نظير مجلي[*]

 من أتيحت له زيارة الناصرة أو أم الفحم أو شفاعمرو أو أية بلدة عربية في إسرائيل خلال شهر تشرين الأول، لحسب أنها تخوض معركة الرئاسة الأمريكية. إعلانات ضخمة على لوحات الاعلانات وصور مرشحين ملونة أكبر من صور ممثلي السينما الهوليوودية معلقة على أسطح البيوت والحوانيت ولوحات الدعاية الانتخابية تملأ مئات السيارات ومكبرات الصوت تلعلع بأسماء المرشحين والقوائم وتصدح بالأناشيد الانتخابية (جينجل). وهذا عدا عن الاعلانات في الصحف والدعايات والتعليقات في الفيس بوك وبقية الشبكات الاجتماعية. وحديث الناس عن الأساسي أي الانتخابات القريبة. ولم يخل الأمر من توتر وشد أعصاب. وفي بعض البلدات استخدمت العصي وحتى اطلاق الرصاص في الاشتباكات.

كل ذلك عكس أجواء الانتخابات البلدية لدى الجماهير العربية الفلسطينية في إسرائيل، المعروفين بفلسطينيي 48. فهذه بالنسبة إليهم، هي أهم انتخابات يخوضونها. فعلى الرغم من أن انتخابات الكنيست، التي يخوضونها بواسطة أحزابهم السياسية بقوة وتعتبر ذات أهمية سياسية كبرى تتعلق بهم وبقضاياهم وبقضايا السياسة الإسرائيلية العامة التي تؤثر على شعبهم الفلسطيني وأمتهم العربية، وعلى الرغم من وجود انتخابات نقابية قطرية ذات أهمية إذ أنها تخص مصدر أرزاقهم وحقوقهم العمالية والنقابية وتأميناتهم الاجتماعية، فإن الانتخابات البلدية عندهم تعتبر فوق كل انتخابات. ومن أبرز الدلائل على ذلك هي المشاركة الواسعة جدا فيها، حيث تصل نسبتها إلى 75% بالمعدل، وهناك بلدات وصلت فيها النسبة إلى 95% في الانتخابات الأخيرة التي جرت في 22 تشرين الأول (أكتوبر) 2013. بينما لم يزد الاقبال على الانتخابات البرلمانية (للكنيست الإسرائيلي) التي جرت في مطلع سنة 2013 عن 58% وفي الانتخابات النقابية الأخيرة (للهستدروت) عن 45%.

والسبب في تفضيل الانتخابات البلدية ووضعها على رأس المعارك الانتخابية أشغل بال العديد من الباحثين العرب واليهود في إسرائيل. وقد أجمعوا على أنها الانتخابات التي يشعر فيها المواطن العربي بأنه يؤثر فيها بشكل حقيقي. ففي الكنيست لا يوجد تأثير كبير للنواب الذين يمثلون هذا المواطن. فالائتلافات الحكومية لا تأخذ العرب بالاعتبار، باستثناء فترة حكومة اسحق رابين (1992 – 1995)، التي تمثل فيها العرب بالأساس بحزبين وطنيين، هما الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة بقيادة توفيق زياد والحزب الديمقراطي العربي بقيادة عبد الوهاب دراوشة. فقد كان لهما خمسة نواب وكان لائتلاف رابين 56 نائبا (من مجموع 120). فوافق زياد ودراوشة على تقديم دعم خارجي لائتلاف رابين مقابل شرطين أساسيين، هما: السعي الحقيقي لعملية سلام يتم خلالها الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية والعمل على تصفية سياسة التمييز العنصري ضد العرب والتوجه نحو سياسة مساواة تامة. وقد وفى رابين بوعده. وبدا تأثير العرب واضحا على سياسة الحكومة عموما وسياستها في قضاياهم بشكل خاص.

لكن هذه الحالة لم تتكرر. وقد انتهت باغتيال رابين. وعادت بشكل جزئي في فترة حكم ايهود أولمرت (2006 – 2009) بمبادرة من أولمرت وليس بحكم حاجته لأصوات النواب العرب. وعادت لتنقطع في فترة حكم بنيامين نتنياهو (2009 وحتى اليوم).

