مديحة الأعرج[1]

[1] مديرة دائرة البحث والتوثيق في المكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان. 

المخططات والوعود التي أعلنها رئيس الوزراء الإسرائيلي، أثناء الحملة الانتخابية، لانتخابات “الكنيست” الإسرائيلي، بشأن الضم الرسمي المزمع أو الموعود، لمنطقة غور الأردن، جزء من تسريع عمليات ضم أجزاء من أراضي الضفة الغربية. وهذا الضم الموعود يلي سنوات طويلة من التلاعب في المخططات الهيكلية، وعمليات البناء، والخدمات، والبنية التحتية، في الريف الفلسطيني والمناطق المسماة (ج)، وفي القدس، وبواسطة جدار الفصل العنصري.

في خطوة جديدة ذات مدلول سياسي، عقدت حكومة الاحتلال الإسرائيلي بتاريخ 15 أيلول (سبتمبر) 2019، جلسة لها في الأغوار الفلسطينية المحتلة، وقررت بالإجماع “شرعنة” البؤرة الاستيطانية “مفوؤت يريحو” الواقعة إلى الشمال من مدينة أريحا في الأغوار الجنوبية، التي كانت تصنّف ضمن البؤر الاستيطانية غير المشروعة، وذلك بعد أن سمح المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية آفخاي مندلبليت في 17 أيلول (سبتمبر) 2019 بالقيام بهذه الخطوة، قبيل انتخابات الكنيست الأخيرة، بعد أن تم إطلاعه على أهمية هذه الخطوة قبل الإعلان عن خطة السلام الأميركية. رحب المستوطنون بشرعنة البؤرة الاستيطانية وأكدوا أن تنظيم الوضع القانوني لهذه البؤرة مفتاح لاستمرار الاستيطان في الأغوار.

جاء هذا القرار بعد أيام من تعهد رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بضم منطقة الأغوار وشمال البحر الميت إلى السيادة الإسرائيلية حال نجاحه بتشكيل حكومة جديدة بعد انتخابات “الكنيست”، إذ جاء هذا التعهد بمؤتمر صحفي في خضم حملته الانتخابية في 10 أيلول (سبتمبر) 2019، حيث عرض خارطة للأغوار بعد “الضم”، معتبرا ذلك إضافة هامة لعمق إسرائيل الإستراتيجي.

ونقلت وكالة رويترز عن مسؤول أميركي، لم يكشف عن اسمه، أن السياسة الأميركية تجاه إسرائيل والأراضي الفلسطينية لا تزال ثابتة من دون تغيير بعد إعلان نتنياهو حول ضم غور الأردن. وقال المسؤول بإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إن الولايات المتحدة لن تغير من سياساتها في ذلك التوقيت[1].

وكان نتنياهو قد صرح في الأول من أيلول (سبتمبر) 2019، بأن هناك فرصة تاريخية لفرض السيادة على مستوطنات الضفة الغربية، في إشارة لوجود الرئيس ترامب كرئيس الولايات المتحدة حالياً، وادعى نتنياهو أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب سيعرض “صفة القرن” بعد الانتخابات الإسرائيلية مباشرة، وأنه احتراماً للرئيس ترامب وإيماناً بالصداقة مع إدارته سينتظر إصدار خطة السلام ليرى إلى أي حد أقصى يمكنه المضي في مشروعه بالتنسيق مع الولايات المتحدة، ولم يكتف نتنياهو بإعلان نيته فرض السيادة على الأغوار الفلسطينية، بل أكد أنه أبلغ الرئيس ترامب بأنه يخطط لبسط السيادة على جميع الكتل الاستيطانية، والأراضي المحيطة بها وجميع المستوطنات والمواقع التي تحمل أهمية من منظور أمني أو تراثي لإسرائيل، وبأنه يعتزم بسط السيادة الإسرائيلية على مدينة الخليل ومستوطنة كريات أربع كذلك[2].

