د. رزق سمودي

(كلية القانون- الجامعة العربية الأميركية)

هناك خيارات قضائية عدة لمواجهة القرار الأميركي، في نهاية العام 2017، اعتبار القدس عاصمةً لدولة إسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إلى هناك، في أيار (مايو) 2018. من هذه الخيارات اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، واللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية، واللجوء إلى القضاء الأميركي. هذا المقال يدرس هذه الخيارات، وأفضل الطرق للتقدم لكل محكمة من هذه المحاكم، والنتائج المتوقعة من ذلك.

 في السادس من كانون الأول (ديسمبر) من العام 2017، أفاق العالم على موقف غير مسبوق للولايات المتحدة الأميركية حيال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. تضمن هذا الموقف اعتراف الولايات المتحدة الأميركية بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، والتمهيد لنقل السفارة الأميركية إلى القدس. وهذا ما حصل فعلاً، حيث أقيمت في الرابع عشر من أيار من العام 2018 مراسيم افتتاح السفارة الأميركية في القدس بحضور أميركي رسمي.

أثار هذا الموقف الأميركي عاصفتين رئيسيتين: الأولى في مشاعر العرب والمسلمين حول العالم، حيث عجت شوارع الدول العربية والإسلامية بالمتظاهرين المحتجين على هذا الموقف، مرتكزين في احتجاجاتهم إلى المكانة الدينية والتاريخية لمدينة القدس. والعاصفة الثانية في تعبير عدد كبير من الدول عن رفضها القاطع لهذا الموقف، على اعتبار أنه مناقض للجهود الدولية المبنية على أساس حل الدولتين، وكون القدس الشرقية عاصمة للفلسطينيين ضمن أي حل نهائي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي[1]. اللافت للنظر أن ذلك كله لم يؤتِ أُكله على أرض الواقع، حيث لم تكترث حكومة الولايات المتحدة، لا بغضب الشعوب العربية والإسلامية ولا بالموقف السياسي للأغلبية الساحقة لدول العالم، واستمرت في مواقفها كما هي.

يسعى هذا المقال إلى استشراف مسلك آخر -أكثر نجاعة- لمواجهة هذا الإعلان الأميركي، وهذا المسلك يتمثل في “الطريق القضائي”، الذي قد يكون طريقاً ذا أثرين: الأول مباشر ينعكس على كينونة القرار وإمكانية إلغائه كليةً. والثاني غير مباشر، بحيث يعطل تبعات الإعلان الأميركي. إلى ذلك، سيركز هذا المقال على محورين أساسيين: الأول يتضمن فهم الانتهاكات التي يتضمنها الإعلان الأميركي للقانون الدولي العام، وكيف أنه مخالف لقواعد القانون الدولي المستقرة. والثاني يتضمن فحص ما إذ كانت المحاكم الدولية والمحاكم الوطنية، وتحديداً المحكمة العليا الأميركية، قادرة على اتخاذ إجراء حيال هذا القرار، إما لجهة إبطاله أو التأثير في نتائجه القانونية. قبل ذلك، ستقوم الورقة بإجراء تفحص عمودي لموقف قواعد القانون الدولي المستقرة من مسألة الاحتلال الإسرائيلي، ووضع القدس على وجه الخصوص، ومدى انتهاك الإعلان الأميركي لهذه القواعد.

انتهاكات الإعلان لقواعد القانون الدولي المستقرة

إن إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حيال نقل السفارة الأميركية للقدس يشكل انتهاكاً صريحاً لمجمل قواعد القانون الدولي، سواء الخاصة بحالة الاحتلال العسكري والطبيعة القانونية للأقاليم المحتلة عموماً، أو القواعد القانونية الدولية الخاصة بالوضع الفلسطيني الإسرائيلي، والطبيعة القانونية لمدينة القدس على وجه الخصوص.

