
مقدمة
عانى فلسطينيو سوريا من نظام الأسد (الأب والابن)، الذي حكم وتحكّم بسوريا وشعبها لأكثر من خمسة عقود (1970 - 2023)، وتأسس على سلطة عائلية مافيوية، ووراثية، وانتهاج سياسة الفساد والاستبداد الشمولي، وضمنها الهيمنة على المجتمع والفضاء العام، مع التلاعب بالشعارات والقضايا القومية والوطنية، وضمنها: الوحدة والحرية والاشتراكية، وفلسطين والمقاومة ومصارعة إسرائيل.
وقد تبين، في التجربة، أن كل تلك الشعارات للتوظيف، أي للتلاعب والابتزاز والاستهلاك والمزايدة، وتالياً للتغطية على سياساته، وإضفاء شرعية على سلطته، التي استباحت الدولة والمجتمع، وأضرّت بالشعب السوري، وبالفلسطينيين، كما بالشعارات والقضايا ذاتها.
في هذا الإطار، ثمة عديد من الكتب والدراسات والمقالات التي تحدثت عن حال مجتمع الفلسطينيين في سوريا، وعلاقة النظام السوري بقضية فلسطين، والحركة الوطنية الفلسطينية، ولديّ مساهمات عديدة فيها، لذا فإنني في هذه الدراسة، سأتجنب تكرار ما كتب سابقاً، ما أمكن، محاوِلاً التركيز على الوضع الراهن، واحتمالات المستقبل، مع بعض ملاحظات تأسيسية تميز وضعية، أو مكانة، الفلسطينيين السوريين، عن باقي مجتمعات الفلسطينيين، لا سيما في بلدان اللجوء الأخرى.
على ذلك، يفترض بداية توضيح عديد من المسائل، المتعلقة بمجتمع فلسطينيي سوريا، أهمها:
أولاً، أن عدد اللاجئين الفلسطينيين في سوريا يتراوح بين 600 - 700 ألف فلسطيني، أي حوالي 3 بالمئة من عدد سكان سوريا، لكنهم لا يقطنون في منطقة واحدة، ما يضعف من وضعهم ومن قدرتهم على التواصل. وعموماً فإن أغلبية اللاجئين الفلسطينيين يقطنون في مخيمات متباعدة في مدن دمشق وحلب وحمص وحماة ودرعا واللاذقية، لكن أغلبها يقع في مدينة دمشق وريفها، أكبرها مخيم اليرموك، وكلها مجاورة لأحياء شعبية سورية، باستثناء مخيمي النيرب وحندرات قرب حلب، وخان الشيح وخان دنون والسبينة والست زينب قرب دمشق؛ وهذا كله قبل العام 2012، أي قبل تشريد جزء كبير من الفلسطينيين وتدمير بعض مخيماتهم، وأهمها مخيم اليرموك.
ثانياً، تعتبر وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) المسؤولة عن تأهيل البنى التحتية، وتأمين الخدمات، بما فيها الصحة والتعليم (بالمرحلتين الابتدائية والإعدادية)، في معظم المخيمات الفلسطينية في سوريا.
ثالثاً، يعامل اللاجئ الفلسطيني في سوريا معاملة السوري، باستثناء الحق في الترشيح والانتخاب والجنسية، وهذا أمر عائد لمرحلة الخمسينيات، أي قبل مجيء نظام الأسد، إذ بالعكس من رائج الكلام أنه في عهد نظام الأسد (خاصة الابن) تم الالتفاف على بعض الحقوق، مثل حق التملك، وهو ما سنفصله لاحقاً.
رابعاً، الفلسطيني في سوريا يحمل بطاقة إقامة، ويحصل على وثيقة سفر للخارج، صلاحية السفر بها محدودة.
ويجدر لفت الانتباه هنا إلى أن الفلسطينيين في هذا البلد كانوا، في أغلبيتهم، يعيشون في مخيمات بائسة، وعلى أطراف المدن وأريافها، إلى درجة أن الفقراء السوريين وجدوا فيها بيئة طبيعية لسكناهم؛ تماماً مثلما وجد بعض الفلسطينيين الأغنياء مجالهم في بعض الأحياء الراقية في المدن السورية. أيضاً، فإن هذا يوضّح أن اللاجئ الفلسطيني في سوريا يعامل مثل السوريين، وأنه ضمن ذلك يخضع لما يخضع السوريون له، أيضاً، من كل النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، مع ما يترتب عن ذلك من إجحافات أو تظلّمات.
ويمكن تمييز التجربة السياسية لفلسطينيي سوريا، مقارنة مع مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين في البلدان الأخرى، من خلال النواحي الآتية:
1 ـ اتسامها بالطابع السياسي المدني، المتمحور حول الأنشطة التنظيمية والإعلامية والجماهيرية، على خلاف التجارب الأخرى (الأردن ثم لبنان)؛ التي طغى فيها البعد العسكري (الناجم عن انتشار الأجهزة الأمنية و»الميليشياوية») على بنى الفصائل، ما أثر سلباً على إطاراتها التنظيمية والشعبية ومضامين ثقافتها السياسية. ويبدو أن طبيعة السلطة السورية، في حقبة الأسد (الأب والابن)، التي اتسمت بالقوة، أسهمت في ذلك (بغض النظر عن مقاصدها)، كونها حالت دون هيمنة الفصائل الفلسطينية المسلحة على المجتمع الفلسطيني، بواقع وجود دولة تحتكر السلاح، وقادرة على التحكم بإقليمها.
2 ـ لم تشهد تلك التجربة تفشي ظاهرة «التفرغ» في الفصائل (بالقياس لتجربة لبنان وبعدها الضفة وغزة)، بالنظر لاندماج فلسطينيي سوريا بالحياة الاقتصادية، وتوفر مصادر عمل للأجيال الجديدة من الشباب الفلسطيني. ولا بد من التوضيح هنا بأن هذا الأمر يحسب لصالح فلسطينيي سوريا، الذين التفّوا حول راية المقاومة، وانضووا في فصائلها، بناء على قناعات سياسية وفي إطار التمحور حول قضيتهم الوطنية. وفي الواقع فإن تلك الظاهرة برزت وتوسعت، إلى حد ما، بعد حرمان الحركة الوطنية الفلسطينية من الساحة اللبنانية (1982)، بسبب انتقال مقار معظم قيادات الفصائل وأجهزتها إلى دمشق، وتحول الساحة الفلسطينية في سوريا إلى ساحة للاستقطاب السياسي، لا سيما للفصائل المعارضة لقيادة المنظمة (قيادة «فتح»).
3 ـ بالنظر للأسباب التي تحدثنا عنها، فإن مجتمع الفلسطينيين السوريين في المخيمات (على تباعد توزعها الجغرافي) لم يتأثر مباشرة، وبدرجة كبيرة، بالعمل السياسي الفصائلي (ودائماً بالقياس للتأثر الذي لحق بمجتمع مخيمات لبنان أو غزة)، وقد نتج عن ذلك تمركز العمل الفلسطيني في دمشق - العاصمة، وخاصة في مخيم اليرموك. إضافة إلى ذلك، فقد تمحورت البنى الفصائلية حول ذاتها، وحول بعضها، ما شكّل نوعاً من «مجتمعات» فصائلية مكتفية بذاتها، بمعنى ما، من جهة المرجعية السياسية والعلاقات الاجتماعية والموارد المالية (المتأتية من الخارج أصلاً وليس من المجتمع المعني).
4 ـ كانت سوريا ساحة عمل واسعة لكل الفصائل الفلسطينية، على تعددها وتنوعها وتعارضاتها (لعل التنظيم الوحيد الذي تم حظره نهائياً هو جبهة التحرير العربية التابعة لحزب البعث في العراق). مع ذلك لا يمكن الحديث عن هذه التجربة بدون التطرق للحساسية التي طبعت علاقة القيادة الفلسطينية (وهي قيادة المنظمة وفتح والسلطة) بالقيادة السورية، والتي ازدادت توتراً، مع تداعيات الغزو الإسرائيلي للبنان، وتفاقمت بعد توقيع اتفاق أوسلو 1993، وأفضت إلى قطيعة نجم عنها حظر تنظيم «فتح»، ووضع قيود على نشاط الفصائل المتحالفة معها، مقابل إطلاق حرية النشاط للفصائل المعارضة، بحيث باتت الساحة الفلسطينية في سوريا من أهم ساحات المعارضة للتسوية والسلطة.
