* محمد ماجد الحزماوي

 حياة السكاكيني ونشأته

ولد خليل قسطندي السكاكيني في مدينة القدس عام 1878م، وينتمي إلى عائلة مسيحية أرثوذكسية، تلقى تعليمه بداية في مدرسة الروم الارثوذكس، ثم تركها ليلتحق بمدرسة أسستها جمعية CMS حيث أنهى فيها دراسته للمرحلة الابتدائية، ثمّ التحق بمدرسة صهيون الإنجليزية بالقدس، ومنها التحق بالكلية الإنجليزية حتى تخرج منها عام 1893م([1]). وقد تتلمذ خليل في هذه الكلية على يد معلمه نخلة زريق الذي بث فيه وفي جيله حب اللغة العربيّة والروح الوطنيّة، فنشأ خليل مطبوعًا على حب لغته العربيّة متمكنًا منها ومن آدابها.([2])

وبعد وفاة والده الذي كان يعمل نجارًا في مدينة القدس ومن وجوه الطائفة الارثوذكسيّة فيها([3]) توجه خليل إلى بريطانيا، ومنها انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة عام 1907م حيث أقام في نيويورك، وكانَ عمره آنذاك نحو تسعة وعشرين عامًا، غير أنه لم يلبث هناك أكثر من ثمانية أشهر عمل فيها في المصانع وإعطاء دروس خصوصية في اللغة العربية لأبناء المهاجرين العرب، إلاّ أنه لم يوفق في عمله فعاد إلى القدس في شهر أيلول عام 1908م.([4])

بدأ السكاكيني بعد عودته إلى مدينة القدس يسعى إلى تعريب الكنيسة الأرثوذكسية والحد من سيطرة الرهبان اليونانيين عليها، فأخذ ينتقد رئاستها الروحية الأجنبية التي وصفها بأنها معوجة ومختلفة ينبغي أن تستقيم وتنظم.([5]) وفي عام 1909م أعلن عن تأسيس مدرسته التي أطلق عليها اسم المدرسة الدستورية، وقد دفعه لإنشائها أن مدارس القدس آنذاك كانت إما مدارس حكومية لم تعن باللغات الأجنبية بل كانَ التعليم والتربية فيها متدنيين، وإما مدارس أجنبية كانت تبشيرية.([6])

 كانت المدرسة الدستورية مؤلفة من بستان وصفوف ابتدائية ثمّ إعدادية حيث كانَ طلابها يتخرجون منها مباشرة إلى الفرع العلمي في الكليّة الأمريكية ببيروت.([7]) وامتازت هذه المدرسة  بجمع التلاميذ من مختلف الطوائف دون تمييز واهتمت بتنمية عواطفهم وعملت على إطلاق حرياتهم، وكانَ التعليم فيها بأحدث الأساليب التي تهدف إلى توسيع مدارك الطلبة والارتقاء بعقولهم.([8]) وكانت نظارة المعارف العثمانية تقدم للمدرسة مساعدة مالية سنوية بقيمة 60 ليرة عثمانية.([9])

وفي مطلع عام 1914م شكلت الدولة العثمانيّة في مدينة القدس مجلسًا عرف باسم قومسيون المعارف وعين خليل السكاكيني عضوًا فيه، وكانت مهمة هذا المجلس مراقبة التعليم في المدارس الابتدائية في لواء القدس وتعيين المعلمين وعزلهم وتحويلهم من درجة إلى أخرى ونقلهم من مكان إلى آخر، والنظر في شكاواهم.([10])

وفي عهد الإدارة العسكرية عين السكاكيني عضوًا في عدّة مدارس، عرفت باسم العمدة الشورية المشتركة، وتشكلت من الرؤساء الروحيين لكل الطوائف ومعتمدي الدول الأجنبية ورئيس بلدية القدس، إضافة إلى عدد من الشخصيات الوطنية أمثال عارف الدجاني وإسماعيل الحسيني وسعيد الحسيني ومحمد الإمام والقس إبراهيم باز وجورج سكك.([11])