وألمح السفير الأميركي في دولة الاحتلال، ديفيد فريدمان، في مقابلة صحفية مع “جيروزاليم بوست” إلى إمكانية تأجيل طرح “صفقة القرن”، معتبرا أن وعد نتنياهو بضم الأغوار وشمال البحر الميت لا يتعارض مع الصفقة المذكورة، مؤكداً أن الخطة ستجعل إسرائيل أقوى وأكثر أمناً، وسترضي كافة مناصري إسرائيل، مهما كانت خلفياتهم الدينية[3].

أرقام وتحولات إستراتيجية

تضاعف عدد المستوطنات المقامة على الأراضي الفلسطينية في الضفة والقدس من 144 مستوطنة قبل توقيع اتفاق أوسلو، إلى 515 مستوطنة وبؤرة استيطانية حتى أيلول (سبتمبر) 2018، وتضاعف عدد المستوطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 أكثر من خمس مرات وارتفع من نحو 150-200 ألف مستوطن قبل اتفاق أوسلو إلى حوالي 750–800 ألف مستوطن، أما مساحة الأراضي التي تم الاستيلاء عليها لصالح المشروع الاستيطاني، فارتفعت من حوالي 136 ألف دونم قبل اتفاق أوسلو إلى حوالي 500 ألف دونم أي بزيادة قدرها حوالي 368% مقارنة مع ما كانت عليه. وأمعن الاحتلال الإسرائيلي في تقطيع أوصال الضفة، وإنشاء جدار الفصل العنصري، ونشر مئات حواجز للفصل وعزل التجمعات الفلسطينية بعضها عن بعض[4].

استخدمت حكومات إسرائيل الاتفاقيات الموقعة، مثلما استخدمت المفاوضات الفلسطينية– الإسرائيلية غطاء سياسياً لنشاطاتها الاستيطانية، ما يعكس الوضع القائم حالياً المتمثل ببناء المئات من المستوطنات والبؤر الاستيطانية التي تقطع أوصال أراضي الضفة بما فيها القدس الشرقية، ويسكن في حوالي 200 بؤرة استيطانية أخذت تتحول مع مرور الوقت إلى حواضن للمنظمات الإرهابية اليهودية، كمنظمات شبيبة التلال وتدفيع الثمن ومنظمة أخرى تطلق على نفسها اسم “تمرد”، حوالي 15-20 ألف مستوطن. ومع هذا التوسع والتمدد الاستيطاني، لم يعد الحديث عن مستوطنات سياسية (يمكن تفكيكها) وأخرى أمنية حسب تعبير رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين، بل عن بنية استعمارية تحتل مساحة جيدة وفقاً لمخططاتها الهيكلية ومساحات أوسع لا تقل عن 60 بالمئة من مساحة الضفة كمجال حيوي للاستيطان والمستوطنين والقواعد العسكرية، ما جعل من الاستيطان الإحلالي نظاماً للفصل العنصري[5].

يعيش ما يُقدّر بحوالي 300.000 فلسطيني في المنطقة (ج) في 530 تجمعاً سكنياً، من بينها 241 تجمّعاً تقع بأكملها أو يقع جزء منها في المنطقة (ج). كما يعيش فيها أيضاً ما يقارب 341,00 مستوطن إسرائيلي في حوالي 135 مستوطنة، وما يقرب من 100 بؤرة، وذلك خلافاً للقانون الدولي. وتزيد مساحة المناطق البلدية الخاصّة (بالمستوطنات) المنطقة المتاحة لتوسعها تسع مرات عن مساحة المناطق المقام عليها البناء حالياً (ويقع 70 بالمائة من أراضي المنطقة (ج) داخل حدود المجالس الإقليمية للمستوطنات الإسرائيلية) خلافاً للحدود البلدية، وبالتالي يُحظر على الفلسطينيين استخدامها وتطويرها[6].