5 ـ شكل وعي فلسطينيي سورية لمكانتهم كلاجئين الأساس لاحتضانهم فصائل المقاومة والانخراط فيها. وفي تفحص هذه التجربة يمكن ملاحظة بروز نوع من الانكفاء، أو اللامبالاة، في التعاطي مع مجمل الفصائل الفلسطينية، بحكم تنامي شعور عند اللاجئين بأن حركتهم الوطنية ابتعدت عنهم، بتركيزها على إقامة دولة في الضفة والقطاع، وبحكم تراجع مكانة منظمة التحرير لصالح السلطة، وغياب الهيئات والمنظمات الشعبية الجامعة. وتفيد هذه الملاحظة بأن انتقال ثقل العمل من الخارج إلى الداخل أدى إلى تهميش دور مجتمع الفلسطينيين في مناطق اللجوء والشتات في العملية الوطنية.
6 ـ ثمة عوامل عديدة أخرى، غير المخيمات، أسهمت في تعزيز هوية الفلسطيني، المتمايزة عن السوري، في سوريا، أهمها: خضوع الأجيال الجديدة من اللاجئين الفلسطينيين لنظام تعليم خاص تديره وكالة تشغيل وغوث اللاجئين (الأونروا)، وعدم تمتّع الفلسطينيين بحقوق المواطنة (أسوة بالفلسطينيين في الأردن)، وظهور حركة التحرّر الوطني الفلسطينية، ممثلة بمنظمة التحرير، وأيضاً، الخلافات السياسات السورية - الفلسطينية. وفي ذلك فقد ظلّ فلسطينيو سوريا ينظرون بعين القلق والحذر للخلافات السورية - الفلسطينية، في كل المراحل، وهي أسهمت بتغذية حس الاستقلالية «الوطنية» عندهم، وزادتهم تمسّكا بكيانيتهم السياسية المتمثّلة بمنظمة التحرير الفلسطينية.
على ذلك فإن هذه الدراسة ستحاول دراسة أثر التحولات السياسية الحاصلة في سوريا، في حقبة نظام الأسد (الأب والابن)، قبل اندلاع الثورة السورية وبعدها، على فلسطينيي سوريا، وحركتهم الوطنية، من جهة مكانتهم السياسية والحقوقية وعلاقتهم بالنظام الحاكم، كما سيبحث في الآثار التي يمكن أن تترتب على قيام نظام سياسي جديد في سوريا على أنقاض النظام السابق.
أولاً.. عهد نظام الأسد/ قبل الثورة السورية
الحديث عن نظام الأسد يتعلق بنظام يتعامل مع «مواطنيه» من دون اعتراف بحقوق المواطنة، ووفقاً لمعايير الولاء والطاعة، في ظل شعار معروف «سوريا الأسد إلى الأبد»، وعن نظام قيّد الحركة الوطنية الفلسطينية، وحدّ من حركتها في مجتمع الفلسطينيين في سوريا، كما حاول التدخل في الشؤون الفلسطينية وإنشاء منظمات تابعة له، وهو تعامل مع قضية فلسطين بطريقة وظيفية، تماماً مثلما فعل مع شعار: وحدة حرية اشتراكية، إذ كانت تلك الشعارات أبعد شيء عنه، وهذا ما حصل بقضية فلسطين والمقاومة، إذ كلها شعارات طرحت للمزايدة والتلاعب والتغطية على مصادرة الحقوق والحريات وشرعنة الهيمنة على البلد، الجغرافيا والموارد والشعب، بالقبضة الأمنية.
وللتذكير، فإن جبهة الجولان السورية باتت خارج الصراع ضد إسرائيل منذ خمسين عاماً (منذ حرب تشرين/ أكتوبر 1973)، وقد تم حظر العمل الفدائي من تلك الحدود نهائياً، بل إن النظام، كما هو معروف، وسّع رقعة ضبطه للعمل الفدائي إلى لبنان، في محاولته الإمساك بالورقتين الفلسطينية واللبنانية في آن معاً، بوسائل القوة والقسر والهيمنة على الفلسطينيين واللبنانيين.
هنا ثمة ملاحظتان، الأولى، أن التجمّع الفلسطيني في سوريا، من الناحية التاريخية، كان الأقل اعتمادية على المنظمة (أي على فصائلها ومؤسساتها ومواردها المالية)، كما قدمنا، بحيث بدا أكثر «استقلالية» عن الفصائل، بيد أنه مع ذلك بدا الأكثر تمسّكا بكيانيّتها؛ لكأن هذه الكيانية هي بمثابة «وطن» ثانٍ لهؤلاء اللاجئين، أو بمثابة رابطة وطنية لهم.
أما الملاحظة الثانية، فتفيد بأن هذا التجمّع ظلّ يخضع لنوع من وصاية (أخرى) تفرضها عليه بعض الفصائل الفلسطينية، بمعنى أنه مع الرقابة والتشدّد الأمنيين من قبل السلطات السورية، فإن هذا التجمع خضع، أيضاً، لوصاية سياسية من بعض الجهات الفلسطينية، الموالية للنظام السوري، الأمر الذي أدّى إلى تبرّم قطاعات واسعة من فلسطينيي سوريا من هذا الوضع. والمؤسف أن هذا الأمر بلغ ذروته مع وقوف عديد من الفصائل إلى جانب النظام، الذي يقتل ويدمر ويشرد شعبه، وضمنه الفلسطينيون في سوريا، والذي شمل تدمير بل وتجريف أجزاء كبيرة من مخيم اليرموك.
على ذلك فإن سيرة الحقبة الأسدية مع قضية فلسطين، وحركتها الوطنية، كانت معقدة وصعبة ومهينة ومكلفة جداً، منذ البداية، ولعل قدر الحركة الوطنية الفلسطينية أن صعودها تزامن مع صعود سلطة «البعث»، والأحرى سلطة الأسد، في سوريا. وفي المحصلة فإن ذلك عكس نفسه في التوتر الدائم بين معظم الفصائل الفلسطينية وخاصة «فتح» وبين النظام السوري، كما بين الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وحافظ الأسد، ووريثه بشار من بعده، بسبب تدخلات ذلك النظام، ليس في الخيارات السياسية للحركة الوطنية الفلسطينية، فحسب، وإنما حتى في هيكلية الفصائل الفلسطينية، بدءاً من محاولة السيطرة على حركة «فتح»، في بداية انطلاقتها، من خلال بعض ضباط الجيش السوري، الذين أدخلوا إلى جسم الحركة الوليدة، وفرضوا عليها، مقابل السماح بفتح مكاتب ومعسكرات لحركة «فتح»، فيما عرف بحادثة الضابط السوري يوسف عرابي (1966)، المقرب من حافظ الأسد، والتي نجم عنها مقتله، مع عديد من الأشخاص في أحد مكاتب «فتح» في دمشق. وقد نجم عن هذه الحادثة قيام النظام باعتقال ياسر عرفات وكل قيادة وكوادر «فتح» في دمشق لعدة أشهر، لم يخرجوا منها إلا بعد تدخلات من قادة بعض الدول العربية؛ وهي قصة تم توثيقها في كتاب أصدرته، قبل ثلاثة أعوام، انتصار الوزير (أم جهاد) عنوانه: «رفقة عمر».
وبعد فشل محاولة الأسد السيطرة على «فتح»، أو احتوائها، حاول ذلك في «منظمة التحرير الفلسطينية» من خلال إنشاء فصيلين، هما «الصاعقة» والجبهة الشعبية- القيادة العامة (بقيادة أحمد جبريل سابقاً)، وكذلك عبر فرض إجراءات وقيود على الفصائل الأخرى، للتأثير عليها. ومعلوم أنه لم يكتفِ بذلك إذ أنشأ جهازي مخابرات مختصين في شأن الفصائل، والحركة الوطنية الفلسطينية، هما «الضابطة الفدائية» و»فرع فلسطين» (الذي شمل نشاطه كل شيء فيما بعد)، وبات من أقذر وأقسى فروع المخابرات. وربما يفيد التذكير هنا أن كثيراً من القيادات الفلسطينية دخل المعتقلات السورية، مثل أبو عمار وجورج حبش (تم تحريره بعملية خاصة) وأبو جهاد (خليل الوزير) وعزام الأحمد، وتوفيق الطيراوي، وسمير الرفاعي، وأبو طعان (قائد جهاز الكفاح المسلح في لبنان).
