مراجعة: د. محمود الفطافطة[*]
قد تكون الفترة الواقعة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى من أهم المراحل، إن لم تكن أهمها على الإطلاق، في تاريخ الصهيونية. فخلال هذه المرحلة وجدت الفكرة الصهيونية تجسيداً ملموساً لها في تجربة إقامة “الوطن القومي اليهودي” على أرض فلسطين، في ظل ظروف تكاد تكون مثالية بالنسبة إلى الحركة الصهيونية.
وانطلاقاً من تماثل المصالح بين بريطانيا والصهيونية، الذي وجد تعبيراً عنه في وعد بلفور، وتعهد بريطانيا بموجبه بتسهيل إقامة “وطن قومي لليهود” في فلسطين، مُنح الصهيونيون تسهيلات لم تكن تخطر في بالهم لتطبيق نظريتهم وتحقيق مطامعهم. وبانتهاء هذه الحرب في العام 1918، وما أسفرت عنه من انتصار الحلفاء، وهزيمة الإمبراطورية العثمانية، فقد تم رسم خريطة جديدة للعالم، وظهور دول عدة جديدة، بعضها حصل على استقلاله وبعضها أُخضع لسيطرة الاستعمار، بشكلٍ أو بآخر.
إن زوال الحكم العثماني عن فلسطين واحتلال بريطانيا لها، وما أحدثته في هذا الجزء العربي من سياسات وتحولات مثل سياق مضمون كتاب (الاجتياح البريطاني لفلسطين) للمؤرخ المقدسي د. أحمد العلمي، والذي يسرد فيه المواجهة الحربية بين الأتراك والبريطانيين على أرض فلسطين؛ لتكون الغلبة، في نهاية المطاف، للإنكليز الذين عملوا على تهيئة كافة الظروف لبلورة المشروع الصهيوني وإرساء دعامته على الأرض الفلسطينية.
احتضان استعماري!
هذه العملية التي احتضنها الاحتلال البريطاني استغرقت نحو ست سنوات، بدأت في الثاني من تشرين الثاني 1917، عندما أصدر وزير الخارجية البريطاني تصريحه المعروف باسم “تصريح بلفور” أو “وعد بلفور”. أما نهايتها فكانت يوم 29 أيلول (سبتمبر) 1923، عندما سرى بشكلٍ رسمي ونهائي، مفعول صك الانتداب البريطاني على فلسطين.
لقد كانت دول الحلفاء الرئيسة، لا سيما بريطانيا، تحاول خلال الحرب العالمية الأولى استمالة العرب إلى جانبها، لحملهم على مشاركتها القتال ضد الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تسيطر، آنذاك، على معظم بلدان المشرق العربي. وقد تم لها ذلك في الاتفاق الذي تضمنته مراسلات حسين ــ مكماهون، القاضية بأن يُعلن عرب المشرق الثورة ضد الأتراك لقاء مساعدة بريطانيا لهم أثناء الحرب، والاعتراف باستقلالهم عند انتهائها. إلا أن بريطانيا نفسها تعهدت، في الوقت ذاته، لحليفتها فرنسا، بالعمل على تقسيم بلدان المشرق العربي إلى مناطق نفوذ فيما بينهما، وتم توقيع اتفاقية سايكس ــ بيكو في هذا الشأن. وفي الوقت ذاته أصدرت بريطانيا وعد بلفور.
إن مصالح بريطانيا في هذا الاتفاق كانت تتعدى مضمون الحرب العالمية الأولى، ففيما عدا رغبة بريطانيا في إخراج تركيا من الحرب كانت لها أطماع أخرى. فالمراسلات بين الشريف حسين ومكماهون أعطت الأخير وعوداً زائفة كانت بريطانيا تخفي وراءها أطماعاً أخرى. وأثناء مداولاتها مع الشريف حسين راحت تتفق مع فرنسا على اقتسام مناطق الحكم التركي العربية. إذ أن تقسيم العرب إلى دويلات سوف يمنعها من أن تنهض وتنشئ قوة عسكرية جديدة في المنطقة.
ولهذا، فمراسلات بريطانيا مع الحسين تبدو مهزلة، إذ أن كل ما أرادته بريطانيا هو مساعدة العرب في الحرب لدحر تركيا دون أن تنظر إلى مصالح وآمال العرب في الوحدة والاستقلال. فبموجب معاهدة سايكس ــ بيكو قسمت بريطانيا وفرنسا الأراضي العربية فيما بينها ووضعت أبناء الشريف حسين ملوكاً وأمراء عليها، وبذلك قضي على استقلال العرب ووحدتهم.