وفي حالة النشاط النقابي، كان للنقابيين العرب تأثير محدود لم يشعر به العمال العرب. والسبب في ذلك أن النقابات فقدت تأثيرها عموما في إسرائيل. واقتصر نشاطها على خدمة عمال الشركات الكبرى (الكهرباء والقطارات والموانئ)، وهي شركات لا يعمل فيها عرب تقريبا.

أما السلطات المحلية العربية، فإنها تعمل في النطاق العربي البحت. ومع مرور الزمن، وبغياب المصانع الكبرى عن البلدات العربية واضطرار غالبية العمال العرب إلى السفر خارج بلداتهم بحثا عن الرزق، أصبحت السلطات المحلية أكبر مشغل في الوسط العربي. في بلدية الناصرة، على سبيل المثال، يوجد ألف عامل وموظف. وفي بلدية سخنين 800. وهناك مئات الوظائف البسيطة في كل بلدية، التي لا تحتاج إلى مواصفات مهنية عالية مثل حراس المدارس وعمال النظافة والصيانة وسائقي السيارات وغيرها. ورئيس البلدية أو المجلس المحلي يتمتع بصلاحيات واسعة في تعيين الموظفين وإعطاء رخص البناء وتخفيف الضرائب البلدية ومنح الإعفاءات. وانتخاب الرئيس والأعضاء من المقربين، الذين يعرفون بعضهم بعضا، يجعل الانتخابات المحلية ذات أثر شخصي على كل مواطن. فيجند الواحد منهم الأقرباء والأصدقاء والجيران والمعارف. ولذلك يزداد التأثير الشخصي لكل فرد فيها.

من هنا، فإن الاهتمام الزائد بالانتخابات البلدية يصبح طبيعيا. فترتفع نسبة التصويت إلى أعلى النسب، لتصل إلى 90 و95 بالمئة. وفي بعض الأحيان تظهر بين المقترعين أسماء موتى. وقد تناول “المعهد الإسرائيلي للديمقراطية”، هذا الموضوع ببحث أعده د. آفي بيسط ود. مومي دهان، وهما من الجامعة العبرية في القدس، نشره في سنة 2006 في كتيب خاص، فجاء فيه إن “هناك علاقة مباشرة بين الإنتماء العائلي وأنماط التصويت في القرى والمدن العربية، وإن التصويت للمرشح في صناديق انتخابية كاملة يتم وفق اسم العائلة، أي بناء على انتمائه العائلي”. وأعطى الباحثون تفسيرا لظاهرة نسبة التصويت المرتفعة في القرى والمدن العربية بالقول إنها “لا تعكس وعيا ديمقراطيا ومشاركة في حياة البلدة، بل تعكس تجندا حمائليا لانجاح مرشح العائلة، وذلك خدمة لمصالح عائلية مثل التخفيض في الأرنونا أو الحصول على وظائف في السلطة المحلية على أساس الإنتماء للعائلة وليس على أساس الكفاءات”.

