كمال قبعة[*]
أثار تقرير قناة “الجزيرة” حول استشهاد الرئيس عرفات الكثير من الجدل، كما فرض العديد من القضايا والأسئلة التي لا تزال تتفاعل حتى الآن، ولعلها ستستمر كذلك إلى فترة طويلة. فما كشفته قناة “الجزيرة” في تحقيق بثته يوم 3 تموز2012، بشأن ظروف وفاة الشهيد ياسر عرفات، وعن وجود مواد مشعّة في ملابسه وفي أدواته الشخصية كقبعته وفرشاة أسنانه وملابسه الداخلية تفوق نسبتها المعدل الطبيعي. وقد رجّح التقرير أنها هي التي أدت إلى وفاته، استناداً إلى تحليلات مخبرية دقيقة ومقابلات مع الخبراء السويسريين الذين أجروا تلك التحاليل.
وتثير تلك التحقيقات والتداعيات التي أعقبتها، ردود أفعال كثيرة، وتطلق العديد من المقترحات لكيفية متابعة نتائج تلك الفحوصات المخبرية. وسيتم في هذه الدراسة تناول التداعيات القانونية التي تفرضها نتائج تلك الفحوصات، وتتبع السياسة المنهجية الإسرائيلية في تصفية القيادات والكوادر الفلسطينية، كسياسة رسمية ومنهجية ومعلنة لدولة إسرائيل وحكوماتها المتعاقبة، وخاصة ما سبق واقعة تسميم الرئيس عرفات من قرارات رسمية وتصريحات موثقة وإجراءات عملية وتدابير تحضيرية لارتكاب جريمة التسميم، التي ليست الأولى من نوعها في ملف الإجرام الإسرائيلي المليء بالوقائع المشابهة المثبتة قبل قيام دولة إسرائيل وبعد قيامها.
تتناول هذه الدراسة معاينة تلك السياسات والجرائم المرتكبة وبالأخص جريمة تسميم الرئيس عرفات، بموجب المبادئ والقواعد المستقرة والمعترف بها في القانون الدولي العام، والقانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي الجنائي، باعتبارها جرائم تتوافر فيها كافة أركان الجريمة الدولية، وتستوجب المساءلة وإيقاع المسؤولية الجنائية الفردية الدولية على مرتكبيها، وتوجب تحميل إسرائيل تبعات تلك السياسة بموجب قواعد وأحكام المسؤولية الدولية وقواعد عدم الإفلات من العقاب وإنصاف الضحايا.
وبعد أن تبنى القضاء الفرنسي التحقيق في الجريمة، تعرض هذه الدراسة لبعض خفايا التقارير الطبية الفرنسية التي سبقت وأعقبت مقتل الرئيس عرفات، وتتلمس بعض الكلام غير المباح الذي أحجمت تلك التقارير عن البوح به، ومآلات التحقيق القضائي الفرنسي.
كشف المستور
هكذا، وبعد مرور ثماني سنوات على رحيل الزعيم الفلسطيني، يعود للظهور، كما طائر الفينيق الذي طالما تحدث عنه، ويأبى أن يبقى في لحده، ويستعد للترحال والسفر كما تعودنا عليه، حتى لو كانت أجزاء من جسده أو عظامه التي ستنتقل إلى باريس في فرنسا ولوزان في سويسرا.
فقد كشف التحقيق الذي قامت به “الجزيرة”، أن الرئيس عرفات كان بصحة جيدة إلى أن شعر فجأة بالمرض في 12 تشرين الأول (أكتوبر) 2004. لكن الأهم هو أن التحاليل كشفت أن آخر الأغراض الشخصية له، فيها كميات غير طبيعية من “البولونيوم”، وهو مادة نادرة وعالية الإشعاع. وخضعت تلك الأغراض للتحليل في معهد الفيزياء الإشعاعية بمدينة لوزان بسويسرا، وكانت تحمل بقعا من دمه وعرقه وبوله. وتشير التحاليل التي أجريت على تلك العينات إلى أن نسبة عالية من البولونيوم كانت في جسمه قبل وفاته. ويقول مدير المعهد فرانسوا بوتشد: “أستطيع أن أؤكد لكم أننا قسنا كمية عالية من البولونيوم غير المدعوم 210 أي المصنع، في أغراض عرفات التي تحمل بقعا من السوائل البيولوجية”. ويقول الأطباء إنهم بحاجة لمزيد من التحاليل وتحديدا لعظام الراحل عرفات أو للتربة المحيطة برفاته، وإذا أثبتت التحاليل تلك وجود نسبة عالية من البولونيوم المصنع، فإن ذلك سيكون حجة دامغة على أنه تعرض للتسميم.
ويفيد التحقيق الوثائقي، بأن التقنية العالية في عملية التسميم والندرة الشديدة للإشعاعات التي استخدمت فيها والدرجة العالية جداً من سُمِّيَّتها، وتنفيذ عملية التسميم تحتاج جميعها إلى مستوى خاص من الحرفية. إنّ ذلك يوفّر مؤشراً على أن إسرائيل هي القاتل، وأنها هي المنفّذ أيضاً. وهذا هو الأمر الذي يؤكد شكوك الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني التي تشير إلى أن الرئيس عرفات قد قتل، وأن إسرائيل هي من قتله لأنها صاحبة المصلحة في قتله ولأنها الأقدر على ذلك.
وعقب نشر تحقيق “الجزيرة” طالبت السلطة الفلسطينية بتحقيق دولي على شاكلة التحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري. [1]وتواترت الدعوات في الساحة الفلسطينية إلى تفعيل التحقيقات الداخلية في هذه القضية. وكانت السيدة سهى عرفات قد أعربت عن موافقتها بإعادة فحص رفات الرئيس عرفات في مقابلتها مع الجزيرة، وفي السادس من تموز (يوليو) دعا وزير الخارجية التونسي رفيق عبد السلام الجامعة إلى عقد اجتماع عاجل لبحث ملابسات وفاة عرفات. وطلب مجلس الجامعة العربية في ختام اجتماعه على مستوى المندوبين الدائمين بتاريخ 17 تموز (يوليو) 2012، تشكيل لجنة مستقلة ومحايدة على مستوى الأمم المتحدة للتحقيق في وفاة الرئيس ياسر عرفات، تضم شخصيات بارزة ذات كفاءة وبالتعاون مع السلطة الوطنية الفلسطينية والمؤسسات والمنظمات العربية والدولية، قصد معرفة الحقيقة وعرض نتائجها على الأمم المتحدة. وكان الدكتور عبد الله البشير، رئيس اللجنة الطبية للتحقيق في استشهاد الرئيس عرفات، والتي شكلتها مؤسسة ياسر عرفات (انظر هامش رقم 2 أدناه)، قد اجتمع في القاهرة مع الأمين العام للجامعة العربية نبيل العربي، وقدم له الوثائق ونتائج التحقيق، واتفقا على وضع الموضوع على جدول الأعمال القادم لمجلس الجامعة العربية. وعبّر الرئيس محمود عباس عن أمله بتشكيل لجنة تحقيق دولية لمتابعة موضوع استشهاد الرئيس عرفات من جوانبه المختلفة، وذلك بهدف الوصول إلى الحقائق المتعلقة بهذه القضية.
طالبت مؤسسة ياسر عرفات[2] بالتحرك الفوري في مختلف الجهات وعلى كافة المستويات، من أجل الاقتصاص ممّن اتخذوا ونفذوا قرار اغتيال الرئيس المنتخب للشعب الفلسطيني ياسر عرفات، وتحميل الجانب الإسرائيلي المسؤولية الكاملة عن جريمة اغتياله. وأضافت المؤسسة أن “هذا الدليل الإضافي يأتي منسجماً مع قناعة المؤسسة التي تم التعبير عنها مراراً عبر السنوات الماضية، بأن وفاة الرئيس ياسر عرفات لم تكن لأسباب طبيعية وإنما شكّلت جريمة اغتيال بالسم”، مشيرة إلى أنها “في هذا المجال، ساقت دلائل عديدة منها القرارات الحكومية الإسرائيلية الواضحة والداعية إلى إزالة عرفات، والحصار العسكري الإسرائيلي للرئيس ياسر عرفات لسنوات في المقاطعة برام الله، ثم التقرير الطبي الفرنسي والذي احتوى مؤشرات واضحة على ذلك”.[3]
طلبت السلطة الفلسطينية من مؤسسة الفيزياء الإشعاعي في المركز الطبي الجامعي في لوزان التحقيق في أسباب وفاة عرفات. وقال دارسي كريستن، المتحدث باسم هذا المركز الطبي، “لقد أظهرنا اهتماما بالموضوع طالما أنّ استقلالية ومصداقية وشفافية تدخلنا مضمونة. وأكدت السلطة الوطنية الفلسطينية التزامها بهذه النقطة”. وتابع هذا المتحدث “إلا أنّ دعوى جزائية رفعت من السيدة سهى عرفات في فرنسا، وقمنا باستشارتها في الموضوع وننتظر أن تبلغنا بموقفها من تدخلنا في هذه القضية “.وفي مؤتمر صحفي عقده في الثامن من آب (أغسطس) في رام الله أعلن توفيق الطيراوي، رئيس اللجنة الفلسطينية التي شكلها الرئيس محمود عباس لمتابعة قضية وفاة الرئيس عرفات، أن “السلطة الفلسطينية ستوفر أيّ ضمانات مطلوبة للمعهد السويسري، وأن السلطة تواصلت مع سهى عرفات، وقد وافقت على استخراج أجزاء من رفات عرفات لفحصها.[4]
التحقيق القضائي الفرنسي
أعلنت النيابة العامة في نانتير غرب باريس بتاريخ 28 آب (أغسطس) 2012 أنها قررت فتح تحقيق قضائي. ويأتي فتح هذا التحقيق الفرنسي إثر تقدم سهى عرفات، أرملة عرفات، بدعوى ضد مجهول بتهمة الاغتيال في 31 تموز (يوليو) 2012، لفتح تحقيق في ملابسات وفاته في مستشفى فرنسي في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 2004. وقال مصدر قضائي فرنسي بتاريخ 5 أيلول (سبتمبر) 2012 إن ثلاثة قضاة فرنسيّين يستعدون للسفر إلى رام الله لطلب استخراج جثة ياسر عرفات في إطار تحقيق فيما إذا كان قد مات مسموما وسينفذ خبراء الشرطة الاختبارات والفحوص تحت إشرافهم.
