ماجد كيالي[*]
منذ احتلال إسرائيل بقية الأراضي الفلسطينية (1967) ظلّت مدينة القدس تتمتّع بمكانة متميّزة في إدراكات واهتمامات الفلسطينيين، وحركتهم الوطنية، باعتبارها رمزاً تاريخياً ودينياً ووطنياً، في آن واحد، وقد تم التعبير عن ذلك في مجمل الوثائق الرسمية الصادرة عن منظمة التحرير والفصائل والهيئات الفلسطينية الجمعية، وضمنها “إعلان الاستقلال”، الذي أعلن فيه المجلس الوطني الفلسطيني “قيام دولة فلسطين… وعاصمتها القدس الشريف.” (الدورة 19، الجزائر، تشرين الثاني (نوفمبر) 1988).
تطورات المسار السياسي
بدهي أن التعامل مع هذه القضية ظل يتطور، من مختلف النواحي، بحسب تطورات القضية الفلسطينية، كما ظلّ يتعقّد مع تعقّدها، سواء تعلق الأمر بقضايا الصراع، أي مقاومة سياسات الاحتلال والاستيطان ومصادرة الأراضي ومحاولات التهويد والتهجير، أو تعلق بعملية التسوية والخيارات المتاحة.
وقد يفيد التذكير هنا بأن الحركة الوطنية الفلسطينية عندما كانت تطرح برنامج التحرير لم يكن ثمة قضية خاصة للقدس، أو لأية قضية أخرى، إذ كان مفهوم التحرير يتضمن استعادة القدس (شرقية وغربية)، وعودة اللاجئين. والمعنى أن قضية القدس تميّزت بعد التحول من برنامج التحرير إلى برنامج التسوية، أو حل الدولتين، وعلى أساس إنهاء احتلال إسرائيل للضفة الغربية وغزة، واعتبار القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية القادمة.
في هذا الإطار فقد شمل التعاطي الفلسطيني مع قضية القدس ثلاث مسائل: الأولى، تتعلق باعتبار القدس مدينة مقدسة يقع فيها المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين، وكمدينة مقدسة لكل الأديان السماوية. والثانية، تتعلق بالبعد الوطني- السياسي، إذ يتكثف الصراع في هذه المدينة، التي تعتبرها إسرائيل عاصمة لها، سيما مع محاولاتها تغيير طابعها الديمغرافي، وتغيير معالمها، وتعزيز الاستيطان فيها. والثالثة، في الجانب الحقوقي المتعلّق بكشف سياسات إسرائيل ومقاومتها، بخصوص مساعيها الدؤوبة للتضييق على فلسطينيي القدس، لتهجيرهم منها، والسيطرة على بيوتهم وأراضيهم، وتبنيها سياسة هدم المنازل.
بيد أن المآخذ على السياسات المذكورة، رغم أهميتها، أن الفلسطينيين لم يستطيعوا بناء شبكة من المؤسسات المدنية التي يمكن أن تساهم في صدّ السياسات الإسرائيلية، وتعزيز صمود الفلسطينيين في القدس، على أفضل وجه، بحكم غلبة الطابع العفوي والمزاجي والفردي والمناسباتي، الذي اتسمت به الحركة الوطنية الفلسطينية، منذ قيامها، الأمر الذي أثّر سلباً على قدرة الفلسطينيين على التكاتف وتوظيف قدراتهم واستثمار نضالاتهم وتضحياتهم، وهذا ما ينطبق على قضية القدس أيضاً.
وكانت أعلى تجليات الكفاح الفلسطيني من أجل القدس تجلّت في الانتفاضة الأولى (1987-1993)، إذ أضحت بمثابة عاصمة فعلية للفلسطينيين ومركزاً قيادياً لانتفاضتهم، سيما مع وجود القيادة الرسمية في الخارج (وقتها)، ومع بروز شخصيات مقدسية ذات مصداقية، كان على رأسها المرحوم فيصل الحسيني.