اجتياح وأهداف
وفي الوقت الذي كانت فيه بريطانيا تضع خططها الهادفة إلى تأمين حكمها لفلسطين كانت قواتها تسيطر، عملياً، على البلد بأسره، مع معظم المناطق المجاورة له. ففي أواخر سنة 1917، احتلت القوات البريطانية، منطلقة من قواعدها في سيناء، الجزء الجنوبي من فلسطين (حتى الخط الواصل بين القدس ويافا). وفي 11 كانون الأول من السنة ذاتها، أي بعد مرور 40 يوماً على إصدار وعد بلفور، دخل الجنرال “اللنبي”، قائد تلك القوات إلى القدس. وانطلاقاً من مواقعها هذه، قامت هذه القوات في 21 شباط من السنة التالية، 1918، باحتلال أريحا. ومع نهاية الشهر التالي توغلت في شرق نهر الأردن. ثم توقف القتال على هذه الجبهة نحو ستة شهور.
وابتداءً من 18 أيلول (سبتمبر) 1918، قامت القوات البريطانية المتمركزة في جنوب فلسطين، بالاشتراك مع القوات العربية المتمركزة شرق نهر الأردن، بشن هجوم شامل نحو الشمال على القوات التركية، أسفر عن احتلال حيفا وعكا في الثالث والعشرين من الشهر ذاته. وواصلت هذه القوات تقدمها نحو الشمال، فاحتلت دمشق في الأول من شهر تشرين الأول، ثم طرابلس وحمص وحماة وحلب خلال الفترة الممتدة من الثالث عشر حتى السادس والعشرين منه. وفي الحادي والثلاثين من الشهر ذاته، أعلنت الهدنة مع تركيا، بعد استسلامها.
وبمجرد اكتساح بريطانيا للقوات التركية في فلسطين تم تدمير الجيش التركي، ومن ثم راحت تعمل على إيفاد اليهود للاستيطان في فلسطين، كما جاء في صك الانتداب. والحقيقة أن الأتراك لم ينظروا بجدية لتحركات الشريف حسين، وعندما شعروا بها أرادوا التفاهم مع العرب ضد بريطانيا إلا أن الوقت كان متأخراً. وهكذا اكتسحت بريطانيا فلسطين في الوقت الذي كان المجندون العرب في الجيوش التركية يهربون منها ما أدى إلى تهلهل الأداء العسكري التركي.
ويتطرق المؤلف إلى أبرز الأسباب لاجتياح بريطانيا لفلسطين، حيث يؤكد أن السبب الهام هو زرع جسم غريب في وسط الأمة العربية حتى لا تستطيع النهوض مهما حاولت. وهذا تدمير للكيان العربي، فضلاً عن تشكيل قلعة تطل على قناة السويس حتى تضمن بريطانيا طرق تجارتها. وإلى جانب ذلك، فهناك بعد آخر يتثمل في وجود مشكلة في بريطانيا وأوروبا متمثلة في الوجود اليهودي من حيث عرقية اليهود، وأنهم غرباء في تلك البلاد، وصفة الفوقية اليهودية لم تكن تعجب سكان هذه المناطق. وبتفشي الشعور القومي بين الأوروبيين بدأت أجهزة مخابرات هذه الدول تفكر بتكوين شعور قومي يهودي أيضاً، الغرض منه تجميع فلول اليهود في هذه المناطق للتوجه إلى فلسطين أو أي مكان آخر بعيد عن أوروبا وبريطانيا.
وهذا ما حصل فعلاً، إذ أخذت الدول الغربية تُغذي الحركة الصهيونية وتهيء لها سبل تحقيق آمالها. وكان أن وجدت بريطانيا حلاً لمشكلة أوروبا فأصدرت وعد بلفور. وعند احتلال بريطانيا لفلسطين أخذت تشجع الهجرة اليهودية إلى هذه البلاد المحتلة.
ومن هنا، التقت مخططات بريطانيا وأوروبا مع ما رفعه اليهود من شعارات دون اعتبار لسكان فلسطين أو للعرب ككل أو للمسلمين. وهكذا، كان الاجتياح البريطاني هو التمهيد لأن تتخلص أوروبا وبريطانيا من مشكلة قديمة في بلادها.
التأسيس والتملص
خلال الفترة الأولى للاحتلال البريطاني لفلسطين كانت الإدارة بيد العسكريين حتى عام 1920، عندما جاءت الإدارة المدنية البريطانية لتحكم البلاد. وبالرغم من أن الوجود البريطاني هو احتلال أجنبي يستهدف دحر الأتراك وتقسيم العرب وتحويل فلسطين إلى كيان صهيوني، فقد قامت الإدارة البريطانية بإجراء إصلاحات في البلاد في جميع المجالات، خاصة في مجالي التعليم والصحة.