الفكرة من كل ذلك، في المحصلة، أن حافظ الأسد كان يريد الإمساك بالورقة الفلسطينية، لتحويلها إلى ورقة في يده في المساومة مع القوى الدولية والإقليمية، وأيضاً لابتزاز الأنظمة العربية الأخرى، إضافة إلى سعيه لتعزيز شرعيته على الصعيد الداخلي. الأمر الذي دفع الزعيم الراحل أبو عمار إلى إشهار شعار «القرار الفلسطيني المستقل»، في وجه النظام الأسدي تحديداً، وهو الأمر ذاته الذي دفعه، بعد الخروج من بيروت (1982)، إلى الذهاب إلى تونس، مع نقل المقاتلين إلى بلدان عربية أخرى مثل الجزائر واليمن، بدلاً من دمشق، الأمر الذي أثار حفيظة حافظ الأسد.
وفي غضون ذلك، قد يفيد التذكير بأن الأسد الأب هو المسؤول عن هزيمة يونيو/ حزيران 1967 وأنه بدل تحمله أو تحميله، المسؤولية عن الهزيمة، كوزير للدفاع في حينه، قفز في انقلاب عسكري إلى السلطة، في مناخات أحداث سبتمبر/ أيلول 1970 في الأردن، حيث تبوأ منصب الرئيس، محوّلاً النظام الجمهوري إلى نظام وراثي.
وإلى محاولة النظام السيطرة على منظمة التحرير، أو السيطرة عليها، ودعمه إقامة بدائل عنها، تم تقييد أنشطة الفصائل السياسية والإعلامية، بحيث إن تشكيل نادي كرة قدم أو إقامة معرض فني أو تأسيس حضانة للأطفال، كان يحتاج الى موافقة مسبقة من جهاز «الضابطة الفدائية».
محطات الاصطدام الفلسطيني مع الأسد الأب
1- أتى الفريق حافظ الأسد إلى سدة السلطة في سوريا، في العام 1970، بعد قيامه بانقلاب عسكري على رفاقه، ونجم عن ذلك، وقتها، وضع حد لمحاولات القيادة السورية دعم الحركة الوطنية الفلسطينية بوجودها في الأردن، آنذاك. فمنذ ذلك التاريخ لم يعد الموقف السوري يتعامل مع القضية الفلسطينية وفق الاعتبارات الأيديولوجية أو المصلحية/ القومية، بقدر ما بات يتم وفقاً لاعتبارات براغماتية واستخدامية، قوامها تعزيز شرعية السلطة السورية وهيمنتها، وضمن ذلك سعيها لتعزيز مكانتها الإقليمية، من خلال الإمساك بعدة أوراق ومنها بالخصوص الورقة الفلسطينية. وفي المحصلة، فقد نجم عن ذلك اصطدام الوطنية الفلسطينية التي كانت تمثلها حركة “فتح” - القائدة لحركة المقاومة الفلسطينية ولمنظمة التحرير- بالسياسات السورية، وهو ما عبرت عنه برفعها شعار “استقلالية القرار الوطني الفلسطيني”. وفي حينه عملت “فتح” كل ما من شأنه تلافي الضغوط السورية السياسية والعملية على كيانات المقاومة، وتحجيم القوى الممثلة للسياسة السورية في الساحة الفلسطينية؛ مع كل ما ترتب عن ذلك من احتكاكات سلبية مع النظام السوري ومن يمثله أو يواليه فلسطينيّاً.
2- تأسيساً على ذلك، فقد كان بديهياً اصطدام السياسة الفلسطينية بالسياسة السورية في حقبة الحرب الأهلية اللبنانية (1976)، إذ دخلت القوات السورية إلى لبنان مقدمة في ذلك دعماً عسكريا سخياً -وغير متوقّع- لما كانت تسمى الجبهة الانعزالية، وذلك على حساب حلفائها الطبيعيين أو المفترضين في المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. ومعلوم أن هذا الاصطدام لم يتوقّف على الأشكال السياسية، إذ شمل المصادمات العسكرية بين الطرفين. وقد نجم عن هذا الاصطدام في هذه الحقبة نشوء ذاكرة فلسطينية مشحونة بمأساة مخيم تل الزعتر، الذي كان عانى من الحصار الشديد ثم تعرّض لمذبحة نجم عنها تدمير المخيم وتهجير من تبقى من سكانه إلى أماكن أخرى في لبنان. وبالمحصلة فقد بات الوجود السوري مجاوراً للوجود الفلسطيني في لبنان، الأمر الذي عزّز من مكانة سوريا إزاء قيادة المنظمة، لا سيما إزاء قيادة «فتح»، ما انعكس على شكل توتّرات في علاقات الرئيسين الراحلين حافظ الأسد وياسر عرفات.
3- بعد غزو إسرائيل للبنان (1982)، وخروج قوات المنظمة وكياناتها السياسية منه، برز الخلاف السوري الفلسطيني مع ذهاب ياسر عرفات إلى مصر، ونقله قوات منظمة التحرير إلى اليمن وتونس والجزائر بدلاً من سوريا (كما قدمنا)، محاولة منه للحفاظ على استقلالية القرار الفلسطيني، ولتجنّب الوقوع في إسار القبضة السورية. هذا الوضع أدى -فيما أدى إليه- إلى دعم سوريا لانشقاق في حركة “فتح” (1983)، وتمكين المنشقين من السيطرة على مكاتب الحركة ومعسكراتها في سوريا ولبنان، في مرحلة شهدت نوعاً من الاقتتال الفلسطيني في منطقتي البقاع وطرابلس. وعلى العموم فقد توّجت سوريا ذلك بالطلب من ياسر عرفات مغادرة الأراضي السورية، ومن ثم اعتقال معظم كوادر “فتح” في البلد، مع دعم محاولات المنشقين وبعض المنظمات الأخرى لتأسيس إطارات بديلة عن المنظمة، وهو ما أخفقت فيه هذه الفصائل بسبب رفض الفلسطينيين لهذه المحاولات وارتيابهم منها، وتمسكهم باستقلالية القرار الفلسطيني.
4- شهدت الفترة بين عامي 1985 و1988 حرباً شعواء شنّتها حركة «أمل»، اللبنانية على المخيمات الفلسطينية في بيروت (صبرا- شاتيلا- برج البراجنة)، بدعوى محاربة النفوذ العرفاتي فيها. وكان مفهوماً أن حركة «أمل» ما كان لها أن تشنّ تلك الحرب، لا سيما بالوحشية التي تبدّت فيها، لولا دفعها من قبل النظام السوري. وعلى العموم فإن هذه الحرب نجم عنها تدمير أجزاء كبيرة من مخيمي صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة، كما نجم عنها مقتل مئات الفلسطينيين، وتدمير بيوتهم البائسة أصلا، وهو ما أضيف إلى الذاكرة الفلسطينية المثقلة بمأساة مخيم تل الزعتر.
5- مع انطلاق عملية التسوية من مؤتمر مدريد (1991) التي شاركت فيها معظم الدول العربية، حصل نوع من التصادم السياسي بين النظام السوري والقيادة الفلسطينية، وقد تفاقم هذا الأمر مع عقد اتفاق أوسلو (1993) وإقامة السلطة الفلسطينية (1994). وفي الواقع فإن القيادة السورية لم تكن ضد عملية التسوية من حيث المبدأ، إذ إنها شاركت في مؤتمر مدريد، وفي المفاوضات الثنائية مع الطرف الإسرائيلي، ومع ذلك ظلت تأخذ على الرئيس ياسر عرفات وقيادة المنظمة الذهاب نحو التسوية!