وقد برز تلك الفترة مركزان لعبا دورا ًكبيراً في الانتفاضة، الأول، هو المسجد الأقصى، إذ باتت صلاة الجمعة، التي كان يحتشد فيها مئات ألوف الفلسطينيين، بمثابة واحدة من أهم مظاهر الانتفاضة ورفض الفلسطينيين للاحتلال، والتحريض على المقاومة. والثاني، “بيت الشرق”، الذي كان بمثابة مركز توجيه للانتفاضة، وكمعبر عن الفلسطينيين في الأرض المحتلة، إذ بات مقراً يزوره وزراء أجانب وسفراء وقناصل ومراسلو وسائل إعلامية.
الجدير بالذكر هنا أن هذه المكانة للقدس، وللقيادات المقدسية، ظهرت بفضل انتفاضة الفلسطينيين في الأرض المحتلة، ومن دون تدخل من القيادة الرسمية، مع التذكير أن “هبة النفق” (1996) حدثت بسبب قيام إسرائيل بإجراء حفريات تحت المسجد الأقصى، وأن الانتفاضة الثانية (2000-2004) اندلعت إثر انتهاك أريئيل شارون حرمة المسجد الأقصى (أواخر أيلول 2000). ويمكن أن نلاحظ الفرق أي انحسار دور القدس، بعد الإجراءات الإسرائيلية، التي تضمنت تقييد دخول الفلسطينيين من الضفة إليها، وإغلاق بيت الشرق (2001)، وإغلاق عديد من مكاتب الجمعيات الفلسطينية أو منعها من العمل، وإقامة جدار فاصل، وذك بعد موجة العمليات التفجيرية ولا سيما العملية التي نفذتها كتائب “عز الدين القسام” في مطعم سبارو (آب 2001)، في القدس.
القدس في العملية التفاوضية
بعد أن كانت القيادة الفلسطينية تولي القدس مكانة خاصة، ومركزية، في أطروحاتها المتعلقة بالتسوية، بخاصة مع اعتبارها عاصمة لدولة فلسطين القادمة، إذا بها توافق في اتفاق أوسلو، نتيجة الضغوط الإسرائيلية والدولية، على تأجيل البتّ بمصير هذه المدينة، مع ملاحظة مهمة مفادها أن هذا الأمر كان يتعلّق بما بات يعرف بالقدس الشرقية، أي الجزء من المدينة الذي احتلته إسرائيل في العام 1967، أي أن الأمر لم يكن يشمل بقية القدس (الغربية)، رغم أن ذلك كان متاحاً أو مشروعاً، ولو من باب الضغط السياسي، وذلك بالاستناد إلى مرجعية قرار التقسيم (181 لعام 1947)، مع معرفتنا أن القيادة الفلسطينية كانت نأت بنفسها عن هذا القرار أو لم توظفه في إطار جهودها لإقامة الدولة الفلسطينية المفترضة.
ربما يفيد التذكير هنا أن د. حيدر عبد الشافي، رئيس الوفد الفلسطيني إلى مفاوضات مدريد (ضمن الوفد المشترك الأردني-الفلسطيني) كان يؤكد على أهمية مكانة القدس بالنسبة للفلسطينيين في أية تسوية، كما جاء في قوله في الجلسة الافتتاحية: “القدس هذه المدينة لا تمثل روح فلسطين فحسب، بل هي مهد ديانات العالم الثلاث، إن غيابها المزعوم ملموس وسطنا في هذه المرحلة، إن استثناءها ظاهرياً من هذا المؤتمر هو إنكار لحقها في السعي من أجل السلام. لقد منعت القدس مدينة السلام من حضور مؤتمر السلام… القدس الفلسطينية عاصمة وطننا ودولتنا المستقلة والتي تحدد الوجود الفلسطيني ماضيا وحاضرا ومستقبلا، حرمت من صوتها وهويتها، القدس تتحدى التفرد في تملكها… ويظل ضم إسرائيل للقدس في نظر المجتمع الدولي، ضما غير شرعي، بل ويشكل إهانة للسلام الذي تستحقه هذه المدينة”.