فيما يخص النوع الأول من قواعد القانون الدولي الخاصة بالاحتلال العسكري وحظر ضم الأقاليم الخاضعة لسلطة عسكرية خارجية أو الاعتراف بها، يمكن العودة إلى مجموعة من القواعد، تحديداً قواعد لاهاي للعام 1899[2]، التي تعتبر المادة 43 منها الحد الفاصل الذي لا يجوز تجاوزه فيما يخص الإقليم المحتل. يضاف إلى ذلك ما نص عليه ميثاق عصبة الأمم 1920،[3] بخصوص حظر استخدام القوة، وأيضاً ما جاء به ميثاق “كيلوغ برييان” الموقع في العام 1929، الذي تؤكد مواده حظر استخدام القوة، والتركيز على فض المنازعات بالطرق السلمية، ورفض الاعتراف بأي وضع قانوني ناتج عن استخدام القوة، بما فيه الاعتراف بضم الأقاليم المسيطر عليها. يضاف إلى ذلك ما جاءت به الفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة، التي تنص على أنه “على كل الأعضاء التخلص من استخدام القوة أو التهديد بها ضد سلامة الإقليم أو الاستقلال السياسي لأي دولة”[4]، حيث نتج عن هذه المادة -التي تعتبر عرفاً دوليّاً مستقرّاً- مبدأ قانوني يقضي بحظر الاعتراف بالسيادة على أي إقليم تتم السيطرة عليه من خلال استخدام القوة. يضاف إلى ذلك إعلان الصداقة الموقع في العام 1970، الذي يحرم استخدام القوة والاحتلال العسكري لأقاليم تابعة لدول أخرى، ومن جهة ثانية، يحرم على الدول الاعتراف بتلك السيطرة- إن وقعت[5].

أما فيما يتعلق بموقف القانون الدولي من مدينة القدس على وجه الخصوص، فيمكن العودة إلى مجموعة من القواعد والقرارات الدولية التي تعد بمجملها تجسيداً للقواعد العامة آنفة الذكر بخصوصها.

هناك العديد من القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن خاصة بالقدس، ابتداءً من قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947[6]، والقاضي بقيام دولتين (يهودية وأخرى عربية)، ومنح القدس وضعاً قانونيّاً خاصّاً تحت وصاية الأمم المتحدة، مروراً بقرار الجمعية العامة رقم 36/130 للعام 1981، الذي يؤكد على موقف الأمم المتحدة من قضية القدس ودعوة الدول والمنظمات الدولية إلى عدم اتخاذ أي إجراء من شأنه أن يغير في طبيعة المدينة[7]، والعديد من القرارات الأخرى، وصولاً إلى القرار الأخير رقم 10/19 بتاريخ 21 كانون الأول (ديسمبر) 2017، الذي اتخذته الجمعية العامة عقب إعلان الولايات المتحدة نقل السفارة الأميركية إلى القدس، حيث جاء في القرار أن الجمعية العامة “تؤكد أن أي قرارات أو إجراءات من شأنها أن تغير من التركيبة القانونية أو السكانية أو المكانة الخاصة لمدينة القدس، تعتبر دون أثر قانوني وباطلة، وأن أي إجراء مخالف بشأن المدينة يجب العودة عنه ليتوافق مع القرارات الأممية ذات العلاقة”. في ذات السياق، يحظر القرار على الدول إنشاء بعثات دبلوماسية في المدينة[8]. تضاف إلى ذلك قرارات مجلس الأمن حول القدس، وأهمها قرار مجلس الأمن رقم 478 للعام 1980، الذي يتحدث بصورة جلية عن موقف المجلس حيال مدينة القدس، حيث جاء هذا القرار ردّاً على القانون الأساسي الإسرائيلي رقم 5740 للعام 1970، المعنون “القدس عاصمة إسرائيل”، والقاضي بضم القدس الشرقية وامتداد تطبيق القانون الإسرائيلي إليها. وفي هذا الإطار، عبّر قرار مجلس الأمن -بعد أن أكد على قراره السابق رقم 476 للعام 1980 والخاص أيضاً بمدينة القدس- عن “قلقه الشديد من القانون الأساس الإسرائيلي”، وأن هذا القانون يعتبر مخالفة واضحة للقانون الدولي، وأنه إجراء باطل ويجب العودة عنه”، وأن “على جميع الدول التي أسست لبعثات دبلوماسية في المدينة أن تتراجع عن ذلك”[9]. واللافت في هذا القرار أنه صدر عن مجلس الأمن بأغلبية 14 صوتاً، ولم يعترض أحد، حيث إن الولايات المتحدة اكتفت بالصمت حياله.

