نظير مجلي[*]

** من يتابع السياسة الإسرائيلية لم يفاجأ بفوز نتنياهو، إنما المفاجأة في حجم هذا الفوز. لكن من يتعمق فيها يجد أن كل أسباب هذا الانتصار كانت مكتوبة على الجدار. فالقوى المعارضة، من الليبرالية وحتى اليسار، مع أنها طرحت فكرة الأمل مقابل فكرة التخويف، إلا أنها لم تعرف كيف تختار “شخصية” ذات كاريزما أولا وذات طريق سياسي شجاع ثانيا ولم تقنع الجمهور الإسرائيلي بفرص السلام.

** وبعد تحليل وتشريح المجتمع الإسرائيلي، فهل يمكن أن نرى دورنا الفلسطيني في هذه المعادلة؟ هل ساعدنا قوى السلام على مواجهة نتنياهو وطريقه المتغطرس، والذي يهدد كل بقعة خضراء في هذه البلاد؟

** وما هي أهمية تجربة “القائمة المشتركة”؟ هل المكسب الذي حققته، سيتحول إلى فعلٍ مؤثر على السياسة الإسرائيلية؟ هل سيكون فرصة جديدة لمزيد من التأثير والتغيير؟

الانتصار الساحق الذي حققه بنيامين نتنياهو بشكل شخصي في الانتخابات الأخيرة 17 آذار (مارس) 2015، صدم الكثيرين في إسرائيل. فالمعركة التي أديرت ضده كانت جبارة. وصحيح أنها كانت عالمية. فالمعارضة الإسرائيلية دبت كل قوتها. وسائل الإعلام الإسرائيلية تجندت ضده بغالبيتها الساحقة، بما في ذلك ثلاث صحف يومية وثلاث قنوات تلفزيونية وإذاعتان (إذاعة الجيش والإذاعة الرسمية). مجموعات من كبار العسكريين وقادة أجهزة الأمن حذروا من أنه يهدد أمن إسرائيل ومصالحها. آخر ستة رؤساء لجهاز المخابرات العامة، ظهروا في فيلم ومسلسل تلفزيوني يكشفون أسرار قيادته الفاشلة للحكم. جمعيات محلية صرفت عشرات ملايين الدولارات على حملات تكشف كم هو خطر على السياسة الإسرائيلية. وحتى السياسيون في الدول الحليفة والصديقة، الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، أظهرت كم هو يلعب دوراً سلبياً في العلاقات معها وحذرت من أن انتخابه سيقود إسرائيل إلى عزلة. وقد تركت هذه الحملات أثرها. أظهرت أنه سيسقط حتما.

ومع ذلك انتصر. بعض المحللين صاروا يتحدثون بلغة البصّارات، فقالوا إنه قلب ظهر المجن كالـ”ساحر”.

فما هو سر نتنياهو؟ كيف استطاع أن يتغلب على كل هذه القوى مجتمعة وفاز بهذا الفارق الكبير (30 مقعدا لحزب الليكود، مقابل 24 للمعسكر الصهيوني)؟ هل أخطأت الاستطلاعات فعلا، والتي أجرتها ستة مراكز بحث يقودها ستة أكاديميين كبار أربعة منهم يحملون لقب بروفيسور واثنان درجة دكتوراة؟ أم أنه –كما يؤكد المحللون– “نجح في الأيام الثلاثة الأخيرة في إحداث انقلاب على الانقلاب ضده؟

في الواقع، ما كان يجب أن يفاجأ أحد من متابعي السياسة الإسرائيلية بجدية، ويتعقب استطلاعات الرأي بعناية. قد يكون مسموحا أن تفاجأ من حجم الانتصار، ولكن ليس في فوز نتنياهو بدورة أخرى في رئاسة الحكومة من مفاجأة. بل إن هذا الانتصار كان مكتوبا بأحرف نافرة على الجدار. وقد كنا أوضحنا ذلك في العدد الأخير من “شؤون فلسطينية”، في دراسة حول تأثير العدوان الأخير على قطاع غزة، بعنوان “ليس أكثر يمينية، بل أكثر هوسا ..!”، والعناوين الثانوية: “نتنياهو يصل إلى أوج شعبيته خلال الحرب، ولكنه يعود إلى حجمه الطبيعي شيئا فشيئا. والجمهور الإسرائيلي ما زال مستعدا للابتعاد عن اليمين إذا توفرت له قيادة وسطية قوية ومقنعة. وهذه لا تتوفر. لأن معسكري الوسط واليسار مفتتان وغارقان في صراعات شخصية”.