6 ـ أيضا قام النظام السوري باحتضان حركة «حماس»، التي بدأت بالصعود في المشهد الفلسطيني بعد الانتفاضة الشعبية الأولى (1987 - 1993)، رغم أنها تنتمي إلى منظومة حركة «الإخوان المسلمين» (المحظورة أصلاً في سوريا آنذاك)، لاستثمارها في صراعه مع القيادة الرسمية الفلسطينية، لا سيما بعد أن تأكد من عجز الفصائل الفلسطينية المتواجدة في سوريا (الصاعقة، القيادة العامة، فتح الانتفاضة) عن الاضطلاع بمثل هذا الدور. وعموما فقد استمرت هذه الحال إلى حين اندلاع الثورة السورية (مطلع 2011)، في عهد بشار الأسد، التي أيدتها في البدايات تلك الحركة، ما استعدى النظام السوري عليها، لكن بعد انحسار الثورة السورية عادت حركة «حماس» مجددا لمحاولة التقارب مع النظام السوري، بدعم من إيران، وحزب الله، في مسعى لصوغ ما سمي في حينه «محور المقاومة والممانعة».
عهد بشار الأسد مع الفلسطينيين
خلف بشار الأسد والده في الحكم، كوريث، وفي عهده واصل سيرة والده، في محاولته الإمساك بالورقة الفلسطينية، وادعاء المقاومة والممانعة، وفوق ذلك ففي عهده برزت العديد من المداخلات السلطوية التي حدت من مكانة اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، ومن حقوقهم المدنية، التي تساويهم بالسوريين.
ربما كانت أولى محاولات بشار الاصطدام مع الفلسطينيين تمثلت بتلك المحاولة الصبيانية، في مؤتمر القمة في بيروت (2002)، للحؤول دون إلقاء ياسر عرفات (المحاصر وقتها في رام الله إبان الانتفاضة الثانية) لكلمته في ذلك المؤتمر، عبر قطع التيار الكهربائي.
وفي العام 2007 برزت حركة “فتح الإسلام”، كظاهرة مريبة في ظروف نشأتها، إذ كانت نمت في أحضان حركة “فتح الانتفاضة” المدعومة من النظام السوري، حتى إن قائدها شاكر العبسي كان نزيلا في سجون المخابرات السورية، ما يضع علامات شكّ بشأن إمكان توظيفها في الشأن اللبناني -في ظروف الصراع السوري مع قوى 14 آذار- بعد اغتيال الحريري رئيس الوزراء اللبناني الأسبق (2005). وقد نجم عن افتضاح أمر هذه الحركة أن الجيش اللبناني شن بذريعتها حملة عسكرية مدمرة نتج عنها تدمير المخيم وإجلاء سكانه منه، والقضاء على المجموعات العسكرية التابعة لهذه الحركة. وهكذا تم تدمير مخيم آخر بعد تل الزعتر وأجزاء من مخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة، على يد حركة أمل، وقتها. وفي المحصلة فقد جرى تدمير مخيم نهر البارد وتشريد سكانه، وبعد التدمير اختفى زعيم هذه الحركة شاكر العبسي بظروف غامضة، مع تسريبات تشير إلى أن المخابرات السورية أخذته أو أخفته.
من جانب آخر، يتعلق بالحقوق المدنية، مثلاً، فقد فوجئ فلسطينيو سوريا في العام (2008) بصدور قانون تملّك الأجانب الذي شمل اعتبارهم، أيضاً، بمثابة «أجانب»، مثلهم مثل الإماراتيين والقطريين والسعوديين والدنماركيين والصينيين وغيرهم، في سابقة فريدة! وكان من شأن ذلك ضعضعة الأساس القانوني لمكانة الفلسطينيين، المساوية للسوريين، وتقويض حق الفلسطيني بتملك عقار لأغراض السكن، وحقه في توريثه لأبنائه. وعموماً فقد تم وضع حد لهذه المخاوف مع مسارعة السلطات السورية للتوضيح بأن القانون المذكور لا يشمل الفلسطينيين المسجّلين كلاجئين في سوريا. مع ذلك بقي أن تملّك الفلسطيني لعقار، ولو من دون هذا القانون، يواجه مصاعب كثيرة، حيث لا يحقّ للعائلة الفلسطينية (وليس الفرد) تملّك أكثر من منزل، أما الشاب أو الفتاة، الذين يتبعون عائلة لديها بيت ملك، فلا يحق له أو لها تملّك بيت آخر (بموجب طابو) إلا في حال التقدّم بإثبات عقد زواج، أي في حال إنشاء عائلة جديدة. وحتى في هذه الحالة فإن تملّك الفلسطيني لمنزل يحتاج إلى موافقة موقّعة من وزير الداخلية، وهذا يحتاج إلى معاملات وفترة زمنية.
أيضاً، في حال زواج فتاة فلسطينية من شاب سوري فإنها لا تكتسب حق المواطنة، أي التسجيل في قيده المدني كسوري، إلا بعد تقديم طلب إلى الجهات المختصّة في وزارة الداخلية، التي لا تبتّ في الطلب إلا في حال إنجاب الفتاة، حتى ولو ظلّت من دون إنجاب سنوات عديدة؛ وهذا أمر تم فرضه في ظل حكم بشار الأسد أيضاً.
واضح أن التنويه إلى هذه المسائل يفيد بأنها ما كانت تحصل سابقاً، حيث كان يمكن للفلسطيني أن يصل إلى مراتب عالية (وصل فلسطيني إلى رتبة وزير مرتين) كما إلى أعلى الوظائف في الدولة، وأعلى الرتب في الجيش (ثمة عديد من الفلسطينيين وصلوا إلى رتبة لواء في الجيش السوري). وكان يمكن للفلسطيني أن يدخل الكلية الحربية، وأن يكون مديراً للتربية والتعليم أو رئيساً لجامعة، أو مديراً لـ «الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون». لكن منذ عهد بشار، بات ذلك صعباً، ربما بسبب النمو البشري في سوريا، وبسبب التحولات السياسية فيها، الناجمة عن الاصطدام مع قيادة منظمة التحرير، ومناهضة عملية التسوية، وتعزيز القبضة الأمنية، وتوريث الحكم.
لكن ما يجب التنويه إليه أن كل هذه الإجراءات (ومعها استثناء الفلسطينيين من الاكتتاب في أسهم المصارف الخاصّة في سوريا) ليس لها مستند في القانون السوري، وإنما هي إجراءات يجري إلزام الجهات المعنية بالعمل بها، حيث القاعدة في الشرع السوري تتأسّس على المساواة في الحقوق بين الفلسطينيين والسوريين (باستثناء الجنسية والمشاركة في الانتخابات الرئاسية والنيابية).
ثانياً.. الفلسطينيون والنظام خلال الثورة السورية
مع اندلاع الثورة السورية (2011)، صدرت تصريحات من مسؤولين سوريين تلقي بالمسؤولية عما يجري على عاتق الفلسطينيين، كما ساهمت بعض الفصائل الموالية للنظام بادعاء أن ما يجري مجرد مؤامرة على سوريا، والمقاومة، وأنها ستدافع عن النظام من منطلقات وطنية وقومية. المشكلة أن الأمر لم يتوقف عند التصريحات، إذ إن هذه الفصائل باتت تطالب بتسليح المخيمات، وإقامة لجان للدفاع الذاتي، الأمر الذي رفضته فصائل منظمة التحرير، بل إن قيادة المنظمة اتهمت جبريل بتوريط الفلسطينيين فيما يجري في سوريا، علماً أن الفصائل المحسوبة على النظام السوري، معزولة جماهيرياً، وليس لها أي دور في المعادلات السياسية الفلسطينية وفي مواجهة إسرائيل.
في المقابل، لم يلحظ من جانب الكيانات السياسية الفلسطينية أي محاولة أو إشارة لحض فلسطينيي سوريا على المشاركة في الثورة السورية، وهذا ينطبق على حركة «فتح» التي تعتبر في خصومة مع النظام، وهي محرومة من العمل العلني في سوريا منذ ثلاثة عقود، كما ينطبق على «حماس» المتعاطفة مع الربيع العربي، التي فضلت الخروج الهادئ لقياداتها من سوريا دون أي إشارة تفيد بالتعاطف مع الثورة السورية.
مع كل ذلك، فإن الأسد الابن استهدف معظم مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، بالتدمير والتشريد والحصار، وأهمها ما جرى في مخيم اليرموك، أكبر تلك المخيمات، إذ شرد معظم سكانه، بعد حادثة قصفه بالطيران (17/12/2012)، وبعد ذلك أخضع لحصار مشدد، مع استخدام بعض الفصائل الفلسطينية للأسف، منذ أواخر عام 2012، مع تحويله إلى حقل رماية لمدفعية النظام وطائراته، ولسلاح الجو الروسي أيضاً، علماً أن المخيم يعيش وسط منطقة ساقطة عسكرياً؛ وهي مأساة أضيفت إلى مآسي مخيمات لبنان تل الزعتر وصبرا وشاتيلا وبرج البراجنة ونهر البارد في لبنان.