فرض البريطانيون، عند دخولهم فلسطين، الحكم العسكري على المناطق التي احتلوها. ومع انتهاء القتال، باحتلال سوريا الكبرى، قُسمت المنطقة بأسرها إلى ثلاث إدارات عسكرية عُرفت كل منها باسم “إدارة مناطق العدو المحتلة”. وقد ضمت الإدارة الجنوبية كامل فلسطين تقريباً، وأُخضعت لضابط بريطاني مقره القدس. أما منطقة الإدارة الشمالية، التي ضمت الأجزاء الساحلية من لبنان وسوريا، فقد سُلمت لضابط فرنسي مقره بيروت، بينما وضعت الإدارة الشرقية، التي ضمت المناطق الباقية من سوريا وشرق الأردن، تحت إمرة ضابط عربي مقره دمشق.
غير أن البريطانيين كانوا، على الرغم من هذا التقسيم، يحاولون آنذاك التملص، قدر الإمكان، مما تعهدوا به لفرنسا في اتفاقية سايكس ــ بيكو ويسعون لضمان انفرادهم بالسيطرة على أكبر مساحة ممكنة في المشرق العربي. ولذلك، كان رئيس وزراء بريطانيا وقتذاك، لويد جورج، قد وطد النفس على استغلال الصهيونيين ومطالبتهم بإقامة “وطن قومي يهودي” في البلد، لضمان انفراد بلاده بالسيطرة على فلسطين أيضاً، بعد منع أية إدارة دولية فيها بموجب اتفاقية سايكس ــ بيكو، وكان هذا الهدف واحداً من الأسباب المهمة التي حملت الحكومة البريطانية على إصدار وعد بلفور في حينه.
باشر البريطانيون والصهيونيون تنفيذ خططهم تلك قبل انتهاء الحرب. ففي 14 شباط 1918، تمكن الصهيونيون، بدعمٍ وتوجيه من البريطانيين، من الحصول على رسالة من الخارجية الفرنسية تتعهد فرنسا بموجبها بتأييد إقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين. ثم حصلوا، بتاريخ 19 أيار من السنة ذاتها، على رسالة مماثلة من السفير الإيطالي في لندن. وفي الوقت ذاته، وبعد مرور بضعة أسابيع فقط على احتلال بريطانيا جنوب فلسطين، قررت وزارة الخارجية البريطانية إرسال بعثة صهيونية إلى فلسطين، لاستطلاع أوضاعها وإعداد خطط مستوحاة من وعد بلفور، وقد اختير الزعيم الصهيوني، حاييم وايزمان، رئيساً لها.
ولم تكتف السلطات البريطانية بتشكيل هذه البعثة، وضم ممثلين إليها عن اليهود في الدول المتحالفة معها، وذلك في محاولة لإضفاء طابع دولي على مشاريعها في فلسطين، بل عملت، أيضاً، على الإعلاء من شأن تلك البعثة. فقد نظمت عشية سفرها، زيارة قام بها وايزمان إلى ملك بريطانيا آنذاك، جورج الخامس، تعبيراً عن مدى الأهمية التي تعلقها السلطات البريطانية على البعثة وعملها.
اتفاقيات تشرعن الاستعمار!
جاء تشكيل البعثة الصهيونية ضمن استعدادات بريطانيا لمؤتمر الصلح الذي عقد في باريس في العام 1919، وفي محاولة منها لتشجيع الصهيونيين واستغلال نفوذهم لحمل المؤتمر على إصدار قرارات متجانسة مع مصالحها. ولكن قبل الشروع في ذلك، كان لا بد من محاولة التوفيق فيما بين الصهيونيين والعرب، لمنع تقديم طلبات متعارضة، من قبل أي من الفريقين، إلى المؤتمر، ثم تقوية الجبهة المعارضة للنفوذ الفرنسي في المشرق، وبالتالي تضييق هذا النفوذ قدر الإمكان.
وبوصول البعثة الصهيونية إلى فلسطين اجتمع وايزمان مع عدد من الوجهاء العرب في البلد، إلا أن القضايا السياسية لم تُبحث بينهم . واستؤنفت هذه المحاولات بعد بضعة شهور، وذلك عندما قام وايزمان، بناءً على نصيحة الجنرال اللنبي، بمقابلة الأمير فيصل في الرابع من حزيران 1918، في مقر قيادته إلى الشمال من العقبة، وأجاب على أسئلته المتعلقة بالبرنامج الصهيوني، بينما أعرب فيصل عن رغبته في أن “يرى العرب واليهود ينسقون فيما بينهم خلال مؤتمر الصلح المقبل”. غير أن الرجلين لم يتوصلا إلى أي اتفاق.