وبناء على اقتراحه شكلت الإدارة العسكرية هيئة معارف عين عضوًا فيها، كما عينت زوجته سلطانة عضوًا في هيئة المعارف لمدارس البنات.([12]) وعمل السكاكيني في نظارة مدارس الروم الأرثوذكس، غير أنه لم يلبث أن قدم استقالته رغم أنه كانَ يتقاضى راتبًا شهريًا لم يتقاضاه على حد قوله أحد من المعلمين قبله، ولعل السبب الذي دفعه للاستقالة هو نتيجة لما رآه من “انحطاطهم وسوء نيتهم في مدارسهم”.([13])

وفي عام 1919م عين السكاكيني مديرًا لمدرسة دار المعلمين براتب شهري قيمته 20 ليرة، وقد تمّ افتتاح المدرسة في 28 تشرين الثاني عام 1919م، وتسلمت زوجته إدارة المدرسة المنزلية، وحرص على أن يعود التلاميذ على أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، فشكل لهم جمعيات متعددة منها جمعية للمحاضرات وإلقاء القصائد التي كانت تنعقد بعد ظهر يوم الخميس من كلّ أسبوع، وجمعية إصلاحية لحل المشاكل بين التلاميذ دون تدخل المعلمين، وجمعية إدارية تتولى الاهتمام بشؤون إدارة النزل والإشراف على الطبخ، كما أنشأ مكتبة جمعت بعض الكتب المهمة ومجلة نصف شهرية عرفت بالجوزاء كانَ التلاميذ يتولون كتابة المقالات فيها.([14])

وشغل السكاكيني خلال فترة الإدارة العسكرية بإعطاء الدروس الخصوصية لموظفي الإدارة لتعليمهم اللغة العربيّة، وكانَ من بين تلامذته الميجر تدمن Tidmin مدير المعارف ومساعده اللفتننت لك LiK، والكولونيل ووترس تيلر W.Tiller مساعد الحاكم العسكري، والكابتن لامبرت Lammbart رئيس الجزاء، والميجر ولسونWilson  رئيس أطباء الصحة،([15]) ولم يقتصر الأمر على الموظفين فقط بل علّم أيضًا رجال الدين أمثال قسيس الكنيسة الإنجليزية.([16])

وبعد الإعلان عن تأسيس الإدارة المدينة في فلسطين وتعيين هربرت صموئيل مندوبًا ساميًا على البلاد، قدم السكاكيني استقالته من منصبه في دار المعلمين احتجاجًا عل هذا التعيين، فسافر إلى القاهرة بناءً على دعوة من الجمعية السورية الأرثوذكسية لإدارة القسم العربي في المدرسة العبيدية، وبقي في القاهرة حتى عام 1922م ليعود إلى مدينة القدس ويزاول العمل الوطني فيها.([17])

وبعد انتهاء فترة عمل هربرت صموئيل، عاد السكاكيني للالتحاق بإدارة المعارف فعين مفتشًا للغة العربية فيها، وتمّ اختياره عضوًا في المجمع العلمي العربي بدمشق، وفي عام 1938م، أسس في مدينة القدس كلية النهضة بمشاركة كلّ من إبراهيم شحادة الخوري ولبيب غليمه وشكري حرامي.([18])

وفي أواخر عام 1947م سافر السكاكيني إلى القاهرة، وهناك رشحه طه حسين لعضوية مجمع فؤاد الأول للغة العربية، وقد صادق المجمع على هذا الترشيح، وبقي السكاكيني يقيم في القاهرة حتى وافته المنية في 13/8/1953م.([19])

يوميات السكاكيني

تعد المذكرات والسير الذاتية واليوميات والمشاهدات مرآة لصاحبها تعكس الأحداث والظروف التي مر بها، وتعبر بصورة مباشرة عن الوقائع المعيشة وعما تختزنه من خيارات ومشاعر وأحلام وآمال، فهي تعكس “لحظة تقاطع واتصال بين الماضي والحاضر، يجري خلالها تأمل وتفكر وكتابة عن وقائع معيشة، وهذه اللحظة هي حاضر من كتب، وماضي من سيكتب. وهذا الماضي هو المستقبل الذي من أجله أو بداعيه كتبت المذكرات.([20])

