عبد الغني سلامة[*]

البدايات

تدين الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني بالإسلام، ولم يعرف التاريخ الفلسطيني أي صراع مذهبي أو طائفي بين السكان، حيث عاش المسيحيون وبقية الطوائف الأخرى إلى جانب إخوتهم المسلمين بأمن وسلام طوال العصور الماضية، بروح من التعاون والمشاركة، دون أي شحن أو استقطاب طائفي.

وقد فهم الفلسطينيون الإسلام كدين سماوي بمعزل عن الطائفية والأيديولوجية والعمل الحزبي، وأخذوا منه الروح السمحة والسمات الحضارية المنفتحة، وعشقوا أبعاده الإيمانية وقسماته الروحية؛ فاحتل مكانةً كبيرة في قلوبهم ووجدانهم، وشكّل مكوناً رئيساً من مكونات مجتمعهم الثقافية، ومنظومته القيمية، وكان للمشايخ ورجال الدين مكانة متقدمة في السلم الاجتماعي.

أما الإسلام السياسي بالمعنى الحزبي فقد تأخر ظهوره في فلسطين إلى ما بعد النكبة؛ ففي فترة الانتداب البريطاني لم يظهر أي تعارض بين ما هو ديني وما هو وطني، ولم يطرح أحد تساؤلاً عن دور الدين في المعركة الوطنية، وذلك بسبب خصوصية القضية الفلسطينية، وبحكم طبيعة الصراع القائم في فلسطين، وحيث لعبت الشخصيات الإسلامية والمسيحية دوراً بارزاً ومؤثراً في النضال الوطني، وتعاملوا مع  القضايا الوطنية في خطابهم وحراكهم السياسي بدون أيديولوجية دينية، ثم إن الخطاب الفلسطيني العربي الوحدوي بطبيعته خطاب إسلامي، لا يفرق بين الديني والوطني. وكل من عمل في فلسطين آنذاك من أحزاب سياسية أو قوى شعبية (إسلاميين وغيرهم) كان يعمل ضمن مشروع مركزي وحيد، هو إنقاذها من الاحتلال الصهيوني، دون الالتفات إلى المسائل الأخرى بغض النظر عن مدى أهميتها.

وقد لعب القادة الوطنيون أمثال الحاج أمين الحسيني، وعز الدين القسام، وعبد القادر الحسيني وغيرهم دوراً مهماً في إعاقة تطور أي خطاب سياسي إسلامي في فلسطين، لأنهم تمكّنوا من الجمع بين المعاني الروحية والوطنية في آن معاً، فدمجوا في شخصياتهم بين القيادتين السياسية والدينية، وجعلوا من الخطاب الديني (غير الحزبي أو الأيديولوجي) عنصراً مكملاً وداعماً للخطاب الوطني، دون أن يطغى عليه، ووظفوا العاطفة الدينية للتعبئة الوطنية والنفير العام دون أن يستغلوا الدين لأغراض السلطة والسياسة. فكانوا في معتقدهم مسلمين وفي خطابهم ومنهجهم أقرب ما يكونون علمانيين براغماتيين. وبسبب حضورهم وكاريزميتهم ذات التأثير الطاغي لم تبرز قيادات إسلامية أخرى، وربما كانت هذه أسباب تأخر ظهور الإخوان المسلمين على مسرح الفعل السياسي في فلسطين، بالرغم من العلاقة الطيبة التي كانت تجمعهم مع قيادات الإخوان في مصر.

 قوى الإسلام السياسي في فلسطين

  1. جماعة الإخوان المسلمين

تعتبر جماعة الإخوان كبرى الجماعات الإسلامية، وأقدمها وأهمها وأكثرها شعبية وانتشاراً، تأسست على يد الشيخ حسن البنا في الإسماعيلية سنة 1928، وبعد عقد من تأسيسها بدأت تنتشر في مختلف الدول العربية والإسلامية، ومن ضمنها فلسطين. ولكنها لدخول الساحة الفلسطينية احتاجت أن تنتظر حتى منتصف الأربعينات من القرن الماضي، لتعلن رسمياً عن تشكيل أول فرع للجماعة في فلسطين، ولم تتحول الجماعة إلى قوة شعبية إلا بعد ذلك بسنوات عديدة.

ولكن قبل تأسيس أول فرع مستقل للأخوان في فلسطين عام 1943، كان مؤسس الجماعة الشيخ البنا قد أرسل وفداً إخوانياً في العام 1935 لنشر أفكاره، وتهيئة الأرضية لافتتاح فروع للجماعة في المدن الفلسطينية؛ وكانت الجماعة الأم في مصر تتعامل في تلك الحقبة مع أتباعها في فلسطين على أنهم يتبعون القطر المصري.[1]

في العام 1948 وقعت نكبة فلسطين، وهزمت إسرائيل الدول العربية. في هذه الحرب أرسلت جماعة الإخوان فرقاً من المتطوعين للمشاركة في جبهات القتال، وكانت تلك المشاركة موضع جدل، فبين من اعتبرها صفحات جهادية مشرقة في تاريخ الإخوان، وآخرين رأوا أن الجهد الذي بذله الإخوان لا يتناسب مع إمكانياتهم وقدراتهم آنذاك؛ حيث كان أداؤهم متواضعاً. وآخرين اعتبروا أن المشاركة جاءت بهدف إعادة تحسين صورة الإخوان في مصر.

قبل النكبة كان عدد فروع الإخوان في فلسطين قد بلغ خمسة وعشرين فرعاً، وجميعها تتبع القيادة المركزية في مصر.[2] وبعد النكبة انقسم تنظيم الإخوان إلى قسمين: الأول في الضفة الغربية، وكان يتبع قيادة التنظيم في الأردن، وظل محافظا على هذه التبعية حتى تأسيس حركة حماس. الثاني في غزة، وكان يتبع قيادة الجماعة في مصر. وبذلك اتخذ مسار الجماعة في فلسطين خطين منفصلين، فإذا كان الإخوان في الأردن (وبالتالي في الضفة الغربية) قد عاشوا فترة مشمشية مع النظام، وعملوا بحرية وبصورة علنية؛ فإن إخوانهم في القسم الغزاوي عانوا من ظروف صعبة في ظل قمع السلطات المصرية لهم، فقد تعرض أبناء التنظيم للاعتقال والمطاردة، الأمر الذي أدى إلى تقليص حركتهم والتضييق عليهم، وبالتالي تقليص أعداد المنتمين إليهم، خاصة مع حالة التأييد الشعبي الجارف للزعيم عبد الناصر.

ولأسباب عديدة منها ما له علاقة بطبيعة الجغرافيا السكانية، وطبيعة النظام الحاكم، ونوعية القيادات الإخوانية، ومرجعيتها السياسية والفكرية فقد تطور خطابان مختلفان للإخوان في كل من الضفة وغزة؛ فبينما تميز الخطاب الإخواني في الضفة بالاعتدال والانفتاح، كان في غزة أكثر تشدداً وانغلاقاً.

ولكن الإخوان المسلمين عموماً مرواً بعد النكبة ولغاية منتصف السبعينات بمرحلة من الكمون والانعزال الجماهيري والغياب شبه التام عن مسرح الأحداث السياسية والعسكرية في فلسطين، باستثناء مشاركة متواضعة لمجموعات من الإخوان نفذوا سلسلة من العمليات الفدائية المباشرة ضد إسرائيل ما بين عامي 1968 ~ 1970؛ عبر أربع مجموعات عسكرية عُرفت بقواعد الشيوخ، كانت تعمل تحت اسم فتح دون أن تتدخل فتح فعليا في أنشطتها، في حين تحفّظ الإخوان في القطاع على تلك المشاركة بسبب عدم جدواها حسب رأيهم.[3] وخلاف تلك التجربة القصيرة اقتصر نشاط الجماعة ضمن المجال الدعوي والإرشادي، وعلى نطاق ضيق، ضمن برنامج عرف باسم الإعداد والدعوة. أي الإعداد وانتظاراً للحظة التي تسمح لهم بمزاولة نشاطهم على صعد مختلفة، وبوتيرة أكبر.

وقد أطلق بعض الباحثين على المرحلة التي تلت النكسة وحتى منتصف السبعينات، اسم “مرحلة المساجد”؛ حيث ركز الإخوان فيها على السيطرة على المساجد، واحتواء الشبان وتأطيرهم وتعبئتهم فكريا. فيما أسموا المرحلة اللاحقة التي استمرت حتى انطلاقة حماس بِ”مرحلة المؤسسات”؛ حيث ركزوا فيها على بناء الجمعيات والأندية الرياضية ولجان الزكاة التي وفرت لهم إمكانيات الالتقاء بقطاعات وشرائح مختلفة من المجتمع، ومن خلالها انطلقوا في أنشطتهم الدعوية والتنظيمية.[4]

في خريف العام 1970 توفي عبد الناصر، وجاء من بعده أنور السادات، الذي اتخذ سياسة محو آثار الناصرية (والشيوعية)، فأطلق سراح الإخوان من السجون، وسمح لهم بمزاولة نشاطاتهم بحرية، بل إن الأجهزة الأمنية قدمت لهم التشجيع والتسهيلات اللازمة. وهذا الأمر انعكس إيجابيا على الإخوان في غزة (التي صارت تحت الاحتلال الإسرائيلي). وفي هذه المرحلة استطاع أن ينشط جيل جديد من قادة الإخوان الذين بسبب انقطاع صلاتهم مع التنظيم الأم في مصر تحولوا إلى قيادات ميدانية مناطقية قادرة على العمل والمبادرة لوحدها. وقد باشر هؤلاء عملهم بصورة قانونية تحت مسمى جمعيات عثمانية حصلت على ترخيصها من الحاكم العسكري الإسرائيلي، ومن أهم تلك الجمعيات المجمع الإسلامي، والجمعية الإسلامية.

