عبد الغني سلامة
لأسباب عديدة، يكتسب مفهوم التنمية في فلسطين أبعاداً أخرى ومختلفة عما هو متعارف عليه، أهم هذه الأبعاد الفصل الجغرافي بين المناطق الفلسطينية، والحواجز التي أوجدها الاحتلال، وبالتالي وجود نوع من المناطق المحلية المتباينة في ظروفها، ما يفرض اهتماماً أكبر بمفهوم التنمية المحلية، التي تأخذ بالاعتبار خصوصيات المناطق، دون إلغاء الإطار الوطني العام والتكاملي للتنمية.
مقدمة
بدأت مفاهيم “التنمية الاقتصادية المحلية” تتبلور بعد الحرب العالمية الثانية، حين وجدت البلدان النامية نفسها بحاجة ماسة للخروج من أزماتها التي خلفها الاستعمار؛ فبعد نيلها استقلالها السياسي، بدأت تلك الدول بذل جهود خاصة لتخليص اقتصادياتها من التبعية وتحقيق النمو الاقتصادي على جميع المستويات.
تختلف التنمية المحلية عن التنمية بمعناها الواسع، مع أن كلتيهما عبارة عن عملية مستمرة تخص جميع جوانب حياة الإنسان، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وهي في المحصلة عملية حضارية شاملة، ركيزتها الأساسية الإنسان، وهدفها خلق أوضاع جديدة ومتطورة، تحسّن نوعية الحياة التي نعيشها. وهذا هو المقياس الحقيقي لنجاح أي عملية تنمية.
بحسب تعريف البنك الدولي؛ يتمثل هدف “التنمية الاقتصادية المحلية” في تعزيز القدرات الاقتصادية لمنطقة محلية معينة، من أجل تحسين مستقبلها الاقتصادي والاجتماعي، وتطوير مستوى المعيشة فيها ككل. وهي عبارة عن عملية يقوم بها الشركاء من القطاع الحكومي، والأهلي، وقطاع الأعمال، بالعمل بشكل جماعي من أجل توفير ظروف أفضل لتحقيق النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل[1].
ويعني هذا أنّ التنمية الاقتصادية المحلية عملية متعددة الأطراف والقطاعات، تشمل مجموعة من الإجراءات المتنوعة المكملة بعضها لبعض، ويدعم فيها كل قطاع القطاع الآخر، وتدعم كل منطقة المنطقة الأخرى من خلال إطار وطني شامل ينسق هذه الإجراءات، حيث إن توفر رؤية إستراتيجية شاملة لتنمية الاقتصاد الوطني تعد شرطاً أساسيّاً لنجاح التنمية المحلية، وبدونها، أو إذا كانت هذه الإستراتيجية ضعيفة، سيكون تطور كل اقتصاد محلي بمعزل عن اقتصادات المناطق الأخرى، ما يؤدي إلى تفتت الاقتصاد الكلي، وبالتالي إعاقة تطور الاقتصادات المحلية على نحو متكامل. لذلك، فإن الدول المتقدمة لا تكتفي بجعل الاقتصاد المحلي متناسقاً ومنسجماً مع الاقتصاد الوطني للدولة، بل وتجعله متناغماً أيضاً مع الاقتصاد الكلي على المستوى الإقليمي، أو حتى القاري، كما هو الحال مثلاً في الاتحاد الأوروبي.
التنمية الاقتصادية المحلية في فلسطين
لأسباب عديدة، يتضح أنّ لمفهوم التنمية في فلسطين أبعاداً أخرى ومختلفة عما هو متعارف عليه، أهم هذه الأبعاد الفصل الجغرافي بين المناطق الفلسطينية، والحواجز التي أوجدها الاحتلال، وبالتالي وجود نوع من المناطق المحلية المتباينة في ظروفها، ما يفرض اهتماماً أكبر بمفهوم التنمية المحلية، التي تأخذ بالاعتبار خصوصيات المناطق، دون إلغاء الإطار الوطني العام والتكاملي للتنمية.
في فلسطين، وزارة الحكم المحلي هي الجهة الأولى المسؤولة عن موضوع التنمية الاقتصادية المحلية، بالشراكة مع وزارات ومؤسسات أخرى؛ لذلك، فقد أعدت ورقة مفاهيمية بعنوان: “الإطار الوطني المتكامل للتنمية الاقتصادية المحلية”، حددت فيها الهدف العام للتنمية الاقتصادية المحلية، بأنه تعزيز النمو العادل والمستدام لاقتصاد منطقة معينة، وضمان مساهمته بفاعلية في الاقتصاد الوطني والإقليمي، عن طريق الاستخدام الأمثل لموارد المنطقة (مواردها الإنتاجية الطبيعية والبشرية وميزات موقعها)، واستقطاب المساهمات الخارجية من أجل تحقيق غاياتها، باعتبار أن التنمية الاقتصادية المحلية جزءاً لا يتجزأ من التنمية الاقتصادية الوطنية الأعلى مستوى، وكلاهما مرتبط بالآخر.
وبحسب الورقة، لا تكون التنمية الاقتصادية المحلية ناجحة إلا إذا حققت العدالة في التوزيع، وكانت شاملة لجميع القطاعات، بحيث تستفيد منها المناطق المهمشة، والفئات الضعيفة، وفئات الشباب والنساء، وتؤثر إيجابيّاً على البيئة، دون أن تستنزف مواردها، والأهم مدى استفادتها من الطاقات البشرية، وكيفية حمايتها لحقوق العاملين فيها، ولمصالح مختلف الأطراف الاقتصادية الفاعلة.