المناطق المسماة (ج): إحكام للسيطرة وتقسيم مركب

لمزيد من إحكام السيطرة على المناطق المسماة (ج)، تفرض قوات الاحتلال قيوداً واسعة على الحركة في هذه المناطق، وقد قطعت هذه القيود التي تفرضها إسرائيل على الحركة الضفة الغربية إلى عدد من المعازل في شمال الضفة الغربية ووسطها وجنوبها وفي منطقة الأغوار وشمالي البحر الميت، إلى جانب جيوب الجدار الفاصل ومنطقة القدس الشرقية المنعزلة تماماً عن محيطها الفلسطيني بجدار الفصل العنصري والحواجز، وبعدد من المعابر التي تتحكم بها سلطات وقوات الاحتلال، بحيث إن قدرة الإنسان على التنقل من منطقة لأخرى أصبحت بفعل هذه القيود تخضع لشروط قاسية ومعقدة.

وتنتشر عشرات التجمّعات السكّانية التي يسكن فيها آلاف الفلسطينيين في المناطق المسماة (ج)، ويعتاش سكّانها على الزراعة ورعي الأغنام، وتطبّق السلطات الإسرائيلية سياسة هدفها تهجير هذه التجمّعات عبر خلق واقع معيشيّ يصعب تحمّله، وتدفع بالسكان الفلسطينيين إلى الرحيل عن أرضهم، وتركّز السلطات الإسرائيلية في سياسة التهجير هذه على ثلاث مناطق رئيسية هي: مناطق الأغوار، ومناطق جنوب جبال الخليل، والمنطقة المحيطة في القدس، حيث تقع مستوطنة “معاليه أدوميم” وامتدادها شرقاً باتجاه البحر الميت، دون أن تستثني بالطبع الهجوم الاستيطاني الواسع على مناطق وسط الضفة الغربية، عبر ما تسميه “عابر السامرة” وما يقع في طريقه من مستوطنات تربط تل أبيب عبر كفر قاسم وتجمع أرئيل الاستيطاني في مناطق الأغوار الفلسطينية.

تولي سلطات الاحتلال أهمية قصوى للاستيطان في مناطق الأغوار الفلسطينية، إذ تسيطر المستوطنات على 85% من مساحة هذه الأراضي، وهي أخصب أراضي الضفة، حيث وَفرة المياه والمناخ يوفران الظروف المثلى لازدهار الزراعة، ما يجعلها تنتج ما نسبته 40% من صادرات التمور “من إسرائيل”. في حين يُمنع الفلسطينيون من العيش أو البناء أو رعي الماشية، بحجة أنها أراضٍ عسكرية أو أراضي دولة[7].

كما تهدّد سياسة إسرائيل في منطقة جنوبي جبال الخليل وجود قرابة 30 قرية وخربة فلسطينية موجودة برمّتها في المناطق المسماة (ج) الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية التامة، وفي هذه المنطقة التي يُسمى جزء منها مسافر يطا (القرى المحيطة بيطا) يعيش قرابة 4000 شخص يعتاش غالبيتهم من استصلاح أراضيهم ورعي الماشية. وفي هذه المنطقة سبق أنْ رحّل الجيش السكان في نهاية عام 1999 بحجّة إعلانها “منطقة إطلاق نار” منذ الثمانينيات؛ ذلك رغم أنّ إسرائيل -كدولة احتلال- لا يحقّ لها إعلان مناطق كهذه داخل الأرض المحتلّة.

وفي منطقة “معاليه أدوميم” وامتدادها فإن سلطات الاحتلال تلاحق السكان بهدف تهجيرهم قسراً أو طوعاً، ففي الثمانينيات والتسعينيات رحّلت الإدارة المدنية مئات العائلات البدو من عشيرة الجهالين عن مناطق سكناهم ومعيشتهم، وذلك ضمن متطلبات إقامة مستوطنة “معاليه أدوميم”، وتوسيعها لاحقاً، إذ جرى نقل السكّان إلى موقع ثابت قرب قرية أبو ديس، شرق القدس. وحتى بعد ذلك الترحيل لا يزال نحو 3000 فلسطيني من سكّان المنطقة مهدّدين بالترحيل، منهم نحو 1400 فلسطيني يسكنون في منطقة جرى تعريفها إسرائيلياً باسم 1E، جعلتها إسرائيل ضمن مسطّح نفوذ مستوطنة معاليه أدوميم، لتنشِئ تواصلاً عمرانيًّا بين المستوطنة ومدينة القدس[8].