وقد تأسس المجمع الإسلامي عام 1973، ولكنه ظل يعمل دون غطاء قانوني، إلى أن حصل على ترخيص بمساعدة من الشيخ الخازندار عام 1977. وعن قصة تأسيس المجمع الاسلامي، كتب الصحافي زكي شهاب في كتابه “داخل حماس”: “منحت السلطات العسكرية الإسرائيلية الشيخ ياسين رخصة المجمع في غضون ساعتين ثم عادت وسحبتها منه، وبعد تدخل مسؤول المحاكم الشرعية الشيخ الخازندار، تم منحه الرخصة من جديد؛ ذلك لأن المؤسسة الدينية الرسمية التي كانت تدعم وتؤيد اتفاقية كامب ديفيد، فضلت استقطاب الحركة الإسلامية لصالحها، فقام الشيخ الخازندار باقناع الإدارة المدنية الإسرائيلية بالموافقة على نشاطات المجمع”. ويضيف شهاب: “إن السماح بالمجمع الإسلامي كان دليلاً على سياسة غير معلنة لإسرائيل من أجل التأثير علي نشاطات فتح في غزة، وقد سُئل إسحق رابين (الذي كان رئيساً للوزراء ووزيراً للدفاع) في الكنيست الإسرائيلية عن دعمه لحماس من خلال تمويله للمجمع الإسلامي، فأجاب إن هذا الدعم تكتيكي من أجل التأثير علي نشاطات منظمة التحرير الفلسطينية. وفي سؤال آخر حول إمكانية أن تعمل حماس ضد إسرائيل أجاب رابين بأن هذا الموضوع يمكن مناقشته لاحقاً”.[5]

بدأ المجمع كمسجد، ثم ألحقت به عيادة طبية ونادٍ رياضي، ورياض أطفال، ولجان زكاة، ومركز نشاط نسائي، وتأهيل فتيات، ولجنة إصلاح، وفرقة أفراح إسلامية .. ويصف الكاتب مهيب النواتي هذه التصنيفات التي اهتم بها المركز بأنها تعكس طبيعة فهم الجماعة للجوانب التي يمكن أن ينطلقوا من خلالها إلى شرائح المجتمع المختلفة، خاصة الفقيرة منها.[6]

بدأ الشيخ أحمد ياسين (الشخصية المركزية في المجمع) بالتحرك في القطاع ناشراً أفكاره تحت غطاء النشاطات الخيرية التي ينظمها المجمع، ثم توجه صوب الضفة الغربية، ونجح في فتح قنوات اتصال مع قيادات الإخوان هناك، إلا أن العلاقة بين إخوان الضفة وإخوان غزة بقيت في حدود المشورة والعلاقات العامة، ولم تصل حد التنسيق والربط التنظيمي حتى تأسيس حركة حماس في نهاية العام 1987.[7]

ومع مرور الوقت، حقق المجمع الإسلامي نجاحات عديدة على صعيد الانتشار والتوسع، والسيطرة على مساجد القطاع، والجامعة الإسلامية، وحققت الجماعة انتشارا جماهيريا ملحوظا، وصارت منافسا قويا لفتح وبقية الفصائل الوطنية واليسارية. ويؤكد الكثير من المحللين أن تلك النجاحات وذلك الانتشار لم يكن ليتم دون مهادنة سلطات الاحتلال، فبينما كان نشاط التنظيمات الأخرى أو الانتماء لأي منها سبباً كافياً لدخول السجن سنوات طويلة، كان الإخوان يمارسون نشاطهم في جو من الأريحية.

وطوال تلك الحقبة تميز الخطاب الإخواني بالتركيز على المجال الاجتماعي (التربوي والأخلاقي)، مع العمل التنظيمي والإعداد لمرحلة الفعل السياسي. لكن  قرار الإخوان في فلسطين ظل مرتهناً بيد الإخوان في مصر والأردن، الأمر الذي أعاق الحركة الإسلامية من إنتاج خطاب وطني، وأخّر من دمج إخوان فلسطين في الحالة الوطنية والنظام السياسي الفلسطيني.

مع بداية الثمانينات، أقام الإخوان جهازاً أمنياً، وآخر عسكرياً، وبدأوا بتخزين أسلحة في القطاع. الباحث مجدي نجم يفسر هذا التحول بأنه جاء نتيجة ضغط جيل الشباب الذي صار يطالب قيادته بالخروج عن الأسلوب التربوي والدعوي والبدء بالجهاد، وخوفاً من تسرب ذلك الجيل من صفوف الإخوان اضطرت قيادتهم للانخراط في العمل السياسي والبدء بتأسيس تنظيم شبه عسكري، وهذا الأمر جعل الجماعة تعيش صراعاً فكرياً داخلياً حول أولوية البرنامج الفكري على برنامج المقاومة.[8] وفي هذه الفترة أخذت علاقة الإخوان بفتح وبقية الفصائل الوطنية تسوء، لدرجة حصول صدامات ومواجهات بينهم، سقط فيها قتلى وجرحى في الجامعات الفلسطينية المختلفة.

الباحث خالد زواوي اعتبر أنَّ سنة 1983 كانت نقطة تحول مفصلية في مسيرة الإخوان في فلسطين؛ إذ عقدت الجماعة مؤتمراً داخلياً لما أسمته “تنظيم بلاد الشام”، أُقِر فيه دعم الإخوان في فلسطين مالياً، والاستعداد للمرحلة المقبلة من الجهاد. ويرى الزواوي أن هذا التحول جاء استجابة للتحدي الذي فرضه انشقاق مجموعة من الإخوان وتأسيس حركة الجهاد الإسلامي، وليس بناء على تطور في الخطاب الفكري والسياسي لجماعة الإخوان في فلسطين تجاه القضية الفلسطينية.[9]

  1. حركة المقاومة الإسلامية حماس

مع نهاية العام 1987، اندلعت انتفاضة شعبية كبرى، انطلقت شرارتها في الثامن من كانون الأول (ديسمبر) من مخيم جباليا، ثم انتشرت كالنار في الهشيم في كافة المدن والمخيمات والقرى الفلسطينية، وأمام هذا الحدث الكبير وجد الإخوان المسلمون أنفسهم أمام سؤال خطير سيحدد مصير الجماعة ومستقبلها: هل نشارك في الانتفاضة، أم ننتظر؟؟ ومن الواضح أن القرار كان بالمشاركة، وهكذا اجتمعت قيادات الإخوان في غزة، واتفقوا على تأسيس حركة المقاومة الإسلامية حماس، والإعلان عن انطلاقتها في 9-12-1987.[10]

يرى كثير من المراقبين أن اندلاع الانتفاضة الشعبية (التي فاجأت الإخوان) هو السبب الرئيسي في الإعلان عن تأسيس حماس، لكنهم يضيفون عوامل أخرى قد لا تقل أهمية، مثل صعود نجم حركة الجهاد الإسلامي، التي باتت تشكل منافسا قويا للإخوان على استقطاب الجماهير. فضلا عن نضوج جيل آخر من شباب الإخوان من الذين أكملوا برنامجاً تربوياً وفكرياً دام سنوات، ظلوا خلاله يسمعون عن مركزية القضية الفلسطينية في الخطاب الإسلامي دون أن يروا ترجمة ذلك على أرض الواقع، واحتكّوا بمختلف التيارات الوطنية في الجامعات، وشاهدوا الانتفاضات الصغيرة التي كانت تحدث بين الحين والآخر في الضفة وغزة، وتوصلوا إلى قناعات مختلفة عن الجيل القديم، جوهرها ضرورة حمل السلاح، ومواجهة الاحتلال، والانخراط في النضال الوطني.

الباحث مجدي نجم اعتبر أن تأسيس حماس جاء ردة فعل مباشرة على اندلاع الانتفاضة، واستجابة لها، دون أن ينفي مشاركتها الفعلية والجادة في فعالياتها. مشيراً إلى أن بيانها الأول الذي صدر في 14-12-1987 لم يرد فيه اسم “حماس”، بل ذُيِّل بتوقيع “حركة المقاومة الإسلامية”، أما تسمية حماس فقد جاءت لاحقاً بعد مداولات بين الداخل والخارج انتهت بإطلاق اسم حماس كاختصار لاسم الحركة. أما ميثاق الحركة فقد ظهر في وقت متأخر (في آب (أغسطس) 1988).[11]

وبهذا التحول حل اسم حماس مكان الإخوان المسلمين، وهذا التغير في الاسم لم يكن شكلياً، فقد أعطت حماس جماعة الإخوان الصدقية والشرعية التي كانت تحتاجها، وجعلتها حركة جماهيرية واسعة الانتشار، ذلك لأن الشعب الفلسطيني لم يعطِ ولاءه لأي تنظيم لم ينخرط فعلياً في المقاومة، معتبراً أن تضحيات أي تنظيم، ومشاركته الفعلية في الكفاح الوطني هي المعيار الحقيقي لاكتسابه الشرعية والشعبية. وبهذه القوة الجماهيرية الجديدة التي اكتسبتها حماس صار بمقدورها منافسة فتح وغيرها من فصائل المقاومة بشكل أقوى من السابق، لا بل التقدم للدخول في النظام السياسي الفلسطيني تمهيداً للسيطرة عليه.