رحّب الرئيس الفلسطيني محمود عباس بتاريخ 29 آب (أغسطس) 2012 بقرار القضاء الفرنسي قبول الدعوى المرفوعة للتحقيق في ملابسات استشهاد الرئيس ياسر عرفات. وأكد أن توفيق الطيراوي، رئيس اللجنة الوطنية للتحقيق، ووزير العدل علي مهنا، وجّها الدعوة لمعهد البحوث السويسرى برسالتين منفصلتين لفحص جثمان الرئيس ياسر عرفات، وأنّ المعهد السويسرى ردّ إيجاباً على الدعوة، مبدياً استعداده للقدوم إلى رام الله، حال الحصول على موافقة محامي أرملة الشهيد ياسر عرفات.[5] وأوضح اللواء توفيق الطيراوي، رئيس لجنة التحقيق الفلسطينية بوفاة عرفات، “أنّ السلطة الفلسطينية قرّرت توحيد جهد وعمل لجنة التحقيق الفلسطينية والمحققين الفرنسيين والخبراء السويسريين بشكل مشترك، والتوافق على فتح قبره لأخذ عينات من رفاته إذا كان ذلك مفيدا لجهة الوصول إلى الحقيقة”.[6] وسيتعاون مع المحقّقين الفرنسيّين وخبراء المختبر السويسري في التحقيق حول وفاة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وقد يفتحون قبره ويأخذون عينات من جثمانه لفحصها إذا اقتضى الأمر. وأعلن ناصر القدوة، ابن شقيقة الرئيس الراحل ورئيس مؤسسة ياسر عرفات، أنه منفتح على فكرة نبش رفات الرئيس الراحل للتحقيق في أسباب وفاته، ولكن شرط أن يسبق ذلك تشكيل لجنة تحقيق دولية، مطالباً المجتمع الدولي بتحميل إسرائيل مسؤولية “اغتيال” الزعيم الراحل عن طريق تسميمه. ومن المتوقع وصول المحققين الفرنسيين وخبراء المخبر السويسري في تشرين أول (أكتوبر) 2012 إلى رام الله لأخذ عينات من جثمان الرئيس عرفات لفحصها. وقد تقرّر أن يحضر إلى رام الله طاقم التحقيق الفرنسي، وبالتزامن مع وصولهم، سيصل خبراء معهد الفيزياء الإشعاعي في المركز الطبي الجامعي في لوزان بسويسرا، لأخذ عينات من رفات الرئيس الراحل ياسر عرفات. بالإضافة إلى أخذ العينة سيُجري طاقم التحقيق الفرنسي، إمّا هذه المرة أو في مرات لاحقة، جلسات استماع مع عدد من الفلسطينيّين، الذين ترى لجنة التحقيق الفرنسية أنه من المفيد الاستماع إلى المعلومات التي تفيد التحقيق للوصول إلى أسباب الوفاة الحقيقية.
وبعد قرار النيابة العامة في نانتير غرب باريس بتاريخ 28 آب (أغسطس) 2012 فتح تحقيق قضائي، قالت سهى عرفات: “إنّي أطلب باحترام من السلطة الوطنية الفلسطينية والجامعة العربية، تجميد كل المبادرات في حين يقوم جهاز العدالة الفرنسي بالنظر في القضية”. وأضافت: “إنّ التحقيق الفرنسي يجب أن تكون له أولوية على كل الإجراءات الأخرى لأنه الضمانة التي لا يمكن الطعن فيها للاستقلال والحيادية”، وبذلك يصبح ملف اغتيال الرئيس عرفات في متناول قضاة التحقيق الفرنسيين حصراً، وتبتعد مقترحات ومطالبات تشكيل محكمة دولية خاصة بهذا الشأن، بناء على رغبة أسرة الرئيس عرفات. ولا شك في قدرة القضاء الفرنسي وأجهزة التحقيق الفرنسية على كشف التفاصيل وتحديد أسباب الوفاة، ليصار بعد ذلك إلى اتخاذ الإجراءات المناسبة في ضوء نتائج التحقيق، على الرغم من ضرورة توخي الحذر من أن يتم تسييس الملف.
ثنايا التقارير الطبية
تم نشر التقارير الطبية التي تناولت الوضع الصحي للرئيس عرفات، والتي كشفت أنّ تدهور الوضع الصحي قد بدأ “بعد تناول وجبة عشاء بعدة ساعات يوم 12 تشرين الأول (أكتوبر) 2004 حسب التقرير الفرنسي، أو 11 تشرين الأول (أكتوبر) 2004 حسب تقرير الفريق الفلسطيني في رام الله” حيث “أصاب المرض الجهاز الهضمي باضطراب وتهيّج شديد، ثم حدث مسلسل من الاضطرابات الأخرى بدءاً بالنخاع العظمي، أدى إلى نقص الصفائح والى ظهور خلايا آكلة للدم فقط بالنخاع، وأدى إلى اضطراب تخثر الدم، ثم بدأت تظهر علامات مرضية للكبد بارتفاع الصفراء وأخيراً اضطراب الجهاز العصبي من الخمول إلى الغيبوبة الكاملة ثم الوفاة الكاملة نتيجة نزيف شديد بالدماغ.” ولخّصت اللجنة الطبية الفرنسية المكلّفة بمتابعة الوضع الصحي للزعيم الراحل وضعَه الصحي وقالت “لم يتمكّن كادر الأطباء المختصّين، كل في مجاله، من التوصل إلى سببٍ أو مرضٍ معروف يؤدي إلى الحالة السريرية التي أدت بالنهاية إلى الوفاة.” وأضافت “خلصت اللجنة من الخبراء إلى أن الحالة المرضية لم تكن بسبب أمراض طبية معروفة، بل نتيجة التعرض لمادة سمية لم يتم فحصها أو الكشف عن نتيجة فحصها”.[7]
يقول تقرير الأطباء الفلسطيني “طوال الفترة يتم النقاش في فرنسا حول سبب المرض حيث أظهرت الحالة السريرية المتلازمات التالية:
أولاً، متلازمة اضطراب الجهاز الهضمي الذي لم تفسره أي نتيجة فحص التهابي أو جرثومي أو فيروسي أو أورام أو أية أمراض أخرى معروفة.
ثانياً، متلازمة اضطراب تخثر الدم الشديد ونقص الصفائح.
ثالثاً، زيادة آكلات الخلايا الدموية بنخاع العظم فقط وليس الجهاز الدوري.
رابعاً، متلازمة اضطراب الكبد وارتفاع الصفراء دون إنزيمات الخلايا.
خامساً، متلازمة تدهور الحالة العصبية من الخمول إلى الغيبوبة.”
توصّل العلماء في لوزان إلى السبب في كل ذلك، بعثورهم على نسب عالية من البولونيوم[8] في أغراض الرئيس عرفات، وكانت أعلى عشر مرات من وجودها في الحالات الخاضعة للمراقبة.[9] ويقول معهد لوزان في التقرير الذي أنجزه لفائدة الجزيرة “حتى بالنسبة لحالة تسمم ليتفينينكو،[10] فإنه من المتوقّع العثور على آثار ضئيلة جدا في عام 2012.” لكن الأغراض الشخصية لعرفات وخاصة تلك التي تحمل آثارا سائلة، لوحظت فيها مستويات عالية من البولونيوم. ففي فرشاة أسنانه وصلت مستويات البولونيوم 54 ميليبيكواريل (وهي الوحدة العلمية لقياس درجة الإشعاع)، وفي لباسه الداخلي احتوت بقعة بول على 49 ميليبيكواريل (في اللباس الداخلي لرجل آخر خضع للمراقبة وصلت النسبة إلى 6.7 ميليبيكواريلات فقط). وقد أوصى التقرير النهائي لمعهد الفيزياء الإشعاعية السويسري بفحوصات إضافية، لأن العثور على بولونيوم في عظام عرفات قد يساعد كثيرا في كشف الحقيقة كاملة وإزالة الشكوك إزاء وفاته، حيث تمثل هذه المستويات التي تم تسجيلها في آذار (مارس) 2012، جزءاً مما كانت عليه لحظة وفاة عرفات في أواخر عام 2004. كما أثبتت تحاليل إضافية أجريت خلال الفترة الممتدة من آذار (مارس) إلى حزيران (يونيو) أنّ جزءا كبيرا من البولونيوم ما بين 60 و80%، حسب العينات كان غير مدعوم، بمعنى أن مصدره ليس طبيعياً.
وقال الدكتور عبد الله البشير، رئيس اللجنة الطبية[11] للتحقيق في استشهاد عرفات، خلال المؤتمر الصحافي[12] في رام الله: إنّ اللجنة كانت مقتنعة منذ البداية بنظرية وفاة الرئيس عرفات بالسم، إلى أن أثبتت فحوص أجراها معهد “رادييشين فيزيكس” السويسري وجود مادة “بلوتونيوم 210” القاتلة، في ملابس ومقتنيات استخدمها الرئيس عرفات في أيامه الأخيرة. وقال البشير: “إن فقرة في التقرير الطبي الفرنسي حول وفاة الرئيس عرفات تفيد بأنه “تم عمل فحوص إشعاعية دون أن يعطي أي تفاصيل أخرى، واكتفى التقرير بالقول: إن “التطورات المرضية للرئيس عرفات لا يمكن تفسيرها في إطار علم الأمراض”. وأشار البشير: التقرير الفرنسي يعاني من ضعف واضح في هذا الجانب فيما يتعلق بالفحوص الإشعاعية، ولهذا بعثنا لهم رسالة نطلب فيها توضيح هذا الأمر، لكنهم رفضوا وقالوا: إن “هناك مواد كان يجب أن يتضمنها التقرير لم يتم الكشف عنها بسبب الظروف المحيطة”.
وخصصت صحيفة لوفيغارو الفرنسية[13] صفحة كاملة لتغطية قضية إعادة فتح ملف الرئيس الراحل، كشفت فيه بعضاً مما بقي طي الكتمان في التقارير الفرنسية. وقالت الصحيفة إن “فرنسا تعلم السر الذي تخفيه التقارير لوفاة عرفات التي وصفتها “بالغامضة”، مؤكدة “تفضيلها للسكوت وعدم التحدث في هذا الشأن، خاصة أن فرنسا فضلت عدم نشر التقارير التي أجراها مستشفى عسكري.” وأشارت الصحيفة إلى أن 97% من الإنتاج العالمي لمادة البولونيوم 2010 تأتي من المركز النووي “دافنجار” في روسيا أحد المراكز القديمة لإنتاج الأسلحة الذرية. وأن هذه المادة سامة جدا وتكفي بضعة ملليغرامات منها للفتك بالشخص المرجو. وفي ذات السياق فقد أجمع خبراء اللجنة الطبية المكلفة بالتحقيق في وفاة الرئيس عرفات “على أن تطور الحالة المرضية وكل الأعراض السريرية لا تتفق مع استجابات ناتجة عن مرض أو سبب طبيعي، بل عن مادة سمية لم يتم فحصها أو الكشف عن نتيجة فحصها.” وقامت اللجنة بأمرين:
- الأول: إرسال رسالة بتاريخ 10 كانون الأول (ديسمبر) 2010 إلى مستشفى بيرسي الفرنسي المعالج للاستفسار عن النتائج الدقيقة والكاملة للفحوص السمية، وكان الجواب بتاريخ 19 كانون الأول (ديسمبر) 2011 “أن القوانين وأصول الإجراءات في الشكل الذي ورد به طلبكم لا يسمح لنا بالرد بالإيجاب، ومنذ منح السيدة سهى عرفات الملف الطبي المذكور، فإنه لم يتم إعادة فتح الملف الذي تم حفظه في قسم السجلات.”