هكذا، ظلّ المفاوض الفلسطيني، سواء في المحادثات الثنائية أو متعددة الأطراف، يصرّ على فتح ملف مستقبل القدس وعلى حق الفلسطينيين في تشكيل وفدهم من الداخل ومن الشتات ومن القدس أيضاً. وفي هذا السياق طرح الوفد الفلسطيني إلى اجتماعات لجنة التوجيه (للمفاوضات المتعددة الأطراف) التي عقدت في لندن (3-4/12/1992) ضرورة إنشاء مجموعتي عمل في إطار هذه المفاوضات إحداهما حول القدس (الثانية حول حقوق الإنسان) وساندت الدول العربية والأوروبية هذا المطلب، ولكن بسبب الرفض الإسرائيلي له والمساندة الأميركية لهذا الموقف تم تأجيل بت هذا الموضوع، ومن ثم رفضه.
بيد أن القيادة الفلسطينية، وفي سياق صراعها على مكانتها بعد المتغيرات الدولية والإقليمية، في مطلع التسعينات، وضمنه تهميش مكانتها في مفاوضات مدريد (1991) أزاحت الاعتبارات السابقة، بعقدها اتفاق أوسلو (1993).
هنا تبرز ملحوظتان على الموقف الفلسطيني:
الملحوظة الأولى، إنها في عقدها الاتفاق المذكور تكون القيادة الفلسطينية تراجعت عملياً في القضايا الأساسية، عن المواقف التي كانت تعلن عنها في وثائقها وخطابات قادتها، إذ رضيت تأجيل البتّ في قضايا القدس واللاجئين والحدود والمستوطنات، إلى ما سمي بمفاوضات الحل النهائي (مع قضية الترتيبات الأمنية)، وذلك مقابل إقامة كيان فلسطيني في الضفة والقطاع المحتلين، في مراهنة على إمكان تطوير هذه الصيغة إلى دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، علما أن ذلك لا يجري وفق معادلات موازين القوى، وإنما وفق معادلات التفاوض، وفي وضع تملك فيه إسرائيل القرار، والقدرة على السيطرة.
جانب أخر ينبغي ملاحظته هنا، وهو أن الأمر لم يتوقّف عند تأجيل البتّ في قضية القدس، فقط، إذ أن عدم البتّ في قضيتي الحدود والمستوطنات، أطلق يد إسرائيل في تعزيز الأنشطة الاستيطانية في القدس وفي محيطها، غير مبالية باتفاق أوسلو، بحكم انتهاجها سياسة الأمر الواقع، ومع إعلانها أن القدس خط أحمر، باعتبارها لها عاصمتها الأبدية الموحدة، مبررة ذلك بأن اتفاق أوسلو وضع قضية القدس في إطار المفاوضات، أي لمناقشة الحلول المناسبة لها، بتوافق الطرفين، علما أن إسرائيل كانت تعلن صراحة رفضها التنازل عن وحدة القدس تحت سيادتها، ورفضها الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران، وضمن ذلك القدس الشرقية. وكلها أمور تكشفت أيضا في مفاوضات كامب ديفيد ٢ (٢٠٠٠).
وها نحن اليوم نعرف معنى هذه الصيغة العجيبة، التي رضي بها المفاوض الفلسطيني في أوسلو، ووضعتنا أمام هذه الكارثة، حيث اليوم تضاعف الاستيطان عدة مرات في القدس وفي الضفة الغربية.
الأولوية لكيان السلطة
لم تختلف توجهات القيادة الفلسطينية، ونعني قيادة المنظمة والسلطة وفتح، بعد إقامة كيان السلطة، إذ ظلّت قضية القدس تحظى بأولوية في برامج وبيانات وخطابات القادة الفلسطينيين إلا أنها ظلت، أيضاً، تفتقد العمل المؤسسي المنظم والمستدام.