وأشار البحث إلى أن التصويت وفق الإنتماء العائلي يؤبد الفساد والإدارة الهابطة للسلطات المحلية والتي تفضي إلى تخريب المجالس والبلديات العربية. وقال البحث أن “نسبة التصويت بلغت في أكثر من نصف المجالس المحلية والبلدية العربية بين 90% و100% وهو معطى غريب، في ضوء الرأي السائد بِشأن الإدارة السيئة لهذه السلطات وعدم كفاية توفير الخدمات لسكانها”. وأعطى مثلا على ذلك في جباية الضريبة البلدية فقال أن “نسبة جباية الأرنونا (الضريبة البلدية) في العنقود الاجتماعي الاقتصادي المنخفض وصلت في السلطات اليهودية إلى 82%، في حين انخفضت في السلطات العربية إلى 18%. وفي العنقود الثاني في سلم الفقر بلغت لدى السلطات العربية 46% وارتفعت بين السلطات اليهودية إلى 65%”. كذلك وجد البحث أن “نسبة العجز في ميزانيات السلطات العربية كانت حتى عام 2006، أكثر ارتفاعا منها في السلطات اليهودية، الأمر الذي تجلى بتدخل وزارة الداخلية في إدارة هذه السلطات، حيث تدخلت الوزارة عبر تعيين محاسب مرافق أو لجنة معينة في 133 سلطة نصفها يهودية ونصفها الآخر عربية أي في 54% من السلطات اليهودية و93% في السلطات العربية”. ووجد البحث علاقة مباشرة بين سوء الإدارة وأنماط التصويت وبين أنماط التصويت ونسبة التصويت المرتفعة، وأشار إلى ما وصفه بسلوك غريب وهو توزيع الناخبين على الصناديق وفق اسم العائلة وليس وفق الموقع الجغرافي، وأورد ما جاء باسم وزارة الداخلية، أنه في غياب توزيع مرتب للشوارع وعدم وجود أسماء لها يتم توزيع الناخبين وفق أسماء عائلاتهم.

وهناك سؤال يحير الأجيال الجديدة من المواطنين، الذين يبحثون عن مستوى آخر للخدمات، يرقى بالبلدات العربية إلى مستوى البلدات اليهودية المجاورة ويطمحون إلى ما هو أفضل، لماذا وصلنا إلى هذا الوضع؟ وإلى متى يمكن أن يستمر؟

خلفية تاريخية

المواطنون العرب في إسرائيل، ما هو معروف، هم تلك الشريحة من الشعب الفلسطيني التي بقيت في الوطن، برغم النكبة. وخلال عشرات السنين تعرضوا لمخططات سياسية من حكومات إسرائيل المتعاقبة، استهدفت تهديد وجودهم باستمرار وكبت أنفاسهم. السلطات الإسرائيلية لم تثق بهم في أي يوم من الأيام، ورأت فيهم خطرا دائما عليها وعلى سياستها. وعندما فشلت في بث اليأس في نفوسهم وحملهم إلى الهجرة، تعاطت معهم كَشـَوْكَةٍ في الحلق وسعت طول الوقت لمحاصرتهم، بحجج وذرائع أمنية. لقد حاولت تهويدهم بإلغاء تعليم اللغة العربية والتاريخ العربي ومنعتهم ولا تزال من دراسة تاريخ شعبهم الفلسطيني. فرضت عليهم حكما عسكريا حتى سنة 1966، فلم تسمح لأي منهم أن يغادر بلدته إلا بتصريح من الجيش، حتى لغرض التوجه إلى الدراسة الجامعية أو البحث عن مصدر رزق ومكان عمل. ومارست ضدهم سياسة ارهاب فكري ولاحقت قياداتهم الوطنية.

وبضمن الحصار عليهم، وتطبيق السياسة الرسمية العدائية ازاءهم، تم وضع قوانين وأنظمة ومناهج في الحكم المحلي لدى العرب مختلفة تماما عما تم وضعه للحكم المحلي في البلدات اليهودية. ففي بداية إسرائيل لم تعترف بالبلديات القائمة لديهم. فالناصرة، كبرى المدن العربية (عدد سكانها اليوم 82 ألفا)، هي الوحيدة التي اعترفوا ببلديتها وذلك ليس لكونها مدينة عريقة ذات أهمية دينية خاصة للمسيحيين، بل لأنهم كانوا بحاجة إلى من يوقع على الاستسلام للاحتلال. فهي مدينة كان يفترض أن تكون ضمن تخوم الدولة العربية الفلسطينية المقررة حسب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 لتقسيم  فلسطين. وقد حرص رئيس بلديتها محمد يوسف الفاهوم على وضع كلمة احتلال على صك الاستسلام، ليؤكد أنها مدينة محتلة. وفقط في سنة 1950، أتاحوا للبلدية العودة إلى العمل. بلدية شفاعرو التي تأسست سنة 1910، اضطر رئيس بلديتها جبور جبور إلى إدارتها من بيته حتى سنة 1952، لانعدام مقر للبلدية. وكفر ياسيف سمحوا لمجلسها المحلي بالعمل فقط في سنة 1954. وفي السنة نفسها أضيفت ثماني مجالس محلية. واما في بقية البلدات فكانت تعتمد نظام المخاتير، وعينت لكل بلدة مختاراً أو أكثر على أساس التقسيم العائلي والحمائلي. وحتى سنة 1960، أضيفت 14 سلطة محلية عربية (5 منها في منطقة المثلث و9 في الجليل)، واستمر نظام المخاتير في البلدات الأخرى. وفي سنة 2008 بلغ عدد السلطات المحلية 82 سلطة (8 بلديات و74 مجلسا محليا). واليوم يعيش 80% من العرب في إسرائيل تحت نفوذ سلطة محلية، بينما البقية تعاني من غياب تام للخدمات البلدية الأولية. فهي قرى غير معترف بها، تقع في منطقة النقب بالأساس(1).