وقلنا إن “الفائدة الوحيدة التي حققتها الحرب، والتي اختاروا لها اسم “الجرف الصامد”، تقتصر على مكاسب سياسية وحزبية للحكومة وأحزاب اليمين فيها بشكل عام ولرئيسها الفاشل، بنيامين نتنياهو، بشكل خاص. فالجمهور الإسرائيلي اليهودي، الذي كان 24% منه فقط يرى في نتنياهو قائدا يصلح لرئاسة الحكومة، في الربيع الفائت، وقف وراءه في الحرب بشكل قوي وسَكِرَ من تصريحاته العربيدية حتى الثمالة. فارتفعت نسبة التأييد له في الصيف إلى 77% أعطوا علامة جيدة على أدائه، وهذه أعلى نسبة تأييد يحظى بها رئيس حكومة في إسرائيل منذ تأسيسها” (صحيفة “معريب – نهاية الأسبوع” – 20 آب (أغسطس) 2014). وأضفنا أن “هذا لا يعني أن الجمهور في إسرائيل راض عن نتيجة الحرب. فبالعكس، 61% منهم، وفقا للاستطلاع نفسه، قالوا إن إسرائيل لم تنتصر. و57% منهم قالوا إنه كان من الممكن أن تنتهي بشكل أفضل. و40% منهم قالوا إنه كان على الحكومة أن تواصل الحرب وتتخلص من حكم حماس. ولكنهم، مع ذلك، اعتبروا الوقوف مع الحكومة واجبا وطنيا. ولو كانت جرت الانتخابات في ذلك الشهر، أي بعد أيام من انتهاء الحرب، لكان معسكر اليمين في إسرائيل حطم معسكر اليسار والوسط تماما. وقد جاء في الاستطلاع المذكور نفسه، أن حزب الليكود (الذي كان لديه في ذلك الوقت 19 نائبا وهبط إلى 18 في الشهر الماضي لأن أحد النواب استقال وحل محله نائب عن حزب إسرائيل بيتنا) سيزيد قوته إلى 32 مقعدا”.

ومنذ الحرب وحتى الانتخابات بدأ نتنياهو يتراجع في الاستطلاعات. وبدأت الحملة ضده تؤتي ثمارها. وانخفضت شعبيته من جديد. ووصل رصيد حزبه في آخر الاستطلاعات، التي نشرت في يوم الجمعة 13 آذار (مارس) إلى 20 مقعدا[1] وفي أحد الاستطلاعات 19 مقعدا[2]. فكيف حصل على 11 مقعدا إضافيا ليصبح بثلاثين مقعدا في يوم الانتخابات؟

التكتيك والاستراتيجيات

هناك تفسير يستند إلى المعلومات البسيطة حول الموضوع، لا بد من الإشارة إليها. فقد تبين للطاقم الاستراتيجي، الذي عمل إلى جانب نتنياهو برئاسة الخبير الأمريكي جون ماكلولين، وهو أحد كبار الاستراتيجيين في الحزب الجمهوري الأمريكي، أن مشكلة نتنياهو تكمن في القضايا الاجتماعية والاقتصادية. فإذا نجحت المعارضة في إعلاء شأن هذه القضايا في المعركة الانتخابية لتتربع على رأس الاهتمام الجماهيري فإنه سوف يخسر، لأن منافسه يتسحاق هيرتسوغ يطرحها بشكل أفضل منه ويقنع الجمهور بأن نتنياهو هو المسؤول عن المصاعب الاقتصادية للمواطنين وهو المسؤول عن التراجع الكبير في الخدمات الصحية وفي ارتفاع أسعار السكن. كما أشاروا إلى قضايا الفساد المالي، التي يتورط فيها هو وزوجته، والتي تصل إلى مستوى متدن لدرجة بيع الزجاجات الفارغة.