وقد بيّنت الأحداث أن المخيمات الفلسطينية لم تنخرط في الأشكال المباشرة في الفعاليات الثورية الجارية، ولم تتحول إلى ساحة لها، رغم تصاعد التحرّكات الشعبية، ورغم كل الأحداث المأساوية التي مر بها هذا البلد، ورغم أن معظم الفلسطينيين يضمرون التعاطف مع المطالبة الشعبية بالتغيير والإصلاح السياسيين. ولعل هذا السلوك الفلسطيني الشعبي، والعفوي، لافت للانتباه، إذ إنه يخرج عن المزاج الفلسطيني المعروف بمساندته أية تحرّكات راديكالية تتوخّى التغيير في أي بلد عربي.
هكذا، فبالنسبة لتحديد مواقف الكيانات السياسية الفلسطينية، يمكننا التمييز بين أربعة مواقف. الأول، وهو موقف المنظمة والسلطة وحركة فتح، وبعض المنظمات المتحالفة معها (مثل فدا وحزب الشعب وجبهتي النضال والتحرير). فهذه الكيانات عبّرت عن نأيها بذاتها عما يجري في سوريا، معتبرة أن هذا الأمر شأن سوري، لا دخل للفلسطينيين فيه، وفق مبدأ «عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد عربي». مع ذلك، فإن أوساط هذه الكيانات لم تكن تخفي تعاطفها مع ثورة الشعب السوري، ومع تطلعاته المشروعة للحرية والديمقراطية، لا سيما أنها كانت متضررة من مواقف سوريا السياسية، في مناهضتها لعملية التسوية، وفي دعمها لقوى المعارضة، وأنها عملياً كانت محرومة من العمل العلني في أوساط فلسطينيي سوريا.
ولعل موقف القيادة الفلسطينية الرسمية (وهي قيادة المنظمة والسلطة وفتح) يستدعي التوقف حقّاً، فهذه القيادة على خصومة مع النظام السوري منذ عقود، وهي ممنوعة من النشاط العلني في سوريا، ومع ذلك فهي ظلت متحفظة، إذ لم يصدر عنها ما يفيد بأي تعاطف مع ثورة الشعب السوري، وكل البيانات الصادرة كانت فقط تطالب بالنأي عما يجري في سوريا، وعدم إقحام المخيمات بالشأن السوري، والمطالبة بعدم التدخل في الشأن السوري، وهو ما ينطبق على ما تسمى فصائل منظمة التحرير الفلسطينية في سوريا.
والثاني، موقف «حماس»، التي كانت سوريا ساحة أساسية وحاضنة مهمة لها، إذ وجدت نفسها معنيّة بثورات «الربيع العربي»، وضمنه صعود نفوذ حركات الإسلام السياسي في إطارها، لا سيما أن هذه الثورات أوصلت عدداً منها إلى السلطة، وأعطتها شرعية داخلية وخارجية. وفي ذلك فقد رأت «حماس» أن استمرار وجود قياداتها في سوريا ربّما يشكل إضعافاً لها، وعامل ضغط عليها، وتضييعاً للفرصة السانحة التي قد تمكّنها من تعزيز وضعها في الساحة الفلسطينية، لا سيما أن نجاحها في الانتخابات (2006) لم يمكنها من ذلك؛ وبالنهاية، فقد اتخذت قرارها الصعب بشأن خروج قيادتها من سوريا. ومع أنها خرجت بدون صخب، وبطريقة هادئة، إلا أن ذلك لم يخفف من حقيقة انتقالها من خندق إلى خندق آخر، غير الخندق الذي تعسكر فيه السياسة السورية.
الموقف الثالث ويمكن تبيّنه عند بعض المنظمات المحسوبة على اليسار الفلسطيني (الجبهة الشعبية - الجبهة الديمقراطية) فهذه المنظمات لم تأخذ موقفاً واضحاً إزاء ما يجري، وظلت مواقفها متأرجحة بين الحديث عن تأييدها للإصلاح في سوريا، وبين إشادتها بمواقف النظام المؤيدة للقضايا القومية وللمقاومة. لكن هذا الموقف غير الواضح على الصعيد الرسمي كان يفتح المجال على نوع من البلبلة في صفوف هذه الكيانات، وعند المتعاطفين معها، وهي بلبلة تنتج مروحة واسعة من المواقف المتناقضة، من تأييد الثورة السورية، بدون حساب، إلى تأييد النظام بصورة مطلقة واعتبار ما يجري مجرد مؤامرة خارجية.
أما الموقف الرابع، فيمكن تبيّنه في مواقف مجموعة الفصائل «المعارضة» للقيادة الفلسطينية الرسمية (لا سيما الصاعقة والجبهة الشعبية - القيادة العامة وفتح الانتفاضة وبعض الفصائل الصغيرة)، وهي عموما فصائل محسوبة على النظام السوري، وتتبنى مواقفه في الساحة الفلسطينية. ومعلوم أن معظم هذه الفصائل تدين لسوريا بوجودها، بالنظر إلى عدم تواجدها تقريباً في أية ساحة أخرى، وبالنظر إلى عدم وجود تمثيلات شعبية وازنة لها، وبحكم غياب أي دور نضالي لها في مواجهة إسرائيل.
ومعلوم أن هذه الفصائل اتخذت منذ البداية موقفاً معادياً للثورة السورية، ومشكّكاً بمقاصدها وبشرعيتها، معتبرة إياها مجرد صدى لمؤامرة خارجية، ومن فعل عصابات معزولة، أي أنها تبنّت في ذلك خطاب النظام نفسه. وفي الواقع، فإن هذه المنظمات لم تقدّم ولم تؤخّر في موقف فلسطينيي سوريا، لأنها أصلاً منظمات معزولة على الصعيد الشعبي، بل إن موقفها هذا ربما أثار ردود فعل عكسية، ضمنها التذمّر من مواقفها، والغضب إزاء انتهاج الحل الأمني من قبل النظام، وقد يكون له دور أيضاً في محض الفلسطينيين تعاطفهم مع ثورة السوريين.
في الغضون، فإنه منذ العام 2011، ونتيجة لتدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية، واستهداف المخيمات، فقد غادرت سوريا نسبة كبيرة من اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان والأردن ومصر وتركيا والدول الأوروبية، بالإضافة إلى النزوح الداخلي؛ نتيجة دمار مخيماتهم ومنازلهم وعدم السماح لهم من قبل النظام بالعودة إليها، لا سيما مخيم اليرموك، الذي أعدمت فيه الحياة نهائياً (وهو ما حصل فيما بعد في قطاع غزة جراء حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل عليه)، إذ دمر هذا المخيم بنسبة 80 - 90 بالمئة مع تقويض ونهب بناه التحتية، وتعفيش كل ما هو صالح فيه (أبواب وأنابيب وأسلاك كهرباء وملابس وأثاث، وكل ما هو نافع)، عبر وكلاء يعملون تحت إشراف أجهزة نافذة، وذلك بعد إجلاء كل سكان المخيم، الذي كان يقطن فيه حوالي 200 ألف فلسطيني.
في المحصلة، فقد لقي 4300 من فلسطينيي سوريا، في مختلف المخيمات، مصرعهم بالرصاص، أو نتيجة القصف، أو تحت التعذيب في معتقلات النظام أو الموت جوعاً (بخاصة في ظل حصار النظام لمخيم اليرموك منذ أواخر العام 2012)، كما تم زج حوالي 3000 فلسطيني في سجون النظام السوري على يد الأجهزة الأمنية، قتل العشرات منهم تحت التعذيب.
ثالثاً.. التحول السياسي في سوريا وأثره على فلسطينيي سوريا
بديهي أن التحول السياسي المفاجئ والسريع والكبير في سوريا سيؤثر على الفلسطينيين وعلى كياناتهم السياسية، وعلى نظرتهم لمكانتهم في ذلك البلد، ودورهم في إطار العملية الوطنية الفلسطينية، بالنظر لأهمية سوريا التاريخية والجغرافية والسياسية للشعب الفلسطيني وقضيته وحركته الوطنية، بخاصة أن تأثيراته الكبيرة والعميقة شملت معظم بلدان المشرق العربي وتفاعلات الأطراف الدولية والإقليمية في الشرق الأوسط.