الخيارات القضائية في مواجهة إعلان الولايات المتحدة

يبقى السؤال الجوهري حول الطرق أو الخيارات القضائية أمام دولة فلسطين لمواجهة إعلان رئيس الولايات المتحدة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وما تبعه من خطوة عملية تمثلت في نقل السفارة إلى القدس؟

هناك ثلاثة خيارات قضائية قد تؤتي أكلها في سياق مواجهة إجراءات الولايات المتحدة حيال مدينة القدس: الأول: اللجوء إلى محكمة العدل الدولية. الثاني: اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية. الثالث: اللجوء إلى القضاء الأميركي. وسيتم تسليط الضوء على هذه الخيارات، كل على حدة، لتبيان ما يمكن تحقيقه نتيجة للعودة إليها.

أولاً: محكمة العدل الدولية

تعد محكمة العدل الدولية الجهاز القضائي الرئيس لمنظمة الأمم المتحدة، حيث تتمثل وظيفتها في فض المنازعات بين الدول استناداً إلى قواعد القانون الدولي العام التي تشمل المعاهدات الدولية والعرف الدولي والمبادئ العامة للقانون[10]. لذلك، من الطبيعي التفكير باللجوء إلى محكمة العدل الدولية -كوسيلة سلمية لفض النزاع الدولي- كلما قام اعتقاد أن دولة ما قد خرقت قواعد القانون الدولي العام. والجدير بالإشارة إليه أن اللجوء إلى المحكمة يكون من خلال أحد خطين رئيسيين أسس لهما النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، وهما: مطالبة المحكمة بإصدار حكم قضائي إلزامي وفقاً للمواد 34-38، أو مطالبتها بإصدار رأي استشاري وفقاً للمواد 65-68. وفي هذا السياق الأخير، لا بد من التذكير بالرأي الاستشاري الذي صدر عن المحكمة في العام 2004 والخاص بـ”النتائج القانونية لبناء جدار على الأراضي الفلسطينية المحتلة”[11].

استناداً إلى ما تقدم بخصوص محكمة العدل الدولية ووظيفتها، واستناداً إلى قواعد القانون الدولي المشار إليها في القسم الأول من هذا البحث الخاصة بالوضع القانوني لمدينة القدس، واستناداً إلى الاعتقاد أن إعلان الولايات المتحدة بخصوص الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل يشكل خرقاً لهذه القواعد، فإن اللجوء إلى المحكمة من أجل استصدار حكم قضائي أمر ضروري، على دولة فلسطين القيام به. لكن السؤال الجوهري القائم يتمحور حول الطريقة الأنجع للجوء إلى المحكمة؛ فهل على دولة فلسطين اللجوء مباشرة للمحكمة ومطالبتها بإصدار حكم قضائي إلزامي من خلال طلب يقدم مباشرة للمحكمة؟ أم اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة ومطالبتها بإصدار رأي استشاري من المحكمة على غرار الفتوى الصادرة في العام 2004 بخصوص الجدار الذي أقامته إسرائيل على الأراضي المحتلة؟ الأساس في الإجابة على هذا التساؤل ينبغي أن ينطلق من تقييم المخاطر والفوائد لكل حالة من هذه الطرق.