وبالفعل، فقد طالبت حماس الدخول في المجلس الوطني الفلسطيني في أيار من العام 1989، لكنها اشترطت الحصول على 40% من مقاعد المجلس، ومع أنها كانت تدرك أن طلبها غير واقعي، إلا أنها أرادت من خلاله كسر أول الحواجز الأيديولوجية للدخول في منظمة التحرير، وجعل الخلاف بينهما على عدد المقاعد ونسبة المشاركة، أي ليس خلافاً مبدئياً ضمن معادلة صفرية مفادها: إما دخول المنظمة والسيطرة عليها وإقصاء الآخرين كليا، وإما رفضها ومحاربتها سياسياً وعدم الاعتراف بها (كما كان سابقاً ولسنوات طويلة). وقد مثل هذا التوجه بداية التغير البراغماتي في منهجية تفكير الحركة.

بعض المراقبين اعتبروا أن حماس هي بالأساس حركة سياسية تتفاعل مع المتغيرات التي تحيط بها، بعقلية متحركة وخطاب وفكر مرنين؛ فإذا كان خطاب الإخوان من قبل محصوراً ضمن قالب محدد، فإن حماس، بالإضافة إلى كونها خطوة باتجاه توطين خطاب الإخوان في فلسطين، فهي أحدثت تغييرات كبيرة في بنية ومضمون خطابها السياسي ومنهجها الفكري والحركي؛ فحماس لم تبلور منهجاً أو فكراً نظرياً سياسياً محدداً وواضحاً منذ بداية نشوئها؛ بل أخذ فكرها وخطابها السياسي يتبلوران ويتشكلان عبر نشاطها وعملها خلال صراعها مع العدو الإسرائيلي، وتبلور فكرها أيضاً نتيجة لعلاقاتها مع الحركات الوطنية والإسلامية الأخرى، مثل حركة فتح والجهاد الإسلامي.

ولا يعني هذا أن حماس كانت حين تأسيسها تفتقر لخلفية نظرية، وأنها كانت خالية تماماً من أي طرح فكري منهجي، فهي باعتبارها امتداداً لجماعة الإخوان المسلمين استندت في بلورتها لقواعدها النظرية العامة وإلى فكرها السياسي لأدبيات الإخوان، واستمدت خطابها من الخطاب السياسي والفكري الذي كان يطرحه الإخوان في العالم العربي.[12]

بعد انطلاقة حماس بعام ونصف، ومع اتساع نشاطها ومشاركتها الفاعلة في الانتفاضة أخذت السلطات الإسرائيلية قراراً بحظر الحركة (أيار (مايو) 1989)، وقامت بحملة اعتقالات واسعة طالت قيادات الحركة ونشطاءها وفي مقدمتهم الشيخ ياسين. وبعد ذلك دخلت حماس مرحلة جديدة من الكفاح استمرت إلى العام 2005، حين اتخذت قرارا بالمشاركة في الانتخابات الفلسطينية البلدية والتشريعية، وبهذا التحول دشنت مرحلة جديدة للحركة، لها سماتها وخصائصها المختلفة، والتي يمكن دراستها بشكل منفصل.

  1. الجهاد الإسلامي

تعتبر حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين أول تنظيم إسلامي يتبنى الجهاد ضد إسرائيل. وهي مثل غيرها من معظم حركات الإسلام السياسي انبثقت من رحم جماعة الإخوان. لكنها تختلف بتركيزها على المقاومة، وعدم اهتمامها بالنشاط الدعوي والإجتماعي كما تفعل حماس. أسسها فتحي الشقاقي في غزة العام 1981، بعد عودته من مصر، متأثراً بصعود الإسلام السياسي هناك، وبأفكار سيد قطب، ومستلهما انتصار الثورة الإيرانية. بدأ بإعداد نواة الطلبة الأولى لحركة الجهاد في العام 1981، وأخذ ينادي بالكفاح المسلح، ومقاومة الاحتلال، وعدم الاكتفاء بالدعوة. وبعد عامين اعتقلته السلطات الإسرائيلية لمدة 11 شهراً، وفي المرة الثانية عام 1988 اعتقلته وأبعدته إلى لبنان.

في الخارج، قام بتأسيس قواعد إعلامية وسياسية وعسكرية للحركة، ثم انتخب أميناً عاماً في عام 1990، بعد ذلك قام بتشكيل ما عرف بمعسكر التدريب والإعداد الفكري للكوادر، محاولاً الاستفادة من التجارب والأخطاء التي وقعت فيها الثورة الفلسطينية والحركة الإسلامية التقليدية، مركزاً على ثلاثة عناوين أساسية، اعتبرها عماد أيديولوجية الحركة، وهي: “الإسلام، فلسطين، الجهاد”، معتبراً أن الحركات الإسلامية أهملت فلسطين، وابتعدت كثيراً عن قضيتها، لدرجة أنها لم تعد القضية المركزية للعالم الإسلامي، كما أن الحركات الوطنية العلمانية أغفلت الإسلام، ولم تجعله ركناً أساسياً من منهجها. ومن هنا سعت الجهاد الإسلامي للجمع بين الاتجاهين الإسلامي والوطني، وتقليص الفجوة بين الجانب الدعوي النظري، وبين الجانب الميداني الحركي.

في بدايات تأسيسها تأثر خطابها السياسي بأفكار “الجماعة الإسلامية” في مصر، فتبنّت تكفير النظم السياسية العربية، وطالبت بالخروج عليها بالسيف، ورفضت الديمقراطية. ولكن فكرها السياسي مر بمرحلة من التحولات والنضوج في حقبة التسعينات متأثرة بالتغيرات السياسية العميقة التي ألمت بالمنطقة؛ فقد دعا الشقاقي من منفاه إلى الالتقاء بين القوى الفلسطينية والعربية العلمانية منها والإسلامية، ونادى بضرورة السلم الأهلي الداخلي، وأن تقتصر معارضة السلطة الفلسطينية على الجانب السياسي، ودعا لوقف استخدام العنف لتغيير النظام المصري، وقبول التداول السلمي للسلطة، والتعددية السياسية، والبناء على ما هو إيجابي في المجتمعات العربية …[13]

ومع ذلك، لم تدخل حركة الجهاد في النظام السياسي الفلسطيني؛ سواء في أطر منظمة التحرير أم في مؤسسات السلطة الوطنية، ولم تشارك في أي انتخابات محلية، ولكنها لم تدعُ لمقاطعتها، ولم تتخذ موقفاً سلبياً من منظمة التحرير أو من السلطة، رغم انتقاداتها ومعارضتها لنهجها السياسي، وظلت تمارس السياسة على طريقتها الخاصة، متمسكة بنهجها الجهادي، رافضة المفاوضات والتسوية والحلول السلمية، وقد شاركت بفاعلية في الانتفاضات الشعبية الأولى والثانية، ونفذت العديد من العمليات العسكرية ضد الاحتلال، لكنها وافقت على التهدئة مع إسرائيل ووقف العمليات العسكرية في إطار اتفاق وطني عام، أكثر من مرة، آخرها كان بعد العدوان على غزة أيلول (سبتمبر) 2012.

وفي أثناء الصراع بين حركتي حماس وفتح التزمت الحركة بالحياد، داعية إلى وقف الاقتتال، والعودة للحوار، والتمسك بالوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام. ولكنها بعد سيطرة حماس على غزة حافظت على علاقاتها الطيبة بحماس، بالرغم من خلافاتهما السياسية، وتباين الآراء بينهما، ومحاولات هيمنة حماس عليها، ومنعها من إطلاق الصواريخ.

بعض المراقبين يصنفونها كتنظيم نخبوي، بسبب طبيعتها السرية والعسكرية، فلم تتحول الجهاد إلى حركة جماهيرية ذات شعبية واسعة؛ إذ تشير معظم استطلاعات الرأي أن نسبة مؤيديها تتراوح بين 1 ~ 2 %. إلا أن شعبية الجهاد الإسلامي أخذت تتقدم على حساب شعبية حماس في السنوات الأخيرة، وأحياناً تتفوق عليها.[14] وتتركز أغلبية قيادات الجهاد وأعضائها وقاعدتها التنظيمية في غزة، بينما يقيم أمينها العام “رمضان شلح” في دمشق، وتربطها علاقات تحالف مع حزب الله، وعلاقاتها بإيران متينة وراسخة.

