مراجعة: أحمد عز الدين أسعد
(باحث في الدراسات العربية والإسرائيلية)
مروان درويش وأندرو ريغبي. الاحتجاج الشعبي في فلسطين: المستقبل المجهول للمقاومة غير المسلحة. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية. 2018. 285 صفحة.
أهمية الكتاب والكاتبين
تنبع أهمية الكتاب من محاولته تتبع مسار المقاومة الشعبية في فلسطين خلال خمسة وعشرين عامًا؛ منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي وبداية التسعينيات، عندما كان هناك أمل بالمقاومة الشعبية وثقة بها وسيلةً لإنهاء الاحتلال، ويدرسها حتى مرحلة خبو ذلك الأمل وفشل مواجهة المقاومة الشعبية التي بدأت في سنة 2002 لوقف بناء الجدار العنصري. كما تنبع أهمية الكتاب من اهتمامات المؤلفيْن، كونهما على المستوى الفردي والمهني قد أبديا اهتماماً بالدور الذي يمكن أن تؤديه مقاومة المدنيين غير المسلحة في إنهاء الاحتلال منذ ثمانينيات القرن الماضي، إضافة إلى أهمية المنهجية الإثنوغرافية التي اتبعها الباحثان كمصدر أولي للدراسة، فقد أجرى الباحثان أكثر من 100 مقابلة مع ناشطي المقاومة الشعبية، لرصد الظاهرة من خلال الفواعل النشطة فيها.
أما الكاتبان، فهما متخصصان في دراسات السلام والمقاومة اللاعنفية. وجاء هذا الكتاب ضمن المسار المهني لعملهما، وهما: مروان درويش، محاضر رئيسي في دراسات السلام في مركز الثقة والسلام والعلاقات الاجتماعية في جامعة كوفنتري في المملكة المتحدة. وتتمحور اهتماماته البحثية حول عمليات السلام وتحولات الصراعات والمقاومة اللاعنفية، كما يمتلك خبرة طويلة بتقديم دورات تدريبية عن تحولات الصراعات والمقاومة اللاعنفية. وأندرو ريغبي، أستاذ فخري في دراسات السلام في جامعة كوفنتري في المملكة المتحدة، وهو من قدامى المهتمين والمشتركين في دعم المقاومة الفلسطينية غير المسلحة ضد الاحتلال، وقد ألف 16 كتاباً تتناول أبعاداً متعددة للعمل اللاعنفي بهدف التغيير.
مبنى الكتاب
يتكون الكتاب من مقدمة وثمانية فصول وخاتمة. بيّن الكاتبان في المقدمة أن الدراسة اعتمدت على إطار نظري متعدد لباحثين في مجال المقاومة المدنية ومنهم (أبريل كارتر، وإريكا تشنويت، وماريا ستيفان، وشارون نبستاد، وجاك سيميلين، وفيرنز رينغس، ومازن قمصية). وبيّنا أن الكتاب هو محاولة لفهم عوامل الصعود السريع للمقاومة الشعبية الفلسطينية، إلى جانب محاولة دراسة أسباب فشل الحركة في تسجيل أي تقدم ملموس في اتجاه تحقيق هدفها الأساسي في إنهاء الاحتلال. وقد عرف الباحثان المقاومة المدنية/ الشعبية بأنها “أسلوب لتحدي خصوم لا يتورعون عن استخدام العنف، ويقوم بها مدنيون يلجأون إلى الاستخدام الثابت لأساليب هي بطبيعتها في الغالب غير عنيفة وغير مسلحة (وغير عسكرية) في سبيل تحقيق أهداف تلقى توافقاً واسعاً داخل المجتمع”، ص7. وقد بين الباحثان من خلال الدراسات السابقة، وخصوصاً لدى فيرنر رينغس، أشكال المقاومة غير العنيفة وغير المسلحة بعدد من الأنواع وهي: المقاومة الرمزية، والمقاومة الجدلية، والمقاومة الهجومية، والمقاومة الدفاعية، والمقاومة البناءة.