فقرروا طمس هذه القضايا وإعلاء شأن قضية الأمن بكل فروعها، وخصوصا التهديد الإيراني والمشروع النووي، يليه “خطر حرب في الشمال من طرف حزب الله وإيران”. وجاء اغتيال جهاد مغنية والضباط الإيرانيين في القنيطرة شرقي هضبة الجولان، ليبرز هذا الخطر أكثر، حيث تم الادعاء بأن هذا الاغتيال جاء ليمنع سيطرة إيران على الحدود الشرقية الشمالية مع إسرائيل. وبالطبع، كان أثر الحرب العدوانية على قطاع غزة ما زال ماثلا.

وقبل شهرين ونصف الشهر من يوم الانتخابات، فجروا قنبلة الخطاب في الكونغرس. ويتضح اليوم أن هذه القضية بكل تفاصيلها كانت مخططة. فقد تعمدوا إحداث صدام مع الرئيس باراك أوباما وإدارته، لذلك نظموا إلقاء الخطاب من دون معرفة البيت الأبيض. وقد استهدفوا بذلك ضرب عدة عصافير بحجر واحد:

فأولا يقوم نتنياهو برد الجميل لبطرونه، الملياردير الأمريكي شلدون ادلسون، الذي يتبنى الحملة في الولايات المتحدة ضد الرئيس الأمريكي، باراك أوباما. فإدلسون هذا يعتبر أحد أهم ممولي حملات نتنياهو الانتخابية. وهو يمول إصدار صحيفة “يسرائيل هيوم” العبرية، التي توزع مجانا منذ سنة 2007، وكان لها دور أساسي في محاربة رئيس الوزراء السابق، إيهود أولمرت، بدعوى مكافحة الفساد وأصبحت منذ تأسيسها بوقا لنتنياهو وغدت أوسع الصحف الإسرائيلية انتشارا إذ توزع يوميا 375 ألف نسخة[3]. وحسب صحيفة “كلكاليست” التابعة لصحيفة “يديعوت أحرونوت”، فإن ادلسون يغطي في كل شهر خسارة مالية للصحيفة بقيمة 22 مليون شيكل (الدولار الأمريكي يعادل 4 شيكلات)، بالمعدل[4].

ثانيا، الخطاب الذي كان مضمونه معروفا عند اقتراحه، يخدم مصالح الحزب الجمهوري الأمريكي وخصوصا الجناح المتطرف. وهنا أيضا يراهن نتنياهو على فوز هذا الحزب بالرئاسة، بعدما سيطر على مجلسي الكونغرس.

ثالثا، وكما توقعوا، أثار هذا الخطاب، منذ الكشف عنه، ضجة كبرى وتحول إلى موضوع الساعة طيلة شهرين كاملين حتى موعد إلقائه في مطلع آذار 2015. فطمس كل القضايا الأخرى التي تهدد إثارتها فرص نتنياهو. وعلى الرغم من أن معظم الإسرائيليين (39%) رأوا أن أهداف الخطاب حزبية وانتخابية، وأن 67% يفضلون أن لا يسافر[5]، فإن الجمهور الإسرائيلي رفض اعتبار نتنياهو مخطئا يستحق العقاب وقال 61% إنه رغم الخطاب وكل ما يقال عن نتنياهو فإن معسكر اليمين بقيادته سوف يشكل الحكومة القادمة[6]. وبعد الخطاب زاد رصيد نتنياهو بمقعدين ليصبح 22 مقعدا في استطلاعات الرأي في ذلك الأسبوع[7].

وبعد الموضوع الإيراني وارتباطا به، راح نتنياهو يركز على شخصية منافسه، هيرتسوغ وشخصية حليفته تسيبي لفني، متسائلا: “عندما يرن الهاتف الأحمر في الثالثة فجرا (وهو الهاتف الذي لا يرن إلا في حالات الطوارئ والأحداث الدقيقة)، هل تريدون أن يرد عليه هيرتسوغ أو لفني أم تريدونني أنا؟”[8]. ونتنياهو يعرف نقطة الضعف الإسرائيلية في هذا الموضوع. فالشعب هنا يريد في قيادته شخصية قوية ذات كاريزما تلائم ثقافة القوة والغطرسة التي تربى عليها المجتمع اليهودي، والتي قفزت إلى أعلى بعد حرب 1967. فالمجتمع اليهودي في إسرائيل هو مجتمع عسكري. التجنيد فيه إجباريّ لكل شاب أو فتاة تبلغ الثامنة عشرة من العمر. كل شاب أو فتاة يتحول إلى “أبو علي” عندما يرسلونه للخدمة في الضفة الغربية أو على المعابر الحدودية. بعد بضعة أشهر على خدمته يجد نفسه في وضع يستطيع فيه أن يقرر مصائر مئات وألوف الفلسطينيين. هو يحدد من يمر ومن لا يمر. يستطيع اعتقال أي فلسطيني على أي شيء، إذ أنهم يفهمونه أنه بذلك يخدم مصالح أمن إسرائيل. فيدير على الحواجز سياسة تنكيل وإذلال، تتحول في كثير من الأحيان موضوع تسلية وتباه وتبجح.