  1. حزب التحرير

يعتبر حزب التحرير ثاني أقدم حزب إسلامي بعد الإخوان، تأسس في مدينة القدس عام 1953 على يد الشيخ تقي الدين النبهاني القاضي بمحكمة الاستئناف. في المرحلة التأسيسية الأولى من عمره اقتصر نشاط الحزب على الجهود الفردية للشيخ النبهاني، ومحاوراته وكتاباته، إلى أن نجح باستقطاب الكثيرين ممن آمنوا بفكره ونهجه، وخلال عامين أعلن عن قيام الحزب الذي اكتسب خلال فترة وجيزة قاعدة شعبية أهلته لدخول الانتخابات البرلمانية الأردنية عام 1955، حيث نجح حينها بإدخال أحد أعضائه “النائب أحمد الداعور” ممثلاً عن الحزب في البرلمان الأردني، ولكن إسقاط حكومة النابلسي والأحداث السياسية التي وقعت حينها في الأردن جعلت النظام يلجأ لقمع كافة القوى والأحزاب السياسية، (باستثناء الإخوان المسلمين)؛ وهكذا وجد أعضاء الحزب أنفسهم في السجون، وصار الحزب من حينها محظوراً، ليس في الأردن وحدها، بل وفي أغلب البلدان العربية والإسلامية (باستثناء لبنان). خلافاً لما نراه من حرية لباقي الحركات الإسلامية، والسبب في ذلك أن الحزب يدعو صراحة إلى تقويض أنظمة الحكم القائمة وإحلال نظام الخلافة بديلاً عنها، ولأنه يعتبر الحكام الحاليين عملاء وكفرة يطبقون أنظمة وضعية. لكن هذا لم يمنع الحزب من استئناف نشاطه بصور متباينة علنية وسرية في مختلف البلدان الإسلامية والغربية.

بعد وفاة الشيخ  النبهاني عام 1977، تولى إمارة الحزب الشيخ عبد القديم زلوم حتى العام 2003، ثم جاء من بعده المهندس عطا أبو الرشتة، ومن الملاحظ أنهم جميعاً فلسطينيون، بالرغم من أن الحزب لا يعترف بالهويات الوطنية. ومع أن الحزب لم يعط رقماً رسمياً عن عدد أعضائه، إلا أن تقارير صحافية واستخباراتية تعطي صورة عامة تقديرية عن شعبية الحزب، وتتراوح التقديرات ما بين عدة آلاف إلى عدة ملايين. وهذا التفاوت الكبير يعود إلى سبب الطبيعة السرية للحزب، والغموض الذي يكتنفه، وبحسب الجهة التي تعطي الرقم التقديري، وأحياناً يجري الخلط بين من يؤيد أفكار الحزب الإسلامية ومواقفه السياسية، وبين المنتمين فعلياً للحزب.

ويصرح حزب التحرير بأن غايته هي استئناف الحياة الإسلامية، وإقامة نظام الخلافة، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم؛ معتبراً نظام الخلافة قادراً على تنظيم الدولة والحياة المعاصرة ضمن إطار إسلاميِ بحت، بعيداً عن أفكار العصر مثل الديمقراطية والليبرالية والاشتراكية والدولة المدنية التي يعتبرها الحزب دخيلة على الفكر الإسلامي، بل مخالفة لصريح الإسلام ونهجه الأصيل. [15] وقد تسبب إصرار الحزب على نبذ الديمقراطية والحرية ومفهوم المواطَنة وغيرها من المفاهيم الحديثة بتوجيه الانتقادات للحزب، وتصنيفه من ناحية فكرية على أنه أقرب إلى التيارات المتعصبة في العالم الإسلامي منه إلى التيارات المعتدلة. ويُتهم الحزب أيضاً بالتشدد في مواقفه، وبطلب المستحيل أحياناً، وبُعده عن الواقع الذي تعيشه الأمة برفضه التعايش مع هذا الواقع.

ويركز الحزب في أدبياته على موضوع الخلافة، جاعلاً منها النقطة المركزية التي تعلو بأهميتها على أي قضية أخرى، بل هي أهم قضية على الإطلاق، معتبراً أن كل مشاكل الشعوب الإسلامية ستحل بمجرد إقامة الدولة الإسلامية، وإذا كانت هذه نظرة العديد من الحركات الإسلامية الأخرى، إلا أن حزب التحرير يختلف عنها بعدم قبوله بالحلول الوسط أو أسلوب التدرج والمرحلية في سعيه لإقامة الخلافة الإسلامية أو في تطبيق أحكام الشريعة، وإصراره الشديد على ذلك، وعدم اعترافه بالدولة الوطنية، أو بالحدود السياسية بين الدول الإسلامية. بالمقابل يتمسك الحزب بنهج الدعوة الفكرية فقط، ويصر على تجنب ما يسميه العمل المادي. وهو ما جلب له الاتهام بأنه حزب تنظير وخطابات.

مع أن بدايات حزب التحرير انطلقت من فلسطين، في المرحلة التي تلت النكبة مباشرة؛ إلا أن أفكار الحزب وتوجهاته وأولوياته لا تعتبر قضية فلسطين قضية مركزية، فالقضية الأهم بالنسبة للحزب هي تنصيب خليفة للمسلمين، وموضوع تحرير فلسطين يأتي من ضمن مهام دولة الخلافة، ومن خلال جيشها فقط، أي بعد إقامة الدولة الإسلامية وليس قبل ذلك بأي حال. لذلك لم ينشط الحزب في فلسطين، بل اعتبر الساحة الفلسطينية ثانوية بالنسبة لاهتماماته، ذلك لأنها تحت الاحتلال، ولا تصلح لإقامة دولة الخلافة، وهي لا تختلف بأهميتها عن أي قطر إسلامي آخر. واقتصر دور الحزب تجاه القضية الفلسطينية وتجاه الصراع الدائر في فلسطين على إصدار البيانات التي تنبه لوجود مؤامرات تستهدف تصفية القضية، وترفض الحلول السلمية، وتندد بالتفريط بأي أرض فلسطينية، وتدعو الأمة للدفاع عن مقدساتها الإسلامية…

ومنذ قيام منظمة التحرير الفلسطينية أخذ الحزب منها موقفاً سلبياً معتبراً إياها صنيعة الغرب الكافر الذي يريد من خلالها الحصول على موافقة الفلسطينيين لبيع وطنهم وتصفية قضيتهم.. لذلك رفض الاعتراف بها ممثلاً للشعب الفلسطيني، سيما وأنه يرفض من الأساس الاعتراف بالهويات الوطنية.[16]

ومنذ تأسيسه، لم ينفّذ حزب التحرير أي أنشطة عسكرية ضد إسرائيل، ولم ينخرط في أعمال المقاومة الشعبية، ولم يتعرض أي من أعضائه للاعتقال من قبل السلطات الإسرائيلية، ولكن في السنوات الأخيرة بدأ الحزب ينشط في الأراضي الفلسطينية بشكل ملحوظ، بل إن الأعداد الكبيرة من المشاركين في أنشطة الحزب فاجأت المراقبين، علماً بأن أنشطة الحزب تكاد تنحصر في إحياء الذكرى السنوية لهدم الخلافة العثمانية، من خلال المهرجانات الخطابية وإقامة الندوات الفكرية والحوارية، والتظاهر في الشارع بعض الأحيان.

وقد مرت علاقة الحزب بالسلطة (سواء في الضفة أم في غزة) بمراحل متباينة بين المد والجزر؛ في الضفة الغربية شجعت الأجهزة الأمنية حزب التحرير على الظهور العلني خاصة بعد بروز حماس كمنافس قوي لفتح، بعض المراقبين اعتبروا ذلك مناكفة بحماس، ولإظهار قوة أخرى من نفس التيار الإسلامي تنافس حماس عل القاعدة الجماهيرية. لكن ذلك لم يدم طويلاً. فمن الملاحظ أن بيانات الحزب شديدة القسوة بلغتها الخطابية ضد السلطة، وكثيراً ما اتهمتها بالخيانة والتفريط. وبالرغم أن نشاطات الحزب سلمية، إلا أنه تعرض عدة مرات لقمع الأجهزة الأمنية، وفي إحدى المظاهرات بالخليل قُتل أحد عناصر الحزب على يد أفراد من الشرطة الفلسطينية. فيما سُمح له أيضاً في مناسبات عديدة بإقامة فعالياته المختلفة، ولكن عناصره ما زالوا يتعرضون للاعتقال والاستدعاء بين الفينة والأخرى.

وفي قطاع غزة أيضاً تعرض الحزب لقمع سلطة حماس أكثر من مرة، ومنع عدة مرات من إقامة مهرجانات خطابية. ومن الجدير بالذكر أن شعبية حزب التحرير أقل بكثير في غزة عنها في الضفة الغربية. أما داخل الخط الخضر فلا وجود لقيادات أو كوادر للحزب هناك.