ومن ناحية ثانية، لا بد أن تكون السياسات الاقتصادية للدولة مصوغة بشكل يلبي احتياجات الاقتصادات المحلية، أي أنه على الأنظمة والتشريعات والإستراتيجيات الاقتصادية والتجارية المقرة مركزيّاً على الصعيد الوطني أن تتوافق مع متطلبات كل اقتصاد محلي، بحيث يستفيد منها، وهذا يشمل البنى التحتية، وشبكات الطرق والاتصالات، وإمدادات الطاقة، والمعابر والنقاط الحدودية، ومؤسسات التدريب المهني، والمناطق الصناعية، وتصنيفات الأراضي الزراعية، والاعتبارات البيئية.
ومن المعلوم أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية هي التي تحدد مسارات النمو الاقتصادي، وتؤثر على عملية التقدم الشامل لأي بلد. لذلك، اكتسبت التنمية الاقتصادية المحلية في فلسطين بعداً سياسيّاً، أي بجعلها آلية من آليات تحصيل الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حق تقرير المصير، وعليه صار من أهداف التنمية الإضافية وقف التدهور الناتج عن الاحتلال الإسرائيلي ومقاومة آليات استلاب التنمية، ومواصلة محاولات التحرر من التبعية للاقتصاد الإسرائيلي، ودعم الصمود. كما يكتسب المفهوم التنموي الفلسطيني بعداً آخر، وأضيفت إليه مهمة إعادة البناء؛ أي بناء اقتصاد وطني، وبناء مؤسسات الدولة[2].
اختلفت الاجتهادات حول الأولويات بين العمل السياسي والعمل التنموي (أي بين العملية النضالية، وعمليات البناء)، وتوزيع الأدوار بين القطاع العام والقطاع الخاص، وبين مؤسسات السلطة الوطنية والمؤسسات الأهلية، وكذلك حول توسيع درجة المشاركة في إنجاز القرار التنموي ومراقبة تنفيذه ومساءلة المكلفين به، وقد واجهت عملية التنمية في فلسطين عمليات استلاب وتعطيل أثرت على جميع جوانبها، فلم يقتصر التأثير على تشويه العملية التنموية بل على وقفها كاملاً، وعلى تعطيل قدرات المجتمع عن القيام بها، أو العمل على توظيفها لخدمة مصالح القوى الفاعلة أو التي تقف وراء عملية الاستلاب، وفي مقدمتها الاحتلال الإسرائيلي.
المبادرات التنموية في فلسطين قبل أوسلو
شكلت تجربة التنمية المحلية للمجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال المباشر، أي ما قبل قدوم السلطة الوطنية، تجربة فريدة في فكرها ومضمونها وأهدافها، ففي بداية الثمانينيات ظهر شعار “التنمية من أجل الصمود”، وعقدت تحت هذا الشعار مؤتمرات وورش عمل، شاركت فيها العديد من المؤسسات الفلسطينية، وأهمها المؤتمر الذي عقد في العام 1986 حول تمويل الخطط التنموية من الخارج ومناقشة مصادره[3].
وباستثناء بعض الفعاليات التي كانت تقوم بها “الإدارة المدنية”، سواء بشكل مباشر، أو تحت مسمى “روابط القرى”، التي كانت محدودة جدّاً، ولا تتعدى تقديم بعض الخدمات، ولأغراض سياسية؛ كانت المبادرات الشعبية في سياق التنمية المحلية مبادرات ذاتية، حتى لو كانت بدعم خارجي من قبل منظمة التحرير، وكان هدفها بناء المؤسسات الوطنية، التي تعزز الشخصية السياسية الفلسطينية، وتؤكد دور ومكانة منظمة التحرير الفلسطينية، والعمل على إعادة ربط المجتمع الفلسطيني جغرافيّاً، والتخفيف من الآثار السلبية للتعامل المباشر مع سلطات الاحتلال، كما كان عليه الوضع منذ حرب 1967.
وبالنظر إلى ما كان موجوداً في الأرض المحتلة في الفترة التي سبقت تأسيس السلطة، أي من ناحية البنى التحتية، والمشاريع الاقتصادية، والتنمية الصناعية والزراعية، فإنّه كان هزيلاً للغاية؛ فالبنية التحتية بقيت كما تركها الانتداب البريطاني، باستثناء مشاريع صغيرة بدأ العمل بها في فترة الحكم الأردني (والمصري)، وكان عدد المصانع لا يتجاوز عدد أصابع يد واحدة (سلفانا، كلوب للمشروبات، وبعض مصانع البسكويت والمعلبات في غزة)، وبسبب تركز الأيدي العاملة في داخل الخط الأخضر، أُهمل قطاع الزراعة، ونتيجة تعقيد الموقف السياسي والأمني، لم تلعب البلديات دوراً مهمّاً في عمليات التنمية الاقتصادية المحلية.
في سنوات الانتفاضة الشعبية (1987-1993) حاولت القوى والمؤسسات الوطنية، بتوجيهات من القيادة الوطنية الموحدة، توجيه الأهالي للعمل في دعم الاقتصاد المنزلي، وإقامة مشاريع إنتاجية صغيرة، كبديل عن المنتجات الإسرائيلية، ولدعم الصمود، وكانت هذه بالكاد تكفي لتأمين احتياجات الأسرة التموينية، وغير مؤهلة لتحقيق تنمية اقتصادية على نطاق أوسع.