من يتمعن في هذه الإحصاءات، يمكنه أن يتخيل حالة بلدة بلا خدمات. فهي بلدات تقع في الخريطة السياسية ضمن تخوم إسرائيل، الدولة العصرية التي تعتبر نفسها جزءا من العالم الغربي المتحضر وتبدو غالبية بلداتها اليهودية فعلا كبلدات متطورة ذات بنى تحتية متينة وشوارع منظمة وحدائق منتشرة بين البيوت والأحياء وحتى في المناطق الصناعية منها. لكن غالبية البلدات العربية عاشت بلا كهرباء وبلا خطوط مياه للشرب حتى سنوات السبعين. وبلا مشاريع صرف صحي، مع كل ما يعنيه ذلك من أمراض وأضرار صحية، حتى سنوات الثمانين والتسعين. وعانت من نواقص أساسية في الحياة اليومية، فلا شوارع معبدة ولا مبان للمدارس ولا عيادات طبية ولا نواد ولا ملاعب ولا مشاريع سكن ولا حدائق ولا ساحات عامة. وتخلو البلدات العربية بغالبيتها الساحقة حتى يومنا هذا من المناطق الصناعية التي توفر لها أماكن عمل، مما يضطر العمال إلى مغادرة بلداتهم في كل يوم ركضا وراء الرزق، متحملين عناء السفر وأخطار حوادث الطرق وإضاعة الوقت، حتى باتت بلداتهم أشبه بالفنادق. فلا يصلون اليها إلا للنوم.

وقد أدى غياب  الخدمات المحلية في البلدات العربية، مقابل ازدهار الخدمات البلدية في الوسط اليهودي، إلى هوة سحيقة في مستوى وظروف الحياة البيئية والاقتصادية والاجتماعية والبلدية ما بين اليهود والعرب، وتحول الحكم المحلي إلى مرآة صارخة لسياسة التمييز العنصري ضد العرب. وحتى يوسي كوتشيك، المدير العام لمكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود باراك (1999 – 2001)، يقول: “في دولة إسرائيل توجد سياسة تمييز عنصري تجاه المواطنين العرب. ويتم التعبير عن هذه السياسة في كل مجالات الحياة. فعندما تتجول في البلدات العربية وتشاهد الشوارع والبنى التحتية والمدارس البائسة وترى أنه لا توجد نواد أو ملاعب وقاعات رياضية، تدرك حالا أن هناك تمييزا صارخا”(2).