  1. الحركات الأصولية الأخرى

في قطاع غزة، وبسبب الأوضاع الصعبة والاستثنائية التي يعيشها الناس هناك، ونتيجة انغلاق الأفق السياسي، في السنوات السبعة الأخيرة، أي في ظل حكم حماس، شهد القطاع بروز عدد من الجماعات السلفية المتشددة، مثل: سيوف الحق، وسيوف الإسلام، وأنصار جند الله، وحزب الله الفلسطيني، وجيش الإسلام، ومجموعات أخرى من التيارات السلفية ارتبط اسمها بتنظيم القاعدة. وهي بالمجمل تنظيمات صغيرة هامشية. الباحثة “بيسان عدوان” اعتبرت أن هذه الجماعات استفادت من المناخات الأصولية التي تخيم في الأجواء، وأضافت قائلة: “إن بروز هذه التيارات كان بسبب تحول حماس من المقاومة الفعلية للاحتلال، إلى الجلوس على مقاعد الحكم، والانشغال في العمل السياسي، حيث ترى بعض هذه التنظيمات أن حماس غير جادة في أسلمة المجتمع، وأنها لا تطبق الشريعة الإسلامية على النحو الصحيح”.[17]

وقد تصادمت هذه التنظيمات مع حماس أكثر من مرة، وأثارت الكثير من مظاهر الفوضى وأخْذ القانون باليد، سيّما وأنها تسعى لتنفيذ برامجها بالقوة؛ فعلى سبيل المثال اندلعت مواجهات عنيفة بين أجهزة حماس، ومسلحين من جيش الإسلام (من عائلة دغمش) استخدمت فيها الرشاشات والقذائف الصاروخية، وأسفرت عن مقتل عدة مواطنين. وفي رفح أعلنت “جماعة أنصار جند الله”، عن إقامة إمارة إسلامية في المدينة، الأمر الذي جوبه بحزم غير معهود من حماس نجم عنه مذبحة. وفي حادثة أخرى قامت “سرية الهمام محمد بن مسلمة” بخطف وقتل المتضامن الايطالي “أريغوني”. وكذلك أصدرت بعض تلك الجماعات بيانات تحذر فيها بلهجة شديدة الفتيات الفلسطينيات بضرورة ارتداء الزي الإسلامي، حفاظًا على سلامتهن من أي اعتداء قد ينفذه أنصارها. وجماعات أخرى أعلنت مسؤولياتها عن عشرات الاعتداءات في مناطق مختلفة، كعملية إلقاء مواد حارقة في وجه فتاة، وتفجير مقاهي الانترنت، واعتداءات ضد محال الإكسسوارات، وحرق محل للعب البلياردو، وحرق مخيمات صيفية للطلبة أقامتها وكالة الغوث، وتفجير مرافق سياحية على البحر .. وغيرها.[18]

ومن التنظيمات التي تثير قلق حماس بشكل خاص، تنظيم “جلجلت”، وهو تشكيل مؤلف من مقاتلين، معظمهم من كتائب القسام، ويقول الباحث يزيد صايغ أن “جلجلت تسعى إلى فرض مفاهيمها الدينية على المجتمع الفلسطيني في غزة، وتعارض انشغال حماس في تلبية متطلبات الحكومة وخدمة الناس، عن الهدف الأسمى والأهم، وهو أسلمة المجتمع، وترى أن حماس بهذا الانشغال تكون قد عرضت نزاهتها الإسلامية للخطر، وأساءت لتعهدها بخوض المقاومة ضد إسرائيل”.[19]

لكن هذه التنظيمات، وبالرغم من أنها إسلامية التوجه، وتتلاقى مع حماس في المنطلقات الفكرية، بل وبعضها منشق عنها؛ إلا أنها على خلاف شديد مع حكومة حماس، ولا توافق حكومة حماس على ممارساتها، سيما وأنها تنازعها السلطة، وتثير الفوضى، وتسبب لها الإحراج، والأهم من ذلك أنها تنازعها حق احتكار الكلام باسم الدين في السياسة، وتنافسها على استقطاب بعض الفئات الاجتماعية، خاصة من جيل الشباب، ومن المتعطلين عن العمل، لذلك فإن حماس تتهمها بالتشدد والتعصب والمزاودة.

أما التنظيمات السلفية (غير الجهادية) فقد بدأت تظهر وتنمو بقوة، بالرغم أنه أحيانا لا يحس بها أحد. وعن هذه القوى يقول الكاتب حسن خضر: “تكفي نصف ساعة من البحث على الإنترنت لاكتشاف أن جمعيات ابن باز، وابن عثيمين، وغيرها من رموز الوهابية السعودية تغلغلت في المجتمع الفلسطيني، وأصبحت لديها بنية تحتية تتمثل في مؤسسات خيرية تربوية وصحية واقتصادية، وأن هذه البنية لا تشكو قلة الموارد، ولا ندرة النشطاء والمُستهلكين”. ويحذر “خضر” بأنه متى ما قرر السلفيون خوض الانتخابات في فلسطين، لا يحق لأحد التظاهر بالدهشة، أو التساؤل: من أين جاء هؤلاء؟ فقد بات واضحا لنا اليوم كيف نأت الوهابية بنفسها عن العمل السياسي قبل ثورات الربيع العربي، وكيف ظهرت فجأة بعدها، وكيف اقتحمت الحقل السياسي بقوّة.[20]

  1. الإسلام السياسي داخل الخط الأخضر

منذ قيام إسرائيل، تعرض الفلسطينيون داخل الدولة العبرية لمحاولات محمومة لطمس هويتهم الوطنية، وعانوا لفترة طويلة من عزلة تامة بين المجتمع الإسرائيلي الذي رفضهم، والدول العربية التي قاطعتهم، ومع ذلك بقوا متمسكين بعروبتهم وفلسطينيتهم، ومحافظين على هويتهم الدينية (الإسلامية والمسيحية) في مواجهة محاولات التهويد، ولأسباب عديدة، لم يكن بإمكانهم خوض مقاومة مسلحة أو شعبية، أو حتى تشكيل أحزاب يكون من بين أهدافها إزالة دولة إسرائيل، أو معاداتها .. ولذلك لم يكن أمامهم في تلك الفترة سوى الانخراط في صفوف الحزب الشيوعي الإسرائيلي، أو من خلال بعض الحركات العربية مثل حركة الأرض، أو حركة أبناء البلد.

بعد حزيران 1967، تغيرت أوضاع العرب داخل إسرائيل، وتغيرت طريقة تعامل الدولة معهم؛ فظهرت قوى سياسية عربية عديدة تمكنت من فرض وجودها، ومن دخول الكنيست، من بينها قوى إسلامية. ولكن لم تظهر أي حركة إسلامية في الوسط العربي داخل الدولة العبرية إلا في بدايات السبعينات، وكانت تحت مسمى “الحركة الإسلامية في فلسطين 48“. وهي حركة دينية سياسية أسّسها الشيخ عبد الله نمر درويش، وأعضاؤها من العرب الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، وتعمل في إطار القانون الإسرائيلي، ولا تربطها علاقة مباشرة بجماعة الإخوان المسلمين، ولكن الحركتين تحملان نفس المبادئ الإسلامية.

وفي تطور آخر، اكشتفت الأجهزة الأمنية في نهاية السبعينات تنظيماً إسلامياً مسلحاً في منطقة المثلث، نشط لفترة وجيزة، حيث خطط ونفذ سلسلة من العمليات العسكرية ضد أهداف إسرائيلية، وهو تنظيم “أسرة الجهاد”، ولكن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تمكنت من كشف أعضاء التنظيم، والقضاء عليه كليا.

وقد تأثرت مواقف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من الحركة الإسلامية في فلسطين 48 بسلسلة من العوامل والمتغيرات؛ فمنذ انطلاقتها مطلع السبعينات وحتى عام 1996 غضّت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية الطرف عن الحركة الإسلامية وأنشطتها، وسمحت لها ببناء مؤسساتها التعليمية والدينية والاجتماعية والإعلامية، وأتاحت لقادتها هامش مرونة في التحرك والتفاعل مع الجماهير الفلسطينية، والتواصل مع الضفة الغربية وقطاع غزة. (طبعا باستثناء حالة القمع التي تعرض لها تنظيم أسرة الجهاد).[21]

وسبب هذا السلوك الإسرائيلي المتساهل هو رغبة المؤسسة الإسرائيلية في إيجاد منافس أيديولوجي للحركات السياسية العلمانية ذات التوجهات القومية التي نشطت في ذلك الوقت في أوساط فلسطينيي 48، وهو نفس الأسلوب الذي تعاملت فيه إسرائيل مع جماعة الإخوان في الضفة الغربية و قطاع غزة، حيث غضت الطرف عن نشاط الإسلاميين، لأنهم لم يتبنّوا الكفاح المسلح ضد الاحتلال من ناحية، ومن ناحية ثانية حتى تجعل منهم منافساً قوياً للحركات الفلسطينية العلمانية التي كانت تمارس العمل المسلح.[22]

وقبيل انتخابات الكنيست عام 1996 وقعت تطورات سياسية في الحركة الإسلامية يمكن اعتبارها “انشقاقا” في صفوف الحركة، حيث قام نمر درويش بتأسيس “التيار المعتدل للحركة” الذي تحالف مع الحزب الديمقراطي العربي في قائمة واحدة. ومنذ ذلك الحين انقسمت الحركة الإسلامية إلى ثلاثة تيارات، هي: تيار الاعتدال والبراغماتية الذي مثله درويش، وهذا التيار يميل إلى الاندماج في الواقع الإسرائيلي؛ ومؤيد لعملية السلام واتفاق أوسلو، وذو علاقات جيدة بالسلطة الوطنية الفلسطينية.