وكانت منظمة التحرير بدأت ومنذ السبعينيات، بتقديم أشكال متعددة من الدعم المباشر للأرض المحتلة، بهدف تطوير قدرات الأهالي الاقتصادية، وتحسين ظروف معيشتهم، بالإضافة للأهداف الوطنية والسياسية ودعم الصمود، مثال ذلك، تأسيس الجامعات الفلسطينية، وكذلك دعم وتمويل عدد من الصحف والمجلات، ودعم عدد من المؤسسات الوطنية وبعض المشاريع الإنتاجية، إلا أنّ ذلك كله لم يكن ليصل إلى مستوى تأسيس تنمية اقتصادية حقيقية.
من جهة ثانية، ظهرت مبادرات عربية ودولية متعددة في مجالات التنمية الاقتصادية الفلسطينية، بشكل خاص الأقطار العربية وخاصة الأردن، والمنظمات العربية والإسلامية مثل الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، وبنك التنمية الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وغيرها، وكذلك نشاط المؤسسات الدولية وخاصة الأمم المتحدة والمجموعة الأوروبية، مثل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، بالإضافة لمبادرات المؤسسات الأجنبية والمنظمات غير الحكومية (محلية ودولية) التي اعتمدت في تمويلها على مصادر غير حكومية أو حكومية، وكانت مدفوعة للعمل في فلسطين بدوافع متعددة (إنسانية، سياسية). ربما تكون تلك المبادرات قد وفرت عبر نشاطاتها المتعددة تدريباً وسيولة مالية للمجتمع الفلسطيني، استخدمها في تحسين أدائه العام، ولكن من الناحية العملية لم تؤدِّ إلى تطور تنموي فلسطيني متكامل، وظل الاحتلال عائقاً أمام أي عملية تنمية حقيقية.
المبادرات التنموية في فلسطين بعد قيام السلطة الوطنية
ربما كان البرنامج الإنمائي للاقتصاد الوطني الفلسطيني (1994-2000)، أول برنامج تنمية في عهد السلطة الوطنية، تم وضعه عام 1993 بإشراف الأكاديمي يوسف الصايغ، وبمساهمة العديد من الأكاديميين والمؤسسات الفلسطينية، وأشرفت عليه الدائرة الاقتصادية في منظمة التحرير الفلسطينيةـ
وشكّل البرنامج المحاولة الأولى لوضع خطة إنمائية طموحة بهدف إعادة بناء المجتمع الفلسطيني بعد اتفاق أوسلو، وقد قدرت تكاليف البرنامج بحوالي 11.6 مليار دولار، وقد قام البرنامج على افتراضات وإستراتيجيات هامة أعطت الأولوية لتصحيح التشوهات الناجمة عن الاحتلال، وخلق فرص عمل، وتطوير البنية التحتية، وتشجيع قطاع التصدير والإسكان، وبالرغم من أهمية هذا البرنامج وحجم ونوعية العمل الذي بذل فيه، إلا أن تطبيقه لم يتم عملياً، نظراً لعوامل أهمها عدم توفر التمويل اللازم له، وعدم واقعية بعض الافتراضات التي قام عليها، وبسبب الاحتلال بالطبع[4].
وفيما بعد، تم طرح خطة التنمية الفلسطينية 1998-2000، من قبل وزارة التخطيط، التي تركزت أهدافها على التشغيل والتنمية الاقتصادية، وإنعاش وتنمية الريف، وتطوير المؤسسات والسياسات المالية، وتنمية الموارد البشرية، وتحسين الأوضاع الاجتماعية.
وقد اعتمدت الخطة على إعادة تأهيل وتطوير البنية التحتية والخدماتية وخاصة في المناطق الريفية، ورفع مستوى الخدمات الاجتماعية، وتفعيل دور مؤسسات القطاع العام والقطاع الخاص، وتوفير وتحديد الإطار القانوني للأنشطة الاقتصادية المختلفة، وترسيخ مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وتطوير نظام الحكم. وأيضاً لم تنفذ أجزاء الخطة كما أريد لها، واصطدمت بعقبات كثيرة، أهمها معيقات الاحتلال واشتراطاته.
بعد ذلك طرحت خطة التنمية الفلسطينية 1999–2003، التي جاءت امتداداً للخطة السابقة وتطويراً لها، حيث تمت إضافة أهم المقترحات والتصورات المقدمة من الجهات الأخرى لها، فقد احتوت على العديد من البرامج والمشاريع الأساسية بشكل مفصل وخاصة للقطاعات الاقتصادية، أهمها: التمويل، والتوزيع القطاعي للمشاريع، وفرضيات الخطة، ومراقبة ومتابعة التنفيذ.
وتضمنت الخطة الدعوة لتطبيق ما نصت عليه الاتفاقيات مع الجانب الإسرائيلي، والبدء في تشغيل مطار غزة تجاريّاً، وكذلك الميناء، وتخفيض الضغوط والقيود المفروضة على الاقتصاد الفلسطيني، وتعزيز قدرة السلطة على تحقيق فائض في الموازنة الجارية، واستمرار المساعدات الدولية، وقيام القطاع الخاص بلعب دور حيوي وفعال في السنوات الخمس القادمة[5].
الإستراتيجية الفلسطينية للتنمية الاقتصادية المحلية
من أجل تحقيق أهداف وغايات التنمية الاقتصادية المحلية، ولتأسيس إستراتيجية وطنية خاصة بهذا الموضوع، عقدت السلطة الوطنية، بمبادرة من وزارة الحكم المحلي، مؤتمرها الأول للتنمية الاقتصادية المحلية في فلسطين في آذار (مارس) 2017، والمؤتمر الثاني في آذار (مارس) 2018، وقد خرج المؤتمران بتوصيات عامة، وهذه التوصيات ما زالت بحاجة لمزيد من المتابعة، وتوفير الظروف اللازمة لتنفيذها. كما حدد المؤتمران جملة من الأهداف العامة، أبرزها[6]:
- تهيئة البيئة القانونية التي تحفز وتشجع على جلب الاستثمارات المحلية، وتوجيهها بما يخدم إستراتيجية تطوير وتنمية الاقتصاد المحلي في القطاعات المختلفة.