- أما الأمر الثاني الذي قامت به اللجنة الطبية، بحسب الدكتور البشير، فهو الاستعانة بخبراء سموم وأمراض دم في مراكز عالمية، قاموا بدراسة التقارير ونتائج الفحوص. وكانت نتائجهم مؤيدة للنظرية السمية. ولكن طبيعة هذه المادة لم تكن معروفة لدينا. وكان رأي اللجنة أنه قد يتمكن الطب أو الظروف المحيطة أو التسريبات الأمنية أو إجراءات أخرى من الكشف عن سبب حدوث الحالة المرضية، وكان الجواب في تحقيق قناة “الجزيرة”، إذ كشف المختبر السويسري عن المادة السمية في مقتنيات الراحل.
وقال البشير: “نرجح فرضية النظرية السمّية منذ البداية، وقد كشف المعهد السويسري عن أن هذا السم هو البولونيوم. حتى لو تم إجراء فحوص لعينات من رفات الرئيس عرفات ولم تظهر فيها مادة البولونيوم، فإن هذا لا ينفي نظرية السمية، لأن الأعراض التي ظهرت على الرئيس عرفات قبل وفاته ترجح النظرية السمية سواء كان السم المستخدم بولونيوم أم غيره.”
الخطوات التحضيرية للجريمة
الحصار المميت
مرت الخطوات التحضيرية لارتكاب جريمة قتل الرئيس عرفات بالعديد من المحطات. ففي كانون أول (ديسمبر) من العام 2001 قررت الحكومة الإسرائيلية اعتبار عرفات “غير ذي صلة”. وبدأت تتزايد الأصوات الإسرائيلية المنادية بطرد عرفات من السلطة الوطنية الفلسطينية. وحاصر الجيش الإسرائيلي عرفات في مقره في رام الله. وفي شهر أيلول (سبتمبر) من العام 2003 قرّر المجلس السياسي- الأمني الإسرائيلي طرد عرفات في أعقاب وقوع عمليتين في “تسريفين” ومقهى “هيلل”. لكن القرار لم يخرج إلى حيّز التنفيذ بسبب ضغوط دولية في هذا الشأن. وبدأ الحصـار في 8 كانون أول (ديسمبر) 2001 عنـدما أعلن المسئولون العسكريون الإسرائيليون أنّ مغادرة الرئيس عرفات لمدينة رام الله أمر خاضع لهم وحدهم. وفي 13 كانون أول (ديسمبر) 2001 نشر الجيش الإسرائيلي دباباته وقواته حول مقر الرئيس عرفات، وقرّر منعه من الخروج إلى أية مدينة أخرى. في ذات الوقت قصفت الطائرات مقر الرئاسة ولأول مرة منذ قيام السلطة. شيئاً فشيئا،ً بدأ حصار مقر الرئيس عرفـات يأخذ شكلاً تصعيدياً. وفي صباح يوم 29/3/2002 بدأت الحكومة الإسرائيلية حرباً شرسة على المدن والمنشآت الفلسطينية في الضفة الغربية، عرفت باسم “السور الواقي” أعلنت خلالها رام الله منطقة عسكرية مغلقة. ترافق ذلك مع قصف شـديد ومركّز لمقـر الرئيس عرفـات. واستمر ذلك لمدة تزيد عن الشهر، تم خلالها قطع التيار الكهربائي والماء والهاتف عن مقر الرئيس. ومنعت الوفود الأجنبية من الاجتماع مع الرئيس. وتم توجيه إنذارات متتالية للرئيس ياسر عرفات ليسلم نفسه أو يغادر المقر. وفي 19 أيلول (سبتمبر) 2002 اقتحمت القوات الصهيونية مقر الرئاسة من جديد، وبدأت بإزالة الأبنية الملحقة بالمقر والجوار الواصلة بين أبنية المقر. واستمر الحصـار فقط ثلاثـة أيـام قطعت خـلالها الكهـرباء والمـاء والاتصالات، وبدأت الجرافات تهدم تدريجياً جدران البناء الذي يقيم فيه الرئيس عرفـات، ومنحته مهلة عشر دقائق للاستسلام قبل مداهمة المقر، الأمر الذي دفع بجماهير الشعب الفلسطيني إلى تحدى حظر التجول المفروض على كافة المدن الفلسطينية، وخرج في الساعة الواحدة ليلاً إلى الشوارع ليلة الأحد 22/9/2002. وعرفت تلك الليلة في التاريخ الفلسطيني الحديث بـ”ليلة الطناجر”[14] تأييداً للرئيس عرفـات ومطالبين بفك الحصار عن رئيسهم. كان لهذه المظاهرات الدور الأكبر في تراجع الإسرائيليين عن تهديداتهم للرئيس عرفات.
ونقل بسام أبو شريف في الرسالة المؤرخة بتاريخ 5 حزيران (يونيو) 2002 للرئيس عرفات عن صديق أجنبي له في القدس، معلومات مفادها، أن شارون قال للمجلس الوزاري المصغر إنه وَعد الرئيس جورج بوش بأنه لن يمسّ عرفات. وأثناء خروج شارون وموفاز من اجتماع مجلس الوزراء دار حديث ثنائي بينهما، إذ قال موفاز لشارون “أنت وعدت بألا تقتل عرفات بالقصف لكن هناك طرق أخرى وهذه فرصتنا.” ويؤكد أبو شريف أنه بحسب رواية صديقه لم يعلّق شارون ونظر إلى موفاز وقال: “لا أريد أيّ أصابع اتهام تشير إلى تورّط إسرائيل بقتله، فأجابه موفاز “أكيد” فقال له شارون “تصرّف.” ويؤكد أبو شريف في رسالته: “لديّ معلومات من جهات ومصادر موثوقة جداً أنّ إسرائيل تريد تسميمك، أرجو أن تحذر من الأكل والماء ولا تشرب إلا من زجاجة تفتحها أنت بيدك، ولا تأكل هذه الأيام إلاّ من معلّبات مغلقة تفتحها أنت بيدك ويشتريها شخص موثوق وصالحة زمنيا.” ويظهر على الورقة تعليق عرفات بخط يده “هام وفوري وباليد للتوزيع.”
وقد أكدت الصحافة الإسرائيلية المحادثة التي جرت بين شارون ورئيس الأركان موفاز.[15] وكشف كتاب إسرائيلي تحت عنوان “كيد مرتد” ألّفه الصحفيان الإسرائيليان البارزان دروكر رفيف وعوفر شاحر، أنه خلال جلسات مجلس الوزراء الإسرائيلي بُحث مرات كثيرة خيار إبعاد الرئيس عرفات من الأراضي الفلسطينية، وكان شاؤول موفاز وزير الحرب من أشدّ أنصاره، وهذا ما صدر عنه في الرابع من نيسان (إبريل) 2002، يوم همس بأذن شارون، واتضح أنّ ميكروفانات الصحافة كانت مفتوحة. وأوضح الكتاب، أن عاموس جلعاد الرجل الأقوى في الاستخبارات العسكرية عارض الإبعاد خوفاً من تداعياته الأمنية، مؤكداً على ضرورة إيجاد “طرق خلاّقة” للتخلّص من عرفات، وأضاف: “هو لم يسهب بذلك لكن كان واضحاً أنه يتحدث عن طرق سرية.”[16]
وأكّد “كيد مرتدّ” الذي يشمل تفاصيل كثيرة وردت في 400 صفحة تستند إلى وثائق سرية أيضاً ومئات اللقاءات الشخصية، أنّ شارون كان يشارك بنفسه في التخطيط لعمليات المس بعرفات والتضييق عليه سوية مع رجالات الجيش. ولفت المؤلفان، إلى اجتماع متوتر بمشاركة المستويين السياسي والعسكري، قال فيه وزير الدفاع الإسرائيلي موفاز بشكل قاطع: “ينبغي تصفية عرفات طالما أن الاستخبارات تفيد أنه بمثابة عائق أمام تغيير و(عَظْمة) في حَلْق المنطقة، فقد آن الآوان لتصفيته، والعرب سيغضبون لمدة ثلاثة أيام قبل أن ترجع المياه إلى مجاريها في المنطقة.” واستذكر الكتاب قول موفاز لمراسل “يديعوت احرونوت”: إنه يجب قصف مقر عرفات بقنبلة بزنة طن، وتصفيته بنفس طريقة اغتيال صلاح شحادة.” ولم يتطرق الكتاب إلى دور الظروف المريبة لموت الرئيس عرفات وإلى علاقة إسرائيل بذلك، واكتفى بالإشارة عدة مرات إلى قول عاموس غلعاد، حول ضرورة إيجاد (طرق إبداعية) للتخلص من عرفات.
ولعلنا نشير هنا إلى ما كشفه الصحافي الإسرائيلي المعروف أوري دان، وهو الإعلامي الأكثر قرباً من شارون، وأورده في كتابه “أسرار شارون” الذي صدر عام 2007. وفيه يقول إن شارون قد تحلّل في 14 نيسان (إبريل) 2004 من وعده لبوش بعدم التعرض لعرفات. ففي اللقاء الذي عقد بينهما في البيت الأبيض، قال شارون لبوش إنه لا يعد نفسه ملزما بالوعد الذي منحه له أثناء لقائهما الأول بعد فوزه في الانتخابات، وهنا رد بوش قائلا “ربما من الأفضل إبقاء مصير عرفات بأيدي قوة عليا، بأيدي الله،” فأجاب شارون “ربما يجب أحيانا مساعدة الله.” وعندما سكت بوش اعتبر شارون أنه “تحرّر من عبء ثقيل،” والعبارة الأخيرة للصحافي الإسرائيلي.[17]
تطول قائمة التسريبات الإسرائيلية بشأن استهداف الرئيس عرفات. إلاّ أنّ الحقيقة كاملة لن تظهر قبل مضيّ وقت طويل، كما حصل والاعتراف الإسرائيلي باغتيال وديع حدّاد بالسمّ أيضاً، واغتيال أبو جهاد الوزير والكثير من القادة وآخرهم محمود المبحوح. وإن كانت هذه مجرد وقائع وقرائن إلا أن “الوقائع لا تَترك، القديمة منها والجديدة على تسلسلها، مجالاً كبيراً للشك في أنّ إسرائيل، استناداً إلى تصرفات كبار زعمائها والمسؤولين فيها وتصريحاتهم وأعمالهم، هي دون غيرها المسؤولة عن اغتيال عرفات، بل أنها هي وحدها المستفيدة من ذلك. وللكيان الصهيوني، في أي حال، سجل إجرامي حافل وغير مشرف في اغتيال الزعماء والكوادر الفلسطينيين منذ فترة طويلة”.[18]
من الأسلحة الجرثومية والبيولوجية إلى الأسلحة الذرية
سوابق تسميم إسرائيلية
إن جريمة تسميم الرئيس عرفات، التي لا تزال فرضية، تطورت لفتح تحقيق يتوجب أن تتبعه قرارات باتهام ظني فمحاكمة عادلة. وهي ليست جريمة التسميم الأولى في سجل الإجرام الإسرائيلي، حيث أن ذاك السجل حافل باستخدام الأسلحة الجرثومية والبيولوجية، حتى قبل إعلان قيام دولة إسرائيل. فقد بدأ بن غوريون قبل إعلان الدولة بجمع العلماء اليهود الألمان، من أجل إنشاء وحدة في إسرائيل للحرب الجرثومية. أحد هؤلاء العلماء اليهود هو افراهام ماركوس كلينبيرج، الذي كان متخصصا في الأوبئة في الجيش الروسي، والثاني هو الألماني إيرنست دافيد بيرجمان، والثالث والرابع هما الأخوان أهارون وأفرايم كاتاشالاسكي. وكانت بداية عمل تلك الوحدة بعد سقوط حيفا في 22/4/1948 وتدفّق آلاف المهاجرين من حيفا إلى عكا، وازدحام سكانها، وكانت لا تزال تحت الحماية البريطانية. وفي الأسبوع الأول من أيار (مايو)، بدأت القوات الصهيونية بمحاصرة المدينة، ثم أطلقت عليها وابلا من قنابل المورتر، وكانت مياه الشرب التي تصل إلى عكا من قناة تأتي من القرى الشمالية قرب قرية كابري التي تبعد 10 كم عن عكا، وتعرف في بعض مواقعها بقناة الباشا. وتعترض طريق القناة إلى عكا مستعمرات صهيونية شرقي وغربي المزرعة التي تبعد حوالي 6 كم عن عكا. وفي نقطة ما عند القناة حقن الصهاينة المياه بجرثومة التيفوئيد، وسرعان ما انتشرت حمى التيفوئيد بين الأهالي والجنود البريطانيين.[19] وجاء في التقرير “إن الوضع خطير، وإن تفشي المرض شمل المدنيّين ورجال الجيش والشرطة[..] إن هذه أول مرة يحدث فيها هذا الوباء في فلسطين”. وقرّر بأنّ “الوباء محمول بالمياه” ما دفع المسؤولين أن يقرروا عدم استعمال مياه القناة، واستعمال الآبار الارتوازية والمياه من المحطة الزراعية بدلا من ذلك. وفي تقرير 16/05/1948، يشرح مندوب الصليب الأحمر كيف اشتد هجوم الهاجاناه على المدينة بالمدافع وقذائف المورتر، وطافت سيارات إسرائيلية بها مكبرات الصوت تنادي “أمامكم الاستسلام أو الانتحار، سنبيدكم إلى آخر رجل،” ما أدى إلى سقوطها بتوقيع بعض وجهاء المدينة على وثيقة الاستسلام.