أما التيار الثاني فقد مثله الشيخ رائد صلاح، وهو يرتبط بعلاقات قوية بالحركات الإسلامية في الضفة والقطاع، وكان موقفه من الانتخابات العامة الإسرائيلية وسطاً بين رفض المشاركة فيها كحركة مع السماح لأنصار الحركة بالتصويت فيها لبناء قوة تصويت عربية، وقد حافظ هذا التيار على علاقات جيدة بالسلطات الإسرائيلية بعد أن أصبح يحكم العديد من البلديات كي يحصل على موارد لتمويل المشاريع التطويرية المحلية والخدمات. أما التيار الثالث فكان بقيادة الشيخ كمال الخطيب، وهو ذو مواقف علنية متشددة ضد المشاركة في الانتخابات الإسرائيلية. وقد انضم التياران الأخيران في حركة واحده أُطلق عليها “الحركة الإسلامية – الفرع الشمالي جناح الشيخ رائد”، أما التيار الأول فأصبح يحمل اسم “الحركة الإسلامية – الفرع الجنوبي جناح الشيخ إبراهيم صرصور”. [23]

ومنذ أواسط التسعينات بدأت مرحلة جديدة في تعامل إسرائيل مع الحركة الإسلامية، حيث أخذ صناع القرار في تل أبيب ينظرون للحركة الإسلامية كتهديد إستراتيجي، مفترضين أن تيارات الإسلام السياسي (في المنطقة وبشكل عام) ستكون أحد أهم أطراف الصراع المستقبلي. وبالمقابل، حدثت عدة تطورات أدت إلى تحول في موقف الحركة الإسلامية، بشكل دفعها لتبني خطاب سياسي يعتمد المواجهة مع السلطات الحاكمة. وكان على رأس هذه التطورات جنوح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين واليمين المتطرف وتعاظم دور الأحزاب الدينية اليهودية، ومجاهرة أحزاب عنصرية عديدة بدعواتها لطرد العرب وهدم المسجد الأقصى، فضلا عن سياسة عنصرية ممنهجة أخذت تتبعها الحكومات الإسرائيلية عبرت عنها بمحاولات لتشريع التمييز ضد الفلسطينيين.

وإزاء هذه التطورات عكفت القوى العربية على التصدي لمحاولات تهميشها وإلغاء وجودها، فيما ركزت الحركة الإسلامية على تنظيم حملة للدفاع عن الأقصى تحت شعار “الأقصى في خطر”، وهذا ما جعل السلطات الإسرائيلية ترى في مثل هذا السلوك تحريضاً على المس بأمنها.

أثر الإسلام السياسي على الثورة الفلسطينية

شهدت الخمسينات من القرن الماضي بدايات مرحلة المد القومي واليساري، في تلك السنوات كانت جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين حاضرة، إلا أن مجموعات نشطة من داخلها وعلى أطرافها بدأت بالتفكير على نحو مختلف، متأثرة بالأفكار اليسارية والثورية، ومحاولةً القيام بعمل مضاد لقيام دولة إسرائيل. من بين هذه المجموعات “شباب الثأر” و”كتيبة الحق”، كان من أبرز مؤسسيها صلاح خلف وخليل الوزير وكمال عدوان.[24] إلى جانب نشطاء كانوا قريبين من الإخوان أبرزهم ياسر عرفات وسليم الزعنون وأبو يوسف النجار. كما كان خالد الحسن عضوا في حزب التحرير .. اتفق هؤلاء جميعا على أن العمل الدعوي والتربوي الذي يركز عليه الإخوان، أو الانشغال بالصراعات العقائدية والأيديولوجية، أو الصراعات الحزبية لا يخدم أي منها فكرة تحرير فلسطين، بل يعيقها، وأنه لا بد من أخذ زمام المبادرة والقيام بعمل مسلح .. وكانت هذه بدايات تأسيس حركة فتح، وانطلاقة الثورة الفلسطينية فيما بعد.

بعد انتصار الثورة الإيرانية (1979) كان لصعود الإسلام السياسي تأثير معاكس على الثورة الفلسطينية بشكل عام. فإذا كانت فتح قد نجحت (منذ الخمسينات) في “فلسطنة” الشباب المنتمين للأحزاب السياسية (بمن فيهم الإخوان المسلمين)؛ وتخليصهم من اغترابهم السياسي، ودفعهم نحو الهوية الوطنية، والانغماس في الهم الوطني، والنضال من أجل القضية الفلسطينية، بكل ما تقتضيه من عمل سياسي وعسكري وتنظيمي … فإن صعود الإسلام السياسي في نهاية السبعينات أخذ يدفعهم نحو القضايا الإسلامية العالمية، ويغيّر من أولوياتهم وتوجهاتهم بما يخدم الرؤية السياسية والأيديولوجية لتلك الأحزاب بعيدا عن القضية الفلسطينية.

مع العلم أنه حين انتصرت الثورة الإيرانية، فرح الفلسطينيون بها، وظنوا أنها ستعوض خسارتهم لمصر، وستعدّل من موازين القوى في المنطقة، لذلك كان ياسر عرفات أول من زار إيران وهنأ الخميني بنصره، ومن طهران أطلق عبارته الشهيرة: “عُمْقنا الإستراتيجي يمتد من صور إلى خراسان”. لكن بعد وقت قصير تبين أن الرهان كان خاطئا، وأن الخسائر الفلسطينية ستكون أفدح من المتوقع.

الكاتب “د. شفيق الغبرا” – وهو فدائي عايش التجربة الفلسطينية في حقبة السبعينات – في كتابه “حياة غير آمنة” يصوّر طبيعة الأجواء التي سادت بعد انتصار الثورة الإيرانية، ويتحدث عن مدى تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على الثورة الفلسطينية؛ يقول “الغبرا”: “مع عام 1979 كان التغير الكبير الذي وقع في الشرق هو انتصار الثورة الإيرانية”. ويضيف: “جاء النموذج الإيراني ليقول إن الثورة في العالم العربي والإسلامي لن تكون ماركسية، أو اشتراكية، أو يسارية، أو قومية أو وطنية كما كنا نقول ونعتقد؛ بل إسلامية الاتجاه والهوى، دينية المضمون والعمق”.[25]

واعتبر الكثير من المحللين أن انتصار الثورة الإيرانية أعطى للإسلام السياسي في المنطقة العربية زخما إضافيا، ومنَحه القوة الإعلامية والجماهيرية التي كان يحتاجها، بل وقلَب كل الموازين، ومثّل بداية تراجع وانكفاء القوى القومية واليسارية والوطنية والعلمانية. إذْ بدأت شعارات الإسلام السياسي بالظهور بقوة.

ولكن تأثيرات أطروحات الإسلام السياسي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية لم تكن بأهمية أثرها على الواقع السياسي؛ فمثلا التركيز على مواضيع الحجاب ومصافحة المرأة ومنع الاختلاط وغيرها ليست بمستوى التغيير الحاصل في منهجية التفكير لدى الشبان والمتأثرين بخطاب الإسلام السياسي الجديد، فقد صار للدين مساحة أكبر على حساب القضايا الوطنية، وبدأ الإسلام السياسي يغزو المساجد، ويستقطب المزيد من المريدين والأتباع، وإذا بالحجاب يتحول من مسألة فقهية أو شخصية إلى رسالة سياسية بامتياز، تدل على مدى قوة حضور الأحزاب الدينية في منطقة معينة، وإذا بالناس المتدينين يتحولون إلى طبقة سياسية اقتصادية قوامها رجال الدين وقادة الأحزاب السياسية الدينية، وإذا بصورة المجاهد الأفغاني تستقطب جيلا بأكمله، وتستحوذ على فؤاده بدلاً من صورة الفدائي الفلسطيني.