- ترسيخ أسس الشراكة مع القطاع الخاص، وتعزيز التعاون معه في كافة المجالات، وبشكل خاص فيما يتعلق بتطوير الاقتصاد المحلي. وأيضا تحفيز الشراكة بين القطاع الخاص والهيئات المحلية.
- البدء في التفكير في المشاريع الإنتاجية، التي تولد إيرادات، وعدم الاكتفاء بالمشاريع الخدماتية، مع الإقرار بأهميتها.
- العمل على توسيع صلاحيات الهيئات المحلية والارتقاء بها، من كونها مؤسسات تقدم خدمات أولية وأساسية للجمهور، إلى جعلها شريكة وقائدة في عملية التنمية، أي دمجها بشكل كامل في عملية التنمية.
- تطوير نظام إقراضي يهدف إلى إيجاد نوافذ تمويلية خاصة للهيئات المحلية ومشاريع الشراكة مع القطاع الخاص (من خلال وزارة الحكم المحلي وبالتعاون مع سلطة النقد)، وتشجيع البنوك العاملة في فلسطين على منح القروض الخضراء، التي تهتم بالمعايير البيئية.
- تركيز الدعم للريف الفلسطيني، والمناطق الحدودية والتجمعات المهمشة، بما في ذلك دعم مشاريع القطاع الزراعي، ودعم المشاريع الصغيرة، بالتعاون مع الهيئات المحلية.
- تسهيل وتبسيط كافة العمليات الإجرائية التي تحتاجها الهيئات المحلية من مختلف الوزارات، مثل تسجيل وترخيص المشاريع التنموية المختلفة، وإعطاء البلديات والهيئات المحلية الأخرى دوراً أكبر في عملية الترخيص.
- إيجاد صيغ مقبولة للتشبيك والتعاون بين القرى والبلدات القريبة بعضها من بعض، وتمكينها من تنفيذ مشاريع تنموية مشتركة تستند لما يتوفر في تلك القرى من موارد وميزات مختلفة.
- تأسيس صندوق خاص يمكن تسميته “صندوق التنمية الاقتصادية المحلية”، مهمته تخصيص الموارد المالية واستقطابها، وتجنيد الأموال، بما يخدم أهداف وغايات عمليات التنمية الاقتصادية المحلية.
- وفيما يتعلق بتوفير الموارد، هنالك العديد من الموارد غير المستثمرة على المستوى المحلي، إما بسبب عدم وجود كوادر بشرية قادرة على استثمارها، أو بسبب شح هذه الموارد وعدم جدواها الاقتصادي، وخاصة على مستوى القرى الصغيرة، الأمر الذي يتطلب إيجاد صيغة مقبولة للتشبيك بين القرى القريبة بعضها من بعض وتمكينها من تنفيذ مشاريع تنموية تستند لما يتوفر في تلك القرى من موارد مختلفة. ولتحقيق ذلك لا بد من دعم أي مبادرة تؤدي إلى أي شكل من أشكال التشبيك أو الدمج الطوعي بين القرى الصغيرة من جهة وتخصيص مصادر مالية خاصة لتمكين هذه القرى من توظيف عدد من الكوادر في مشاريعها المشتركة بحكم أن المجالس القروية لا تزال تعمل على أساس تطوعي من قبل أعضائها، الأمر الذي يعيق في كثير من الأحيان التزام الأطراف بما يتم التوافق عليه.
وقد اعتبر المؤتمرون أنّ أهم نقطة قوة تؤهل فلسطين لإحداث تنمية مستدامة ليس فقط على الصعيد المحلي، بل وعلى المستوى الوطني، هي توفر الكوادر البشرية القادرة على العمل والإنتاج والابتكار، إلى جانب التزام الحكومة للمضي قدماً في تحقيق التنمية المحلية بكافة أشكالها.
وبناء على ما تقدم؛ فإن البرنامج الوطني للتنمية الاقتصادية المحلية سيرتكز بشكل أساسي على كلٍّ من وزارتي الحكم المحلي والاقتصاد الوطني، وبمتابعة وإشراف من قبل مكتب رئيس الوزراء، وبالشراكة الكاملة مع الهيئات المحلية، وبدعم وتنسيق مع القطاع الخاص، ومع المؤسسات ذات الصلة، مثل صندوق تطوير وإقراض البلديات، واتحاد الهيئات المحلية، وصندوق الاستثمار الفلسطيني.
فرص وإمكانات التنمية في الأراضي الفلسطينية
بالنظر إلى البيئة التنموية داخل الأراضي الفلسطينية، يتضح وجود العديد من الإمكانات المتوفرة والفرص الواعدة، بيد أن تلك الفرص والإمكانات تحد منها وتعيقها جملة من الظروف والعراقيل الذاتية والموضوعية.
من أهم نقاط القوة التي يمتلكها الفلسطينيون: القوة البشرية، والوضعية الديمغرافية الجيدة، إذ إن تركيبة الشعب الفلسطيني العمرية يغلب عليها عنصر الشباب (أكثر من 60% في عمر أقل من الثلاثين)، وهذه الميزة لها ارتباط وثيق بالحيوية والفاعلية، وبتقبل التغيير، والقدرة على التعليم واكتساب المهارات، وتشغيل التكنولوجيا الحديثة، إضافة لما تحتويه من مخزون للخبرات المتميزة، ورؤوس الأموال، بالإضافة إلى حيوية المجتمع المدني والقطاع الخاص، مع ما يمثله الموقع الجغرافي من أهمية جيوسياسية، بالإضافة إلى وفرة عناصر الجذب السياحي، إضافة إلى توفرها على ثروات طبيعية (محدودة) ومقومات سياحية فريدة ومتعددة[7] .