فيما يتعلق بالحالة الأولى المتمثلة في مطالبة المحكمة بإصدار حكم ملزم، تنبغي الإشارة إلى مسألتين أساسيتين: الأولى متعلقة بالاختصاص، والثانية متعلقة بفعالية القرار النهائي الذي سيصدر عن محكمة العدل الدولية. أما فيما يتعلق بالاختصاص، فإن محكمة العدل الدولية وبالاستناد إلى قواعد الإجراءات المعمول بها استناداً إلى نظامها الأساسي، ستنظر أولاً بمدى امتداد اختصاصها إلى موضوع النزاع، وهو مسألة غاية في التعقيد، أخذاً بعين الاعتبار احتجاج الولايات المتحدة ومعارضتها لاختصاص محكمة العدل الدولية حول مسألة إعلانها الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، حيث إن هناك مجموعة من المبررات التي تسوقها في هذا الإطار. يضاف إلى ذلك أن مسألة التحقق من اختصاص المحكمة -وهي مسألة جوهرية- تأخذ وقتاً طويلاً جدّاً أمام المحكمة. أما المسألة الثانية، المتعلقة بمدى فعالية الحكم القضائي الملزم في هذه الحالة، فهو غير ذي جدوى حتى حال صدوره، استناداً إلى الاحتجاج المتصور للولايات المتحدة على هذا القرار، الذي سينعكس حتماً على موقفها عند مطالبة فلسطين مجلس الأمن بإصدار قرار يطالب الولايات المتحدة بتنفيذ أي حكم قضائي سيصدر عن المحكمة بهذا الخصوص. إن هذه المسألة تعيد إلى الأذهان ما حصل في العام 1986، عندما استخدمت الولايات المتحدة حق النقض الفيتو في مواجهة قرار لمجلس الأمن يجبرها على الانصياع لقرار محكمة العدل الدولية لصالح نيكاراغوا[12].

أما فيما يتعلق بالحالة الثانية المتمثلة بمطالبة المحكمة من خلال الجمعية العامة برأي استشاري، فتبدو هذه الوسيلة أكثر فعالية، وإن كان الحكم القضائي الصادر في هذه الحالة غير إلزامي، حيث يمكن في هذا الإطار الإشارة لمجموعة من الفوائد الخاصة بهذا الحكم القضائي المحتمل، التي تتمثل في: أولاً: أن رأي المحكمة في هذه الحالة سيصدر بشكل سريع، آخذين بعين الاعتبار كسب الوقت الذي ستقضيه المحكمة في التحقق من مسألة الاختصاص في سياق القرارات الملزمة، التي -في بعض الأحيان تمتد إلى سنوات- في حين أن المحكمة لا تتعمق كثيراً في هذه المسألة حيال الآراء الاستشارية، حيث إنه من الملاحظ أن معظم الآراء الاستشارية تصدر عن المحكمة، إما في ذات العام الذي يقدم فيه الطلب، أو في العام الذي يليه، في حين أن متوسط الفترة التي تقضيها المحكمة في البت في القرارات الإلزامية هو خمس سنوات[13]. ثانياً: إن الرأي الاستشاري للمحكمة -وإن كان غير ملزم- يشكل فقهاً للقانون الدولي، وبالتالي يعتبر مرجعاً حول المسألة موضوع السؤال، يسترشد به فقهاء القانون الدولي حول تلك المسألة. وخير مثال على ذلك هو الفتوى الصادرة بخصوص الجدار، التي أصبح الجميع يعتقد أنها جزء لا يتجزأ من قواعد القانون الدولي العام. ثالثاً: أن هذا الحكم القضائي -وإن كان غير ملزم بشكل مباشر- ملزم بشكل غير مباشر، آخذين بعين الاعتبار اهتمام الدول التي أيدت الطلب بموضوع السؤال، وبالتالي، ستستند تلك الدول في كل سلوك مستقبلي على الفتوى الصادرة عن المحكمة، ناهيك عن موقف المنظمة المستقبلي الذي سيكون متماهياً مع هذا الحكم القضائي. رابعاً: إن العديد من المنظمات الدولية تنظر إلى الآراء الاستشارية على اعتبار أنها ملزمة للمنظمة، آخذة بعين الاعتبار القيمة القانونية لهذه الآراء، ومثال ذلك ما تنص عليه المادة السادسة عشرة من دستور منظمة الأمم المتحدة للتعليم والثقافة والعلوم للعام 1945.