تتبّع الفصل الأول الموسوم “المقاومة الفلسطينية لقيام دولة إسرائيل” مسار المقاومة الفلسطينية غير الرسمية ضد مصادرة أراضي الفلسطينيين وتهديد مصادر رزقهم الذي طرحته الهجرة اليهودية قبل تأسيس إسرائيل. ويعرض الاحتجاج الفلسطيني ضد الهجرة اليهودية إبان الحكم العثماني، وبدء الفلسطينيين بمقاومة دفاعية مثل ترؤس مفتي القدس آنذاك لجنة تفحص طلبات نقل ملكية الأراضي بدقة لسنة 1897، وبذلك أعاقت شراء اليهود الأراضي عدة سنوات، وفي سنة 1910، تصاعدت المقاومة الفلسطينية الهجومية التي أخذت شكل مقاطعة العرب البضائع اليهودية والأعمال التجارية انتقاماً من المقاطعة الصهيونية لاستخدام العمالة العربية وللمتاجر العربية. ويعرض الفصل المقاومة الفلسطينية ضد الاستعمار البريطاني بعد صدور وعد بلفور، ويتوقف عند تأسيس الجمعية الإسلامية المسيحية (MCA) عام 1917 كمحاولة لتنظيم صفوف الفلسطينيين من أجل مواجهة المنظمات اليهودية. كما نشرت الصحف الفلسطينية الصادرة في المدن الرئيسية: يافا، وحيفا، والقدس، إعلانات من أجل تنظيم يوم احتجاج في الذكرى الأولى لوعد بلفور. كما أجمل الفصل سمات الاحتجاج الشعبي والمقاومة المسلحة في فترة الحكم البريطاني بما يلي: الاشتباكات العفوية بين الفلاحين والمستعمرين اليهود، وغياب القيادة الوطنية، والالتزام بالتفاوض، وانتشار المقاومة الرمزية والجدلية مثل (مقالات صحفية، وخطب، ومؤتمر حيفا 1920، وإضرابات)، وتحول المقاومة الهجومية إلى عنف، وتردد النخبة السياسية الفلسطينية في سياساتها وقراراتها، والتأقلم وفق الاحتلال. وكان الدين محركاً رئيسيّاً للمقاومة.
أما بخصوص إضراب عام 1936، فيجادل الكاتبان بأن الامتناع عن دفع الضرائب والمقاطعة الاقتصادية لم يؤثرا كثيراً على الحكومة البريطانية والقطاع الاقتصادي الصهيوني، وكان تأثير الإضراب محدوداً، كون الاضراب لم يشمل المسؤولين الحكوميين. وكانت القيادة السياسية الفلسطينية لا تزال تؤمن بالتفاوض مع الحكومة البريطانية. كما فسرا فشل ثورة 1936 بعدد من الأمور وهي: عدم تعميم الإضراب ليشمل الموظفين العرب في سلك الحكومة البريطانية، وأن التأثير الاقتصادي للإضراب كان محدوداً وجزئيّاً، كون السكان اليهود استمروا في العمل والإنتاج، وسعي القيادة إلى نهج المفاوضات، وغياب الحاضنة العربية والإسلامية التي ترزح تحت الاستعمار، وضعف القيادة الفلسطينية وانقسامها. لكن الكاتبين غيبا فكرة مهمة، وهي أن هناك نضجاً في المبنى الاقتصادي الصهيوني المدعوم من الاستعمار البريطاني، كما جادل غسان كنفاني في دراسته المعمقة لثورة 1936[1].