وتعطي المذكرات والسير الذاتية واليوميات التاريخ شهادة من شارك في صنع الحدث، فأصحابها دونوا جوانب حيّة وهامة من حياتهم وضحوا من خلالها مواقفهم وآرائهم من الأحداث، وهم في تدوينهم لا يتحدثون عن أنفسهم وتجاربهم فحسب وإنما تختلط هذه التجارب بالأحداث العامة وتجارب معها فجاءت مذكراتهم وسيرهم ويومياتهم تحمل في طياتها معلومات لا تتوفر في المصادر التاريخيّة بمختلف أشكالها.([21])

غير أن اليوميات تختلف عن المذكرات والسير الذاتية، فالمذكرات تعتمد على سرد لماضٍ بعيد أو قريب ولكن يفصلها عن الحدث فترة زمنية قد يتعرض فيها كاتبها إلى النسيان، علاوة على أن مدونها قد يسقط بعض الأمور أو التفصيلات ويبقيها في طي الكتمان حماية لسمعته الشخصية أو سمعة من حوله. وقد يصعب على من يكتب عن نفسه أن يتجرد من الأهواء ولا ينساق مع غرور النفس والتعلق بالذات والفخر الفردي القائم على تعداد مآثر الذات وتحاشي الأخطاء والعيوب.([22]) أما اليوميات فهي تعتمد على التدوين اليومي للحدث والحالة وتقدم صورة يومية من الواقع كما يراها ويعيشها الكاتب. وهذا ما ينطبق على يوميات خليل السكاكيني التي كانَ يدون فيها الأحداث بشكل يومي تقريبًا مضيفًا إلى الذاكرة الفلسطينيّة غنىً جديدًا بما يرفدها به من تفاصيل حية عن وجود بشري حي في مدينة كانت تتقدم على درب الحداثة في زمن ملتبس.([23])

جاءت المحاولة الأولى لنشر يوميات السكاكيني عام 1955م من قبل ابنته هاله، تحت عنوان “كذا أنا يا دنيا”، وتذكر بأنها ترددت بداية في اختيار عنوان الكتاب، ففكرت أولًا أن تعنونه بـ”خليل السكاكيني –إنسان إنشاء الله”، إلاّ أنها اختارت أخيرًا العنوان السابق لما في هذه الكلمات شيء من التحدي وهي تعبر عن القوة الهائلة التي كانت في نفس والدها وذكرت بأنه لم يكن يفكر قط في نشر يومياته بل كانَ غرضه أن تكون كتابًا للأسرة، وكانَ من وقت إلى آخر يستمد من يومياته آراء يضمنها مقالاته وخطبه، فكانت عبارة عن مورد يرجع إليه كلما اقتضت الحاجة.([24])

غير أن ما اختارته هاله في كتاب كذا أنا يا دنيا ما هو إلاّ نزر يسير من يوميات والدها فبقيت تلك اليوميات مدفونة لنحو نصف قرن من وفاة كاتبها ونحو قرن على بداية تدوينها، ثمّ جاءت لترى النور منذ عام 2003م حيث صدر الكتاب الأول من هذه اليوميات من قبل مركز خليل السكاكيني الثقافي ومؤسسة الدراسات المقدسية بمدينة رام الله، واستمر اصدار هذه اليوميات تباعًا حتى عام 2010م عندما صدر الكتاب الثامن والأخير منها، والذي غطى الفترة ما بين 1942م-1952م حيث غادر خلالها خليل منزله ووطنه متجهًا إلى مصر ليبقى فيها حتى وفاته عام 1953م.

وتُعد يوميات السكاكيني ترجمة ذاتية له بصفته أديبًا ومعلمًا ومربيًا ومفكرًا ومؤرخًا ووطنيًا نأى بنفسه عن النعرات الدينية والطائفية فكان مثالًا للإنسان المفكر الوطني الغيور المخلص لقضيته ووطنه. فقد غطت هذه اليوميات مساحة زمنية تزيد عن الأربعة عقود في مضمونها وأحداثها، دوّن فيها كاتبها كل ما مرت به فلسطين عامة والقدس خاصة، من أحداث وتطورات سياسية واجتماعيّة واقتصادية وثقافيّة كما عاشها وشاهدها كاتبها. وتقدم لنا هذه اليوميات معلومات غنية وقيمة لا تتوفر في المصادر التاريخيّة بمختلف أنواعها، مما يجعل منها مصدرًا تاريخيًا هامًا لمن يريد أن يتصدى للكتابة عن تاريخ فلسطين والقدس على وجه الخصوص منذ أواخر العهد العثماني وحتى نكبة فلسطين عام 1948م، فاشتملت على تفاصيل سياسية هامة لا ترد في المصادر التاريخيّة وبخاصة خلال فترة الحرب العالمية الأولى وما بعدها 1914-1920، ويلخص الأديب المقدسي إسحق موسى الحسيني القيمة العلمية ليوميات السكاكيني بقوله:

“دوّن السكاكيني في يومياته هذه، الأدوار التي مر فيها، والأحداث التي أثرت في مجرى حياته، وآراءه في السياسة والأدب والاجتماع والدين والتربية، فهو من ناحية سيرة عصامي عمّر زهاء خمس وسبعين سنة مكافحًا في سبيل العيش، ومدافعًا عن كرامة العقل والخلق والمبادئ السامية، وهو من ناحية ثانية تاريخ للزمن الذي عاش فيه، وعرض مفصل دقيق للحركات السياسية التي تعاقبت على البلاد العربيّة منذ الحكم العثماني إلى ما بعد النكبة، وهو من ناحية ثالثة مجلس نظرات أصلية في شؤون الحياة عامة، وما اصطرع في عقله وقلبه من آراء وعواطف”.([25])

فلسطين عشية الحرب العالمية الأولى

لم تكن فلسطين وحدة إدارية منفصلة ضمن التقسيمات الإدارية التي استحدثتها الدولة العثمانية طوال فترة حكمها للبلاد العربيّة، بل كانت تعرف بسورية الجنوبية في تبعيتها الإدارية، وفي أواخر العهد العثماني قسمت فلسطين إلى ثلاثة سناجق هي: سنجق عكا وسنجق نابلس وسنجق القدس الذي ألحق مباشرة بالآستانة وضم أقضية القدس ويافا والخليل وغزة وبئر السبع.([26])

ووفقًا لقانون الولايات العثمانيّة الصادر عام 1864م، تشكل في مركز كلّ ولاية مجلس عمومي برئاسة الوالي وينتخب أعضاؤه من قبل أعضاء مجلس الإدارة في الأقضية، غير أن الدولة ميزت القدس عن بقية المناطق والأقسام الإدارية الأخرى نظرًا لمكانتها الدينيّة لدى الطوائف الدينيّة الثلاث، فتشكل فيها مجلس عمومي بلغ عدد أعضائه عام 1911م اثني عشر عضوًا كانَ نصيب قضاء القدس من ذلك ثلاثة أعضاء.([27])

وكانَ المتصرف على رأس الجهاز الإداري في لواء القدس واتخذ من المدينة مقرًا له وكانَ يتولى الإشراف على الأمور المالية والمدنية والأمنية، ويساعده عدد من الموظفين الإداريين. كما تشكل في مدينة القدس عام 1863م مجلس بلدي تنافست على رئاسته بعض الأسر المقدسيّة كالخالدي والحسيني والعلمي والدجاني.([28])

ولدى نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914م، أعلنت الدولة العثمانيّة التي كانَ يتولى الحكم الفعلي فيها جمعية الاتحاد والترقي انضمام العثمانيين إلى جانب ألمانيا وبخاصة بعد توتر العلاقات بين روسيا والدولة العثمانيّة حول المعابر المائية للبحر الأسود. وعلى أثر ذلك قامت الدولة العثمانيّة باتخاذ العديد من الاجراءات في المنطقة العربيّة لإحكام سيطرتها وتدعيم سلطتها ونفوذها وكان من بين هذه الاجراءات عزل مدينة القدس عن العالم الخارجي وجعل اتصالها بدمشق فقط، ففي 18 أيلول 1914م أصدرت الحكومة أمرًا أغلقت بموجبه كافة مكاتب البريد الأجنبية ولم يبق سوى البريد العثماني،([29]) الذي أعلنت إدارته بأنها لن تقبل الرسائل إلاّ إذا كانت مفتوحة ومكتوبة باللغة العربيّة أو التركيّة أو الألمانية.([30]) وحتى تتلافى الحكومة أزمة المراجعين أضافت لموظفي البريد العثماني عددًا من الموظفين المقدسيين كانَ من بينهم طاهر الحسيني ابن المفتي وأحمد محمود الحسيني وموسى فيضي العلمي وشريف النشاشيبي ويوسف قاطرجي وعيسى حنا خميس.([31]) وفي مطلع شهر كانون الثاني عام 1915 ألفت الحكومة لجنة مراقبة البريد في القدس، وأعلنت أن المكاتبة يجب أن تكون فقط باللغة التركيّة، أي أن الرسائل التي تكتب بالتركية تخضع للمراقبة في بريد القدس، أما إذا كانت بلغة أخرى -حتى لو كانت باللغة العربيّة- فسترسل إلى دمشق لمراقبتها ثم تعود إلى محل إرسالها حتى لو كانت بين مدينة القدس وأية مدينة فلسطينية أخرى.([32])