لجأت إسرائيل بعد أسبوع واحد إلى تطبيق الخطة نفسها في غزة. ففي يوم 22/5/1948 قبضت القوات المصرية على يهوديَّين متلبّسَين بمحاولة تلويث مياه غزة. وبالتحقيق معهما اتضح أنهما مكلّفان بتسميم مصادر المياه التي يشرب منها الجيش والأهالي بميكروب التيفوس والدوسنتاريا، والضابط المكلِّف اسمه موشي. وقد ضبطت معهما زمزمية مقسومة من الداخل بحاجز، ومن القسم الأعلى مياه عادية صالحة للشرب والنصف الأسفل خلاصة الميكروب وبه فتحة سفلى خفية. وقد اعترفا بأنهما جزء من فريق مكون من عشرين شخصاً أرسلوا من رحوبوت، بمثل هذه المأمورية. وانتشر وباء الكوليرا في مصر عام 1947 حتى بلغت الوفيات 10,262 شخصاً. وانتشر الوباء أيضاً ولكن على نطاق أصغر في سوريا في 21/12/1947. وقد ضربت السلطات السورية حصاراً صحياً على القرى المتضررة ومنعت الدخول إليها إلا للطواقم الصحية والمياه والأغذية المعتمدة، ولذلك توفي 18 شخصاً فقط من أصل 44 إصابة علما أن شرطة دمشق قد قبضت على عدد من الصهاينة الذين نشروا الوباء في سوريا لإحباط خطة الإعداد لجيش الإنقاذ المقرّر دخوله إلى فلسطين.
كان اهتمام إسرائيل في الخمسينات محصوراً في تطوير أمراض التيفوئيد والطاعون، وبوجه عام الفيروسات والبكتيريا التي يمكن نشرها عن طريق الجرذان والحشرات. وتطور الأمر إلى أمراض الحيوانات وخصوصاً الدواجن. وشمل البحث أيضا مرض الجدري وأمراض الطفيليات. وهذه كلها كائنات دقيقة ولكنها قوية تصلح لأن تكون سلاحاً. وتوسع العمل فيما بعد الستينات إلى المواد السامة، حيث أن درجة سمّها أعلى بكثير من الفيروسات، ويصنع منها غازات الأعصاب مثل الطابون والسومان والسارين و(في اكس) (VX) وأكثر من 15 مادة سامة أخرى، للاستعمال في الاغتيالات.
في عام 1997 حاولت إسرائيل اغتيال خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس في عمان الأردن، باستعمال السم. حيث غضب الملك حسين غضباً شديداً لاعتداء إسرائيل على سيادة الأردن والاتفاقيات المعقودة في مثل هذه الأحوال. وقد اضطرت إسرائيل إلى تسليم الأردن الترياق الذي يلغي تأثير هذا السم.
يدل ما سبق، أن كافة المعلومات تشير إلى أن التاريخ والممارسة الإسرائيلية مليء بالكثير من المعطيات ليس فقط بشأن تصنيع الأسلحة الجرثومية والبيولوجية، بل وسبق استخدامها ضد الفلسطينيين منذ أمد بعيد وفي الزمن القريب أيضاً.
خصوصية جريمة القتل بالسم
تتميّز جريمة القتل بالسم عن سائر أشكال ووسائل القتل بوسيلة الاعتداء على الحياة؛ أي بتميز الركن المادي للجريمة. والنتيجة التي تترتب على ذلك هي وجوب توافر جميع أركان الجريمة مضافاً إليها عنصر التسميم الذي يتميز به ركنه المادي. ويقوم الركن المادي للتسميم على العناصر الثلاثة التي يتطلبها الركن المادي للقتل: فعل الاعتداء على الحياة ووفاة المجني عليه وعلاقة السببية بينهما، وتحديد مدلول الفعل باعتباره المميّز للتسميم عما عداه من صور القتل. ويقتضي هذا الأمر بيان معنى السم، ودلالة فعل الاستعمال، وتتبّع الشروع فيه والتمييز بينه وبين الأعمال التحضيرية.
تحدث جريمة التسميم بالواسطة، أي أن يسلم الجاني المادة السامة إلى وسيط عهد إليه بإعطائها إلى المجني عليه. وفي هذه الحالة تعتبر عملية التسليم إلى الوسيط عملاً تحضيرياً وليس شروعاً في القتل. ويرى الفقه القانوني الراجح أنه إذا كان الوسيط جاهلاً بطبيعة المادة فهو أداة بريئة لمن سلمه السم، وعليه يكون من سلم السم قد شرع بالقتل العمد. أما إذا كان الوسيط عالماً بطبيعة المادة فإنه يتخذ صفة الفاعل، ومن أعطى المادة فهو شريك بالمساعدة، ومن ثم يتحدد وضعه القانوني كشريك على أساس نشاط الفاعل؛ أي يعتبر مجرد تسليم السم إلى ذلك الوسيط عملاً تحضيرياً.[20] ويتوجب إثبات علاقة السببيّة بين إعطاء السم والوفاة.
يتمثل الركن المعنوي للتسميم بصورة القصد الجنائي، ومن أهم عناصره “نية إزهاق الروح”، فإذا انتفى القصد انتفت جريمة التسميم، وقد يصبح تكييفها القانوني جريمة إعطاء مواد ضارة أو جريمة القتل الخطأ. وعليه، فالقصد في التسميم يتطلب إرادة إحداث الوفاة. ولذا فعلى المحكمة أن تثبت تحققها من طبيعة المادة المعطاة وكونها سامة، وأن تثبت توافر قصد القتل. ويغلب على القتل بالسم أن يصدر بسبق الإصرار، إذ أن إعداد السم وتحين الفرصة الملائمة لوضعه في طعام المجني عليه أو شرابه، يتطلب وقتاً يتاح خلاله للجاني التفكير الهادئ في مشروعه الإجرامي. ويخضع الركن المعنوي للأحكام العامة التي يخضع لها القصد الجنائي في القتل، إلا أن “معرفة مرتكب الجريمة في أغلب الحالات صعب، وإقامة الدليل ضد من تحوم حوله الشبهات عسير، خاصة وأن من السموم أنواعاً لا تترك في الجسم آثاراً.”[21]
يبدو مما تقدم، أن الجوانب القانونية لإثبات واقعة جريمة تسميم الرئيس عرفات، محكومة باكتشاف وإثبات الدليل القطعي على مقتله بسبب التسمم بمادة البولونيوم المشعة. علماً أن ما أثبتته الفحوص التي أجراها معهد “رادييشين فيزيكس” السويسري عن وجود مادة “بلوتونيوم 210” القاتلة، في ملابس ومقتنيات استخدمها الرئيس عرفات في أيامه الأخيرة، تشكل دليلاً ملموساً من جهة اختصاص دولية محايدة ومهنية، يتوجب استكمالها بإجراء فحوص موقعية أخرى على الجثمان وخاصة العظام والتربة الملاصقة لجثمان الرئيس عرفات في لحده.
وتبقى أهمية متابعة التحقيقات الفلسطينية لمعرفة إن كان هناك وسيط قد تمت الاستعانة به لنقل السم، أو أنّ إسرائيل كجهة اتهام ظني قد فعلت ذلك منفردة. وفي كلتا الحالتين تبقى إسرائيل هي من خطط وأعد وقام بالأعمال التحضيرية عن سابق تخطيط وترصد وتعمد، في اقتراف هذه الجريمة التي تتخطى الحدود، وتعتبر وبحق جريمة دولية ارتكبت من قبل دولة بحق رئيس دولة أخرى، وزعيم شعب وأمة بل وقائد لحركة التحرر العالمية، أشغل الدنيا والمعمورة بدأبه ونضاله، بحيث كان من أشهر شخصيات العالم على الإطلاق.
أركان الجريمة الدولية
يتفق الفقه على ضرورة توافر ركني الجريمة، وهما الركن المادي والركن المعنوي،[22] ذلك باعتبارهما سلوكاً إرادياً مصدره الإنسان. والجريمة كأي سلوك إنساني لها جانبان جانب مادي خارجي نلمسه في الكون المحيط، وجانب باطني داخلي يعبر عن نفسية مرتكبها. وهذا الجانبان ليسا سوى الركن المادي والركن المعنوي، ومن ثم لا بد من توافرهما واجتماعهما معاً حتى تقوم الجريمة. ويمكن تقسيم أركان الجريمة الدولية[23] على النحو الآتي:
- الركن القانوني: الصفة غير المشروعة للسلوك.