وعن تأثير ذلك على الثورة الفلسطينية خاصة في فترة وجودها في لبنان كتب “الغبرا”: “مع بروز الإسلام السياسي بصورته الجارفة بعد الثورة الإيرانية، بدأ الشيعي منّا يتحول إلى شيعيّته، والسنّي بدأ يكتشف سنّيته الإسلامية، أما الدرزي فبدأ يتساءل عن موقعه في المشروع الإسلامي الجديد، ما يدفعه إلى الانضواء في ظل طائفته، والمسيحي الذي وهب حياته للقضية الفلسطينية بدأ يكتشف أن المشروع الإسلامي الجديد لا يقدم له الحل؛ بل ينظر له بوصفه مسيحياً، أو من أهل الذمة، وصار البعض منا يتساءل هل هذا هو المشروع الذي ناضلنا من أجله؟ هل يُعقل أننا كنا على خـطأ طوال هذه السنوات ونحن نتبنى أفكار اليسار والطرح اللاطائفي والعقلاني الثوري؟ وماذا حصل للمفهوم العروبي والوطني الذي يجمع ما بين المسلم والمسيحي والدرزي والشيعي والسني والعربي والكردي”.[26]

وفي نفس الكتاب يتساءل الغبرا على لسان صديقه خالد (المسيحي الفدائي): “هل بهذا الفكر الطائفي الضعيف سنحرر فلسطين ؟ ونتقدم وننجح في استيعاب تنوع مجتمعنا؟ أم بهذا الفكر سنـزداد طائفية وقبلية وانغلاقا وتفتتا واقتتالا ؟ هل كانت مشكلتنا في الأساس قلة الصلاة والصوم وغياب الحجاب؛ أم مشكلتنا في غياب الجدية والاستعداد للبذل وضعف حرية التفكير؟ هل بدأنا نتخلى عن فكر “فتح” المرن الذي يعترف بالتعددية والتنوع وحق الاختلاف لصالح فكر منغلق يفرق الناس بين مؤمن وكافر، ويركز على طقوس شكلية ؟ هل بدأ الفكر الوطني يموت لصالح فكر طائفي فئوي؟ هل هذه بداية هزيمتنا وانتهاء حلمنا؟”.[27]

ومن بين التأثيرات أيضاً بدء حالة من تفكك الروابط التنظيمية الفتحوية، وتراجع قوة التيار اليساري الذي كان يتسم بالطرح العقلاني الثوري غير الطائفي، وتشتُّت القاعدة الفتحوية بين منبهر بالنموذج الإيراني، ومتفرج ومراقب، ومنتقد ومتخوف. ويعدد الغبرا عددا من الأمثلة التي تأثرت بالثورة الإيرانية: “فمنير شفيق الذي كان يرمز لعمقنا الفكري، وهو مسيحي المولد يساري الفكر، ذهب إلى إيران، وهناك أعلن إسلامه، بينما حمدي وأبو حسن ومروان، وهم من أعمدة الكتيبة الطلابية، ساروا على الدرب الإسلامي ولكن في إطار فتح، أما خالد فقد بدا متألما مصدوما يعيش خيبة أمل، وهناك مثله الكثيرون من المسيحيين الذي تركوا عائلتهم وانسلخوا عن خلفياتهم المسيحية والمارونية لصالح القضية الوطنية ووجدوا أنفسهم فجأة مكشوفين وبلا أي سند، وأيضا أنيس النقاش المفكر المنفتح الذي ترك فتح لصالح العمل في الثورة الإيرانية، لدرجة أنه تورط في اغتيال شاهبور باختيار في باريس، وكذلك عماد مغنية الذي تحول إلى حزب الله (يقال أنه تورط في خطف طائرة كويتية لصالح إيران)، وغيرهم الكثيرون من كوادر فتح الذين رجعوا إلى طوائفهم وانضموا لأحزاب طائفية”.[28]

والتغيير الآخر المهم، حصل في الطائفة الشيعية التي كانت تقف بأكملها إلى جانب الثورة الفلسطينية، لكنها بعد تأسيس حركة أمل ما لبثت قليلا حتى بدأت بالصدام مع الحركة الوطنية اللبنانية، ثم في مرحلة لاحقة قادت حركة احتجاج كبيرة على الوجود الفلسطيني، حتى تصادمت مع فتح (بدعم سوري)، لكن التغيير الأهم حصل في الجنوب اللبناني ذي الأكثرية الشيعية، الذي بدأ يضيق ذرعا بالمسلكيات غير المنضبطة للعديد من أفراد القوى الوطنية والفلسطينية، وبدأ يعاني أكثر من تبعات احتضان المقاومة من جراء القصف الإسرائيلي، هذه القاعدة الشعبية العريضة التي شكلت الحاضنة الأهم للثورة الفلسطينية بدأت بعد الثورة الإيرانية تتململ وتعبر عن استيائها بصوت أعلى؛ الأمر الذي جعل فتح وغيرها من فصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية تواصل عملها العسكري بعد العام 1982 تحت اسم “المقاومة الوطنية اللبنانية”، ثم وفي مرحلة لاحقة بعد صعود نجم حزب الله في أواخر الثمانينات تحولت المقاومة إلى مسمى “المقاومة الإسلامية” التي تفرد بها حزب الله.

وستتأثر الطائفة السنية بنفس الشكل والطريقة، ولكنها ستحتاج مزيدا من الوقت، حتى بدايات القرن الحالي، حيث انتشرت في المناطق السنية (وخاصة طرابلس وصيدا والمخيمات الفلسطينية) ظاهرة الحركات الأصولية، التي أخذت منحىً طائفياً متطرفاً، وانشغلت في قضايا ثانوية وصراعات مذهبية.

مستقبل الإسلام السياسي في فلسطين

من الصعب جدا التنبؤ بأي مستقبل لحركات الإسلام السياسي سواء في فلسطين، أم خارجها، وكل ما نستطيع عمله رسم معالم عامة لصورة متخيلة عن الغد القريب، انطلاقا من الإرث التاريخي لتلك الحركات، واستنادا لما حصل مع نظيراتها في المنطقة العربية في إطار الربيع العربي.

على المدى القريب ستصطدم حركات الإسلام السياسي بعقبات كثيرة، وستنشب في المناطق التي تسيطر عليها صراعات أهلية بدرجات متفاوتة الحدة والخطورة. وفي الغالب ستتهم تلك الحركات الغرب والعلمانيين والصهاينة بتدبير المؤامرات لتقويض ما اكتسبوه من سلطة ونفوذ، بدلاً من الاعتراف باصطدام تأويلاتهم الأيديولوجية مع واقع لا يحتمل التبسيط، سواء ما تعلّق منه بمعنى ومبنى الدولة الحديثة، أو بالإدارة السياسية للعلاقات الإقليمية والدولية.[29]

يرى الكثير من المراقبين أن الأنظمة العربية دعمت في البداية نشوء حركات الإسلام السياسي، وضخمت من وجودها إعلاميا، وأنها وظفتها لقمع قوى المعارضة اليسارية والوطنية، واستخدمتها فزاعة لإخافة الغرب من “الإرهاب الإسلامي”. كما تغاضت إسرائيل عن نشاطات حركات الإسلام السياسي الفلسطينية، بل ودعمت ظهورها لإضعاف منظمة التحرير وضرب شرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني. لكن انخراط حماس في الكفاح الفلسطيني بشكل أوجع إسرائيل، والنجاحات الكبيرة التي حققها الإسلاميون، خاصة بعد فوزهم في الانتخابات التي جرت في تونس والمغرب ومصر، دعت إسرائيل وأمريكا لإعادة حساباتهما مع ظاهرة الإسلام السياسي من جديد.

بعد الربيع العربي صار واضحا أن جماعة الإخوان أبرمت صفقة مع الولايات المتحدة لتسهيل وصولها للسلطة خاصة في مصر وتونس، فقد صرحت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية أن الإخوان في مصر لن يلغوا اتفاقية كامب ديفيد، ولن يعرضوها على الاستفتاء العام. وهذا ما حدث فعلا؛ بل وامتدت حملة التهدئة لتشمل المغرب العربي حيث قال راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة التونسية أمام مركز للأبحاث تابع للوبي الصهيوني “الايباك” أنه لن يسن قانونا يحرم فيه قيام علاقات مع إسرائيل. [30]

وفي إسرائيل بدأت الأجهزة الأمنية تبحث إمكانية التوصل لتفاهمات سياسية وإيجاد قنوات اتصال واقعية مع حركة حماس، وتتضمن بعض هذه الاقتراحات إمكانية طرح حل مرحلي على حماس من دون الاعتراف بدولة إسرائيل، ويكون الحل الجديد شبيهاً بهدنة حرب عام 1948، وهو الحل المحبب لدى حماس. وهذا التحول في الموقف الإسرائيلي يأتي في سياق قناعتها بأن “دولة حماس” في غزة تتحمل مسؤولياتها الأمنية كما يجب، وتتصرف بطريقة أفضل من تصرفاتها خلال عهد مبارك، وهي ضابطة للأمور على الحدود وفي داخل القطاع أكثر من السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية، وتتراكم لها مصالح، يلتقي بعضها مع المصالح الإسرائيلية.[31]

حماس تعول على نجاح الإخوان في مصر في ترسيخ قوتهم وقيادتهم للمرحلة المقبلة، وتأمل أن ينجح إخوان سوريا في تغيير النظام لمصلحة المشروع الإسلامي بطبعته وصبغته الإخوانية. ومع أنّ آمال حماس في حكم الإخوان في مصر انكمشت وتواضعت.