لقد عبر أهالي مدينة القدس عن شدة انتمائهم للدولة العثمانيّة، متناسين الخلافات القديمة وسياسة جمعية الاتحاد والترقي في طمس الهوية العربيّة وسياسة التتريك التي حاولت تطبيقها، فكانوا كلما سمعوا بانتصار للقوات العثمانية كسيطرة على أرض أوروبية أو تدمير سفن أو انسحاب أسطول أو إغراق مدرعة يخرجون إلى شوارع المدينة ويزينونها ويطوفون في أحيائها وهم يهزجون الأهازيج الحماسية المعبرة عن فرحتهم لهذه الانتصارات([33]) ومن الأمثلة على احتفالات المقدسيين بالانتصارات التي حققها الجيش العثماني عندما أغرقت المدافع العثمانيّة أربع مدرعات كبيرة للجيش البريطاني في جنق قلعة مما اضطر الأسطول للانسحاب من تلك المضائق، وبهذه المناسبة أقامت الحكومة احتفالًا عامًا في المدرسة الصلاحية.([34]) ولدى سماع الأهالي بالدعاية التي تضمنت أسر القوات العثمانيّة ثمانية آلاف جندي بريطاني والاستيلاء على ترعة السويس خرج الأهالي إلى شوارع المدينة وبدأوا بإطلاق الرصاص والأسهم النارية.([35])

الإجراءات العثمانية في القدس خلال فترة الحرب

أخذت الأوضاع الاقتصادية للأهالي تزداد سوءًا، سيما بعد أن تدفق على مدينة القدس سكان بعض المدن الفلسطينيّة تخوفًا من الأسطول البريطانيّ،([36]) وبدأت المدينة تعاني من نقص في المواد التموينية وزادت المجاعة حتى أن بعض الجنود العثمانيين كانوا يفرون من ثكناتهم العسكرية من شدة الجوع وأن بعضهم كانوا “يعترضون الناس في طريقهم يطلبون إحسانهم ويطوفون على البيوت يطلبون أكلًا، وإذا قدم لهم طعام التهموه كأن لهم أيامًا بدون أكل، ويُقال أن الذين يشتغلون في الطرق منهم لا يأكلون غير العدس بدون خبز.([37])

وحاولت الحكومة حل أزمة نقص التموين بأن أخذت تعمل على شراء الحبوب من الأهالي وتكليف الأفران بعمل الخبز على حسابها وبيعه إلى الأهالي بموجب تذاكر يحصل عليها من الحكومة بعد دفع ثمنها، ومنعت الأهالي من إعداد الخبز اليومي في بيوتهم وفرضت عليهم شراءه من الأفران المخصصة لذلك وذلك بهدف الحد من استهلاك القمح.([38])

ويبدو أن هذا الإجراء لم يكن صارمًا، فيذكر خليل السكاكيني أن دير الروم الأرثوذكس وزع على أبناء طائفته قمحًا بالدين.([39])

ومما زاد الطين بلّة وصول أسراب الجراد التي أخذت تأكل الأخضر واليابس ويصف واصف جوهرية في مذكراته هجمات الجراد على مدينة القدس عام 1913م بقوله “فقد غزا الجراد القدس بصورة فظيعة جدًا فإني أذكر تمامًا والله يشهد أنني عندما كنت نازلًا على سلم البلدية رفعت رأسي إلى السماء مع جميع الناس فلم نستطع رؤية الشمس قطعيًا فكان الجراد الطيار شبيهًا بالغيوم المتكاثفة في الجو مما حجب نور الشمس عن الأرض بتاتًا”، وقد قضى على جميع المزروعات والأشجار كافة حتى “أنني أذكر بأنه كانَ يأكل قشرة الأرومة والأغصان من كافة الأشجار ولم يبق عرق أخضر ولا زهرة حتى في بيوت السكن، ثمّ أنه كانَ يدخل البيوت ويهجم بقوة فائقة على ما يجده أمامه وكثيرًا ما يسقط في بواطي العجين وأواني الطعام”.([40])