- الركن المادي: ويقصد به الأفعال أو الامتناع عن الأفعال التي تشكل جريمة دولية، أي هو التصرف العمدي الخطير بحد ذاته. فالجريمة في ركنها المادي هي نشاط أو سلوك إنساني إرادي له مظهر محسوس في العالم الخارجي. ولما كانت الجريمة تنبت أولا كفكرة، ثم يعزم الشخص على ارتكابها ويتبع ذلك الإعداد والتحضير لها في المحيط الخارجي ثم يبدأ الفاعل في تنفيذها، وقد يفشل بعد ذلك أو يتوقف عن إتمامها وقد ينجح فيتمها، فمناط التجريم ينصب على المظاهر الخارجية المادية للسلوك. وبالتالي، فإن الركن المادي للجريمة ينصرف عادة إلى ماديات الجريمة، أي المظاهر التي تظهر فيه إلى العالم الخارجي، إذ إن الجرائم الدولية تفترض وجود سلوك أو نشاط إنساني إرادي له مظهر خارجي محسوس يطلق عليه الركن المادي.
- الركن المعنوي: أي أن ترتكب الجريمة الدولية عمدا وبقصد جنائي، وهو ما يدل على خطورة الجريمة الدولية التي تهز أركان المجتمع الدولي في أمنه وتهدد السلم العالمي. ويغلب على قواعد القانون الدولي الجنائي الطابع العرفي.
- الركن الدولي: وهو الذي يميز الجريمة الدولية عن الجريمة الجنائية الداخلية، ويترتب على توافر هذا الركن إضفاء وصف الجريمة الدولية على الجريمة، وبانتفائه ينتفي هذا الوصف. وهذا الركن ينطوي على جانبين:
- شخصي: ويتمثل في ضرورة أن تكون الجريمة الدولية ترتكب باسم الدولة أو برضىً منها. فالشخص الطبيعي عندما يرتكب الجريمة الدولية لا يرتكبها لشخصه وإنما بصفته ممثلا لدولته وحكومته، وفي أحيان كثيرة ترتكب الجريمة الدولية بعلم أو بطلب من الدولة أو باسمها أو بمباركتها وموافقتها.
- موضوعي: ويتجسد في أن المصلحة المشمولة بالحماية لها صفة دولية، فالجريمة الدولية تقع مساسا بمصالح أو قيم المجتمع الدولي أو مرافقه الحيوية.
عدم الاعتداد بالصفة الرسمية
تشير كافة المعطيات والقرائن إلى أن جريمة تسميم الرئيس عرفات تمت بتخطيط وإصرار وترصد من قبل أعلى المستويات القيادية الإسرائيلية. ولم يعتد القانون الدولي الجنائي بالصفة الرسمية التي يحملها المتهم كسبب معفٍ من العقاب أو مخفف للعقوبة، سواء كان المتهم رئيساً للدولة أو رئيسا أو عضوا أو ممثلاً للحكومة، كما لا يجوز الاحتجاج بالحصانة للتخلص من المسؤولية الجنائية عن الجرائم الدولية. ولا يعفى الرئيس الأعلى من المسؤولية الجنائية عن الجرائم التي يرتكبها الأشخاص الذين يعملون تحت إمرته، إذا كان الرئيس قد علم أو كان لديه من الأسباب ما يفيد العلم بأن مرؤوسيه قد ارتكبوا هذه الأفعال أو كانوا على وشك ارتكابها ولم يتخذ الرئيس الإجراءات الضرورية والمناسبة لمنع وقوع هذه الأفعال. وفي حالة قيام أي شخص متهم بارتكاب فعل تنفيذاً لأمر صادر من السلطة أو من رئيسه فإن ذلك لن يعفيه من المسؤولية الجنائية.
وحصانة الرئيس الجزائية لا تحميه من المحاكمة أمام المحاكم الجزائية الدولية، ولا يمكن الدفع بها في وجه اختصاص هذه المحاكم على أنواعها. كما لا يمكن الدفع بها لمنع تطبيق القواعد والأصول المتعلقة بمحاكمة الجرائم الدولية، أي الجرائم التي تحمل اعتداء على الأمن والسلم الدوليين مثل: (الجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية، وجرائم الحرب والجرائم الإرهابية، التي قرر مجلس الأمن أنها تحمل اعتداء على الأمن والسلم الدوليين كجريمة اغتيال الرئيس الحريري).
وفي السياق عينه، نصّت معاهدة فرساي الموقعة في العام 1919، على أن حصانة رؤساء الدول ليست حصانة مطلقة، وهي تسقط إذا ما وجّهت إلى الرئيس القائم بوظائفه تهم بارتكاب جرائم دولية. وأكد ميثاق محكمة نورمبرغ مجموعة من المبادئ التي ستجري على أساسها المحاكمات، تلخصت بالآتي:
- المسؤولية الجنائية الفردية، حيث لم يعد القائد أو الضابط أو الرئيس المسؤول الوحيد عما تم ارتكابه من جرائم، إذ نصت المبادئ على أن كل شخص يرتكب، أو يشترك في ارتكاب فعل يشكل جريمة وفقا للقانون الدولي، يعتبر مسؤولاً عنه، ومستحقا للعقاب.
- لا إعفاء من المسؤولية ولا مانع من المحاسبة كون القانون الوطني لا يجرم أو لا يعاقب على أفعال تشكل جريمة حرب. فالمسؤولية شكلت بناء على القانون الدولي، لا القانون الوطني الداخلي.
- لا يعفي ولا يمنع من المحاسبة أن يكون مرتكب الجريمة رئيس دولة، أو مسؤولا فيها.
- لا يعفي ولا يمنع من المحاسبة، ارتكاب الجريمة بأمر من الحكومة أو من الرئيس وفقا للقانون الدولي، وإنما من الممكن اعتباره أحد الظروف المخففة، وفقا للمادة الثامنة من نظام محكمة نورمبرغ.
- لكل متهم الحق في محاكمة عادلة وفقا لأحكام القانون الدولي.
- التجاوز عن مبدأ شرعية الجريمة والعقوبة، أي مبدأ “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص”، حيث نص على أن هذا المبدأ الذي استقر عليه الفقه القانوني في التشريعات الداخلية الوطنية يمكن تجاوزه في تطبيق القانون الدولي.
ونتيجة لذلك تم الحكم على عدد من قادة الألمان بالإعدام، أمثال المارشال هرمان وألفرد روزنبرغ، وانتهى وجود المحكمة بانتفاء داعي وجودها. كذلك فان أنظمة المحاكم الجزائية الدولية الخاصة، لاسيما المحكمة الجزائية الدولية الخاصة برواندا (المادة 6 الفقرة 4) والمحكمة الجزائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة (المادة 7 الفقرة 4)، تنص على أن صفة رئيس الدولة لا تشكل أي عائق في وجه ملاحقة ومحاكمة الشخص، صاحب هذه الصفة وقت الملاحقة أو قبلها، بجرائم ضد الإنسانية أو بجرائم حرب وإبادة جماعية. وهذا ما نصت عليه أيضا المادة 27 من نظام المحكمة الجنائية الدولية الدائمة المنشأة بموجب اتفاق روما الموقّع بتاريخ 17 تموز (يوليو) سنة 1998. وتؤكّد المادة الثالثة (الفقرة الثانية) من نظام المحكمة الجزائية الدولية الخاصة بلبنان، على عدم الأخذ بالحصانات الرئاسية أمامها بنصها أنه “في ما يتعلق بعلاقة الرئيس بالمرؤوس، يتحمّل الرئيس المسؤولية الجنائية عن أي جريمة من الجرائم المنصوص عليها في المادة 2 من هذا النظام الأساسي والتي يرتكبها العاملون تحت سلطته وسيطرته الفعليتين، كنتيجة فشله في السيطرة على هؤلاء الأشخاص حيث:
أ- الرئيس، إما عرف، أو تجاهل معرفة معلومات أشارت بوضوح إلى أن العاملين تحت سلطته كانوا يرتكبون أو كانوا على وشك ارتكاب مثل هذه الجرائم.
ب- الجرائم متعلقة بنشاطات كانت تحت مسؤولية الرئيس الفعلية ورقابته ولم يتخذ (الرئيس) كل الإجراءات الضرورية والمعقولة التي تدخل ضمن إطار سلطته لمنع أو تفادي ارتكابهم الجريمة أو لرفع القضية للسلطات المعنية بهدف إجراء التحقيقات ومحاكمة المجرمين…”.
وينتج من هذه الأحكام أن النظام الأساسي للمحكمة الجزائية الدولية الخاصة بلبنان لا يقيم أي اعتبار لحصانة الرؤساء، ليس فقط في حال تبيّن ضلوعهم مباشرة بارتكاب الجريمة الداخلة في اختصاص هذه المحكمة، أي جريمة اغتيال الرئيس الحريري أو الجرائم الأخرى المرتبطة بها عن طريق التخطيط لها أو إعطاء الأوامر بارتكابها، وإنما أيضا في حال تبيّن أنهم ارتكبوا عملاً تقصيرياً يكمن في عدم التدخل لمنع ارتكاب الجريمة أو الجرائم المذكورة إذا كانوا أو كان على علم بالتحضير لهذه الجرائم، أو إذا كانت الجرائم المرتكبة تتعلق بنشاطات الرئيس الفعلية وتقع تحت رقابته الفعلية، أو أيضا إذا لم يتخذ الرئيس أو الرؤساء كل الإجراءات اللازمة أو الضرورية والمعقولة التي تدخل ضمن سلطاتهم لمنع أو تفادي ارتكاب الجريمة أو لرفع القضية لسلطات التحقيق المختصة.
وتستند هذه القواعد والأحكام على ما نص عليه النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية[24] في المادة 27 والتي جاءت كما يلي:
- “يطبق هذا النظام الأساسي على جميع الأشخاص بصورة متساوية دون أي تمييز بسبب الصفة الرسمية، وبوجه خاص فإن الصفة الرسمية للشخص، سواء كان رئيساً لدولة أو حكومة أو عضواً في حكومة أو برلمان أو ممثلاً منتخباً أو موظفاً حكومياً، لا تعفيه بأي حال من الأحوال من المسؤولية الجنائية بموجب هذا النظام الأساسي، كما أنها لا تشكل في حد ذاتها, سبباً لتخفيف العقوبة.
- لا تحول الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص سواء كانت في إطار القانون الوطني أو الدولي، دون ممارسة المحكمة اختصاصها على هذا الشخص”.
وتقضي الفقرة الثانية من المادة 28 من نظام المحكمة الجنائية الدولية فيما يتصل بعلاقة الرئيس والمرؤوس، بأن “يسأل الرئيس جنائياً عن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة والمرتكبة من جانب مرؤوسين يخضعون لسلطته وسيطرته الفعليتين نتيجة لعدم ممارسة سيطرته على هؤلاء المرؤوسين ممارسة سليمة:
أ) إذا كان الرئيس قد علم أو تجاهل عن وعي أي معلومات تبين بوضوح أن مرؤوسيه يرتكبون أو على وشك أن يرتكبوا هذه الجرائم.
ب) إذا تعلقت الجرائم بأنشطة تندرج في إطار المسؤولية والسيطرة الفعليتين للرئيس.
ج) إذا لم يتخذ الرئيس جميع التدابير اللازمة والمعقولة في حدود سلطته لمنع أو قمع ارتكاب هذه الجرائم أو لعرض المسألة على السلطات المختصة للتحقيق والمقاضاة.”