ثانياً: المحكمة الجنائية الدولية

من ضمن الخيارات القضائية المتاحة أمام دولة فلسطين اللجوء للمحكمة الجنائية الدولية، حيث تعد المحكمة الجنائية الدولية جهازاً قضائيّاً ومؤسسة جنائية دولية دائمة تختص بالنظر في الجرائم الأكثر خطورة، التي تشكل قلقاً للمجتمع الدولي[14]. وهذه الجرائم، حسب نص المادة الخامسة من نظام المحكمة، هي: 1. الإبادة الجماعية. 2. الجرائم ضد الإنسانية. 3. جرائم الحرب. 4. جريمة العدوان[15].

وعلى ضوء هذه المادة، يمكن ملاحظة بعض الجرائم التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي في مواجهة سكان القدس، التي تصل حد جرائم تختص بها المحكمة المذكورة، ومن هذه الجرائم ما ورد في الفقرة (D)، وهي “الترحيل والنقل القسري”، و(J) وهي “جريمة الفصل العنصري” من المادة 7 الخاصة بالجرائم ضد الإنسانية، وكذلك المادة 8/أ التي تضمنت جريمتين تشكلان انتهاكاً لاتفاقيات جنيف 1949، وهما الفقرة (4)، و(7) “الترحيل أو النقل غير المشروع أو الحبس غير المشروع”، وأضف إلى ذلك المادة 8/ب التي تضمنت جرائم تشكل انتهاكاً خطيراً للقوانين والأعراف السارية في نزاع مسلح دولي في إطار القانون الدولي القائم، وهي “نقل السلطة القائمة بالاحتلال، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لأجزاء من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها، أو ترحيل أو نقل جميع أو أجزاء من سكان الأرض المحتلة داخل هذا الإقليم أو خارجه”، وغيرها من الجرائم الأخرى التي لا مجال للتوسع فيها كلها، والتي كانت من أسباب رفض إسرائيل نظام المحكمة، متذرعة بأنه ما من شيء في القانون الدولي يعتبر الاستيطان جريمة حرب[16]، ما يدل على أهمية التمسك بهذه المادة في تجريم أفعال الرؤساء والقادة الإسرائيليين في حالة إقامة دعوى لدى المحكمة.

وقد نصت المادة 13 على ممارسة المحكمة اختصاصها من خلال عدة طرق، من بينها -حسب الفقرة الأولى- الحالة التي يعتقد فيها أن واحدة أو أكثر من هذه الجرائم ارتكبت وتمت إحالتها إلى المدعي العام للمحكمة من قبل دولة طرف حسب المادة الرابعة عشرة من الميثاق[17]. بناء على ذلك، يمكن لدولة طرف إحالة دعوى بخصوص إحدى الجرائم التي تختص بها المحكمة إلى النائب العام ليباشر تحقيقاته[18]، مع الأخذ بعين الاعتبار المواد المتعلقة بقبول الدعوى (المواد 15- 20) والتحقيقات (الجزء الخامس من النظام).

ويمكن إذاً لفلسطين، بما أنها انضمت إلى المحكمة وأصبحت عضواً فيها بتاريخ 1 نيسان (إبريل) 2015[19]، رفع دعوى مضمونها ارتكاب القوات الإسرائيلية ممثلة بأحد القادة أو الرؤساء جريمة من الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة على النحو المذكور في مواجهة سكان القدس، باعتبار أن الاختصاص ينعقد للمحكمة بخصوص جرائم ترتكب في أراضي إحدى الدول الأعضاء[20]، وهذا ينطبق على القدس الشرقية كمناطق فلسطينية محتلة، ولو كان المتهم حاملاً لجنسية دولة غير طرف، وهو ما ينطبق على الرؤساء والقادة الإسرائيليين، ثم بمجرد أن تقبل المحكمة الدعوى وفقاً للمادة 17 من نظامها، يكون ذلك إقراراً باختصاصها، باعتبار القدس دولة محتلة تقع على سكانها جرائم دولية.