تطرق هذا الفصل أيضاً إلى المقاومة في فترة التقسيم 1939-1949. وأشار الفصل إلى النصر الصغير الذي حققته قرية بتير من خلال المقاومة المدنية في تجنيب القرية التهجير والحرب، وذلك بفضل القيادة القوية لحسن مصطفى، والتضامن الاجتماعي، والالتزام المشترك بالقضية، والخلل في وسائل القوى العسكرية، وغياب حركة مضادة كبيرة، والتواصل مع الضباط الأردنيين وأطراف دولية، كما فسر الكاتبان ذلك النصر الصغير.
ويدرس الفصل الثاني المعنون “الفلسطينيون في إسرائيل: من المقاومة الهادئة إلى الاحتجاج المسموع والحراك السياسي”، الطرق التي لجأ إليها الفلسطينيون الذين بقوا في أرضهم، وواجهوا الحكم العسكري الإسرائيلي 1948-1966. وقد استخدم الباحثان مفهوم آصف بيات “اللاحركات الاجتماعية” لتفسير تلك المقاومة الفلسطينية في المناطق المستعمرة عام 1948، وقد خاض الفلسطينيون في ظل الحكم العسكري الإسرائيلي المقاومة من خلال الزراعة، مثل التسلل إلى أراضيهم وزراعتها دون إذن من الحكم العسكري، وزراعة الأشجار مثل اللوز والزيتون بدل الخضراوات الموسمية، وتشكيل فرق الحصادين لاستعادة المحاصيل في الأراضي المصادرة، وعمل الفلسطينيون على تنمية وسائل الاكتفاء الذاتي مثل تربية الدجاج والأرانب سرّاً في حدائقهم.
كما كانت الثقافة مدخلاً للمقاومة والتعبير عن الهوية الفلسطينية وتعزيزها لدى الفلسطينيين في إسرائيل، وذلك من خلال الأدب والمهرجانات والغناء والزجل التي كانت تتصدى للحكم العسكري وتنتقده، ويمكن القول إن الفلسطينيين خاضوا المقاومة الهادئة وانتقلوا إلى الاحتجاج المسموع، ومن الاحتجاج إلى التعبئة السياسية من أجل الحقوق المدنية والقومية. وتمثل ذلك في تشكيل الأطر الفلسطينية مثل: اللجنة القُطرية للدفاع عن الأراضي العربية 1975، والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة 1975، واللجنة القُطرية لرؤساء السلطات المحلية في إسرائيل 1975، واتحاد طلبة المدارس الثانوية العرب، واتحاد الطلبة العرب في الجامعات الإسرائيلية. وبرزت الأحزاب الإسلامية وتأسست لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل.
في حين يتتبع الفصل الثالث المعنون “من النكبة إلى جدار الفصل العنصري 1948-2002” أنماط المقاومة المتعددة التي خاضها الفلسطينيون خارج إسرائيل في سعيهم للتعامل مع نكبة 1948، ووضعهم الجديد كلاجئين. ويتطرق الفصل إلى فترة تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وتمجيد وزهو الكفاح المسلح بصفته الطريق الوحيد لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وهذا الجو ساهم في انطلاق الانتفاضة الأولى، وفشل عملية السلام أدت إلى الانتفاضة الثانية.
بعد هزيمة 1967، صعدت حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، التي مجّدَت الكفاح المسلح، وكان هذا عنصراً مشتركاً بين جميع حركات التحرر التي تؤمن بالتغيير من خلال العنف الثوري. وقد خاض الفلسطينيون في الأراضي المحتلة قبل الانتفاضة الأولى النضال من خلال تشكيل الاتحادات الطلابية والمهنية والعمال والجمعيات النسائية، والجمعيات الثقافية والاجتماعية ومنظمات جماهيرية، خاضت أشكالاً متعددة من المقاومة البَنّاءة عبر تقديم خدمات مثل التعليم والصحة والدعم الزراعي ومبادرات اجتماعية وثقافية.