موقف القانون الدولي من عمليات القتل خارج نطاق القانون:
تعتبر عمليات الاغتيالات لقادة وأفراد فصائل المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتهم الرئيس عرفات، سواء داخل الأراضي الفلسطينية أو خارجها، مخالفة صريحة لقواعد ومبادئ القانون الدولي الإنساني، سواء في اتفاقيات جنيف الأربعة[25] لعام 1949 أو البرتوكولين الإضافيين لعام 1977. أكدت ذلك أيضاً المادة الثالثة المشتركة في اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والتي تنص على تجريم الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، وبخاصة القتل بجميع أشكاله، والتشويه، والمعاملة القاسية، والتعذيب. وكذلك المواد 27 و32 و146 و147 من اتفاقية جنيف الرابعة، والمادة 75/2 من البرتوكول الإضافي الأول عام 1977 لاتفاقيات جنيف لعام 1949 والتي تنص على حظر ممارسة العنف إزاء حياة الأشخاص أو صحتهم أو سلامتهم البدنية أو العقلية وبوجه خاص القتل.
كما تحذّر مبادئ الأمم المتحدة الخاصة بالوقاية الفعالة من عمليات الإعدام خارج نطاق القانون تحت أي ظرف في زمن الحرب. وحسب المبدأ الأول والذي جاء فيه: “يجب على الحكومات أن تحظر قانونياً جميع عمليات الإعدام خارج نطاق القانون والتعسفية بإجراءات موجزة، وأن تضمن اعتبار أي عمليات كهذه جرائم حرب بموجب قوانينها الجنائية. وأن يعاقب عليها بالعقوبات المناسبة والتي تأخذ بعين الاعتبار مدى خطورة هذه الجرائم. ولا يجوز التذرع بالظروف السياسية الداخلية أو أي حالة طوارئ أخرى كمبرر لتنفيذ عمليات الإعدام هذه”. كما جاء ضمن تقرير أعدته منظمة العفو الدولية[26] ما يلي: “الإعدام خارج نطاق القانون هو عملية قتل غير قانونية مع سبق الإصرار والترصد يتم تنفيذها بأمر من الحكومة، وعمليات القتل خارج نطاق القانون هي عمليات قتل يمكن الافتراض بشكل معقول أنها نتيجة سياسة عليا أي على مستوى حكومي، تستهدف منها تصفية أشخاص محددين كبديل للقبض عليهم وتقديهم إلى العدالة. وترتكب عمليات القتل هذه خارج أي إطار قضائي.” وفي وثيقة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي[27] نص على أنه “لا يجوز تنفيذ عقوبة الإعدام إلا بموجب حكم نهائي صادر عن محكمة مختصة بعد إجراءات قانونية توفر كل الضمانات لتأمين محاكمة عادلة.”
عمليات قتل نتيجة سياسة عليا
رغم كل هذه القواعد والأحكام الآمرة في القانون الدولي قرّر “المجلس الوزاري المصغّر” لإسرائيل في 3/7/2001 مواصلة سياسة الاغتيالات والتصفيات ضد الناشطين الفلسطينيّين. وقرّر في 1/8/2001 مواصلة تلك السياسة، وأوضح أن لا أحد من الفلسطينيين محصن أمام الاغتيالات، ولعل هذه كانت إشارة واضحة بأن المستوى المستهدف بالاغتيال سوف يصل إلى القادة، بل إن المعنى كان يتضمن قيادات السلطة الفلسطينية أيضاً، وعلى رأسهم الرئيس عرفات.
إن عمليات القتل خارج نطاق القانون هي عمليات قتل يمكن الافتراض بشكل معقول أنها نتيجة سياسة عليا أي على مستوى حكومة إسرائيل، تهدف إلى تصفية أشخاص محدودين كبديل للقبض عليهم وتقديمهم إلى المحاكمة. وترتكب عمليات القتل هذه مع سبق الإصرار والترصد. وذلك وفق ما جاء في تقرير منظمة العفو الدولية في شباط (فبراير) 2001 بعنوان: “إسرائيل والأراضي المحتلة والاغتيالات.” ويعتبر هذا القتل خارج نطاق القانون الذي تمارسه قوات الاحتلال الحربي الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، انتهاكاً صارخاً لكافة معايير حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني العرفي والتعاقدي، وعليه تتحمل إسرائيل المسؤولية الجنائية والمدنية الكاملة عنها. ويحق للفلسطينيين كمتضررين من هذه الانتهاكات الحق في المساءلة المدنية، مع طلب التعويض لكل من تضرر جراء الممارسات القمعية التي تمارسها قوات الاحتلال الحربي الإسرائيلي، ضد المدنيّين الفلسطينيين، ومن تقوم باغتيالهم أو من تضرر أثناء تواجده في مكان عملية الاغتيال. كما يحق للفلسطينيين بصفة جماعية وفردية ملاحقة ومساءلة الآمرين الذين أعطوا الأوامر بقصف أو قتل أو اغتيال الأشخاص المدنيين الفلسطينيين، بحيث يتم ملاحقة ومساءلة الآمرين من العسكريين أو السياسيّين الإسرائيليّين. على اعتبار أنه لا يسري مبدأ التقادم على مثل هذه الجرائم الدولية ضد الإنسانية، وهي تمثل أحد أهم الضمانات التي شرعها القانون الدولي للمتضررين.
إذاً، فإن عمليات التصفية خارج نطاق القانون، تعتبر انتهاكاً صارخاً للحق في الحياة، وفق ما جاء في المادة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان “لكل فرد حق في الحياة والحرية وفي الأمان على شخصه.” كما نص البند الأول من المادة السادسة في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أن “الحق في الحياة حق ملازم لكل إنسان، وعلى القانون أن يحمي هذا الحق. ولا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفاً.” كما أن اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب المؤرخة في 12 آب (أغسطس) 1949 أوجبت في المادة الأولى منها تعهد الدول الأطراف السامية المتعاقدة، “بأن تحترم هذه الاتفاقية وتكفل احترامها في جميع الأحوال.” كما نصت المادة 32 من الاتفاقية نفسها على أنه “تحظر الأطراف السامية المتعاقدة صراحة جميع التدابير التي من شأنها أن تسبب معاناة بدنية أو إبادة للأشخاص المحميّين الموجودين تحت سلطتها.” كما نصت المادة (47) من الاتفاقية نفسها على أنه “لا يحرم الأشخاص المحميّون الذين يوجدون في أي إقليم محتل بأي حال ولا بأية كيفية من الانتفاع بهذه الاتفاقية…”. واعتبرت المادة الثانية من الاتفاقية أن سياسة القتل بجميع أشكاله في جميع الأوقات والأماكن هي من الأفعال المحظورة. هذا ويعتبر القتل العمد هو من المخالفات الجسيمة، حيث نصت المادة (147) من الاتفاقية نفسها على تعريفها للمخالفات الجسيمة بأنها تتضمن أحد الأفعال إذا اقترفت ضد أشخاص محميّين أو ممتلكات محمية بالاتفاقية، واعتبرت أن القتل هي إحدى المخالفات الجسيمة.
يعتبر اغتيال الرئيس عرفات مخالفة صريحة في القانون الدولي لحقوق الإنسان. فقد نص في كافة العهود والمواثيق والإعلانات الدولية لحقوق الإنسان على حماية الحق في الحياة وحرمة الاعتداء عليه، أهمها المادة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 التي نصت على أنّه “لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه،” والمادة الخامسة من الإعلان ذاته التي نصت على أن “لا يتعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الحاطّة بالكرامة،” والمادة السادسة الفقرة الأولى من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 وفيها: “1- لكل إنسان الحق الطبيعي في الحياة، ويحمي القانون هذا الحق، ولا يجوز حرمان أي فرد من حياته بشكل تعسفي.”
وهناك المواثيق والإعلانات والاتفاقيات الإقليمية لحقوق الإنسان والتي فرضت حماية قوية للحق في الحياة، منها الميثاق العربي لحقوق الإنسان لعام 1997 في المادة الخامسة ومنه التي نصت على أنه “لكل فرد الحق في الحياة وفي الحرية وفي سلامة شخصه ويحمي القانون هذه الحقوق،” والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب لعام 1979 بنصه على حماية حق الإنسان في الحياة في المادة الرابعة “لا يجوز انتهاك حرمة الإنسان ومن حقه احترام حياته وسلامة شخصه البدنية والمعنوية ولا يجوز حرمانه من هذا الحق تعسفاً،” والاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان لعام 1950 التي نصت في المادة الثانية الفقرة الأولى في القسم الأول “1- حق كل إنسان في الحياة يحميه القانون، ولا يجوز إعدام أي إنسان عمداً إلا تنفيذاً لحكم قضائي بإدانته في جريمة يقضي فيها القانون بتوقيع هذه العقوبة”.
يشكل اغتيال الرئيس عرفات حرمانا للحق في الحياة بطريقة تعسفية، وخرقاً فاضحاً لأحكام العديد من قواعد القانون الدولي الإنساني، والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998. وقد اعتبرت منظمة العفو الدولية عمليات الاغتيال جريمة حرب تنتهك القانون الدولي، كما أنها تشكل جريمة من جرائم الحرب التي نص عليها في المادتين الخامسة الفقرة (ج) والثامنة الفقرتين الأول والثانية (أ/1) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
نحو ملاحقة المجرمين
مما سبق يتبين أن جرائم الاغتيال والتصفية الجسدية، وخاصة تسميم الرئيس عرفات، هي سياسة إسرائيلية رسمية ومنهجية ومعلنة صراحة، يتوجب أن تتحمل عواقبها حكومة إسرائيل كأشخاص وكدولة. ولو أُخذت قضية عرفات، وحيثياتها، بأزمنتها المختلفة وما سبقها من محاولات إسرائيلية “رسمية” أو غير ذلك لاغتيال الرجل، على التهديدات بل حتى النقاشات العلنية التي رافقت ذلك، بين أيدي أي محقق جنائي لأوعز، دون تردد، بجلب كبار زعماء إسرائيل أمامه للتحقيق معهم. فلإسرائيل أجهزتها وأدواتها، بل إن لها أيضاً “تقاليدها” لتنفيذ جرائم الاغتيال، القائمة منذ فترة طويلة. وجريمة بحجم اغتيال عرفات لا يمكن أن تتم بصورة عرضية أو سهواً أو عن طريق الخطأ، ولا يمكن لأي كان أن يتخذ قراراً بشأنها، إذ ينبغي أن تبحث ويبت فيها من قِبَل أعلى القيادات شأناً وأولها مسؤولية في إسرائيل.[28] واستناداً إلى ذلك، وإلى آليات صنع القرار في الكيان الصهيوني، في أوضاع كهذه، هذه هي الدفعة الأولى من كبار المتهمين، المتورطين في اغتيال عرفات، ليس فقط بحكم مسؤولياتهم ومهامهم، بل أيضاً استناداً إلى مواقفهم العلنية[29]:
- أريئيل شارون، بصفته رئيساً لحكومة إسرائيل، 2001-2006 (حالياً في حكم المتوفى سريرياً).