وما يدعم هذا التوجه هو إمكانية تقديم رؤساء وقادة إسرائيليين للمحاكمة، ولو لم توقع إسرائيل على نظام المحكمة الأساسي، وهو ما صرح به رئيس المحكمة العليا الإسرائيلية هارون باراك، بقوله “إن المحكمة الجنائية الدولية ستبدأ عملها في تموز (يوليو) 2002، وكل إسرائيلي قد يقدم إلى المحاكمة فيها، حتى لو لم توقع إسرائيل على نظامها الأساسي”[21].

والسبب الذي يدفع للتركيز على طريقة الإحالة من قبل فلسطين كدولة طرف في الميثاق دون الطرق الأخرى، هو أن الطرق الأخرى محفوفة بالمعوقات والصعوبات، فالإحالة من خلال مجلس الأمن تحتاج شروطاً معقدة، أهمها أن تكون مبنية على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ما يعني ضرورة تقدير مجلس الأمن لوجود تهديد للأمن والسلم الدوليين أو وقوع عمل من أعمال العدوان (المواد 40-51)[22]، والخشية هنا من السلطة التقديرية الواسعة لمجلس الأمن بناء على المادة 39 من ميثاق الأمم المتحدة، التي قد تدفعه لرفض الإحالة رغم وجود مسوغ معقول لدى أحد أطراف ميثاق روما فيما لو لجأ لطريق إحالة دعوى إلى النائب العام مباشرة.

ولهذا الأمر فائدة مهمة، وهو وجود سند قانوني متمثل في قبول المحكمة الدعوى المرفوعة، التي تعتبر اعترافاً ضمنيّاً بأن إعلان ترامب بأن القدس عاصمة إسرائيل لا أساس له، ما دامت القدس وفق المحكمة منطقة محتلة ترتكب بحق سكانها جرائم دولية.

ثالثاً: المحاكم الأميركية

إن اللجوء إلى القضاء الأميركي داخل الولايات المتحدة بخصوص الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها يعد من أنجع الطرق لإلغاء هذا الإعلان، حيث يمكن اللجوء إلى المحاكم الفيدرالية، وأيضاً المحكمة العليا الأميركية، التي تتمثل إحدى أهم وظائفها في مراقبة مدى قانونية أعمال السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية[23]. وتستند هذه الوظيفة للمحكمة العليا إلى دستور الولايات المتحدة الأميركية الموقع في العام 1788[24].

ويستند موقف الكاتب في هذا الخيار القضائي إلى نص المادة الثالثة من الدستور الأميركي، التي تحدد العلاقة بين أعمال السلطات المختلفة في الدولة وقواعد القانون الدولي العام، حيث نصت على: “تشمل السلطة القضائية جميع قضايا القانون والإنصاف الناشئة في ظل أحكام هذا الدستور وقوانين الولايات المتحدة والمعاهدات المعقودة أو التي ستعقد بموجب سلطتها”[25]. واضح من هذا النص أن الدستور الأميركي قدم قواعد القانون الدولي العام المتمثل في الاتفاقيات والأحكام القانونية الدولية وقيد أعمال السلطة التشريعية والتنفيذية بهذا القانون. وتأسيساً على ما تم سرده من أحكام القانون الدولي بخصوص الاحتلال الإسرائيلي وموقف تلك الأحكام من مدينة القدس، فيمكن لنا تخيل قرار صادر عن المحاكم الأميركية (في حال حركت دعوى أمامها) يقضي بعدم شرعية قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل والطلب من السلطة التنفيذية إغلاقها وإعادتها إلى خارج المدينة.

[1] على سبيل المثال لا الحصر، استنكرت مصر القرار الأميركي، واستدعى المغرب القائمة بأعمال سفارة الولايات المتحدة بالرباط، وسفراء الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن (روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا)، وعبرت دولة قطر، مثلاً، عن رفضها التام لأي إجراءات تدعو للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، معتبرة أن مثل هذه الإجراءات تقوّض الجهود الرامية لتنفيذ حل الدولتين. بدوره، أدان وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، اعتراف الولايات المتحدة، بالقدس عاصمة لإسرائيل، كما عبّرت أحزاب البرلمان التركي مجتمعة عن رفض الخطوة الأميركية.

