
د. محمد جبريني
يقوم الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي أساساً (وبالقدر الذي يتعلق مباشرة بطرفيه، وبدون مساحيق تجمل المواقف)، على النفي المتبادل والإنكار العميق لشرعية وجود الآخر في فلسطين التاريخية، استنادا لأحقيات أيديولوجية ذات أبعاد تاريخية ودينية وسياسية مشبعة عاطفياً وانفعالياً، وهذا هو الأصل والجذر المغذي للصراع المستمر لأكثر من قرن.
وقد فشلت جميع المشاريع والخطط المحلية والإقليمية والدولية التي سعت إلى معالجة وحل الصراع؛ كونها تجاهلت، أو لنقل لم تتعامل مع المسائل الأكثر حساسية للجانبين، والمتمثلة بالرواية التاريخية والأهمية الدينية والإقرار الحقيقي بوجود وحقوق الآخر، والتي يصعب دون الخوض فيها ومعالجتها توفير قاعدة من العدالة والديمومة للحل المؤمل.
والسؤال الذي يطرح نفسه وبقوة هنا: هل هناك من سبيل لوضع الأساس "الممكن" لإنهاء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، بنفي النفي(بالقبول)، وإنكار الإنكار (بالإقرار) بأن فلسطين التاريخية وبعيداً عن التحليل والمحتوى الأيدولوجي المهيمن في خطاب كلا الطرفين، أصبحت تشكل في واقع الحال وطنا قوميا مشتركا للفلسطينيين والإسرائيليين، (يعيش بين النهر والبحر نحو 14 مليون نسمة، نصفهم فلسطينيون والنصف الآخر يهود)، مع أهمية التفريق بين مفهوم الوطن كتعبير وجداني وعاطفي عن انتماء الإنسان للمكان الذي ولد ونشأ فيه، ولكونه أرض آبائه وأجداده، وبين مفهوم الدولة كتعبير قانوني وإداري وسياسي للحكم ورعاية مصالح المواطنين وتقديم مختلف الخدمات لهم. إذ ربما بعد معالجة الإشكاليات المرتبطة بمفهوم الوطن (وهو الأكثر حساسيةً) بدايةً، قد يسهل بعد ذلك معالجة الإشكاليات المرتبطة بمفهوم الدولة بما ينطوي عليه من مقاربات أكثر مرونة.
من هذا المنطلق، وحتى لا يبقى حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي رهينة للادعاء بأحقيات تاريخية حصرية، ومعتقدات دينية متشددة قائمة على أفضليات مطلقة لطرف دون الآخر، ومواقف سياسية وجودية تفرض معادلات أمنية صفرية (بقاء أو فناء). وحتى لا يبقى مفهوم إدارة الصراع أو ربما حسمه من جانب واحد والقائم على استبعاد الشرعية الدولية وفرض الحقائق على الأرض من منطلق القوة لمصلحة طرف على حساب الآخر هو السائد والمهيمن. ولقطع الطريق على محاولات تحويل الصراع باتجاهات معاكسة من قبيل إشعال صراع فلسطيني داخلي يمزق وحدة النسيج الوطني الفلسطيني (نموذج الانقلاب العسكري في قطاع غزة المدعوم من قوى إقليمية والممتد منذ نحو 18 عاماً، والسعي لخلق بؤر توتر وفلتان أمني وظواهر مسلحة في الضفة الغربية تخرق القانون وتُخل بالنظام العام وتهدد السلم الأهلي وتخلق المبرر لتدخل قوات الاحتلال بما يتوافق مع المصالح الاسرائيلية)، أو محاولة خلق تحالفات عربية إسرائيلية ضد "أطراف أخرى" لمواجهة تهديدات "مشتركة" تستغلها إسرائيل للتغطية على جوهر الصراع الرئيس، وللبروز كقوة إقليمية مهيمنة في المنطقة. وتجنباً لفرض أية صفقات سياسية نموذج "صفقة القرن" التي أجحفت بمقدماتها وتداعياتها بمجمل الحقوق الفلسطينية المقررة في القانون الدولي، وما تبعها من تهافت بعض الدول العربية للتطبيع مع دولة الاحتلال تفضيلاً وإعلاءً لمصالحها الخاصة على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وفي ضوء النتائج المدمرة للزلزال الذي تسببت به أحداث السابع من أكتوبر عام 2023 وارتفاع منسوب الحقد والكراهية بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي بصورة غير مسبوقة، كلٌ لأسبابه ومنطلقاته في تفسير وتبرير ما حدث. فإننا نقدم هذه المقاربة السياسية المختلفة لحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي من جذوره، والتي تهدف لخلق بيئة فكرية عقلانية جديدة تسهم في تقليل المخاوف العميقة والمزمنة بين الطرفين، وتعظيم المنافع والمصالح المشتركة المهدورة، وبناء الثقة المعدومة، وذلك بما يتوافق إلى حد كبير مع القانون الدولي.
* قواعد الحل:
- احترام الرواية التاريخية لكل طرف كجزء من الموروث الثقافي والإنساني، والسعي لعقلنة التحليل الأيدولوجي المنبثق عن أدوات التكوين المعرفي لكلا الجانبين، وذلك لاستحالة شطب أي رواية أو تغليب رواية على أخرى. (تعايش بدل تناحر).