مقابل حركة حماس، هناك الجهاد الإسلامي وحزب التحرير، وكلاهما يطرحان رؤية مختلفة عن «حماس» ويقفان موقفاً متبايناً عنها، وكلاهما أيضاً مختلفان. إذْ يمتاز طرح حزب التحرير بانضباطه للأسس الفكرية التي قام عليها، ومع أن الحزب وقف مع التغيير في البلاد العربية، إلا أنه رفض النتائج التي جاء بها هذا التغيير، فهو لا يوافق على ما يقوم به الإخوان في مصر وتونس ويطالبهم بإعلان فوري للخلافة، وتطبيق حازم للشريعة الإسلامية، ويرفض كل الشعارات المرفوعة مثل الدولة المدنية أو الديموقراطية. وفي سوريا، يقف الحزب ضد النظام وضد الإخوان في نفس الوقت، وقد عقد تحالفاً مع جبهة النصرة في سبيل الوصول للخلافة. أمّا في فلسطين، فيقتصر دور الحزب على العمل الإعلامي من دون أن يكون له أي تدخل فعلي في مجريات الصراع مع إسرائيل، وبسبب هذا الطرح، فإن تأثير الحزب في الواقع الفلسطيني يظل هامشيا، أما حركة الجهاد الإسلامي، فقد التزمت بمنهجها الفكري، واعتبرت أن الصراع مع الصهيونية هو قضيتها المركزية، وتشير استطلاعات الرأي إلى تصاعد شعبيتها على حساب حماس.[32] أما حركات الإسلام السياسي الصغيرة التي نمت على هامش حماس، فستبقى بوضعها الحالي؛ تثير بعض المتاعب دون أن تتمكن من إجراء تغيير كبير في مستقبل الصراع.

الكاتب إبراهيم أبراش يرى أن وصول وإيصال الإسلام السياسي المعتدل للحكم سيكون في إطار أكبر مخطط استراتيجي (غربي / إسلام سياسي) عبر التاريخ، تشارك فيه حركة حماس باعتبارها امتداداً لجماعة الإخوان في فلسطين، ستدفع القضية الفلسطينية ثمنه. مضيفا بأن مؤشرات التنسيق بين الطرفين تعود لسنوات خلت، وأن هدف هذا التحالف يتجاوز إسقاط أنظمة دكتاتورية أو تأسيس أنظمة ديمقراطية، بل وتتجاوز مواجهة الإسلام المتطرف والإرهاب كما هو معلن. دون أن ينفي أن هذه أهداف جزئية أو مرحلية لخدمة هدف أكبر. حيث تريد واشنطن توظيف فزاعة التطرف الإسلامي لتحقيق أهداف أشمل، هي إعادة ترتيب الأوضاع الجيوسياسية في المنطقة بحث تكون منطقة نفوذ لواشنطن ولحلف الناتو ولإسرائيل، من خلال تجديد أنظمة الحكم والتحالفات في المنطقة بما سيعزز ويؤمن مصالح الغرب لسنوات قادمة، وهي سيطرة ستؤدي أيضا لتعزيز مكانة الغرب في صراعه الاستراتيجي مع منافسيه وخصومه الدوليين الحاليين والمستقبليين كروسيا والصين وأية قوة اقتصادية أو عسكرية صاعدة، ومع إيران إن ساءت العلاقة بينهم. لو اقتصرت نتائج هذه الإستراتيجية أو المعادلة الجديدة في المنطقة على إسقاط بعض الأنظمة الدكتاتورية التي انتهت صلاحيتها لهان الأمر وربما وجدنا عذرا لقوى الإسلام السياسي في التنسيق مع واشنطن، إلا أن الخطورة أن هذه الإستراتيجية تستهدف القوى التحررية والوطنية والقومية والديمقراطية الحقيقية، وتستهدف المشروع الوطني التحرري الفلسطيني سواء كان بشكل مباشر أو غير مباشر.[33]

ويتساءل إبراش: “أليست مفارقة خطيرة، أنه في زمن الربيع العربي يتزايد النفوذ الأمريكي والغربي في المنطقة العربية بحيث لم تعد ولو دولة واحدة خارج إطار هذا النفوذ، ويزداد الاستيطان الإسرائيلي والتهويد في الضفة والقدس بشكل غير مسبوق، كما يزداد الوضع المالي والاقتصادي للشعب الفلسطيني تدهورا، بل حتى جهود المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام توقفت!!

 الهوامش

[*] باحث مقيم في رام الله.

[1] بيان نويهض الحوت، القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 1917-1948، بيروت مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1986، ص 504.

[2] مجدي عيسى، المشاركة السياسية لحماس بين التماسك الأيديولوجي والبراغماتية السياسية، رسالة ماجستير نالها من جامعة بيرزيت، إشراف د. هشام فرارجة، 2007، ص 6.

[3] المصدر نفسه، ص 21.

[4] المصدر نفسه، ص 25.

[5]  زكي شهاب، حماس من الداخل، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2008، لندن، عن مجلة أقلام ثقافية.   http://www.aklaam.net/forum/showthread.php?t=17714

[6]  مهيب النواتي، حماس من الداخل، دار الشروق للنشر والتوزيع، 2002، ط1، غزة، عمان، ص 14.

[7]  المصدر نفسه، ص 15.

[8] مجدي عيسى، المشاركة السياسية لحماس بين التماسك الأيديولوجي والبراغماتية السياسية، مصدر سبق ذكره، من المقدمة.

[9] خالد زواوي، مرجعية الخطاب السياسي الإسلامي في فلسطين، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، مواطن، رام الله 2012، ص 74-76.

[10] مجدي عيسى، المشاركة السياسية لحماس بين التماسك الأيديولوجي والبراغماتية السياسية، مصدر سبق ذكره، 2007.

[11] مجدي عيسى، المشاركة السياسية لحماس بين التماسك الأيديولوجي والبراغماتية السياسية، مصدر سبق ذكره، ص 37-39.

[12] سميح حمودة، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت، ملحق فلسطين – جريدة السفير، العدد 34 – 15 شباط (فبراير) 2013 – السنة الرابعة، http://palestine.assafir.com/article.asp?aid=1245

[13]  خالد زواوي، مرجعية الخطاب السياسي الإسلامي في فلسطين، مصدر سبق ذكره.

[14] في استطلاع رأي أجراه مركز رام الله لدراسات حقوق الإنسان في نيسان (أبريل) 2012، كان التأييد الأكبر بين المستطلعين لحركة فتح (27%)، تليها حماس (11%)، ثم حركة الجهاد الإسلامي (8%)، أما في قطاع غزة فكانت فتح هي الأولى، (24%)، والجهاد الإسلامي هي الثانية (16%)، والثالثة هي حماس (13%). http://www.fpnp.net/ar/news/92445.

[15] الموقع الرسمي لحزب التحرير، منتدى العُقاب، http://www.alokab.com/forum/

[16]  بيان صادر عن حزب التحرير سنة 1964، موقع الحزب الرسمي، منتدى العُقاب http://www.alokab.com/forum/

[17]  بيسان عدوان- بانوراما عربية، البلقنة الفلسطينية .. خطوات نحو بدائل للحركة الوطنية، الحركات السلفية في غزة، 25-2-2011.

http://www.journal-ap.com/Print.aspx?AID=1729

[18] محمد أبو علان، شبكة أمين الإعلامية، تقرير الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان- ديوان المظالم، كانون الثاني (يناير) 2010،  http://blog.amin.org

[19]  أ.د. يزيد صايغ، ثلاث سنوات من حكم حماس في غزة، تقرير صادر عن مركز كراون لدراسات الشرق الأوسط – جامعة برانديز، ترجمة مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات – بيروت، أيار (مايو) 2010، ص 6.

[20] حسن خضر، ابن عثيمين وصل، جريدة الأيام، العدد: 6147 – 2013 / 2 / 19.

http://www.al-ayyam.com/article.aspx?did=210097&Date=2/19/2013

[21] عليان الهندي، إسرائيل والإسلام السياسي، شبكة أمين الإعلامية، http://blog.amin.org/alianalhindi/2012/09/12/

[22] صالح النعامي، محددات الموقف الإسرائيلي من الحركة الإسلامية في فلسطين 48، الموقع الرسمي للكاتب،    http://www.naamy.net/view.php?id=1030

[23] الحركة الإسلامية في إسرائيل، http://ar.wikipedia.org/wiki

[24] مجدي عيسى، المشاركة السياسية لحماس بين التماسك الأيديولوجي والبراغماتية السياسية، مصدر سبق ذكره، ص 15-17.

[25]  شفيق الغبرا، حياة غير آمنة، جيل الأحلام والإخفاقات، دار الساقي، بيروت، 2011، ص 341 -342.

[26]   المصدر نفسه، ص 347- 349.

[27] المصدر نفسه، ص 349-350.

[28] المصدر نفسه، ص 349-353.

[29] حسن خضر، ابن عثيمين وصل، جريدة الأيام، العدد: 6147 – 2013 / 2 / 19، مصدر سبق ذكره.

[30] ايهود يعاري، عام على الثورات العربية، محاضرة عن الإخوان المسلمين في إسرائيل، ضمن يوم دراسي عقد في جامعة تل أبيب  25/2/2012. المرجع مدونات أمين، الكاتب أمين الهندي. http://blog.amin.org/alianalhindi/2012/09/12.

[31] ايهود يعاري، عام على الثورات العربية، المصدر نفسه.

[32] سميح حمودة، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بيرزيت، ملحق فلسطين – جريدة السفير، مصدر سبق ذكره.

[33] د. إبراهيم أبراش، هل المشروع الوطني الفلسطيني كبش فداء وصول الإسلام السياسي إلى السلطة؟ الحوار المتمدن، ‏29‏/8‏/2012. http://palnation.org/vb/showthread.php?t=648.