وتتمتع مناطق (ج) بأهمية كبيرة بالنسبة لحياة الفلسطينيين، وفرص بناء دولتهم، فهذه الأراضي التي بموجب الاتفاقيات المؤقتة مع الإسرائيليين بقيت تحت الإدارة المدنية والأمنية والإسرائيلية، لحين انتهاء المفاوضات، تمثل احتياطي الأراضي الخاصّ بسكان الضفة الغربية، ونسبتها تزيد على 60 بالمئة من مساحة الضفة الغربية، ومن المفترض بهذه الأراضي أن تُستَخدم من أجل تشييد البنى التحتية مثل منشآت التخلص من النفايات، أو إقامة المناطق الصناعية. إضافة لاحتوائها على الموارد الطبيعية، بما في ذلك الكسّارات والمحاجر ومصادر المياه الجوفية والأراضي الزراعية وأراضي الرعي وتطوير السياحة، ومياه نهر الأردن وموارد البحر الميت. وبالتالي فهذه الأراضي ضرورية جدّاً لغرض تطوير اقتصاد وطني، كما أنّ أعمال البنى التحتية المشتركة للبلدات، مثل الشوارع وشبكات المياه والكهرباء والاتصالات، تُلزم بالانتقال إلى مناطق (ج) والعمل فيها. ما يعني أن فرص إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة بدون المنطقة (ج) شبه معدومة.
وتعتبر منطقة غور الأردن وشمال البحر الميت أكبر وأهم احتياطي للأرض القابل للتطوير في الضفة الغربية. مساحة المنطقة 1،6 مليون دونم، وهي تُشكل 28،8% من مساحة الضفة الغربية. يعيش في المنطقة 65 ألف فلسطيني في 29 بلدة، وهناك حوالي 15 ألف فلسطيني آخر يعيشون في عشرات التجمعات البدوية الصغيرة. كذلك يوجد في المنطقة حوالي 9400 مستوطن في 37 مستوطنة (بما في ذلك سبع بؤر استيطانية)[8] .
وتعتبر سيطرة الفلسطينيين الكاملة على غور الأردن أمراً ضروريّاً وحاسماً لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة؛ ببساطة، لأنّ غور الأردن بموارده وموقعه وإمكانياته الواعدة هو ضمان الاستقلالية الاقتصادية للدولة الفلسطينية في المستقبل.
وبسبب مناخ غور الأردن شبه الاستوائي، وخصوبة تربته، وقربه من نهر الأردن، وتوفر خزانات المياه الجوفية العذبة التي تختزنها أراضيه؛ صار يشكل سلة الغذاء الفلسطينية على مدار السنة، الأمر الذي شجع على نمو الصناعات الزراعية والغذائية وزيادة الصادرات وجذب الاستثمارات. ولو سلمت هذه المنطقة الحيوية من الاحتلال لتحولت إلى مركز جذب لأصحاب المشاريع والاستثمارات، وأمكن لها تخفيف ازدحام السكان في مدن الضفة الغربية، ودعم الاقتصاد الفلسطيني.
علاوة على ذلك، يضم غور الأردن عدداً من المواقع السياحية، الدينية والأثرية والطبيعية، وأهمها البحر الميت الذي تحتوي طينته على مواد علاجية، فضلاً عن احتوائه على ثروات معدنية مهمة، مثل الفوسفات والبوتاس والأملاح وغيرها، ولهذه الأسباب يقدم البحر الميت ووادي الأردن فرصاً واعدة في تنويع الاقتصاد وتقويته، سواء في مجال الصناعات السياحية، أو الصناعات الزراعية، وبالتالي فإنه يمثل العمود الفقري الاقتصادي للدولة الفلسطينية المستقبلية.
ويقدر خبراء موارد البحر الميت للجانب الفلسطيني فقط، بأنها تزيد على مليار دولار سنويّاً من المعادن الثمينة، وأشاروا إلى أن تقارير دولية صادرة عن البنك الدولي أوردت أن إسرائيل والأردن تحصلان معاً على نحو 4.2 مليار دولار من المبيعات السنوية لهذه المنتجات، وهو ما يمثل 1% من الإمدادات العالمية من “البوتاس”، و12% من إنتاج العالم من “البرومين”. وبينت التقارير الدولية، أنه إذا تم الأخذ كمقياس متوسط القيمة المضافة لهذه الصناعات للاقتصادين الأردني والإسرائيلي، فسيكون بمقدور الاقتصاد الفلسطيني أن يضيف ما قيمته 962 مليون دولار من القيمة المضافة سنويّاً، وما يوازي تقريباً حجم قطاع الصناعات التحويلية الفلسطيني بأكمله[9].
كما تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن صناعة السياحة الفلسطينية يمكن أن تولد 290 مليون دولار من العائدات سنويّاً و2900 فرصة عمل[10] .وتُقدر الخسائر السنوية للاقتصاد الفلسطيني نتيجة عدم استغلاله لموارد البحر الميت بنحو 1.1 مليار دولار أي ما يعادل 13.6% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يعني أنه في حال تمكن الفلسطينيون من الوصول إلى الثروات المعدنية، ومصادر الطاقة، وأقاموا مشاريعهم الاستثمارية الضخمة، فإنهم سيتمكنون من إحداث تنمية اقتصادية مستدامة[11].