ويكتب المهندس رجا خوري، عن مشكلة الأرض والخرائط الهيكلية: “في الكثير من القرى والبلدات العربية لا توجد خرائط هيكلية، وإذا ما وجدت مثل هذه الخرائط فإنها تكون غالبا غير ملائمة للاحتياجات المتغيرة للسكان، وفي بعض الأحيان لا يمكن تطبيقها بسبب القيود  والإجراءات البيروقراطية. وعلى سبيل المثال فقد أعلنت وزارة الداخلية في العامين 2000 و2005 عن خطة ترمي إلى دفع وتسريع مخططات وخرائط هيكلية في الوسط العربي، وقد تمت المصادقة بالفعل، منذ العام 2000، على 36  خريطة هيكلية، غير أن هذه الخرائط لا تخدم سوى سكان 41 بلدة وقرية عربية من أصل 119، فضلا عن أن 14 خريطة هيكلية من الـ36، ما زالت على الورق فقط، ولم تشق طريقها إلى التنفيذ جراء سلسلة من العوائق البيروقراطية. إلى ذلك، ما زال من غير الممكن في 22 بلدة عربية تقديم خطط لتوسيع مناطق البناء وتغيير تخصيص أراض، وذلك بدعوى أن هذه الخطط لا تستجيب للشروط والمتطلبات الأساسية، ومنها مثلا وجود شبكة صرف صحي مركزية، علما أن المشكلة تكمن هنا أساسا في عدم اهتمام وزارة الداخلية بتوفير وإقامة البنى التحتية الملائمة في البلدات العربية، مثل شبكات الصرف المركزية. ويمكن الإشارة في هذا السياق أيضا إلى العديد من الجوانب والمشاكل الأخرى التي تبرز التمييز في مجال التخطيط في إسرائيل، مثل النقص في تخصيص الأراضي للحدائق العامة ولمرافق خدمات الجمهور أو خدمات الطوارئ في القرى والبلدات العربية، فضلا عن إهمال البنى التحتية. ويعبر كل ذلك عن سياسة حكومية تتمثل في انعدام المساواة في توزيع الموارد، وانتهاج سياسة تخطيط منفصلة، تقوم على الغبن والتمييز تجاه التجمعات السكانية العربية في إسرائيل” (3).

الرد العربي

لم يستسلم فلسطينيو 48 لسياسة الحكومة ضدهم، أبدا. فحالما انتهت الحرب عام 1948، حتى بدأت نشاطاتهم الكفاحية. وقد نزلوا في مظاهرات تطالب بعودة اللاجئين. وتظاهروا حتى تراجعت الحكومة عن موقفها من اللغة العربية وأعادت تدريسها إلى المنهاج التعليمي. وتظاهروا من أجل ايجاد أماكن عمل. وعندما هدمت السلطات الإسرائيلية القرى المهجرة ثم راحت تصادر الأراضي، نزلوا إلى الشوارع في مظاهرات احتجاج. ومن سنة إلى أخرى، اتسعت حلقة النشاط الوطني أكثر وأكثر.

وكانت السلطات العسكرية، تبطش بهذه النشاطات الكفاحية بشدة. وتعتقل قادتها من الحزب الشيوعي (الذي عرف لاحقا باسم “راكح”) وحظرت حركة القوميين العرب “الأرض” وأخرجتهم عن القانون ونفذت مذابح بحقهم لبث الرعب والفزع (مثل مذبحة كفر قاسم) وأوكلت للمخابرات العامة إقامة دوائر ضخمة لضمان السيطرة عليهم ودست العملاء بأعداد هائلة في صفوفهم لتفسيخهم ودق الأسافين بينهم. وقد استخدم الحكم المحلي أداة قوية في القمع السلطوي، إذ حرصت السلطات على ضمان رجالاتها في رئاسة وعضوية المجالس المحلية والبلدية(4).