وبتجدد محاولات الصهيونيين، بمساعدة البريطانيين، للاجتماع بفيصل والتوصل إلى اتفاق معه، بعد وصوله إلى باريس في أواخر سنة 1918، لحضور مؤتمر الصلح، وهو يعاني وضعاً سياسياً حرجاً، فقد أثمرت الجهود أخيراً، عن توقيع اتفاق مع وايزمان في الثالث من كانون الثاني 1919. وصاغ ذلك الاتفاق، باللغة الإنكليزية، مرافق فيصل ومستشاره البريطاني لورنس، “صاحب الشخصية الفذة ــ على حد تعبير وايزمان ــ الذي ينبغي أن نشكره على الخدمات التي قدمها لقضيتنا”.
تنص اتفاقية فيصل ــ وايزمان، فيما تنص عليه، (بعد المقدمة التي تشيد بالقرابة العرقية والصلات القديمة القائمة بين العرب واليهود) على قيام دولتين في المشرق العربي، إحداهما فلسطين، وثانيتهما الدولة العربية المجاورة لها. كما نصت الاتفاقية على أن “تُتخذ” عند إنشاء دستور إدارة فلسطين، جميع الإجراءات الكفيلة بتقديم أوفى الضمانات لتنفيذ وعد الحكومة البريطانية (أي وعد بلفور). ويجب أن تُتخذ جميع الإجراءات لتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين على مدى أوسع، والحث عليها بأقصى ما يمكن من السرعة، تسهيلاً لاستقرار المهاجرين في الأرض عن طريق الإسكان الواسع والزراعة الكثيفة.
إن الهدف الأساسي من وراء هذه الاتفاقية، هو إقناع مؤتمر الصلح بأن العرب لا يعارضون المخطط الصهيوني في فلسطين. وفي هذا الخصوص، وبعد هذه الاتفاقية تقدم الصهاينة بطلباتهم إلى المؤتمر، في مذكرة شارك هربرت صموئيل في وضعها، بموافقة وزارة الخارجية البريطانية، وركزت على ضرورة الاعتراف بما سموه العلاقة التاريخية بين اليهود وفلسطين، وإعلان البلد وطناً قومياً لليهود، ومنح بريطانيا حق الانتداب عليه. كما أرفق الصهيونيون مع مذكرتهم خريطة تحدد المنطقة التي يطالبون بأن يُقام عليها الوطن القومي اليهودي. وطوال فترة الانتداب فتح البريطانيون الموانئ الفلسطينية أمام الهجرة اليهودية. وعندما أصبح لليهود كثافة سكانية وعسكرية واقتصادية كافية تركوا البلاد.
خلاصة القول: نجحت بريطانيا باجتياح فلسطين واحتلالها في وقتٍ كانت فيه أقوى أطراف الصراع في العالم، معتبرة أن من حقها حكم فلسطين باعتبارها منطقة نفوذ لها، أسوة بمناطق النفوذ الأخرى التي خُصصت لها ولحلفائها، بعد انتصارهم في الحرب العالمية الأولى. ولذلك، لم يكونوا على استعداد للاستجابة لطلبات الفلسطينيين بشأن منحهم الاستقلال والحكم الذاتي؛ بينما لم يدرك الفلسطينيون، من ناحيتهم، أن موازين القوى العالمية آنذاك لم تكن تسمح لهم ولا تساعدهم على تحقيق أي من تلك الطلبات. ومن هذا المنطلق، أصر البريطانيون على تنفيذ سياسة وعد بلفور. وكان أقصى ما وصلت إليه بريطانيا في هذا الصدد، إزاء المعارضة العربية، موافقتها على تقليص مفهوم الامتيازات التي مُنحت لليهود، بموجب ذلك الوعد.
من هنا، استطاعت بريطانيا القضاء على الحكم التركي في فلسطين، في وقتٍ كانت فيه الزعامة الفلسطينية يسيطر عليها التنافس والتناحر والضعف، أما الصهاينة، فقد كانوا أكثر الأطراف واقعية، فاتبعوا سياسة خذ وطالب، ونفذوها بمرونةٍ فائقة، فكانوا يسارعون إلى الانحناء، وأحياناً الاختباء، عندما تهب العاصفة، ثم يعودون، بعد مرورها، إلى مواصلة عملهم في بناء الوطن القومي تدريجياً لبنة بعد أُخرى.
[*] باحث فلسطيني، مقيم في رام الله.