- آفي ديختر، بصفته رئيساً للشاباك (الأمن الداخلي)، 2000-2005 (حالياً عضو كنيست عن حزب كاديما)، وكان الأكثر دموية وإجراماً، فجهازه، بمبادرة نشطة وحماس كبير منه، قام بتنفيذ عشرات الاغتيالات للنشطاء الفلسطينيّين في الضفة خلال الانتفاضة، والأرجح أن رجاله هم من نفذوا عملية تسميم عرفات.
- شاؤول موفاز، بصفته وزيراً للدفاع، 2003-2006 (حالياً زعيم حزب كاديما)
- موشي يعالون، بصفته رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، 2003-2005 (حالياً أحد نواب رئيس حكومة إسرائيل).
- مئير داغان، بصفته رئيساً للموساد، 2002-2011 (حالياً مصنف كزعيم “عائم”).
وهكذا فإن “ما توفر من بينات حتى الآن بشأن حيثيات اغتيال عرفات كافٍ، كما يبدو، لإصدار قرار ظني بحق المتهمين الخمسة الأوائل المشار إليهم، ومن ثم استدعاؤهم للتحقيق معهم،”[30] وذلك لتتبع المسؤولية الدولية ومقتضيات تحقيق مبدأي العدالة وإنصاف الضحايا في القانون الدولي. وتقوم المسؤولية الدولية عندما تنتهك دولة قاعدة قانونية تعاقدية أو عرفية، شريطة صدور الفعل من دولة، وأن يكون الفعل غير مشروع، وأن يحصل ضرر، وأن يكون ناتجاً عن عمل من أعمال هيئات ومؤسسات الدولة. وتقضي قواعد القانون الدولي العرفية والاتفاقية عناية وحماية خاصة لرؤساء الدول، وتتوقف درجة العناية المطلوبة على الظروف لكل حالة على حدة، وتدخل عوامل الزمان والمكان ومكانة الشخص في حال أي اعتداء بعين الاعتبار. فدرجة الحماية المطلوبة لرئيس دولة أو مسؤول أكثر من حماية مواطن أو أجنبي عادي في الظروف الاعتيادية.[31]
الاختصاص القضائي العالمي
باتت ثقافة إنشاء المحاكم الدولية أمراً شائعاً في العلاقات الدولية مع إنشاء المحاكم الدولية الخاصة بيوغسلافيا ورواندا، وهي محاكم عالمية أُنشئت ابتداء من العام 1993 للبت في جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي ارتكبت في دولة ما خلال فترة محددة من الزمن. ومعظم هذه المحاكم الدولية الخاصة أَنشأتها قرارات مجلس الأمن بموجب الفصل السابع. وتعد هذه المحاكم تطبيقًا عمليًا لمبدأ المسؤولية الدولية بعد أن تبين أن الدولتين المذكورتين غير قادرتين على القيام بالتزاماتهما تجاه شعبيهما. فقام المجتمع الدولي بتحمل المسؤولية فتشكلت المحكمتان بصورة مستقلة عن النظم القضائية الوطنية. وتولى العمل في المحكمتين قضاة ومحامون وموظفون دوليون. وتولى المجتمع الدولي تمويل المحكمتين. لكن الكلفة العالية جدًا التي تكبدها المجتمع الدولي، في ظل النقص في الموارد، والكثير من المصاعب والاعتراضات التي واجهت هذه المحاكم، بالإضافة إلى اعتبارها وسيلة هيمنة واتهامها بالتسييس[32] وبأنها “محاكم المنتصر،” دفعت بالمجتمع الدولي إلى الاستعاضة عنها بإقرار مبدأ المحاكم المختلطة، أي التعاون مع البلدان المتضررة على تشكيل محاكم “ذات طابع دولي” تجمع ما بين النظم القضائية المحلية والدولية، وعلى هذا النمط نشأ العديد من المحاكم، ومنها محكمة سيراليون وتيمور الشرقية و“المحكمة الدولية الخاصة بلبنان” ولجنة التحقيق الدولية في مقتل بنازير بوتو.
وهناك محاكم الدول الأعضاء في اتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكولان الإضافيّان لها لعام 1977 حيث أعطت اتفاقيات جنيف الأربع اختصاصًا عالميًا للدول الأطراف، فقد ألزمتهم في المواد المشتركة[33] بين الاتفاقيات الأربع، بملاحقة المتهمين باقتراف المخالفات الجسيمة أو بالأمر باقترافها وتقديمهم إلى محاكمها أيًا كانت جنسيتهم، أو تسليمهم لطرف آخر معني بمحاكمتهم؛ أي أن من حق أي دولة طرف فيهم ملاحقة ومحاكمة ومعاقبة مرتكبي المخالفات الجسيمة سواء على أرضها أو على أرض أي دولة من الدول المتعاقدة السامية في اتفاقيات جنيف. وأكد ذلك ما ورد في المادة (86/1) من البروتوكول الأول التي طالبت الدول المتعاقدة وأطراف النزاع بقمع الانتهاكات الجسيمة واتخاذ الإجراءات اللازمة بمنع كافة الانتهاكات الأخرى لاتفاقيات جنيف. فالاختصاص العالمي الذي منحته اتفاقيات جنيف والبروتوكول الأول بقمع الانتهاكات الجسيمة والتي تشكل جرائم حرب، يشمل جميع الدول الأعضاء ودول أطراف النزاع.
وعلى الدول المتعاقدة على اتفاقية جنيف وجوب تحمل مسؤوليتها الأخلاقية والقانونية، والوفاء بالتزاماتها من أجل الضغط على إسرائيل لاحترام معايير حقوق الإنسان، والكف عن كافة أشكال الانتهاكات التي تمارسها ضد المدنيين الفلسطينيين وخاصة عمليات الاغتيال المبرمجة التي تقوم بها قوات الاحتلال الحربي الإسرائيلي. وكذلك وجوب اتخاذ إجراء تشريعي يلزم لفرض عقوبات جزائية فعالة، على القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين الذين أعطوا أوامر لعمليات الاغتيال، باعتبارها من المخالفات الجسيمة، وفق ما جاء في المادة 146 من الاتفاقية الرابعة والتي نصت على أن “تتعهّد الأطراف السامية المتعاقدة بأن تتخذ أي إجراء تشريعي يلزم لفرض عقوبات جزائية فعالة على الأشخاص الذين يقترفون أو يأمرون باقتراف إحدى المخالفات الجسيمة لهذه الاتفاقية.” واعتبرت مواد في الاتفاقية نفسها أنّ القتل العمد هو من ضمن المخالفات الجسيمة.
وتعتبر جريمة اغتيال الرئيس عرفات من جرائم الحرب، طبقا للمادتين الخامسة الفقرة (ج) والثامنة الفقرة الأولى والثانية (أ/1) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. لذلك يتوجب محاكمة من فعلها واشترك فيها أي الفاعل الأصلي والشركاء، لدى المحكمة الجنائية الدولية أو المحاكم الوطنية أو محاكم دولية أو محكمة ذات طابع دولي.[34] والمحاكم الدولية الجنائية المختصة هي المحكمة الجنائية الدولية أو المحاكم الوطنية للدول التي وقعت الجريمة علي أراضيها أو ارتكب أي فعل مادي من الأفعال المكونة للركن المادي للجريمة علي أرضها، أو المحاكم الوطنية بناء على الاختصاص العالمي الوارد في اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949، أو المحاكم الدولية التي يشكلها مجلس الأمن مثل محكمة يوغوسلافيا ورواندا، أو محكمة جنائية ذات طابع دولي كالمحكمة الخاصة بلبنان وغيرها، أو لجان تحقيق دولية ومشتركة على غرار لجنة التحقيق في مقتل بنازير بوتو.
……….
يظهر مما تقدم أن إعلان النيابة العامة في نانتير غرب باريس بتاريخ 28 آب (أغسطس) 2012، قرارها فتح تحقيق قضائي، إثر تقدم سهى عرفات، أرملة الرئيس عرفات، بدعوى ضد مجهول بتهمة الاغتيال في 31 تموز (يوليو) 2012، لفتح تحقيق في ملابسات وفاته في مستشفى فرنسي في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 2004، قد حدد الاتجاه الذي آلت إليه القضية، وهو القضاء الفرنسي. ويبدو أن الجوانب الإجرائية قد بدأت بعد إعلان مصدر قضائي فرنسي بتاريخ 5 أيلول (سبتمبر) 2012 أن ثلاثة قضاة فرنسيين يستعدون للسفر إلى رام الله، لطلب استخراج جثة ياسر عرفات في إطار تحقيق فيما إذا كان قد مات مسموما، وسينفذ خبراء الشرطة الاختبارات والفحوص تحت إشرافهم. وبهذا يعود الملف برمته إلى الجانب الفرنسي، خاصة وأن سهى عرفات طلبت من السلطة الوطنية الفلسطينية والجامعة العربية، تجميد كل المبادرات في حين يقوم جهاز العدالة الفرنسي بنظر القضية، وأضافت إن التحقيق الفرنسي يجب أن تكون له أولوية على كل الإجراءات الأخرى، لأنه “الضمانة التي لا يمكن الطعن فيها للاستقلال والحيادية.” والسؤال الذي ينبري انطلاقاً من ثقة صاحبة المصلحة الشخصية كأرملة الرئيس عرفات، هل ستتعاون الأوساط الطبية الفرنسية التي أشرفت على علاج الرئيس عرفات مع قضاة التحقيق الفرنسيّين؟ وهل سيعطون لقضاة التحقيق نتائج “عمل الفحوص الإشعاعية،” التي سبق وأن رفضوا طلباً فلسطينياً بالكشف عنها أو إعطاء أي تفاصيل أخرى بشأنها؟ وهل سيكشفون لقضاة التحقيق عن الـ”مواد التي كان يجب أن يتضمنها التقرير ولم يتم الكشف عنها بسبب الظروف المحيطة”؟!. وهل سيثبت القضاء الفرنسي عدم صحة تقرير صحيفة لوفيغارو[35] عن أن “فرنسا تعلم السر الذي تخفيه التقارير لوفاة عرفات التي وصفتها “بالغامضة،” مؤكدة “تفضيلها للسكوت وعدم التحدث في هذا الشأن،” أم أنهم سيتتبعون القرائن والمعطيات التي تتوفر لدى المستشفى العسكري الفرنسي وغيرها من القرائن والمعطيات، بما فيها تقرير معهد الفيزياء الإشعاعية بمدينة لوزان بسويسرا ؟!
وعلى الرغم من الوثوق بعدالة القضاء الفرنسي، إلا أن الحيطة والحذر واجب لخصوصية ملف تسميم الرئيس عرفات، الذي لم تكشف سره أوساط مستشفى بيرسي العسكري في باريس سابقاً؛ إذ أن للدول والحكومات التزامات ومقتضيات في العلاقات الدولية. ومهما كانت نتائج التحقيق القضائي الفرنسي، إلا أن حجم وخصوصية قضية تسميم الرئيس عرفات لا تسقط بالتقادم، وستبقى كما الجمر تحت الرماد، وستعود مجدداً للتداول والظهور كما طائر الفينيق، الذي طالما تحدث عنه الرئيس الخالد ياسر عرفات.