هكذا فإن الملحوظة الثانية التي يجدر إدراكها هنا تتعلق بأن السلطة عندما قامت احتلت هي مركز اهتمام القيادة الفلسطينية، وذلك على حساب الاهتمام بقضايا أخرى، كالقدس واللاجئين، مثلا، والاهتمام بقضية تطوير وتفعيل منظمة التحرير ومختلف الكيانات الوطنية الجمعية؛ أي أن القيادة الفلسطينية باتت مشغولة قبل كل شيء بذاتها أي بالسلطة. فاقم من ذلك أن الكيان الجديد بات هو المرجعية، وليست منظمة التحرير، أي بالعكس، بل إن المنظمة باتت تعتمد في مواردها على الدعم المتأتي للسلطة.
وفي كل الأحوال فإن ارتهان الكيانات الفلسطينية للموارد الخارجية أدى، في ما أدى إليه، إلى إضعاف أو الحد من الطاقات النضالية عند الفلسطينيين في الضفة، وخاصة في القدس، لا سيما بعد التداعيات السلبية الناجمة عن انتهاء الانتفاضة الثانية، ورحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، إذ بات خيار الفلسطينيين ينحصر في المفاوضات والتسوية، وكسب ثقة الأطراف المعنية (خاصة الولايات المتحدة وإسرائيل)، من دون اعتماد خيارات بديلة أو حتى موازية، والحديث يتعلق هنا بتعزيز الكفاح المدني، الشعبي والسلمي، وإقامة مؤسسات ذات جدارة ومسؤولية، وتقديم دعم مناسب لتمكين الفلسطينيين من الصمود في القدس، وليس عن أي شيء آخر، لا حرب ولا كفاح مسلح.
ودليلنا على ذلك أن القيادة الفلسطينية حينما قررت مثلاً معاودة المفاوضات (2013) لم تشترط فتح مؤسسات القدس الشرقية، وضمنها بيت الشرق، مثلما اشترطت الإفراج عن المعتقلين القدامى.
الأمر الآخر الذي يفترض ذكره هنا، هو قبولها بأن تبقى الوصاية على الأماكن المقدسة بيد غيرها، وتنازلها عن حقها في المسؤولية عنها، وهي سابقة لافتة تعني بقبول القيادة الفلسطينية تراجع منظمة التحرير عن مكانتها باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وهي المكانة التي حازت عليها بفضل تضحيات وكفاح الآخرين.
في ختام هذه الورقة أود لفت الانتباه إلى مسألتين: الأولى، تفيد بالتحذير من التعامل مع القدس، أو تمييز مكانتها، على أساس الدين، لأن السرديات الدينية مشتركة، ولا تؤسّس حقوقاً، في المعايير الدولية، أي أنه ينبغي التعاطي مع القدس باعتبارها قضية وطنية، وكجزء من الصراع السياسي، مثلها مثل أي مدينة أخرى، مع تعزيز العمل من أجل فلسطينيي القدس، إذ ما أهمية إعلاء شأن القدس كقضية في حين يجري التضييق على الفلسطينيين في القدس لتهميش وجودهم، أو لإجبارهم على الرحيل؟
والثانية، وهي تتأتى من ضعف اهتمام السلطة بالقدس، وتفيد بضرورة تعزيز جهود الفلسطينيين، في كافة أماكن تواجدهم، لدعم صمود فلسطينيي القدس، بكافة الأشكال، لأن هذا هو الرد الحقيقي والعملي على محاولات إسرائيل تهويد القدس.
والخلاصة فإن ضعف الفلسطينيين، وترهل حركتهم الوطنية، وتحولها إلى سلطة معتمدة في مواردها على الخارج، بالإضافة إلى العوامل والتعقيدات الخارجية، وضمنها الاضطرابات الاجتماعية والسياسية في المشرق العربي، كلها عوامل تؤدي إلى تراجع مكانة القضية الفلسطينية، وتاليا لذلك تراجع الاهتمام بقضية القدس، في سلم الأولويات العربية والدولية.
[*] كاتب وباحث فلسطيني، مقيم في تركيا.