ويؤسس الاستيطان الذي تبنيه إسرائيل في المناطق المصنفة (ج) لنظام فصل عنصري متكامل الأركان في أكثر من مجال، وعلى أكثر من صعيد؛ ففي مجال الحق في مخططات هيكلية مناسبة للقرى والبلدات الفلسطينية، خاصة في المناطق المسماة (ب) وتلك المسماة (ج) يظهر نظام التمييز العنصري بوضوح، إذ من بين 180 قرية فلسطينية تقع في هاتين المنطقتين، صادقت ما تسمى الإدارة المدنية على مخططات هيكلية في 16 قرية فقط، ولم تسمح لسنوات طويلة بربط القرى والتجمعات الأخرى قرية بالبنى التحتية الخاصة بالمياه، عدا عن القرى المذكورة. نتيجة لذلك، فإنّ عشرات آلاف الفلسطينيين الذين يسكنون المنطقة المسماة (ج) غير مرتبطين بأيّ شبكة مياه، ويحصلون على الحد الأدنى من احتياجاتهم المائية من مياه الأمطار التي يجمعونها في الآبار، وبشراء المياه ونقلها بالصهاريج. وفي مسح أجراه مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في 2013، يتضح أنّ هناك 180 قرية تقع كلّها أو جزء منها في المنطقة المسماة (ج) لم تكن مرتبطة بشبكة المياه في ذلك الوقت[9].

ويعاني المواطنون القاطنون في القرى الواقعة في المناطق المسماة (ج) من عدم القدرة على توسيع المخططات الهيكلية لتلك القرى لتلبية احتياجاتهم العمرانية، إذ يشير تقرير خاص أصدره مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية، إلى أن سياسة التخطيط وتقسيم المناطق التي تتّبعها السلطات الإسرائيلية في المنطقة المسماة (ج) في الضفة تمنع الفلسطينيين –فعلياً- من البناء على 99% من الأراضي الخاضعة أمنياً ومدنياً لسلطات الاحتلال الإسرائيلي بموجب اتفاقات أوسلو، فإضافة إلى منع البناء على نحو 70% من أراضي المناطق المسماة (ج)، تطبق على النسبة المتبقية التي تصل إلى 30% سلسلة قيود تلغي عملياً إمكانية الحصول على تراخيص للبناء، فتمنع سلطات الاحتلال، بواسطة منظومة مدمجة من الأدوات القضائية والعسكرية والإدارية، البناء والتطوير الخاص بالفلسطينيين في قرابة 40% من أراضي الضفة، أي قرابة 70% من منطقة (ج) التابعة لسيطرتها الكاملة[10].

إن المناطق المسماة (ج) هي الحيز الذي يشكل متّسعاً للتطوير الحضري والزراعي والاقتصادي في الضفة الغربية، تستغلّ إسرائيل سيطرتها التامّة في مجال التخطيط والبناء لتمنع الفلسطينيين منعاً شبه تامّ من البناء في هذه المناطق. وتفرض إسرائيل هذا المنع بواسطة تعريف مساحات شاسعة كـأراضي دولة و”مناطق إطلاق نار”، و”محميّات طبيعية” و”حدائق وطنية”. وترفض ما تسمى الإدارة المدنية إعداد أو المصادقة على خرائط هيكلية لمعظم البلدات الفلسطينية في هذه المناطق، فحتى تشرين الثاني من عام 2017، ومن أصل 180 بلدة وقرية فلسطينية تقع مساحتها كاملة في المناطق المسماة (ج)، صادقت الإدارة المدنية وهيّأت خرائط هيكلية لـ16 بلدة فقط، وبَلَغَت مساحة الأراضي الواقعة تحت هذه المخططات 17673 دونماً أي أقل من 1% من المناطق (ج) وهي في معظمها مناطق عمرانية أصلًا[11].