وأسست في عام 1973 الجبهة الوطنية الفلسطينية، لتنسيق النشاطات الوطنية في الأراضي الفلسطينية المحتلة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وردّ الإسرائيليون بتقييد عملها. وفي عام 1978، تأسست لجنة التوجيه الوطني، التي تشكلت من رؤساء البلديات الوطنيين ومن الاتحادات والجمعيات، لكن تم إيقاف اللجنة وحظرها من قبل وزير “الدفاع” الإسرائيلي أريئيل شارون. كما كانت إستراتيجية الانتفاضة الشعبية عام 1987 تسعى إلى تجديد روح المقاومة لدى الفلسطينيين وزيادة تكلفة الاحتلال، والتواصل مع المتعاطفين الإسرائيليين وقادة الرأي المؤثرين لصالح الفلسطينيين. وقدم الباحثان صورة عن الانتفاضة الثانية بطبيعتها العسكرية التي لم يشارك فيها المدنيون الفلسطينيون، واقتصر دورهم على الدعم فقط. وكان بناء الجدار بين العامين 2002-2003 قد أثر في عودة المقاومة الشعبية غير المسلحة من خلال الفلسطينيين الذين تأثروا مباشرة بالجدار.
في الفصل الرابع الموسوم “تجديد المقاومة الشعبية 2002-2003″، يجادل الباحثان بأن بناء الجدار العنصري قد أشعل موجة من المواجهة الشعبية امتدت إلى المناطق المتضررة مباشرة من التوسع الاستيطاني. وقامت المجموعات المحلية من خلال تحدي مسار الجدار والتهديد المتصل به لأراضي الفلسطينيين وأملاكهم، بجملة من النشاطات مثل: المقاومة الهجومية المتمثلة في التظاهرات الاحتجاجية، والمواجهات، والمقاومة الدفاعية، والمقاومة الجدلية، مثل التوثيق والمناصرة، واستخدام النظام القانوني الإسرائيلي، والمقاومة البناءة.
وعرض هذا الفصل عدداً كبيراً من الأمثلة على المقاومة الهجومية، مثل التظاهرات والاحتجاجات ورشق الحجارة، والنزهة النسائية في نبع النبي صالح، ونموذج المعصرة، وإغلاق شارع 443، واحتلال متجر إسرائيلي، ومقاطعة البضائع الإسرائيلية، ومرافقة الأطفال إلى المدارس، ولجان حراسة القرى. واستنتج الباحثان أن المقاومة الشعبية لم تتحول إلى حركة مقاومة شعبية جماهيرية، وغالبية الاحتجاجات كانت تظهر كردات فعل على تهديدات فورية لأسلوب عيش الناس وأرزاقهم جراء بناء الجدار وتعديات المستعمرات المتواصلة على الأراضي الفلسطينية.
بينما يرى الباحثان في الفصل الخامس المعنون “التحديات التي تواجهها المقاومة الشعبية الفلسطينية” في نموذج المقاومة الشعبية التي بدأ الفلسطينيون بخوضها في أعقاب الانتفاضة الثانية، بصفتها رمزاً للتحدي وطريقة لتعزيز صمود الناشطين وعدم الاستسلام لإرادة الاحتلال. بينما تكمن مواطن ضعف حركة المقاومة الشعبية المعاصرة في عدد من العوامل أهمها: الانقسام السياسي بين “فتح” و”حماس”، وعدم توافر إستراتيجية متماسكة، وغياب التنسيق بين شبكات الناشطين المتنافسة فيما بينها، وانعدام الثقة في قيادات المقاومة الشعبية، وتدني نسبة مشاركة أهل القرى التي تجري فيها المقاومة الشعبية، وغياب الإنجازات الملموسة المكتسبة كنتائج للنضال عبر المقاومة الشعبية. أما متطلبات حركات المقاومة غير المسلحة المستدامة في مواجهة الاحتلال، فتتمثل في: شعور عام قوي بالتضامن لدى السكان الخاضعين للاحتلال، والصمود المنظم، والدعم الخارجي من دول وفاعلين غير حكوميين. وقد درس الباحثان وشرحا الانتفاضة الأولى ومرحلة ما بعد الانتفاضة الثانية من خلال إسقاطهما على متطلبات حركة المقاومة غير المسلحة المستدامة. كما بيّنا إيجابيات وسلبيات كل انتفاضة شعبية، سواء الأولى أو الثانية.