التنمية الاقتصادية المحلية.. معيقات وتحديات
تواجه عملية التنمية في فلسطين تحديات كثيرة، وتحيطها عقبات جدية، منها ما هو خارجي ومنها ما هو ذاتي. وغالباً ما يتم التذرع بهذه المعيقات لتبرير فشل أو تأخر عملية التنمية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وقد برهنت التجارب التنموية لدول العالم المختلفة على أن عوامل النجاح في تحقيق أهداف التنمية، لا تتوقف على الثروات والموارد والجغرافيا وعدد السكان، وإنما تعتمد بالأساس على سلامة الرؤية التنموية، وسلامة التخطيط وحسن التنفيذ، وصلاح الحكم وحسن الإدارة التنموية ونزاهتها[12] .
المعيقات الخارجية
يأتي الاحتلال الإسرائيلي وممارساته التعسفية، وقوانينه واشتراطاته في مقدمة المعيقات الخارجية، بل إنه يعد أهم عامل يعيق التنمية في فلسطين.
وتخضع الضفة الغربية للاحتلال الإسرائيلي، وقد أقرت اتفاقية أوسلو انسحاب إسرائيل من المناطق المصنفة (أ+ب) التي تشكل نحو 40% من أراضي الضفة، ما يعني أن بقية الأراضي (المصنفة ج) تشكل نحو 60% من الضفة، وهذه تخضع بشكل مباشر للسيطرة الأمنية والإدارية الإسرائيلية. وفي هذه المناطق لا تستطيع السلطة إقامة أية مشاريع تنموية إلا بموافقات من سلطات الاحتلال، وهي غالباً لا توافق. ومن المعلوم أن أهم الثروات الطبيعية والمائية والفرص التنموية موجودة في مناطق (ج)، ومساحتها قرابة 3.3 مليون دونم، فقد حافظت فيها إسرائيل على سيطرة شبه تامة، تشمل الصلاحيات الأمنية والصلاحيات المدنية المتعلقة بملكية الأراضي واستخداماتها، ومن ضمنها تخصيص الأراضي والتخطيط والبناء والبنى التحتية. وتتحمل السلطة الفلسطينية المسؤولية عن توفير الخدمات التربوية والصحية للسكان الفلسطينيين في منطقة (ج)، إلا أنّ البناء وصيانة البنى التحتية اللازمة لغرض توفير هذه الخدمات ظلّا تحت السيطرة الإسرائيلية[13].
كما تسيطر إسرائيل على المعابر الدولية مع كل من الأردن ومصر، الأمر الذي يمكن الإسرائيليين من التحكم الكامل بالاقتصاد الفلسطيني وإحباط تطوير المشاريع والقوانين وقطع الصلات مع العالم الخارجي.
وتفرض إسرائيل تقييدات شديدة على التوطين والبناء والتطوير الفلسطيني في المنطقة (ج)، وتتجاهل كليّاً احتياجات السكان الفلسطينيين. وتفرض عليهم العيش في ظروف سكنية غير مناسبة، من دون إمكانية تشييد البيوت وفق القانون وتطوير بلداتهم، مع تهديدات دائمة بهدم بيوتهم وإخلائهم واقتلاع مصادر أرزاقهم[14].
وقد أكد القائم بأعمال محافظة أريحا والأغوار الشمالية، أحمد الأسعد، أن سلطات الاحتلال تهدم بيوت المواطنين، بهدف تفريغ الأغوار من أصحابها الشرعيين وتغيير طابعها الديموغرافي لمصلحة المستوطنين. وأضاف أن الاحتلال يمارس سياسة الأرض المحروقة في الأغوار وسحب البساط تدريجيّاً من تحت أقدام الفلسطينيين، بهدف الاستحواذ عليها، فبدأ إجراءاته بمضايقة المواطنين من خلال قطع مصادر الحياة الأساسية عنهم من ماء وكهرباء وصحة وتعليم، ومنع تنفيذ أية مشاريع لتطوير البنية التحتية أو الخدماتية أو توسيع المخططات الهيكلية لاستيعاب التزايد السكاني، ما حول حياتهم إلى أشبه بالجحيم. وبين أن وتيرة هذه السياسات التهجيرية زادت خلال الأعوام الأخيرة بشكل كبير ومتسارع، في خطوات استباقية من قبل حكومة الاحتلال لاستثمار الوقت، وفرض وقائع جديدة على الأرض[15] .
وعلى مدى سنوات الاحتلال، تسببت إسرائيل، وخلقت، بممارساتها الممنهجة، أزمة اقتصادية كبيرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، كان الهدف منها تعطيل كل فرصة تؤدي إلى قيام اقتصاد وطني، بل ووضع المعيقات التي تكرس التبعية للاقتصاد الإسرائيلي. وإضافة للمعيقات الناتجة عن التشوهات التي أحدثها الاحتلال الإسرائيلي، مثل مصادرة الأراضي، ومصادرة المياه، ومنع وتقييد استخراج الموارد الطبيعية، وربط العمالة الفلسطينية بالاقتصاد الإسرائيلي، ومنع تطوير مناطق (ج)، وتعطيل فرص الاستثمارات الأجنبية، بل وحتى المساعدات الدولية؛ تفرض السلطات الإسرائيلية قيوداً بالغة الشدة على إنشاء مشاريع جديدة، وترفض إعطاء الترخيص لعدد من المشاريع الصناعية المقترحة، التي تهدف من ورائها إلى منع إقامة صناعات من الممكن أن تنافس المنتجات الإسرائيلية المماثلة. وقد عطلت إسرائيل بقدر ما تستطيع كافة المشاريع الفلسطينية الهامة، أو أخرتها، كما جرى في مشروع ميناء غزة ومشروع مطار غزة الدولي، وقد زادت حدة الممارسات الإسرائيلية باستخدام وسائل حربية لتدمير المنشآت والمشاريع الفلسطينية، لعل منها ما حصل للمطار ولشركة كهرباء غزة التي دمرت بالكامل.