ومن المعطيات المتوفرة فإن احتمال حصول الفلسطيني على رخصة بناء -حتى على أرضه الخاصّة– شبه مستحيل، وتُظهر معطيات الإدارة المدنيّة أنّه بين بداية العام 2000 وحتى منتصف العام 2016 تقدّم الفلسطينيون لمكاتب التخطيط بـ5475 طلباً لاستصدار رخص بناء، جاءت الموافقة فقط على 226 طلباً، بما نسبته نحو 4%، إذ يبقى السكان الفلسطينيون دون أيّة إمكانية للحصول على رخصة بناء، تضطرهم الحاجة والتوسع الطبيعي إلى تطوير بلداتهم وبناء منازلهم دون ترخيص، ما يعرضهم لخطر هدم منازلهم ومنشآتهم بشكل دائم. وعلى نقيض سياسة التخطيط والبناء في البلدات الفلسطينية، تحظى المستوطنات الإسرائيلية- المقامة كلّها في المناطق المسماة (ج)، بتخصيص أراضٍ واسعة وبتخطيط مفصّل وربط بمرافق متطورة[12].

بعد هدم عشرات المنازل الفلسطينية في وادي الحمص في صور باهر في 22 أيلول (سبتمبر) 2019، أعلنت حكومة إسرائيل السماح للفلسطينيين ببناء عشرات الوحدات السكنية بالمناطق المسماة (ج)، غير أن هذا القرار لا يعكس أي تحول سياساتي، لأن سياسة إسرائيل تقوم على حرمان الفلسطينيين من البناء في هذه المناطق، فخلال الفترة من 2009-2016 لم تمنح إسرائيل سوى 36 رخصة للبناء مقابل 12 ألف رخصة للمستوطنين؛ ففي الوقت الذي قامت فيه إسرائيل بالتوسع في بناء المستوطنات في المناطق المسماة (ج) في الضفة الغربية، وسمحت بالتوسع في إقامة بؤر استيطانية، فإنها لم تسمح ببناء قرية فلسطينية واحدة، وقد أعلنت سلطات الاحتلال مؤخراً عن المصادقة على إقامة ما يزيد على 36 ألف وحدة سكنية تركزت في ما تسميها الكتل الاستيطانية، كما خصصت 37% من الأراضي الأميرية في الضفة الغربية لصالح بناء المستوطنات، في حين لم يخصص الاحتلال سوى 0,7% من هذه الأراضي لصالح الفلسطينيين.

القدس المحتلة: قلب المشروع الاستيطاني

ومن أجل اكتمال الصورة تجدر الإشارة إلى ما تعانيه القدس نتيجة سياسة إسرائيل ومشروعها الاستيطاني الخاص في المدينة المحتلة، ففي القدس يصارع المقدسيون شبح التهويد والتطهير العرقي الصامت، فمنذ حرب حزيران عام 1967 تسير حكومات الاحتلال المتعاقبة وفق مخطط منهجي وشامل لتهويد مدينة القدس المحتلة، ويرتكز هذا المخطط على الاستيطان بكافة أشكاله من بناء مستوطنات وبؤر وتجمعات استيطانية، واستيلاء على الأراضي والمنازل العربية ومنحها للمستوطنين، وزيادة أعداد المستوطنين والمتطرفين في المدينة المقدسة.