ويستعرض الفصل السادس “دور ناشطي السلام والتضامن الدولي الإسرائيليين” الأصوات التي تنادي إلى السلام من مرحلة ما قبل الدولة، مثل مارتن بوبر وآخرين، ومرحلة ما بعد قيام الدولة الصهيونية، مثل رسالة الضباط، وحركة السلام الآن، وشبكة نساء من أجل السلام، ونساء بالأسود. ويجادل الكتاب أن مرحلة ما بعد الانتفاضة الأولى تميزت ببلوغ العلاقات بين جماعات السلام والتضامن الإسرائيلية والفلسطينيين مرحلة الذروة، لكن الانتفاضة الثانية امتازت بتدهور تلك العلاقات. ووضّحَ الكتاب نماذِج المشاركة والالتزام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وذلك في المقاومة الهجومية والمشتركة وعامل الاحتجاج المباشر مثل مجموعة (لا سلطويين ضد الجدار، ومجموعة النساء العاصيات)، والتضامن من خلال المرافقة. كما بين أن للناشطين دوراً في مخاطبة المجتمع الإسرائيلي، والاستفادة من النظام القانوني الإسرائيلي بالاعتماد على الشركاء الإسرائيليين. أما التحديات التي يواجهها ناشطو السلام والتضامن الإسرائيليون، فهي عدم اكتراث الجمهور الإسرائيلي بالاحتلال وفقدان الأمل.
وجاء الفصل السابع بعنوان “الإغاثة والمناصرة والصمود: دور هيئات الإغاثة الإنسانية الدولية”. ويجادل هذا الفصل بأن المساعدات الدولية التي تأتي إلى فلسطين عبر المانحين هي مساعدات وإغاثات مسيسة، وتسهم في إدامة الاحتلال؛ فهم يساعدون في الخدمات الإنسانية للفلسطينيين، التي يجب أن تكون من مسؤولية إسرائيل، وتلك المؤسسات والدعم يجب أن تتخلى عن الحيادية، والإقرار بأن الاحتلال هو السبب الرئيسي في معاناة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وأن تتحول الإغاثة لدعم الصمود، وإعطاء حقوق الإنسان ومبدأ العالمية الأولوية والعمل مع كلا الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، وإنهاء النزاع على أساس مبادئ المساواة والحقوق العادلة.
ويبيّن الفصل الثامن “حلقات في السلسلة- وسائل ضغط دولية؟” أن المقاومة الشعبية الفلسطينية بعد الانتفاضة الثانية لم تؤثر في الجمهور الإسرائيلي. لكنها غذّت اتساع حركة متنامية من التضامن الدولي لمصلحة إنهاء الاحتلال والتجاوزات المرافقة له لحقوق الفلسطينيين الإنسانية وحرياتهم المدنية، وقد يُعزى اتساع هذه الحركة إلى مجموعة عوامل أدت إلى ارتفاع الوعي على المستوى الدولي بوحشية الاحتلال الإسرائيلي ومعاناة الفلسطينيين جراء الاضطهاد والاحتلال.