ومنذ منتصف عام 2002، شرعت إسرائيل بإقامة جدار فاصل في أراضي الضفة الغربية، وبناء عليه تمت مصادرة مساحات شاسعة من الأرض، وهي من الأراضي الزراعية الخصبة، التي تحتوي على خزانات المياه الجوفية، حيث تواصل إسرائيل نهبها للموارد المائية من خلال الإجراءات والسياسات المتنوعة التي تتبعها لتحويلها إلى داخل المستوطنات الإسرائيلية، حيث تقوم بتحويل 85% من موارد المياه الجوفية الفلسطينية إلى إسرائيل.
وقد أسفرت هذه السياسات إزاء الأراضي والمياه، عن تفكيك الوحدة الجغرافية للأراضي الفلسطينية، على أساس أن الوجود المكثف للمستوطنات الإسرائيلية جعل المدن الفلسطينية عبارة عن جزر معزولة عن بعضها، وتلتف حولها الطرق الجديدة التي تربط بين المستوطنات الإسرائيلية، كذلك الضعف الذي حاق بالقطاع الزراعي، إذ إن مصادرة الأراضي وتقليص حجم المياه عملا على رفع أسعار الأرض والمياه على نحو زاد في تكاليف الزراعة، الأمر الذي أدى إلى تقليص إمكانية الإنتاج الصناعي[16].
ومن بين المعيقات الأخرى: سياسات الدول المانحة؛ حيث صُممت برامج المعونات التي يقدمها المانحون في ميدان التنمية في الأرض الفلسطينية المحتلة لتثبيت الصيغة القائمة (المختلة)، وتثبيت الاحتلال. وقد تبين أن تلك المعونات كانت تُلحِق الضرر بالفلسطينيين من خلال إسهامها في إرساء دعائم الاحتلال، والتماهي مع قوانينه واشتراطاته[17].
فمثلاً، حين يقترح المانحون مشروعاً ما، يضعون في الاعتبار الأول اشتراطات إسرائيل، وبدلاً من الضغط على إسرائيل لحملها على الموافقة على مشاريع مهمة مفيدة للفلسطينيين، لم تكن الدول المانحة تمارس أي ضغط، بل تستجيب لكل ما يمليه الاحتلال من شروط مجحفة.
المعيقات الذاتية
فيما يتعلق بالمعيقات الذاتية، أي المرتبطة بالوضع الداخلي الفلسطيني، فإنّ من أهم معوقات ومشاكل التنمية الاقتصادية في فلسطين خاصة في المراحل الأولى لتأسيس السلطة، حداثة تجربة السلطة الوطنية، وتسلمها زمام الأمور في الكثير من المجالات دون تجربة سابقة أو استعداد كافٍ، والتداخل بين صلاحيات السلطة الوطنية الفلسطينية في المناطق (ب، ج) وما يفرزه ذلك من أولويات مختلفة ومتعارضة، خاصة في ظل انعدام السيطرة الأمنية عليها. وأيضاً غياب أو ضعف عمل المؤسسات، وضعف محاولاتها لإقامة قواعد عمل سليمة لها ترتكز على الأسس الموضوعية في العمل التنموي، فعدم الفصل بين السلطات الثلاث عمليّاً، وهيمنة السلطة التنفيذية على زمام الأمور، أديا لغياب وصف وظيفي واضح للمؤسسات الفلسطينية الرسمية، وكذلك عدم وجود من يقوم بمساءلتها، وبالتالي صعوبة إحداث التنمية الشاملة والناجحة[18] .
إلا أن بعضاً من جوانب الخلل التي شابت عملية البناء هذه، تجلت بالأساس في التضخم الوظيفي، وغياب هيكلية واضحة للمؤسسات، والازدواجية والتناقض والتداخل في صلاحياتها.
على الصعيد الاجتماعي، فإنّ شبكات الحماية العائلية تعززت خلال سنوات الاحتلال، وبالذات في مراحل الانتفاضة، وازداد دور الآليات العشائرية في تقديم المساعدات والدعم للأسر المحتاجة، وإذا كان ينظر لهذا الدور بإيجابية، إلا أنه يعد تراجعاً في دور مؤسسات السلطة المركزية ومؤشراً على ضعفها، وعلى ترسيخ مفهوم القبيلة على حساب مفهوم الدولة والمواطنة، وهذا بحد ذاته معيق لأي عملية تنمية.
ومن المعيقات الأخرى ضعف مشاركة المرأة في التنمية، بسبب الموروث الثقافي السلبي الذي يجعل المجتمع يمارس أشكالاً متعددة من التمييز الجندري، ويقف ضد مشاركة المرأة بشكل حقيقي وكامل في المنظمات المجتمعية والشؤون العامة. وفي فلسطين، تشير المعطيات إلى ضعف مشاركة المرأة في العملية التنموية الرسمية، سواء في سوق العمل الرسمية أو في صنع القرار في المؤسسات العامة. ورغم تشكيل وزارة خاصة بالمرأة، إلا أن ذلك لم يترافق مع التزام شامل وكامل بسياسات وطنية عامة تساهم بالنهوض بحالة النساء. ومن نافلة القول أنه لن تكون هناك تنمية حقيقية بدون مشاركة المرأة[19].