الهوامش
[*] باحث ومستشار قانوني.
[1]. أنشئت المحكمة الخاصة بلبنان بموجب القرار 1757 الصادر عن مجلس الأمن الدولي يوم 30 أيار (مايو) 2007، بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يتيح لمجلس الأمن اتخاذ تدابير لإرساء السلم والأمن الدوليين، وبدأت عملها في أول آذار (مارس) 2009 في ضاحية لايدسندام في لاهاي، وهي مكلفة محاكمة المتهمين باغتيال رفيق الحريري في تفجير شاحنة مفخخة أسفر أيضا عن مقتل 22 شخصا آخرين يوم 14 شباط (فبراير) 2005 في بيروت. وتشكل مساهمة لبنان في ميزانية المحكمة للعام 2012 من الحكومة اللبنانية مبلغاً وقدره 26 مليونا و927 ألفا و270 يورو (33 مليونا و210 آلاف دولار تقريبا).
[2]. مؤسسة ياسر عرفات مؤسسة مستقلة وغير ربحية, تأسست بموجب المرسوم الرئاسي رقم 5 لعام 2007 والمرسوم المعدل لعام 2008، لغاية المحافظة على تراث الرئيس الراحل وتخليد ذكراه لدى الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والصديقة، ولغاية القيام بنشاطات خيرية، وإنسانية، واجتماعية، وأكاديمية. وتتلقى المؤسسة دعماً حكومياً وتقوم بمهام ذات طابع حكومي تجاه تراث ياسر عرفات وتتمتع بالاستقلالية القانونية والمالية والإدارية ويقود عملها هيئاتها القيادية www.yassirarafatfoundation.ps/yaf/index.php. وانظر أيضاً: مرسوم رئاسي رقم (5) لسنة 2007م بشأن إنشاء مؤسسة ياسر عرفات صدر في مدينة رام الله بتاريخ: 24/3/2007؛ ومرسوم رقم (9) لسنة 2008م بشأن تعديل مرسوم إنشاء مؤسسة ياسر عرفات، صدر في مدينة رام الله بتاريخ 06/04/2008.
[3]. القدس (فلسطين)، 6 تموز (يوليو) 2012.
[4]. الحياة الجديدة (رام الله)، الخميس 23 آب (أغسطس) 2012، العدد 6037.
[5]. القدس (القدس)، 20 آب (أغسطس) 2012.
[6]. القدس (القدس)، 22 أيلول (سبتمبر) 2012.
[7]. الأيام (رام الله)، 14 تموز (يوليو) 2012.
[8]. يوجد البولونيوم في الغلاف الجوي، لكن المستويات الطبيعية تسجل بالكاد. اكتشفت ماري كوري البولونيوم عام 1898 وكانت ابنتها إرين ضمن القتلى الأوائل الذين قضوا بسبب تلك المادة، فقد ماتت باللوكيميا (سرطان الدم) بعد سنوات من تعرضها خطأ للبولونيوم في مختبرها. كما قتل شخصان على الأقل لهما علاقة بالبرنامج النووي الإسرائيلي جراء تعرضهما لمادة البولونيوم.
[9]. يوضح الشيخ تيسير التميمي قاضي القضاة السابق الذي قام بتغسيل الرئيس في المستشفى العسكري الفرنسي: “حين دخلنا إلى الرئيس كان الأمر مفزعا.. وجدت رأس الرئيس منتفخا ومتورما بحيث أصبح حجمه تقريبا ثلاثة أضعاف حجمه الطبيعي، وكان الدم ينزف من مختلف أنحاء رأسه ووجهه..!! كانت الدماء تنزف من مسامات جلده وأذنيه وعينيه، ومن كل مكان..” www.alwatanvoice.com/arabic/content/print/297828.html ، شوهد بتاريخ 16 تموز (يوليو) 2012
[10]. الضحية الأشهر للبولونيوم هو الجاسوس الروسي السابق الذي صار معارضا ألكسندر ليتفينينكو، إذ توفي في لندن عام 2006. وتوصل تحقيق بريطاني إلى أنه توفي بالبولونيوم الذي دس له في الشاي بأحد مطاعم السوشي بالعاصمة البريطانية.
[11]. نشرت كافة التقارير على الموقع الإلكتروني (www.yasserarafat.ps). وتضمنت التقارير التي نشرتها المؤسسة: تقرير اللجنة الطبية إلى اجتماع مجلس أمناء مؤسسة ياسر عرفات في 28 شباط (فبراير) 2012، ونص رسالة اللجنة إلى مستشفى بيرسي الفرنسي في 10 كانون الأول (ديسمبر) 2010، والتقرير الفلسطيني حول وفاة الرئيس عرفات من الفترة من 12 – 29 تشرين الأول (أكتوبر) 2004، والتقرير الفرنسي للفترتين من 29 تشرين الأول (أكتوبر) – 3 تشرين الثاني (نوفمبر) 2004 ومن 3 – 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2004 وترجمته العربية، وتقرير معهد بحوث الجريمة التابع للحرس الوطني الفرنسي – قسم أبحاث الجريمة الفيزيائية والكيميائية في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 2004، وتقرير الطبيب المرافق المقيم للرئيس عرفات د. عمر دقة.
[12]. الأيام (رام الله)، 13 تموز (يوليو) 2012.
[13]. كما صدر في صحيفة الحياة الجديدة (رام الله)، الاثنين 9 تموز (يوليو) 2012 العدد 5994
[14]. أحمد عبد الرحمن، دروس وعبر من سيرة ياسر عرفات، ص 153.
[15]. تحت عنوان “الرئيس المسموم” نشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية بتاريخ 13 تموز (يوليو) 2012 ، تقريراً استعرض المحاولات الإسرائيلية لاغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات. الحياة الجديدة (رام الله)، السبت 14 تموز (يوليو) 2012، العدد 5999 .
[16]. كيد مرتد. كتاب إسرائيلي يفضح مؤامرة إسرائيل على الرئيس عرفات والتخلص منه بطرق استثنائية http://www.aljazeeratalk.net/forum/upload/2152/1194733567.jpg
[17]. تحت عنوان “الرئيس المسموم” نشرت صحيفة “يديعوت احرونوت” العبرية بتاريخ 13 تموز 2012، تقريراً استعرض المحاولات الإسرائيلية لاغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات. الحياة الجديدة، 14 تموز 2012، العدد 5999.
[18]. صبري جريس، اغتيال عرفات – الجريمة وأبعادها، jiryis.com 26/07/2012.
[19]. تقرير الصليب الأحمر رقم (G59/1/GC, G3/82) بتاريخ 6 أيار 1948. أنظر: د. سـلمان أبوسته، إسرائيل أول من استعمل الحرب الجرثومية في فلسطين وأكبر خازن لها، الحياة، لندن، 1/2/2003، ص 9.
[20]. د. محمود نجيب حسني. (1992). شرح قانون العقوبات: القسم الخاص، دار النهضة العربية، القاهرة، ص 371- 379. كذلك: القسم العام، الفقرة 479، ص 432.
[21]. المصدر نفسه، ص 371.
[22]. د.حسنين عبيد، (1975). الجريمة الدولية، دار النهضة العربية، القاهرة. محمود صالح العادلي، (2003). الجريمة الدولية- دراسة مقارنة، دار الفكر الجامعي، الإسكندرية.
[23]. د. على يوسف الشكري، (2005). القانون الجنائي الدولي في عالم متغير- دراسة في محكمة لايبزج-نورمبرج-طوكيو- يوغسلافيا السابقة- بارواندا والمحكمة الجنائية الدولية الدائمة وفقاً لأحكام نظام روما الأساسي، القاهرة، أيتراك للطباعة والنشر والتوزيع، ط1. د. فتوح عبد الله الشاذلي، (2002). القانون الدولي الجنائي- أولويات القانون الدولي الجنائي: النظرية العامة للجريمة الدولية، الإسكندرية، جمهورية مصر العربية، دار المطبوعات الجامعية.
[24]. د. السيد مصطفي أحمد أبو الخير، (2005). النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية والقواعد الإجرائية وقواعد الإثبات وأركان الجرائم الدولية، القاهرة: دار ايتراك للطباعة والنشر والتوزيع.
[25]. الأولى المتضمنة حماية الجرحى والمرضى وتحسين أحوالهم في القوات المسلحة في الميدان، والثانية بشأن تحسين حالة الجرحى والمرضى والغرقى في القوات المسلحة في البحار، والثالثة بشأن معاملة أسرى الحرب، والرابعة بخصوص حماية المدنيين. وقد أصدر الحاكم العسكري الإسرائيلي بتاريخ 22 حزيران (يونية) عام 1967 الأمر العسكري رقم(3) وقد نصّ على أن “تقوم المحكمة العسكرية بتطبيق أحكام اتفاقية جنيف المؤرخة 12 آب (أغسطس) عام 1949 الخاصة بحماية المدنيين في زمن الحرب فيما يتعلق بالإجراءات القضائية، وفي حالة وجود تعارض بين هذا الأمر والاتفاقية المذكورة تنفذ بنود الاتفاقية”، وما لبث وأن أصدر أمراً آخر بعد أقل من أسبوع يلغي فيه الأمر المذكور. علماً أن هناك إجماع دولي وقرارات متعاقبة من مجلس الأمن تؤكد أن الأراضي الفلسطينية ينطبق عليها جميعاً أحكام القانون الدولي والقانون العام الدولي الإنساني الخاص بالاحتلال العسكري، ولوائح لاهاي عام 1907، واتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكولان الإضافيان الملحقان بها.
[26]. منظمة العفو الدولية، (شباط، فبراير، عام 2001). إسرائيل والأراضي المحتلة والاغتيالات التي تنفذها الدولة وغيرها من عمليات قتل غير مشروعة.
[27]. المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، كفالة حقوق من يواجهون عقوبة الإعدام، الوثيقة رقم (50/1984) والصادرة في أيار (مايو) 1984.
[28]. صبري جريس، اغتيال عرفات – الجريمة وأبعادها، jiryis.com/2012/07/26/
[29]. المصدر نفسه.
[30]. المصدر نفسه.
[31]. د. سهيل الفتلاوي، (2011). الموجز في القانون الدولي العام، عمان، دار الثقافة، ص206.
[32]. راجع مثلاً: د. أيمن سلامة، المحكمة الجنائية اللبنانية ذات الطابع الدولي.. نظام قانوني أم مشروع سياسي، مجلة السياسة الدولية (القاهرة)، العدد 171، يناير 2008، ص 98- 103.
[33]. م/49جنيف الأولى، م/50جنيف الثانية، م/129جنيف الثالثة، م/146 جنيف الرابعة.
[34]. د. السيد مصطفي أحمد أبو الخير، (2009). الطرق القانونية لمحاكمة إسرائيل قادة وأفراد في القانون الدولي بالوثائق، القاهرة: دار ايتراك للطباعة والنشر والتوزيع، ص 74.
[35]. الحياة الجديدة (رام الله)، الاثنين 9 تموز (يوليو) 2012 العدد 5994.