ومقابل شخصية نتنياهو الساطية، يبدو يتسحاق هيرتسوغ، المعروف بدماثته وهدوئه ونعومته، مثل دجاجة بلا ريش. الصفات التي يتمتع بها، كوزير سابق ناجح وكسياسي يهتم بهموم الناس وكإنسان شبعان، لا يحتاج إلى السرقة ولا إلى “كرم الأصدقاء من الخارج”، كلها لا تعينه أمام هيبة نتنياهو.

هذا ما قصده نتنياهو وركز عليه حملته الانتخابية. وكلما اقترب موعد الانتخابات أكثر كان نتنياهو يشدد لهجته أكثر، وينتقل من خطوة إلى خطوة. وقد حرص قادة الحملة الدعائية لليكود على إخفاء كل الوزراء والقادة، وركزوا الحملة على شخصية نتنياهو وحده، مقابل هيرتسوغ وحده. وفي الأسبوع الأخير، كان عنوان الحملة “مؤامرة عربية ودولية لإسقاط حكم اليمين ممولة من الخارج بعشرات ملايين الدولارات”.

ويصل قادة الحملة إلى الاستنتاج بأنه لم يعد هناك أي أمل في أن يحصل نتنياهو على مزيد من الأصوات من معسكر الوسط الليبرالي أو اليسار، فيقررون مهاجمة جمهور اليمين المتطرف، وهو الأمر الذي اعتبرته أحزاب هذا اليمين طعنة في الظهر لمن يقف مع نتنياهو والليكود بإخلاص. ويكشف بن كسبيت في صحيفة “معريب” (20 آذار (مارس) 2015)، أن نتنياهو استدعى للقاء سري في بيته عددا من قادة المستوطنين في الضفة الغربية وأبلغهم بأسى ويأس بأن “المعركة حسمت لصالح اليسار والعرب”. ويقول لهم: “ماذا تستفيدون من زيادة المقاعد لحزب البيت اليهودي أو إسرائيل بيتنا؟” فإذا لم يحصل الليكود على فوز بفارق كبير، لن يكلفني رفلين (رئيس الدولة رؤوبين رفلين، بتشكيل الحكومة). ويطلب منهم صراحة أن يدفعوا بألوف المستوطنين إلى البلدات الفقيرة ليجرفوا الأصوات لصالح الليكود. ويقتنع قادة المستوطنين ويرسلون نشطاءهم بالألوف. لمدينة اشدود وحدها وصل 7000 مستوطن وطرقوا البيوت بيتا بيتا.

وفي الأيام والساعات الأخيرة، أطلقوا السلاح القاتل: العرب. فخرج نتنياهو بنفسه يتحدث بهلع مزيف عن تدفق الناخبين العرب (فلسطينيي 48)، إلى صناديق الاقتراع لينفذوا مؤامرة اسقاطه. لم يأبه لتبعات مثل هذه الخطوة ورائحة العنصرية الكريهة التي تفوح منها. صار تصويت العرب في إسرائيل بمستوى التهديد النووي الإيراني. والجمهور اليهودي، الذي يعيش على الخوف من العدو كل عمره، تلقف سياسة نتنياهو باقتناع كبير.