ثمة معيقات أخرى ينبغي التنبه لها؛ منها مثلاً المعيقات والمحددات الناتجة عن الظروف الطبيعية، وشُـــح الموارد الطبيعية، أو صعوبة استخراجها، وعدم وجود ربط جغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، إضافة إلى المعيقات الديموغرافية الناجمة عن زيادة عدد السكان، والتوزيع غير السليم بين الريف والمدينة، حيث يسكن حوالي ثلث السكان في الريف الفلسطيني، الذي يعتبر أشد المناطق فقراً، وأيضاً، المشاكل الناتجة عن منافسة الاقتصاديات المجاورة، وكذلك المعيقات الناجمة عن غياب أو ضعف التخطيط المركزي والتفكير الإستراتيجي.
خلاصة
منذ تأسيسها، وضعت السلطة الوطنية الفلسطينية العديد من الخطط والبرامج التنموية والاقتصادية والاجتماعية في الأراضي الفلسطينية. وحاولت تلك الخطط التركيز على الاعتماد على الذات، والتحرر من تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي، وسعت لتوفير بنية تحتية ملائمة لعملية التنمية الاقتصادية، ومعالجة التشوهات الهيكلية الموجودة في البنية الاقتصادية الفلسطينية، ومعالجة مشاكل الفقر والبطالة، وتوفير الخدمات الاجتماعية الملائمة كالتعليم والصحة والإسكان. وكانت تلك الخطط تصطدم دوماً بالبيئة المحيطة للتنمية التي فرضتها إجراءات وممارسات الاحتلال الإسرائيلي.
وبالإضافة لمعيقات الاحتلال الإسرائيلي، التي تمثلت بشكل رئيسي في إجراءات الحصار والإغلاقات، والتحكم في المعابر والحدود، إلى جانب البنود المجحفة في بروتوكول باريس الاقتصادي، الذي يمثل الإطار المرجعي والمنظم للاقتصاد والعلاقات الاقتصادية للسلطة، خاصة مع إسرائيل، والذي لم يوفر صلاحيات كافية لصياغة السياسات الاقتصادية والتنموية الملائمة والداعمة لبناء مؤسسات الدولة، بل رسخ الآليات التي تكفل استمرار حالة التبعية مع الاحتلال الإسرائيلي. وثمة معيقات داخلية، تتعلق بالتخطيط والتنفيذ، وبعض المحددات الاجتماعية. لذلك فإن مستقبل التنمية في فلسطين مرهون بزوال الاحتلال الإسرائيلي، لكي يستطيع الفلسطينيون التحكم بمواردهم، والتي بدونها سيظلون رهينة المساعدات الخارجية والعجز الدائم في الموازنة وبالتالي بطء عملية التنمية[20].
للتحميل اضغط هناالهوامش
[1] التنمية الاقتصادية المحلية، دليل عمل، دراسة مشتركة بين البنك الدولي، ومجموعة بيرتلزمان ستيفتانج، أيلول 2004. ص 9.
[2] عماد سعيد لبّد، التنمية الاقتصادية في فلسطين، مجلة رؤية، العدد (11)، آب، 2001.
[3] التنمية الاقتصادية في فلسطين، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية وفا http://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=3963
[4] عماد لبّد، التنمية الاقتصادية، مصدر سبق ذكره.
[5] عماد لبّد، التنمية الاقتصادية، مصدر سبق ذكره.
[6] سامر سلامة- الوكيل المساعد في وزارة العمل، التنمية الاقتصادية المحلية الفرص والتحديات، صحيفة القدس، 19-3-2017.
[7] أحمد الأغا، التنمية في فلسطين، مصدر سبق ذكره.
[8] نهب واستغلال: سياسة إسرائيل في منطقة غور الأردن، بتسيلم – مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، أيار 2011. http://q9r.me/wi8d
[9] بيان صادر عن وزارة الاقتصاد الوطني الفلسطينية، 15-2-2015، جريدة فلسطين أون لاين. http://q9r.me/c80h
[10] البنك الدولي: الاقتصاد الفلسطيني يخسر 3,4 بليون دولار بسبب القيود الإسرائيلية على المنطقة ج، مركز الزيتونة للدراسات، http://www.alzaytouna.net/permalink/55502.html
[11] معتصم عوض، تحديات العملية التنموية في الأرض الفلسطينية المحتلة، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية – وفا، 2-10-2012. http://www.wafa.ps/arabic/index.php?action=detail&id=139581
[12] أحمد الأغا، التنمية في فلسطين، مصدر سبق ذكره.
[13] ما هي مناطق C، بتسيلم – مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة. 9-10-2013. http://www.btselem.org/arabic/area_c/what_is_area_c
[14] ما هي مناطق C، مصدر سبق ذكره.
[15] محمد بلاص، الاحتلال يواصل حملات التهجير القسري في الأغوار الشمالية، الأيام، 11-9-2017.
[16] أحمد الأغا، التنمية في فلسطين.
[17] جيرمي وايلدمان، النيوليبرالية معونة للاستعمار الاستيطاني في الأرض الفلسطينية بعد أوسلو، ترجمة ياسين السيد، مجلة قضايا إسرائيلية، عدد 73، ربيع 2019.
[18] عاطف علاونة، إستراتيجية التنمية في فلسطين، صامد الاقتصادي، العدد 94 كانون الأول 1993.
[19] أحمد الأغا، التنمية في فلسطين.
[20] رائد محمد حلس، معوقات التنمية في فلسطين، جريدة الاقتصادي، 20-1-2016.