وقد شاركت حركة عابرة للحركات تتخطى الحدود الوطنية، حملة من أجل حقوق الفلسطينيين الإنسانية ولإنهاء الاحتلال، ومنها أشكال الانخراط في السياحة السياسية، والتدخل المباشر لتحدي إسرائيل، مثل أسطول الحرية (أسطول بحري كان يهدف لتقديم مساعدات إنسانية لقطاع غزة في أيار/ مايو 2010)، وأهلاً في فلسطين القافلة الطائرة (مبادرة جرت في 8 تموز/ يوليو 2011 كانت تهدف إلى لفت الانتباه للقيود التي تفرضها إسرائيل على المتضامنين الدوليين القادمين عبر مطار بن غوريون)، واحتجاج وتضامن على الأرض، والمرافقة الموسمية والمرابطة طويلة الأمد. وقد قارن الباحثان بين حركة مناهضة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا والحركة الواسعة الداعية إلى سلام حقيقي بين إسرائيل وفلسطين، تقوم على إنهاء الاحتلال وهذه المقاومة. وتكشف المقارنة نظرة محبطة ومتشائمة، كون هناك اختلافات مهمة بين المقاطعة في حال جنوب أفريقيا وحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات المعروفة باختصار (BDS)، ولا يعتقد الكاتبان أنّها ستكون قادرة على أداء دور مماثل في إنهاء الاحتلال.
في الخاتمة، خلص الباحثان إلى مقولة “أي تحليل عقلاني لديناميات النزاع الفلسطيني– الإسرائيلي سيقود حتماً إلى رؤية متشائمة للمستقبل على المديين القصير والمتوسط”، ص227. وانتقل الكتاب لتلخيص حالة قطاع غزة من حصار وحروب متتالية، ووضع اجتماعي سيئ متمثل في البطالة وتحول قطاع غزة إلى سجن جماعي. ويقترح الكاتبان ما يسميانه “سيناريو الأمل”، الذي يصبح فيه الثمن المالي والإنساني والدبلوماسي الذي تتحمله إسرائيل في مواجهة الاحتلال عبئاً متزايداً، ويصبح عنف الاحتلال ظاهراً بشكل واسع للمهتمين حول العالم؛ بالتالي، يجد القادة السياسيون في الدول التي تجعل الاحتلال ممكناً صعوبة متزايدة في الإحجام عن ممارسة الضغط على إسرائيل. ولتحقيق هذه الشروط أو هذا السيناريو، لا بد وفق اقتراح الكاتبين من إنهاء الانقسام السياسي بين “فتح” و”حماس”، واتفاق القوى الفلسطينية على تعبئة مواردها التنظيمية لتعبئة الناس من أجل المقاومة الشعبية، وتطوير وسائل مقاومة شعبية تفرض تكاليف كبيرة اقتصادية ومالية واجتماعية ودبلوماسية على إسرائيل، والاستفادة من الناشطين الإسرائيليين في حملة المقاطعة ومجموعات السلام اليهودية في العالم من أجل تعبئة المشاركة الشعبية الدولية لمقاطعة إسرائيل، وتمويل حركة المقاومة الشعبية لتوفير رعاية ومساعدات للضحايا المباشرين من النضال في المقاومة الشعبية، وطمأنة الجمهور الإسرائيلي بأن هدف المقاومة الشعبية هو إنهاء الاحتلال.
ملاحظات نقدية
وقع الباحثان أحيانًا في فخ التعميمات وتبني الخطاب الإسرائيلي عن المجتمع الفلسطيني، وهناك عدد من الأمثلة، فمثلًا، يقول الكاتبان في وصف المجتمع الفلسطيني، ص20: “كان مجتمعاً يحكمه توارث العداوة والخصومة، واستمرت العداوات والنزاعات التي تمزق المجتمع عدة أجيال. ولم يكن هذا المجتمع تربة مهيأة لنمو حركة مقاومة وطنية”. هذا النقد يتحدث عن النزاعات العائلية بين عائلتي النشاشيبي والحسيني، وهذا تعميم مفرط جدّاً في رسم صورة للمجتمع الفلسطيني آنذاك، كون هناك نمو لحركة المقاومة الفلسطينية في رفض وعد بلفور ومن قبله رفض الهجرة اليهودية قبل فرض الاستعمار البريطاني على فلسطين رغم الانقسامات الاجتماعية- السياسية. وفي مكان آخر أيضاً، يقع الباحثان في فخ الرواية الصهيونية؛ فعند الحديث عن المرحلة الأولى من ثورة 1936، ورد ص31: “ومع حلول تموز/ يوليو، كانت منطقة السامرة كلها في حالة ثورة، ومركزها نابلس”. وإن تبني مصطلح “السامرة” هو تأكيد للرواية الصهيونية والتسمية الإسرائيلية لمناطق في الضفة الغربية. وكما هو معلوم، فإن الحركة الصهيونية لم تهدف فقط إلى تحقيق تطهير عرقي أو مكاني فقط في فلسطين، بل تطهير اسمي كما استنتج عبد الرحيم الشيخ[2]. وينزلق الباحثان إلى مثلب آخر، وهو وسم العمليات الاستشهادية بالوسم الصهيوني “عمليات انتحارية” في أكثر من موقع في الكتاب.