وفي مطلع السبعينات، شهد فلسطينيو 48 طفرة في العمل الوطني وبدأت تتسع حلقة المستعدين للانخراط في الحركة الوطنية. وبلغت هذه العملية ذروتها في النشاطات ضد مصادرة الأرض. وقد ردت السلطات عليها بتشكيل جسم عربي شبه رسمي، هو “اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العرب”، لمواجهة المد الوطني. وفي سنة 1975، حققت جبهة الناصرة الديمقراطية انتصارا تاريخيا على السلطة وأعوانها، إذ فازت بأكثرية المقاعد في بلدية الناصرة وأصبح المناضل توفيق زياد رئيسا لها. وفي سنة 1976 حسمت أهم المعارك الوطنية داخل اللجنة القطرية، وذلك عشية اضراب يوم الأرض (30 آذار (مارس))، إذ وقفت غالبية اللجنة ضد زياد ومجموعة من الرؤساء لتعلن رفضها الاضراب. واستخدمت السلطة هذا القرار لتعتبر القرار بالاضراب غير شرعي وتحاول فضه بالقوة، مستخدمة الجيش والشرطة والمخابرات. وسقط ستة شهداء في تلك المعركة، واعتقل حوالي خمسمئة ناشط، لكن المد الثوري لم يتوقف بل بالعكس. فأقيمت سنة 1976 – 1977 جبهات وطنية في كل بلدة تقريبا وأصبحت اللجنة القطرية للرؤساء ذات أكثرية وطنية وتحولت إلى جسم نضالي انقلب على صانعيه في السلطة. ثم تشكلت في سنة 1982 لجنة المتابعة العربية العليا، التي ضمت الرؤساء ومعهم أعضاء الكنيست وممثلي الهيئات الشعبية.

ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم، حققت الجماهير الفلسطينية مكاسب كبيرة في معركتها من أجل الحقوق والمساواة. ولكنها لم تحقق بعد ما تحتاجه بلداتها من تطور في الخدمات ومن توسع لمناطق النفوذ واستعادة الأرض المصادرة أو قسم منها. ونشأ جيل من الشباب الذي لا يكتفي بالقليل ويطالب بإحداث تغيير جوهري في عمل القيادات السياسية الوطنية.

السلطات المحلية اليوم

في السنوات الأخيرة، تعاني السلطات المحلية العربية من أزمة ذاتية، لا تتعلق بسياسة التمييز العنصري. فالرؤساء وأعضاء المجالس، وعلى الرغم من الانتماء الوطني بشكل عام والالتزام بقرارات الهيئات الوطنية (اللجنة القطرية للرؤساء ولجنة المتابعة العليا)، يعملون وفقا لقواعد رجعية لا تلائم العصر وتتسبب في الفشل وفي التراجع البيئي والاجتماعي والاقتصادي وحتى السياسي. والكاتب جواد بولس، يتخذ موقفا متشددا في انتقاده لطريقة العمل البلدي الفاشلة، فيكتب أن “إسرائيل نجحت في تحقيق أهدافها التي فشلت في الماضي بواسطة أدواتنا الوطنية الفاشلة” (صحيفة “الحقيقة” 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2013).

في الانتخابات الأخيرة التي جرت يوم 22 تشرين الأول (أكتوبر) 2013، خسرت الأحزاب الوطنية مواقع إضافية لصالح القوائم الانتخابية العائلية والحمائلية والطائفية. رئيس اللجنة القطرية للرؤساء، وأحد أبرز قادة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، أكبر وأعرق الأحزاب الوطنية، رامز جرايسي، خسر موقعه كرئيس لبلدية الناصرة. والجبهة خسرت مواقع أخرى مثل شفاعمرو وعرابة ودير حنا وغيرها. رئيس حزب التجمع الوطني، واصل طه، جاء ثالثا في التنافس على رئاسة المجلس المحلي في بلدته كفر كنا وسقط وكذلك سقطت النائبة حنين زعبي من التجمع وجاءت ثالثة بعد جرايسي والفائز برئاسة البلدية علي سلام. الحركة الاسلامية قررت عدم خوض الانتخابات البلدية بشكل رسمي، وفقط بعض أعضائها الذين تمردوا على القرار وخاضوا المعركة بشكل فردي وفازوا، بقوا يمثلونها (أم الفحم وكفر قاسم وكفر برا وغيرها).

وقبيل هذه الانتخابات نشر المركز العربي للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة في حيفا –  “مدى الكرمل”، نتائج استطلاع رأي أجراه لمعرفة أفضليات المواطن العربي في إسرائيل إزاء السلطة المحلية. فجاءت النتائج مذهلة في صراحتها. وتبين أن المواطن العربي يفضل العائلية والحمائلية على المصلحة العليا لبلدته، مع أن غالبيتهم غير راضين عن مستوى الخدمات المحلية.