على ذلك، فما يهمنا هنا هو رؤية هذا الحدث التاريخي الكبير فلسطينياً، وذلك في ضوء عدد من التعقيدات والمشكلات والمداخلات، التي يتمثل أهمها في الآتي:
أولاً، إن مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، كغيره من مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين، يكاد يكون هامشيّاً في تأثيره على المعادلات السياسية الفلسطينية السائدة، بحكم انتهاء ظاهرة الكفاح المسلح من الخارج، منذ أربعة عقود، وتحول مركز الفعل الفلسطيني إلى الضفة والقطاع بعد إقامة السلطة الفلسطينية (1994)، وبحكم خضوعهم للدولة التي يعيشون بين ظهرانيها، وفي ذلك فقد بات اللاجئون الفلسطينيون، خارج إطار حسابات الفعل المباشر في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، إضافة إلى أن مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا ولبنان والعراق، جرى تحطيمه أو تفكيكه بقسوة، وعبر تهجير أعداد كبيرة منه إلى دول أجنبية، يصعب الإحاطة بها لغياب إحصائيات موثقة. ويظهر ذلك من خلال اختفاء مخيمات بأكملها، كلياً أو جزئياً، مثل مخيم اليرموك وحندرات والسبينة ودنون، في دمشق، وصبرا وشاتيلا ونهر البارد في لبنان، إضافة إلى طرد معظم فلسطينيي العراق على يد الميليشيات الطائفية التي اشتغلت كذراع إقليمية لإيران، إثر إسقاط نظام صدام حسين (2003)؛ ما يمكن معه الحديث عن اختفاء، أو ضمور، مجتمع اللاجئين الفلسطينيين من الخريطة الجغرافية والسياسية.
ثانياً، إن القيادة الفلسطينية، وفصائلها الأساسية (وتحديداً «فتح» و»حماس»)، مشغولة في هذه المرحلة بوضعها كسلطة، إذ الأولى مشغولة بمحاولة تعزيز مكانة كيانها السياسي، وحث الجهود لإقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع، في ظل استعصاء سياسي تسببه إسرائيل، مدعومة من قبل الولايات المتحدة الأميركية، علماً أن إسرائيل تحاول قضم مكانة السلطة سياسياً وإدارياً وجغرافياً أيضاً، عبر الاستيطان وعبر هيمنتها على كل مناحي الحياة في الضفة الغربية. أما الثانية، فهي تواجه ظروفاً جد صعبة بعد حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزة، إثر عملية «طوفان الأقصى»، وما نجم عنها من تحويل القطاع إلى منطقة غير صالحة للعيش، مع تشريد مليونين من سكانه كنازحين، يفتقدون المأوى والمورد، إضافة إلى تقويض قدرات «حماس» العسكرية والمادية، مع السعي لشطبها من المعادلات السياسية التي ترتب لليوم التالي للحرب. على ذلك فإن الوضع الفلسطيني غير جاهز، وغير قادر، على حمل همّ الفلسطينيين في سوريا، على المدى القريب، حتى لو رغب بذلك. وقد شهدنا سابقة، في هذا الأمر، في التعاطي الضعيف للفصائل الفلسطينية مع ما جرى للفلسطينيين اللاجئين في العراق، عندما تم التنكيل بهم وتهجير معظمهم، بدون إبداء أي موقف، وهو ما حصل في لبنان، أيضاً، بعد الاجتياح (1982)، في استهداف مخيماتهم، وتصعيب قدرتهم على العيش، والحد من فرصهم على العمل، والضغوط الموجهة عليهم لدفعهم إلى الهجرة، كما ذكرنا، من دون أن تستطيع الحركة الوطنية فعل شيء، علماً أنها لم تفعل شيئاً لتحسين، أو لترشيد، القوانين المدنية اللبنانية بخصوصهم، عندما كان ذلك في وسعها إبان وجودها كقوة قادرة في لبنان.
ثالثاً، بخصوص فصائل «اليسار» الفلسطيني في سوريا، فهي لا حول لها ولا قوة، إذ إنها ضعيفة من كل النواحي، وحتى إنها تكاد لا تجد لنفسها مكانة فيما يحدث، لا في فلسطين، ولا في العالم العربي، بل إن هذه القوى نكصت عن طبيعتها بسكوتها، عن نظام الأسد، بما فعله بشعبه، وحتى بما فعله في المخيمات الفلسطينية، وبخاصة في مخيم اليرموك، وتالياً لذلك إنكارها مشروعية الثورة السورية، ما يفسر الضبابية في مواقفها، التي وصلت إلى درجة الوقوف في صف نظام الأسد (الساقط) والتماهي مع ما يسمى محور «المقاومة والممانعة» الذي تتزعمه إيران، التي شاركت في قتل وتهجير السوريين، لذا فهي بعد التغيير السوري المفاجئ باتت في حيرة من أمرها، إضافة إلى ضعفها وانحسار شعبيتها.
رابعاً، بالنسبة للفصائل التي كانت محسوبة على النظام السوري، وموالية له، أو المتطابقة مع سياساته، على طول الخط، فهي لا تتمتّع برصيد شعبي أصلاً، وغير مؤثّرة على كل الأصعدة، وتأثيرها الوحيد ناجم عن النفوذ الذي كانت تمنحه إياها السلطات السورية، لذلك فإن هذه الكيانات لن تجد لها مكاناً في العهد السوري الجديد، على الأغلب، إذ لن تجد قبولاً في مجتمع الفلسطينيين السوريين، الذي يأخذ عليها وقوفها الصريح إلى جانب النظام، الذي قتل واعتقل ألوفاً من الفلسطينيين وحاصر بعض المخيمات ودمرها، باعتبارها كانت شريكة له، كما أن السلطات الجديدة لن تسمح لها بالعمل، على الأرجح.
خامساً، فيما يتعلق بحركة «فتح» (وهي قيادة السلطة والمنظمة) فإن ما جرى في سوريا لن يؤثر سلباً في وجودها، بل ربما بعكس ذلك، نظراً لسوابقها في الصراع مع النظام السابق، الذي دفعت أثماناً كبيرة له، وهو الذي حرمها من العمل العلني بين اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، طوال قرابة ثلاثة عقود (1983 - 2013)، وأغلق معسكراتها وانتزع ملكية مقراتها، بل واستولى على بيوت بعض قادتها. وفي الواقع فإن هذه الحركة رغم التنكيل الذي تعرضت له (سجن معظم كادراتها لعدة سنوات في أواسط الثمانينيات)، ورغم منعها من العمل العلني، ورغم تحولها إلى سلطة في الأراضي المحتلة (1967)، بعد عقد اتفاق أوسلو (1993)، ما نجم عنه إزاحة حق العودة، لصالح الحق في إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع، إلا أنها ظلت بالنسبة للاجئين الفلسطينيين الحركة التي أطلقت الكفاح المسلح، ونافحت عن الوطنية الفلسطينية، وتحدّت بعناد سياسة الوصاية السورية؛ وبديهي أن ذلك لا يكفي لنهوض هذه الحركة في سوريا، لأن هذا الأمر يتطلب روافع أو متطلبات ذاتية أخرى، ربما لا تبدو الحركة بطبيعة بنيتها قادرة على تلبيتها، لمواكبة التغيير السياسي في سوريا.
سادساً، أما فيما يتعلق بحركة «حماس»، فهي تواجه مأزقاً كبيراً، بعدة مستويات، نتيجة التغيرات في المشهد السياسي السوري، بخاصة أنها حاولت التطبيع مع النظام سابقاً، وأيضاً نتيجة التغيرات في المشهد السياسي في المشرق العربي، الذي يتمثل بانهيار ما سمي «محور المقاومة والممانعة»، وأفول مكانة إيران في المنطقة، التي كانت راهنت عليها، إضافة إلى أن تلك الحركة، في كل الأحوال تبدو في وضع حرج وصعب، مع السلطات السورية الجديدة. وفي المحصلة، فإن تلك الحركة تواجه استحقاقات كبيرة، تتطلب منها مراجعة خطاباتها وأحوالها وعلاقاتها، إن بدفع من الأكلاف الباهظة، التي تسببت بها عملية «طوفان الأقصى» في غزة، التي وجدت فيها إسرائيل ضالتها لإنزال كارثة بالفلسطينيين، وكذلك بدفع من أفول أو اختفاء حلفائها، السابقين (إيران، وحزب الله، والنظام السوري) من مشهد الفاعلين الإقليميين، ونسبة لتراجع قدراتها وإمكانياتها ومواردها العسكرية والمادية.