استخدمت إسرائيل قوانين التنظيم والبناء للحد من النمو العمراني والسيطرة على النمو السكاني عن طريق التنظيم والتخطيط وإغلاق مناطق حول البلدة القديمة بإعلانها مناطق خضراء يمنع البناء عليها للحد من التوسع والبناء العربيين، ما جعل 40٪ من مساحة القدس الشرقية مناطق خضراء يمنع البناء الفلسطيني عليها، ولكنها تعتبر مناطق احتياط إستراتيجية لبناء المستوطنات، ما دفع السكان إلى البناء دون ترخيص أو الهجرة باتجاه المناطق المحاذية لبلدية القدس.

وعملت على توسيع حدود القدس شرقاً وشمالاً وزيادة أعداد المستوطنين حتى بلغت حوالي 350000 مستوطن حسب أحدث إحصائيات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، وبلغ عدد المستوطنات 29 مستوطنة تنتشر في محافظة القدس على شكل تجمعات مكثفة تتخذ الشكل الدائري حول المدينة وضواحيها ولها مراكز كبيرة المساحة. في الوقت نفسه تضيّق سلطات الاحتلال على المواطنين الفلسطينيين في القدس وتمارس بحقهم سياسة تطهير عرقي صامت، ففي السنوات الأخيرة فقد ما يقارب 20 ألف مقدسي حق الإقامة في المدينة بسبب اشتراط الحكومة الإسرائيلية إقامتهم داخل الحدود المصطنعة لها، وخلال عام واحد فقط تم إلغاء حق الإقامة لأكثر من 4577 مقدسياً[13].

وجاء جدار الضم والتوسع ليعمق السيطرة الإسرائيلية على القدس، إذ يعزل الجدار ما مساحته 152918 دونماً من أراضي محافظة القدس ويضم إلى داخل حدود القدس 29 مستوطنة إسرائيلية. إن أحد الأهداف من تشييد الجدار يتمثل في توسيع حدود بلدية القدس المحتلة للسيطرة على أكثر من 10% من مساحة الضفة. ففي القدس يجري توسيع مساحة البلدية لتشمل دائرة قطرها حوالي 30 كم في إطار مخطط القدس الكبرى، وتمتد من حدود مدينة رام الله شمالاً حتى حدود بيت لحم جنوباً.

إن صورة الوضع الراهن في القدس تبدو على النحو التالي: بلغ عدد السكان في القدس حتى نهاية عام 2017 نحو 900 ألف، منهم: 62% يهود، و38% عرب، عدد العرب في شرق القدس هو 327700 مقابل 214600 مستوطن حتى نهاية عام 2017، ويعيش 79% من المقدسيين تحت خط الفقر وفق المعايير الإسرائيلية، وتزداد المعاناة بفعل سياسة هدم البيوت، إذ هدمت سلطات الاحتلال ما يزيد على 5000 بيت ومنشأة في شرق القدس منذ احتلالها عام 1967، بينما سحبت الهوية المقدسية من أكثر من 14500 مقدسي، ويصل عدد من تأثروا بسحب الهويات إلى حوالي 100 ألف مواطن مقدسي.

وفي ضوء هذه القراءة للأوضاع في القدس، يأتي قرار الرئيس الأميركي اعتبار القدس عاصمة لدولة إسرائيل وقرار نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، باتجاه معاكس لسياسات ومواقف 12 رئيساً أميركياً سابقاً (من هاري ترومان حتى باراك أوباما) خلال 17 فترة رئاسية، وهو مخالف لعشرات القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة بدءاً من قرار التقسيم عام 1947، مروراً بفتوى محكمة العدل الدولية حول جدار الضم والتوسع العنصري عام 2004، وصولاً لقرار مجلس الأمن الدولي 2334 عام 2017، ومخالف للقانون الدولي والتزامات الولايات المتحدة بوصفها دولة كبرى ومسؤولياتها تجاه الأمن والسلم الدوليين. ويشكل سابقة خطيرة في العلاقات الدولية بفرض منطق القوة وشريعة الغاب بدل القانون الدولي والشرعية الدولية.