وهكذا جاءت النتائج (5):

نسبة رضى المستطلَعين عن الخدمات العامة المختلفة للسلطات المحلية لم تتعدَّ الـ50%. وتنخفض هذه النسبة إلى قرابة 15% فيما يتعلق بتوفير مساكن للأزواج الشابة، حيث بلغت نسبة عدم الرضى حتى عدم الرضى بتاتا إلى 73.1%. وطُلب من المستطلَعين أن يختاروا أهم دافعَيْن يؤثران حسب رأيهم على اختيار الناس عند التصويت لمرشح الرئاسة. وقد أظهرت النتائج أن غالبية المستطلَعين (56.1%) يعتقدون أن الدافع الرئيسي والأكثر تأثيراً على اختيار الناس لمرشح الرئاسة هو الإنتماء العائلي، ويليه كفاءة المرشح في إدارة السلطة المحلية بنسبة 27.2%. أما الدافع الثاني الأكثر أهمية والذي يؤثر على اختيار الناس فهو البرنامج الانتخابي بنسبة 23.1% ويليه الإنتماء الحزبي بنسبة 22.9%.

وأظهر الاستطلاع أن 68.4% يؤيدون ترشيح قريباتهم (الأخت، الابنة، الزوجة، امرأة من العائلة) لرئاسة السلطة المحلية إذا كانت لديها الرغبة بذلك، ترتفع إلى 72.8% لدى الحديث عن ترشيحهن لعضوية المجلس البلدي. لكن على أرض الواقع يبدو الأمر مختلفا. فلا توجد أية امرأة في رئاسة سلطة محلية عربية في إسرائيل، مع أن امرأة كهذه ترأست مجلس كفر ياسيف المحلي سنة 1969، هي المرحومة فيوليت خوري. ولا توجد سوى 15 امرأة عضو في مجلس محلي في جميع السلطات المحلية العربية، بزيادة اثنتين عن الانتخابات السابقة في سنة 2008.

ويشير الباحث مهند مصطفى إلى أن عدد القوائم الانتخابية المقترنة بالعائلية والحمائل حصلت على 69% من الأصوات المحلية في سنة 1978 وهبطت إلى 54.8% في سنة 1983 ثم عادت لترتفع إلى 71.6% في سنة 1989 وبلغت ذروتها في سنة 1998 حيث وصلت إلى 82%. ويفسر هذه الظاهرة بالقول إن “طبيعة إسرائيل كدولة يهودية تجعل نهوض قوى سياسية عربية أمرا خطيرا على سياسة الدولة يهدد بقاءها. وبالتالي تعاملت السلطة بقسوة مع تلك الأحزاب وثبطت عزائمها. وبالمقابل، استعانت الأحزاب الوطنية بالعائلية والحمائلية لتعزز من قوتها على المستوى المحلي والقطري في مواجهة مخططات السلطة وبطشها”(6).

وهكذا، عملت السلطة والأحزاب الوطنية بنفس الأدوات. فعززت العائلية والحمائلية وغيرهما من الإنتماءات الفئوية. وبذلك عززت سياسة حكم محلي رجعية، بعيدة عن مفاهيم الوحدة الوطنية وتغليب المصلحة الوطنية على المصالح الفئوية. وانخرط جمهور الناخبين في هذه اللعبة، فكان كمن يطلق الرصاص على قدمه.