[2] الاتفاقية الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية الموقعة في 29 تموز 1899.

[3] ميثاق عصبة الأمم الموقع في 28 حزيران 1919.

[4] ميثاق الأمم المتحدة الموقع في 26 حزيران 1945

[5] قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في 24 تشرين الأول (أكتوبر) 1970 المعنون “مبادئ القانون الدولي فيما يخص علاقات الصداقة والتعاون بين الدول ضمن ميثاق الأمم المتحدة”.

[6] قرار الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة رقم 181 الذي صدر بتاريخ 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947.

[7] قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في 10 كانون الأول (ديسمبر) 1981 بخصوص قضية فلسطين.

[8] قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 10/19 الصادر في 21 كانون الأول (ديسمبر) 2017 بشأن وضع القدس.

[9] قرار مجلس الأمن 478 الصادر في 20 آب 1980.

[10] هذا بالاستناد إلى المادة رقم 1 والمادة رقم 38 من نظام محكمة العدل الدولية للعام 1946.

[11] جاء هذا الرأي الاستشاري بناء على طلب للمحكمة من الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 8/12/2003.

[12] انظر مقترح قرار مجلس الأمن 18428 في 24 تشرين الأول 1986.

[13]  International Court of Justice, List of All Cases:

 https://www.icj-cij.org/en/list-of-all-cases

[14] انظر المادة 1 من اتفاقية روما الموقعة بتاريخ 17 تموز 1997.

[15] المادة 5 من اتفاقية روما الموقعة بتاريخ 17 تموز 1997.

[16] محمد يوسف علوان، اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، مجلة الأمن والقانون -أكاديمية شرطة دبي– الإمارات، مج 10، ع 1، 2002، ص 250.

[17]  تنص المادة (14) على أنه 1- يجوز لدولة طرف أن تحيل إلى المدعي العام أية حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من الجرائم الداخلة في اختصاص المحكمة قد ارتكبت، وأن تطلب إلى المدعي العام التحقيق في الحالة بغرض البت فيما إذا كان يتعين توجيه الاتهام لشخص معين أو أكثر بارتكاب تلك الجرائم.

2- تحدد الحالة، قدر المستطاع، الظروف ذات الصلة، وتكون مشفوعة بما هو في متناول الدولة المحيلة من مستندات مؤيدة.

[18] طارق محمد الديراوي، أهمية وآثار انضمام فلسطين كعضو في المحكمة الجنائية الدولية، مجلة العدالة والقانون – المركز الفلسطيني لاستقلال المحاماة والقضاء “مساواة”، ع 25، 2015، ص 126.

[19] حازم محمد عتلم، نظم الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية، مجلة العلوم القانونية والاقتصادية (كلية الحقوق- جامعة عين شمس)– مصر، مج 45، ع 1، 2003، ص 104.

[20] بوزينة آمنة امحمدي، انضمام فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية وإمكانية تفعيل اختصاصها في مواجهة جرائم إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، أعمال المؤتمر الدولي الثالث عشر: فلسطين.. قضية وحق، طرابلس 2 – 3 كانون الأول (ديسمبر) 2، ص 251.

[21] كمال حماد، المحكمة الجنائية الدولية، شؤون الأوسط– لبنان، ع 108، 2002، ص 196.

[22] سامى جاد عبد الرحمن واصل، سلطة الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية، مجلة مصر المعاصرة– مصر، مج 106، ع 519، 2015، ص61.

[23] The Role of the Supreme Court: Why it was Created, the Power it Holds in our Government, and How Justices Make their often Difficult Decisions, Scholastic, Teachers:

https://www.scholastic.com/teachers/articles/teaching-content/role-supreme-court/

[24] دستور الولايات المتحدة الأمريكية الموقع في 21 حزيران 1788.

[25] نص المادة الثالثة من دستور الولايات المتحدة الأميركية.

للتحميل اضغط هنا