كما يشجع القرار المخططات الإسرائيلية في القدس. فالفلسطينيون في القدس لا يتمتعون بحقوق المواطنة، ولكن بحق “الإقامة الدائمة” وهو حق مشروط يمكن انتزاعه في أي لحظة، ويخضع بشكل دوري للتدقيق والمراقبة من قبل جهات متعددة من بينها وزارة الداخلية والبلدية والأجهزة الأمنية، كما يشجع السياسات الإسرائيلية في القدس القائمة على التطهير العرقي للفلسطينيين الصامت أحياناً والذي يجري تنفيذه بالتهجير القسري العلني أحياناً أخرى (قيود على الإقامة والبناء وتسجيل المواليد ولم شمل العائلات، وتردي الخدمات، وأسرلة التعليم، وسيطرة على العقارات) وإحلال المستوطنين مكان المواطنين الفلسطينيين.

استخدمت حكومات إسرائيل الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها مع الجانب الفلسطيني، مثلما استخدمت المفاوضات الفلسطينية– الإسرائيلية غطاء سياسياً لنشاطاتها الاستيطانية حتى وصلنا إلى الوضع القائم، ومع هذا التوسع والتمدد الاستيطاني، لم يعد يجري الحديث عن مستوطنات سياسية (يمكن تفكيكها)، وأخرى أمنية حسب تعبير إسحق رابين، بل عن بنية استعمارية تحتل مساحة جيدة وفقاً لمخططاتها الهيكلية ومساحات أوسع لا تقل عن 60% من مساحة الضفة الغربية كمجال حيوي للاستيطان والمستوطنين والقواعد العسكرية. وهكذا أخذ الاحتلال والاستيطان يتعمقان ويبنيان نظاماً من الفصل العنصري بكل ما لذلك من معنى. حيث يعيش المستوطنون في مجتمعات محصنة تتواصل في ما بينها ومع إسرائيل بشبكة من الطرق الالتفافية، تقابلها مجتمعات فلسطينية مقطعة الأوصال، ما يخلق واقعاً شديد الشبه بنظام البانتوستونات و”الجراند أبرتهايد” الذي شهدته جنوب إفريقيا في عهد التمييز العنصري، مع فارق أن الأخير قد أحيل للتاريخ كجريمة بحق الإنسانية، بينما الأول لا يزال يشهد فصولاً من الجرائم التي لا تجد لها رادعاً.

 

للتحميل اضغط هنا

 

الهوامش

[1] للمزيد انظر: https://ara.reuters.com/article/idARAKCN1VV2GE

[2] موقع معهد الأبحاث التطبيقية أريج- القدس، Ircj.org/publication-8-1018html

[3] للتفاصيل انظر: Bite.ly/2W7Shm6

[4] مركز المعلومات الوطني الفلسطيني– “وفا”، “البناء في المنطقة المصنفة (c) حسب اتفاق أوسلو”،www.wafa info,p/atemplate.aspx?id=5178

[5] منظمة التحرير الفلسطينية، دائرة شؤون المفاوضات، “المستوطنات” http://www.nad-plo.org/template.php?id=55

[6] للمزيد انظر: https://www.ochaopt.org/ar/theme/humanitarian-impact-of-settlements

[7] موقع المكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان،http:www.nbprs,ps/page.php?do=show action=listetan32

[8] موقع مكتب تنسيق الأمم المتحدة أوتشا، ochaopt.org/ar

[9] المرجع السابق.

[10] المكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان، “التوزيع الاستيطاني في فلسطين”، http://www.nbprs,ps/page.php?do=showaction=istetan31

[11] موقع معهد الأبحاث التطبيقية أريج- القدس، Ircj.org/publication-8-1018html

[12] موقع مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بيتسيلم، www.betselem.org/arabic/south_hebron_hills

[13] خليل التفكجي، المستعمرات الإسرائيلية بالضفة الغربية، (القدس: جمعية الدراسات العربية، 1994).