدولة الالتزام بها. 2- ثنائية القانون بمعنى بعد التصديق عليها لا بد من مرورها بإجراءات شكلية كموافقة البرلمان ونشرها في الجريدة الرسمية.
[31] حيدر أدهم الطائي، إدماج الصكوك الدولية لحقوق الإنسان في النظام القانوني الداخلي، (بغداد: كلية الحقوق، مجلة العلوم القانونية، جامعة بغداد، 2007، المجلد 22، العدد 2)، ص 209.
للتحميل اضغط هنا