سابعاً، تبقى ضرورة لفت الانتباه هنا إلى أن مزاج معظم الفلسطينيين الناشطين سياسياً في سوريا، لا سيما من الأجيال الجديدة، منحاز إلى الوطنية الفلسطينية، وهو يرى أن النظام السوري الفارط لطالما استهدف تلك «الوطنية»، وحاول تقزيم شأنها وتقييدها. ومعلوم أن هذه «الوطنية» تتمثل بشكل أكثر في «فتح»، أكثر من أي فصيل آخر، لكن هذا لا يعني أن ثمة تطابقاً تاماً بين توجهات هؤلاء مع السياسات التي تنتهجها قيادات «فتح». لكن مشكلة هؤلاء الفلسطينيين، من الذين يشكلون المزاج العام للاجئين غير المنتمين إلى الفصائل، افتقارهم لإطارات عمل منظمة، ولمنابر يمكنهم من خلالها التعبير عن ذاتهم، وافتقادهم للشرعية والإمكانيات اللازمة للعمل في ظروف الساحة الفلسطينية، ما يضعف من تأثيرهم، مع ذلك، من المنتظر أن هذا القطاع ربما يكون الأكثر استفادة من التغييرات التي قد تجري في سوريا.
ثامناً، وبشأن السلطة الجديدة في سوريا، فهي منذ البداية أكدت أن علاقتها الرئيسية ستكون مع منظمة التحرير الفلسطينية، كممثل للشعب الفلسطيني، وقضيته، وهذا أمر إيجابي مبدئياً، ويفترض تعميقه، وتعزيزه، بعد كل التوترات التي شهدتها الوطنية الفلسطينية مع النظام السابق، وهذه فرصة من أجل التأسيس لعلاقات فلسطينية - سورية سليمة، بعد قرابة ستة عقود من المداخلات الصعبة والتوترات المكلفة. وفي كل الأحوال، فقد تم التواصل بين القيادة الفلسطينية، وهي قيادة المنظمة والسلطة و»فتح»، وبين القيادة السورية ممثلة بالرئيس السوري أحمد الشرع، من خلال وفد رسمي زار دمشق برئاسة رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى (يناير 2025)، كبداية لعلاقة رسمية منتظمة. أيضا فإن السفارة الفلسطينية في دمشق تواصل عملها كالمعتاد باعتبارها ممثلاً للسلطة الفلسطينية في رام الله، وهذا ينطبق على مكتب منظمة التحرير الفلسطينية، الذي يقوم بمهامه بشكل طبيعي في دمشق. ولعل الإشارة المهمة، التي وجهتها السلطة الجديدة، أيضاً، تتمثل بوضع يدها على معظم مقرات ومعسكرات الفصائل الموالية للنظام السوري (الصاعقة، القيادة العامة، فتح الانتفاضة)، ومطالبتها كل الفصائل بتسليم الأسلحة التي لديها، وقيامها باعتقال وملاحقة المتورطين، من الفصائل، بالمشاركة مع النظام في قتل السوريين والفلسطينيين. وباختصار، فثمة وضعية جديدة للنظام السياسي في سوريا، تفترض من فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية التكيف معها والاستثمار فيها، بما يخدم القضية الفلسطينية، ومجتمع اللاجئين الفلسطينيين في سوريا.
تاسعاً، ما يفترض لفت الانتباه إليه هنا، أيضاً، أن سياسة النظام الجديد تشي بالتعامل مع الفلسطينيين بمساواتهم مع السوريين، إن باستعادة حقوقهم التي كانت قبل قيام النظام الفارط بالانقلاب عليها، كما بالتعامل معهم بضمهم إلى القيود المدنية السورية، بعد أن كان لديهم قيود كلاجئين فلسطينيين يتبعون لمؤسسة اللاجئين الفلسطينيين، التطور الآخر اللافت، الذي ينبغي ذكره هنا، يتعلق بإنهاء الخدمة العسكرية الإلزامية، بمعنى أن ذلك يسقط الخدمة الإلزامية عن الفلسطينيين، وتاليا حل جيش التحرير الفلسطيني أيضاً، الذي كان يعتبر جزءا من الجيش السوري. في هذا السياق فربما تفضي الأحوال، على الأرجح، إلى منح اللاجئين الفلسطينيين مكانة المواطنة، على غرار وضع اللاجئين الفلسطينيين في الأردن؛ وهو أمر يمكن أن يعزز من مكانة الفلسطينيين في سوريا، ويسهل عليهم حياتهم، من دون أن يتعارض ذلك مع احتفاظهم بهويتهم الوطنية، وبانتمائهم لقضية شعبهم.
عاشراً، على صعيد دور سوريا في الصراع ضد إسرائيل مستقبلا، يبدو أن السلطة الجديدة، بخاصة في ظل الأحوال الصعبة التي تمر فيها سوريا، ستركز جهودها على تعزيز الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي، وبناء الدولة والمجتمع، وضمن ذلك معالجة التركة الثقيلة التي تركها الرئيس الفارّ، كأولوية يحتاج إليها الشعب السوري للنهوض بأوضاعه، وربما إن سوريا بحاجة إلى عقد أو اثنين لاستعادة عافيتها، إن سارت الأمور بطريقة ناجعة، علماً أن كل مقدرات الجيش السوري باتت متهالكة، فضلاً عن أن ما تبقى منها قامت إسرائيل بتدمير معظمه، في غارات متوالية شنتها بعد سقوط النظام مباشرة، لذا ليس من الحكمة، ولا بأي شكل، ولا تحت أي مبرر، الطلب من النظام الجديد أي شيء على هذا الصعيد، في المدى المنظور.
حادي عشر، ما يفترض الانتباه إليه، أن التغيير الحاصل في سوريا، وعند فلسطينيي سوريا، يفترض ربطه بالتغيرات السياسية الانقلابية الحاصلة في المشرق العربي، تبعاً للتداعيات الناجمة عن «طوفان الأقصى»، وتالياً حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على الفلسطينيين في غزة، وعلى حزب الله في لبنان، وما نجم عن كل ذلك من ظروف أدت إلى إسقاط نظام الأسد في سوريا، وتاليا انحسار نفوذ إيران في المنطقة، وتعزيز مكانة إسرائيل في الشرق الأوسط، مدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية، إذ إن كل تلك التطورات والتغيرات، التي ضمنها سعي إسرائيل الحثيث للهيمنة على الفلسطينيين من النهر إلى البحر، ستؤثر كثيرا على مسار الحركة الوطنية الفلسطينية، وخياراتها السياسية والكفاحية، كما ستؤثر على وجود الشعب الفلسطيني. ومن جانب آخر، فإن تلك التطورات، والتغيرات، ستفضي إلى انهيار، أو أفول، الخيار العسكري في مواجهة إسرائيل عربيا وفلسطينيا، لانعدام، أو للافتقار، لإمكانياته ومتطلباته، وأيضا بالنظر لتكلفته العالية، إضافة إلى أنه يكاد لا يوجد طرف عربي أو فلسطيني يدعو إليه بشكل جاد، في الظروف الراهنة، وفي المدى المنظور؛ من دون أن يعني ذلك الخضوع لإرادة إسرائيل، أو لسياساتها، أو صرف النظر عن أشكال الكفاح الممكنة وفقا للوضع الراهن فلسطينيا وعربيا ودوليا. وقد يفيد هنا التذكير أن إسرائيل إبان قصفها لمواقع الجيش السوري، قبل وبعد سقوط نظام الأسد، قامت بقصف معسكرات ومقرات لفصائل فلسطينية، واغتيال قياديين فلسطينيين، في سوريا ولبنان.