وفي المقابل بدت المعارضة عاجزة. هزيلة. لا تنجح في الارتقاء أكثر مما حققته من إنجاز في بداية المعركة. صحيح أنها ضاعفت قوتها، بالمقارنة مع ما كانت الاستطلاعات تتنبأ به لها (12 مقعدا في البداية ثم 24 مقعدا في النهاية). لقد بدا خطابها عائما بلا أجندة واضحة. طرحت فكرة الأمل بدل اليأس والتخويف، الذي روج له نتنياهو. حاولت البرهنة على أن نتنياهو ليس رجل الأمن كما يعتقدون، ففي زمنه تمكنت إيران من تطوير قدراتها النووية وتمكن حزب الله من تضخيم ترسانته الصاروخية والحرب مع تنظيم ضعيف مثل حماس دامت 51 يوما، أطول من أي حرب خاضتها إسرائيل في تاريخها وانتهت بلا حسم. وتحدثت عن فساد نتنياهو وعائلته. وعن الضربات الاقتصادية. وانهيار الخدمات الصحية. وتراجع الديمقراطية. وإجهاض عملية السلام. وكلها ادعاءات صحيحة.

لكن صوتها لم يصل للناس. فقد كان من جهة صوتاً خافتاً وينطوي على الثأثأة وعدم الوضوح بل افتقدت إلى الروح القتالية. ومن جهة ثانية بدا أن هناك سدا منيعا يحول دونها والجمهور. فسياسة المعارضة هذه ظلت تدار، كما عهدناها فيها منذ مقتل إسحق رابين في تشرين الثاني (نوفمبر) 1995 وحتى اليوم، وبفضلها ظل اليمين متربعا على السلطة. أجل، فالقضية مع المعارضة الإسرائيلية لم تبدأ من عهد نتنياهو، بل إن ظاهرة نتنياهو هي إفراز لسياسة المعارضة. هناك شرخ كبير في المجتمع الإسرائيلي، ونتنياهو يستغله بحنكة ودهاء. قلنا شرخا، لا بل هوة تتعمق. ليس بين يسار يمين. فاليسارية واليمينية هنا تشوهت منذ زمن طويل، فلم يعد اليمين يمينا ولا اليسار يسارا، مع أننا ما زلنا نستخدم هذه التعابير مجازا. إنما هي هوة بين شرائح المجتمع الفقيرة والغنية. وبين الاشكناز والشرقيين. وبين اليهود الروس واليهود القدامى. بين المتدينين والعلمانيين. وبين النخبة التل أبيبية وبين أكثرية الريف. بين من يخدم في الجيش ومن يخدم التوراة. وأضف إلى ذلك القوة المتنامية للمستوطنين، الذين يضمون قوة كبيرة من النشطاء الفاعلين تقدر بعشرات الألوف، المستعدين لخدمة اليمين الحاكم بكل ما أوتوا من القوة، حتى لا تعود قوى ديمقراطية ومتنورة حقا إلى سدة الحكم. بعضهم مستعد لارتكاب مذابح، كما حصل في الحرم الإبراهيمي في الخليل سنة 1994، وجرائم اغتيال سياسي، كذلك الذي قتل إسحق رابين سنة 1995، وتشكيل عصابات ارهاب كأولئك الذين خططوا لتدمير الأقصى وأحرقوا كنيسة القيامة وحوالي 20 مسجدا تحت مسمى “جباية الثمن” وتخطيط ومحاولة تنفيذ عمليات ارهاب ضد فلسطينيين، وآخرها ذلك الشاب الذي أقسم بأن يغتال هيرتسوغ إذا هزم نتنياهو.

لقد تحدث نتنياهو في وسائل الإعلام لمدة 1450 دقيقة في الأسبوع الأخير للحملة الانتخابية (ما يساوي 24 ساعة بث)، بينما تحدث منافسه نصف هذا الوقت (حسب معطيات “يفعات”). وبثت القناة الثانية مناظرة ارتجالية بين نتنياهو وهرتسوغ قبل ثلاثة أيام من الانتخابات، ظهر فيها هرتسوغ مثل الجندب المسكين والفقير أمام الصورة الكبيرة “للأخ الكبير” نتنياهو[9]. وهكذا، حقق نتنياهو هدفه وأكثر. وحافظ على كرسيه في رئاسة الحكومة.