الخلاصة

لقد عبرت السلطات المحلية العربية في إسرائيل مسيرة طويلة من المعاناة، جراء سياسة التمييز العنصري للحكومة الإسرائيلية، ما زالت مستمرة حتى اليوم. وكانت هذه جزءا لا يتجزأ من السياسة الرسمية التي نظرت إلى فلسطينيي 48 كمواطنين مؤقتين، لا بد من التخلص منهم. ومن جراء هذه السياسة نشأت هوة كبيرة ما بين البلدة العربية والبلدة اليهودية المجاورة. فالبلدة اليهودية مبنية بشكل عصري، ذات بنى تحتية قوية متينة. ونظم حياتية وبيئية تتسم بالجمال والترتيب والإنارة الجميلة وملأى بالحدائق. وتحتوي على مناطق صناعية تثري السلطة المحلية بالمال وتوفر أماكن العمل. وغنية بالبرامج والمرافق الثقافية والفنية الرياضية. فيما البلدة العربية تبدو قرى بائسة تعاني من نقص في الخدمات الأساسية وتفتقر للمناطق الصناعية والحدائق. شوارعها ضيقة. مدينة مثل الناصرة، القائمة منذ ما قبل الميلاد، وتعتبر أفضل البلدات العربية من حيث الخدمات البلدية، يعيش فيها 82 ألف مواطن ومساحة أراضيها 14800 دونم وتفتقر للحدائق ولا توجد فيها منطقة صناعية جدية ولا مسرح، بينما بلدة نتسيرت عيليت، التي قامت سنة 1958 على أراضي الناصرة والقرى المجاورة يعيش فيها 52 ألف نسمة وتقوم على أرض مساحتها 45 ألف دونم وفيها منطقة صناعية ضخمة وعشرات الحدائق.

ولكن المواطنين العرب خاضوا مسيرة موازية من النضال وتحقيق الانجازات من خلال التصدي للسياسة الحكومية.

إلا أن هذه الانجازات لم ترق بالبلدات العربية إلى الحد الأدنى المطلوب للأجيال الجديدة. والسبب في ذلك لا يعود إلى سياسة التمييز العنصري وحدها، بل إلى فشل القيادات المحلية في إدارة بلداتها بشكل عصري. والكثير من مشاكلها تعود إلى الافتقار للمهنية. وإلى اتباعها نهج انتخاب الرؤساء والأعضاء على أسس عائلية وحمائلية وطائفية وفئوية ضيقة ذات اشكال أخرى. والأحزاب العربية الوطنية، التي يفترض أن تشكل بديلا لهذه النظم، تتراجع أكثر وأكثر في تمثيل السكان في قيادات العمل البلدي، كونها لجأت هي الأخرى إلى استخدام العائلية والفئوية. وصار المواطنون يعودون إلى انتخاب ممثلي العائلة. الأمر الذي يتيح تأخير التطور المطلوب والمساس بمسيرة التقدم العصري.

 الهوامش

______________________________

(1) الحكم المحلي العربي في إسرائيل – ماجد الحاج وهنري روزنفيلد – معهد الدراسات العربية – جبعات حبيبا – 1990 – صفحة 39.

(2) في كلمته خلال مؤتمر الحكم المحلي في إسرائيل في المركز الأكاديمي متعدد الاتجاهات – هرتسليا – في يوم 2 تموز (يوليو) 2013.

(3) دراسة بعنوان – “سياسة الأراضي والتخطيط في إسرائيل- لا مكان للعرب” – دورية “برلمنت” التي يصدرها المعهد الإسرائيلي للديمقراطية – أيلول (سبتمبر) 2013 – القدس.

(4) كتاب “عرب طيبون – المخابرات الإسرائيلية والعرب في إسرائيل: عملاء ومشغلين، متعاونون ومتمردون، أهداف وطرق عمل” – هليل كوهن – الطبعة العبرية  – “دار النشر العبيرة -القدس” – 2006.

(5) وحدة الاستطلاعات في مركز مدى الكرمل، بإشراف د. عاص أطرش. وقد أجري الاستطلاع في شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2013 وشمل 513 مستطلَعاً يشكلون عينة تمثيلية للمجتمع العربي البالغ (17 سنة فما فوق)، وبنسبة خطأ محتملة لا تزيد عن ±5%.

(6) “تراجع الأحزاب العربية في الحكم المحلي – 1978 – 1998” – د. مهند مصطفى – مركز الدراسات المعاصرة – سنة 2000 – أم الفحم.

  [*] باحث في الشؤون الإسرائيلية.