هكذا، ثمة مجال للجزم بأن وضع الفصائل الفلسطينية في سوريا، وضمنه نشاط منظمة التحرير، سيتحدد بحسب شكل النظام السياسي الذي سينشأ، بعد المرحلة الانتقالية، إذ على الأرجح ستختفي بعض الفصائل، التي كانت تعتمد في وجودها على نظام الأسد الساقط، وإن بقيت فهي لن تكون فاعلة أو ملحوظة، لا رسمياً ولا شعبياً، وربما أنها لن تحظى بأية شرعية سياسية أو قانونية أو مجتمعية (وهذا يشمل منظمات (الصاعقة، القيادة العامة، فتح الانتفاضة)، لا سيما أن النظام الحالي حل حزب «البعث»، كما حل كل أحزاب الجبهة التقدمية في سوريا، والأحرى أن ذلك سيشمل الفصائل التي كانت تشتغل وفقا للوظيفة السورية، في الحالة الفلسطينية، في إطار النظام السابق.
ظاهرة أخرى، يمكن أن تنتج عن كل ما يجري، تتمثل بإمكان وجود ظروف تتيح تنامي ظاهرة المستقلين، والمنابر المستقلة، بخاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وعبر عديد من المبادرات والتجمعات الشبابية ومنظمات المجتمع المدني. ويجدر التوضيح هنا أن مصطلح «المستقلين» يشمل الأفراد الناشطين في العمل السياسي والجماهيري، بشتى أنواعه، من دون ارتباط مباشر بفصيل معين. ومعنى ذلك أن هؤلاء الأفراد ينشطون بشكل طوعي، وبناء على وعيهم لدورهم في العملية الوطنية، متوخّين في ذلك المصلحة العامة، أي مصلحة القضية والشعب؛ من دون ارتهان للمصالح والمواقف الفصائلية، مع ملاحظة أن القطاع الأبرز من هؤلاء الناشطين المستقلين كانوا سابقا من المنتمين تحديدا لحركة «فتح» والجبهتين الشعبية والديمقراطية.
وكانت المخيمات الفلسطينية في سوريا شهدت، كما غيرها، انتشار ظاهرة تشكيل نشطاء لمنظمات مجتمع مدني (على تنوع مهامها وموضوعاتها وأنشطتها)، للتعويض عن قصور الفصائل، وكبديل عن العزوف عن الانتماء إليها، وتلبية ميل قطاع من الشباب للانخراط في العمل السياسي والنشاط الاجتماعي الطوعي. وقد تشكلت هذه اللجان بداية في إطار دعم الانتفاضة، وبعد ذلك ظهرت لجان للدفاع عن حقوق الفلسطينيين في الأرض والهوية، ثم ظهرت لجان الدفاع عن حق العودة. وكما قدمنا فإن الأمر لم يقتصر على ذلك، فثمة لجان أيضا تعنى بالأنشطة الثقافية أو الرياضية أو بالخدمات الصحية.
وقد بينت التجربة أن ثمة مشكلات تحيط بعمل هذه اللجان، من ضمنها، مثلاً، محاولات الفصائل الحد من انتشارها، وعدم التعاون معها، والنظر إليها بصورة تنافسية، لا تكاملية، حيث وصل الأمر ببعض الفصائل حد تشكيل هيئات مماثلة لهذه اللجان، تعمل تحت رعايتها. أيضاً، تعاني هذه اللجان من ضعف الإمكانيات، ومن القيود المحددة للنشاط الجماهيري، ومن ضغوط الشرعية الفصائلية. وعلى صعيدها الداخلي، تعاني هذه اللجان والهيئات، في أحوال كثيرة، من افتقادها للخبرات والكادرات المجربة، ومن العمل بطريقة مزاجية وعفوية وعاطفية، كما تعاني من انعدام بنائها على قواعد قانونية ومؤسسية وديمقراطية، وضعف التنسيق بينها.
وعليه، يمكننا أن نخلص من مراجعة هذه التجربة إلى أن زمن العمل الفصائلي (بأشكاله السائدة)، الذي بدأ في أواسط الستينيات، ربما أوشك على الأفول، بما له وما عليه، بحكم أسباب ذاتية وموضوعية. وفي حين يبدو أن هذه النتيجة تستثني وضع «فتح» و»حماس» وتصب في صالحهما، وعلى المستوى المنظور، إلا أنها ليست كذلك في الحقيقة، إلا بسبب قدرة هاتين الحركتين على الاستقطاب، بحكم نفوذهما السياسي في المجتمع (في الضفة وغزة)، وقدرتهما على التوظيف، وأيضاً بحكم إمكانياتهما المادية الكبيرة وموقعهما في السلطة.
عموماً، فإن التجربة السياسية لفلسطينيي سوريا ليست تجربة حاسمة في تقرير اتجاهات السياسة الفلسطينية، مع تحول مركز الحركة الوطنية الفلسطينية إلى الضفة والقطاع، بل يمكن القول إن هذه التجربة تكتسب أهميتها من ارتباطها مع التجربة السياسية العامة للشعب الفلسطيني.
على ذلك، فإن ما يفترض التوصية به هنا هو ضرورة إعادة الحركة الوطنية الفلسطينية لمعناها ومبناها، وضمن ذلك استعادة وحدانية الشعب والأرض والقضية، وملاءمة خياراتها السياسية والكفاحية مع قدرات الشعب الفلسطيني، والمعطيات العربية والدولية، ما يمكّنها من تعزيز صمود شعبها في أرضه، وتعزيز وحدته في الداخل والخارج، واستثمار موارده وتضحياته، بما يراكم باتجاه تحقيق الأهداف الممكنة في كل مرحلة، ولا شك أن ذلك ما يستوجب فعله إزاء مجتمع اللاجئين الفلسطينيين، بخاصة في سوريا ولبنان، بعد كل المعاناة التي اختبرها الفلسطينيون اللاجئون، الذين حملوا راية الكفاح الوطني الفلسطيني في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، ما يفترض من الحركة الوطنية الفلسطينية الإقدام على مراجعة نقدية، لخياراتها ومسيرتها الكفاحية واستنباط الدروس المناسبة منها.
تبقى كلمة لا بد منها بخصوص الإشكالية المتعلقة بنظام الأسد الساقط، التي التبست على فلسطينيين كثر، بخاصة في الداخل، في الضفة وغزة و48، ممن لا يعرفون العالم العربي تماماً، ولا طبيعة النظام السوري، وأمثاله، وتنطلي عليهم تلاعباته واستخداماته لقضية فلسطين وشعارات المقاومة والممانعة التي ليست لها أية مصداقية على أرض الواقع، والتي تستخدم فقط للهيمنة على شعبه، ومصادرة حقوقه وحريته وموارده. طبعاً ثمة، بين هؤلاء، فلسطينيون، متأدلجون، يظنون أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية لكل شعوب العالم، كأن شعب سوريا، أو أي شعب آخر، ليست له قضية، أو كأن الحرية والكرامة والعدالة تخص شعباً معيناً دون غيره، وكأن قضية فلسطين تغطي على حقيقة سجن نظام الأسد الأبدي للشعب السوري، أو تبررها، وكأن نظاماً يقوم على الاستبداد والفساد، يمكن أن يواجه إسرائيل. أيضاً ثمة فصائل فلسطينية استمرأت العيش على الشعارات، وعلى ماضيها، أكثر من حاضرها وهي لعبت الدور الكبير في تمكين نظام الأسد، وتالياً النظام الإيراني، من ركوب القضية الفلسطينية، حفاظاً على مكانتها وعلى تمويلها، رغم كل ما فعله هذان النظامان بالشعب الفلسطيني، والتعامل مع قضيته العادلة والمشروعة بطريقة استخدامية ووظيفية.
والحقيقة أن قضية فلسطين هي قضية حرية وكرامة وعدالة، وهذه القضايا لا تتجزأ، وهي تصح على قضية السوريين، أيضاً، الذين كابدوا لـ 55 عاماً، من نظام الاستبداد والفساد، الذي حول الجمهورية إلى حكم وراثي، والذي تعامل مع شعبه كأنه قوة احتلال، إلى درجة الاستعانة بقوات أجنبية، وميليشيات طائفية مسلحة، ضد شعبه، وكل ذلك من أجل الحفاظ على سلطته، ووأد تطلّع السوريين نحو الحرية والتغيير السياسي.
قضايا الحرية والكرامة والعدالة واحدة، والضحايا يتعاطفون مع الضحايا...