رؤيا أوسع

صحيح أن نتائج الانتخابات الإسرائيلية جاءت مخيبة للآمال بالنسبة للكثيرين، ليس فقط من اليهود والعرب، بل من الأمريكان والأوروبيين أيضا. وقد يكون مخيبا للآمال أكثر، أن لا يستنتج جناح المعارضة الإسرائيلية النتائج الصحيحة من الإخفاق. ولكن، ينبغي أن نرى جوانب أخرى ظهرت في هذه المعركة وتنطوي على أمور إيجابية غير قليلة:

فأولا، جناح اليمين المتطرف في إسرائيل تلقى ضربة موجعة. فقائمة “ياحد”، التي تضم أصحاب فكر كهانا الفاشي الارهابي، سقط ولم يتجاوز نسبة الحسم. لقد حصل على كمية كبيرة جدا من الأصوات، أكثر من 125 ألفا (66 ألفا في الانتخابات السابقة)، لكن سقوطه مهم. وحزب إسرائيل بيتنا بقيادة لبرمان، هبط من 13 إلى 6 مقاعد. وحزب البيت اليهودي هبط من 12 إلى 8 مقاعد. وحزب شاس هبط من 11 إلى 7 مقاعد. وحتى لو كانت حملة نتنياهو هي أهم المستفيدين من هذه الضربات، فإن هبوطها ملفت للنظر ويفتح الآفاق أمام تخفيض نفوذها في المجتمع الإسرائيلي.

ثانيا: تشكيل حكومة يمين متطرف، قد يجلب على شعبي البلاد المزيد من المعاناة. فهذه الحكومة ستحاول الاستمرار في سياسة الحروب والتهويد والاستيطان والتمييز العنصري. لكنها ستدفع ثمنا باهظا لقاء هذه السياسة. فالعالم لم يعد يحتملها. وستتعمق عزلتها. ومن خلال أداء جيد للحراك الفلسطيني، هناك إمكانيات واسعة لتدعيم الحق الفلسطيني ورفع مكانة القضية الفلسطينية ومحاصرة الاحتلال وتشديد الضغوط عليه. وكل من يقرأ الخارطة السياسية الإسرائيلية يعرف أنه حتى لو فاز معسكر الوسط واليسار، ما كان ممكنا التقدم كثيرا على مسار التخلص من الاحتلال. وقد يستخدم اليمين الإسرائيلي في المعارضة قوته وبلطجيته ليحول البلاد إلى بحيرة دماء. وكان العالم سيقف مع الحكومة وهي مشلولة الإرادة. فلا يمارس ضغوطا عليها. بل قد تتحول الضغوط على الفلسطينيين بالأساس، بذريعة “تفهم حكومة هيرتسوغ” و”دعمها حتى تستقر”.

ثالثا: القائمة المشتركة، التي ضمت الأحزاب العربية الوطنية في إطار برلماني واحد، فتحت آفاقا جديدة للعمل السياسي. والخطاب الجديد الذي يطرحه رئيس القائمة، أيمن عودة، خلق حالة جديدة في إسرائيل وفي العالم حول طروحاتها السياسية في عدة مجالات. فلأول مرة يلقى موضوع التمييز العنصري ضد العرب في إسرائيل، اهتماماً في العالم أجمع. يطرحه الرئيس الأمريكي باراك أوباما بقوة. وتتناوله وسائل الإعلام الأمريكية بعناوين صارخة. فتكتب “نيويورك تايمز” مقالا افتتاحيا حوله. ويتحدث فيه كبار المسؤولين في الغرب كله. وحتى في إسرائيل، يلقى هذا الخطاب تأييدا في قاعدة شعبية وسياسية وإعلامية عريضة. وإذا نجحت هذه التجربة في الأداء السليم لعملها السياسي، فإنها ستصبح عنصر تأثير كبير على السياسة الإسرائيلية لمصلحة قضية السلام والتخلص من الاحتلال والتقدم على طريق المساواة. فالقائمة المشتركة، لم تكن فقط تجربة وحدوية مهمة للعرب عموما وللشعب الفلسطيني كله بشكل خاص، بل إنها تعطي زخما جديدا لدور هذه الشريحة من الشعب الفلسطيني في تقدم النضال الفلسطيني ورفعه إلى مستويات جديدة أنجع وأنجح. فعرب 48، بوصفهم جزءا لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني والأمة العربية، وفي الوقت نفسه بوصفهم مواطنين في إسرائيل، يستطيعون الآن أكثر من أي وقت مضى أن يسهموا في تغيير وجهة نظر المجتمع الإسرائيلي في قضايا السلام والديمقراطية والمساواة. لا يوجد عرب في العالم يملكون هذا الاحتكاك اليومي العميق مع المجتمع الإسرائيلي، وبالتالي هذه القدرة على التأثير في هذا المجتمع. فالانتخابات الإسرائيلية كانت هذه المرة برهانا جديدا على أن الساحة السياسية الإسرائيلية تعاني أزمة حقيقية، أزمة قيادة وأزمة ثقة في النفس وأزمة غياب الآفاق. وكلنا يعرف أن شيئا لن يتغير في الساحة الشرق أوسطية من دون أن تتغير توجهات المجتمع الإسرائيلي اليهودي تجاه القضايا الحارقة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. وهذه هي ساحة فلسطينيي 48.