- الاعتراف المتبادل بالأهمية الدينية لكل طرف، إذ تكتسب فلسطين التاريخية (الأرض المقدسة) أهمية بالغة لكل الديانات السماوية ولا يمكن احتكار تلك الأهمية من قبل ديانة بعينها دون الديانات الأخرى. (تعارف وليس تنافر).
- الاعتراف المتبادل بوجود وحقوق كلا الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي في فلسطين التاريخية (إقرار بدل إنكار).
* تعبيرات الحل:
- دولتين مستقلتين في إطار وطن قومي مشترك للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي في فلسطين التاريخية "الانتدابية"، دولة فلسطين ودولة إسرائيل تعيشان جنباً إلى جنب بأمن وسلام وتعاون ومساواة.
* عناصر الحل:
معالجة جميع قضايا الصراع على النحو المقارب التالي:
- الحدود:
حدود الرابع من حزيران عام 1967 هي الخط السياسي الوهمي الذي يفصل بين الدولتين، مع تبادل محدود جداً بالأراضي بنفس القدر والقيمة (ولغايات الضرورة القصوى)، وبحيث تكون الحدود مفتوحة بين الدولتين دون أية عوائق مادية أو معنوية.
- الأمن والسيادة:
يمتلك كل طرف السيادة الكاملة على أراضي ومياه وأجواء دولته، ويتم إبرام معاهدة دفاع مشترك تغطي الجوانب الاقتصادية والأمنية بين الدولتين، وتقوم على تبادل المصالح ودرء المخاطر وفق مبدأ "الميزة النسبية"لقدرات وموارد وناتجات كل طرف، والتعاون المشترك لتبادل هذه الميزة. وحماية الوطن في هذه الحالةوتطويره وازدهاره يقع على عاتق الطرفين في ظل تعاون إقليمي ودولي وفقاً لمبادرة السلام العربية، والمبادرات الدولية ذات الصلة.
- العاصمة:
القدس الغربية عاصمة لإسرائيل، والقدس الشرقية عاصمة لفلسطين، وتشكل القدس الكبرى عاصمة تاريخية وروحية موحدة ومفتوحة لكلا الطرفين، تدار بنظام حكم محلي واقتصادي وأمني وسياحي مشترك، ونظام رعاية دينية مشتركة للاماكن المقدسة يحافظ على الاتفاقية الفلسطينية الأردنية بالخصوص.
- حق العودة:
حق العودة للوطن مكفول لأبناء كلا الشعبين كلٌ في دولته، ووفقاً للجنسية التي يرغب بالحصول عليها وباتفاق الطرفين، وبما لا يجحف بروح ومضمون قرار الجمعية العامة رقم (194) فيما يتعلق باللاجئين الفلسطينيين.
- الحركة والإقامة والعمل:
ضمان حرية الحركة والإقامة والعمل في الوطن وفقاً للقوانين المتوافقة في كل دولة. (لمعالجة إشكالية من يرغب بالإقامة والعمل من الفلسطينيين في إسرائيل، ومن يرغب بالإقامة والعمل في فلسطين من الإسرائيليين).
- الموارد الاستراتيجية:
ضمان التعاون في إدارة واستغلال الموارد الاستراتيجية وبصورة خاصة المياه الجوفية والثروات الطبيعية (غاز، بترول، أملاح معدنية وخلافه) لمنفعة الطرفين وفق حقوق تفضيلية، على اعتبار أن الوطن وحدة بيئية "إيكولوجية" واحدة.
- المواطنين العرب في إسرائيل:
عدم المساس بمكانة المواطنين العرب في إسرائيل، ومنحهم كامل الحقوق القومية والسياسية والدينية كمواطنين إسرائيليين متساويين في الحقوق والواجبات.
- الأسرى:
فور توقيع وإقرار معاهدة السلام، يتم الإفراج الفوري عن جميع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
- المساواة:
تقليص الفجوة الكبيرة القائمة بين الجانبين وبشكل خاص من الناحية الاقتصادية، وصولاً لتحقيق المساواة؛ هدف يسعى ويتعاون كلا الطرفين لتحقيقه على مختلف الصعد والمستويات. (يزيد نصيب الفرد في إسرائيل من الناتج المحلي الإجمالي وفقاً لمعطيات البنك الدولي بنحو 22 ضعف عن مثيله في فلسطين، وهذا مؤشر واضح على عمق الفجوة القائمة بين الطرفين).
* مخرجات الحل:
توقيع معاهدة سلام دائم بين الدولتين تنهي الصراع المستمر بين الشعبين منذ أكثر من قرن، وتفتح صفحة جديدة من التعايش المشترك والعيش بأمن وأمان واستقرار ورخاء ومساواة، بما يشكل نموذجاً لحل الصراعات والنزاعات الأخرى، وبما ينعكس إيجاباً على المنطقة والعالم ويسهم في تحقيق السلم الإقليمي والدولي ويساعد في تجفيف منابع التطرف والإرهاب، ويجعل العالم أكثر أمناً وازدهاراً.