كما أن هناك مثلباً كبيراً في الكتاب، وهو إهمال المصادر العربية، فلم يعد الكتاب إلا لثلاثة مصادر عربية، وهذا أوقع الكتاب في عدم الاطلاع على دراسات هامة حللت الهبّات الفلسطينية المتعددة وحركات المقاومة الشعبية الفلسطينية، مثل الدراسة العميقة لغسان كنفاني عن ثورة 1936 المنشورة في العدد السادس من مجلة شؤون فلسطينية، ودراسات أخرى عديدة منشورة في مجلة الدراسات الفلسطينية ومجلة الفكر الديمقراطي عن الانتفاضة الشعبية 1987.
وبحث الكاتبان الهبات المدنية أو الشعبية في التاريخ الفلسطيني المعاصر منذ أواخر الثمانينيات، وركزا على الانتفاضة الشعبية أو الانتفاضة الأولى؛ لكنهما لم يتطرقا إلى تجارب فلسطينية رائدة في المقاومة الشعبية والعصيان المدني، كالتي تجلت في مدينة بيت ساحور إبان الانتفاضة الأولى، وتلك التجربة كانت تجربة مبكرة في العصيان المدني والتمرد الشعبي، لكن الكتاب لم يأتِ على ذكرها.
وينطلق الكتاب في معالجة ظاهرة المقاومة الشعبية على أنها مقاومة ضد احتلال إسرائيلي للمناطق المحتلة 1967، ولا يتطرق إلى حقيقة إسرائيل كدولة استعمار استيطاني هدفها تحقيق إزالة ومحو الأصلانيين وفق تنظيرات مدرسة الاستعمار الاستيطاني، والسؤال هنا ما هو جدوى المقاومة الشعبية في مواجهة دولة استعمار استيطاني؟ أليس من المنطق أن تكون المقاومة الفلسطينية بنيوية تهدف إلى تفكيك المنظومة الاستعمارية؟
أخيراً؛ الكتاب رصين وجدير بالقراءة والحوار والنقاش والنقد، كونه يؤرخ لحركة المقاومة الشعبية الفلسطينية المعاصرة، ويبيّن أشكالها ونجاحاتها وإخفاقاتها، ويبين نجاحاتها الدولية وانتكاساتها المحلية. وهذا الكتاب يغني المكتبة الفلسطينية والعربية بمساهمة نقدية وميدانية لتجربة المقاومة الشعبية الفلسطينية.
[1] غسان كنفاني. “ثورة 1936-1939 في فلسطين: خلفيات، ونتائج وتفاصيل”. شؤون فلسطينية. عدد 6. كانون الثاني/ يناير 1972.
[2] عبد الرحيم الشيخ. “متلازمة كولومبوس وتنقيب فلسطين: جينيالوجيا سياسات التسمية الإسرائيلية للمشهد الفلسطيني”. الدراسات الفلسطينية. عدد 83. 2010.
للتحميل اضغط هنا