من هنا، فإن نتائج الانتخابات الإسرائيلية، وعلى الرغم من الغمامة السوداء التي تفرشها فوق رؤوسنا، لا تخلو من نقاط ضوء ساطعة. وهذه النقاط تشكل فسحة أمل لمن يؤمن بالنضال طويل النفس، المبني على أسس علمية ومهنية سليمة. وتشكل فرصة لتطوير آليات العمل النضالي لما هو أفضل، عمل نضالي غير عادي في ظروف غير عادية لانطلاقة غير عادية.

ملحق

 النتائج الرسمية للانتخابات

عدد أصحاب حق الاقتراع   عدد الأصوات  نسبة التصويت  أصوات صحيحة  أصوات لاغية
5,881,696 4,253,336 %72.36 4,209,467 43,869
قوائم المرشحين معدل
الأصوات الصحيحة
عدد الأصوات الصحيحة عدد
المقاعد
الليكود %23.40 984,966 30
المعسكر الصهيوني برئاسة إسحاق هرتسوغ %18.67 786,075 24
القائمة المشتركة الجبهة، الموحدة، التجمع، التغيير %10.54 443,837 13
يش عتيد برئاسة يئير لبيد %8.81 370,850 11
كلنا برئاسة موشيه كحلون %7.49 315,202 10
البيت اليهودي برئاسة نفتالي بينت %6.74 283,559 8
شاس -اتحاد الشرقيين المحافظين على التوراة %5.73 241,200 7
إسرائيل بيتنا برئاسة أفيجدور ليبرمان %5.11 215,083 6
يهدوت هتورة %5.03 211,826 6
 

ميرتس

 

قوائم سقطت ولم تعبر الحسم:

%3.93 165,292 5
يحد – الشعب معنا برئاسة إيلي يشاي %2.97 125,106
عليه يروق – فخور باختياري %1.12 47,156
القائمة العربية (طلب الصانع) %0.11 4,537
الخضر %0.08 3,429
كلنا أصدقاء ن ن ح %0.06 2,502
وبحقهن – نساء متدينات يحدثن التغيير %0.05 1,977
الأمل للتغيير (قائمة عربية يقودها رجل الليكود) %0.04 1,519
حزب اقتصاد برئاسة الاخوين جولدشتاين %0.02 1,050
زهرة– وفرة بركة، حياة وسلام- نص الانقلاب في التربية، الإسكان والسلام الحقيقي %0.02 943
القراصنة – البطاقة البيضاء %0.02 941
منتخب الشعب (المؤقت) %0.02 886
إيجار المنازل باحترام %0.01 562
أور %0.01 503
مؤيدو حزب الديمقراطية %0.01 243
الزعامة الاجتماعية %0.01 223

الهوامش:

[*] باحث في الشؤون الإسرائيلية.

[1] صحيفة “يديعوت أحرونوت” 13 آذار (مارس) 2015.

[2] القناة الثانية للتلفزيون التجاري في إسرائيل.

[3] استطلاع المعهد الإسرائيلي “تي جي آي” لسنة 2014.

[4] صحيفة “كلكاليست”، عدد 26 كانون الأول (ديسمبر) 2013.

[5] استطلاع رأي بحثي أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، ونشره في كراس في شباط 2015.

[6] المصدر نفسه.

[7] صحيفة “يديعوت أحرونوت” – 6 آذار (مارس) 2015.

[8] صحيفة “يسرائيل هيوم”.

[9] رفيف دروكر، “صحيفة هآرتس” 22 آذار (مارس) 2015.