وكانَ من بين الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لمقاومة الجراد انها فرضت على كل شخص ذكر من سن اثنتي عشرة سنة وما فوق أن يقدم ثلاثة كغم من بيض الجراد المزروع في أراضي البلاد، وكانَ الشخص الذي ليس في مقدوره جمع هذه الكمية يشتري ذلك من الآخرين ويقدمها إلى الحكومة.([41])

كما أخذت الأوضاع الصحية تزداد تدهورًا فانتشرت الأوبئة والأمراض المعدية التي فتكت بالبلاد كالتيفوس والتيفوئيد والملاريا والجدري،([42]) ولم تتوفر طرق فعالة العلاج في الوقت الذي قلت فيه الأدوية والعلاج والرعاية الصحية.([43])

ولما أغلقت الحكومة دور البريد الأجنبية ومنعت دخول الصحف المصرية وعطلت الصحف المحلية([44]) فلم يبق في المدينة مصادر يستقى الناس الأخبار منها([45]) سوى تلغرافات السفارة ووضعت الحكومة يدها على ممتلكات الرعايا الأجانب من دول الحلفاء كالمدارس والشركات والبنوك والمتاجر والمؤسسات واتخذت بعضها مراكز للجيش العثماني،([46]) أو لدوائر البوليس كما فعلت مع دار كتسلير الروس([47])، فاستولت على بنك كريدي ليونيه والبنك الإنجليزي وغيرها من المصارف الأخرى التي تخص الرعايا الروس والإنجليز والفرنسيين، كما استولت على السكة الحديدية بين القدس ويافا([48]) واستولت أيضاً على المستشفيات التابعة لتلك الدول،([49]) بل دمر الأتراك خلال انسحابهم من المدينة مستشفى العيون الإنجليزي، وقد أعيد بناؤه بعد الاحتلال العسكري البريطاني للمدينة وافتتحه الجنرال ادموند اللنبي في 26 شباط عام 1919م.([50])

وكانَ من بين المدارس التي أغلقتها السلطات العثمانيّة مدرسة الفرير التي نقل إليها المكتب السلطاني، إضافة إلى مدرسة المطران المعروفة St.Georges وتحول طلبة هاتين المدرستين إلى المدرسة الدستورية. وقد نصت أوامر اغلاق هذه المدارس بأنه في حال أن مدارس الحكومة أو المدارس الخاصة الوطنية تضيق بالطلاب بعد تحويل طلبة المدارس الأجنبية إليها تعطى إحدى المدارس الأجنبية بأدواتها ومقاعدها للمدارس الوطنية أو الحكومية.([51])

ويروي خليل السكاكيني أنه حاول أن يستغل هذا الأمر ليحافظ على مدرسة المطران التي كانت تعد من أعرق المدارس الأجنبية في مدينة القدس حتى لا تتحول إلى ثكنة عسكرية أو أن يطلبها الشيخ محمد صالح صاحب مدرسة روضة المعارف. ورغم عدم احتياج المدرسة الدستورية التي يمتلكها السكاكيني لمدرسة المطران، إلاّ أنه قرر أن يطلبها من المتصرف، وكانَ قد التقى قبل لقائه بالمتصرف مع كلّ من القسيس Nick والمستر رينولدس Mr Reynulds وقد رحبا باقتراحه، إلاّ أنه تراجع فيما بعد خوفًا من أن يوشى به إلى الحكومة العثمانية بأن ذلك جاء بناء على اتفاق بينه وبين الإنجليز ويتهم بالتالي بأنه أجنبي النزعة، علاوة على أن الحكومة العثمانية قد تتراجع عن قرارها السابق فيشمت به البعض على حد قوله ويعرض نفسه للسخرية.([52])

وأرسلت الحكومة قناصل الدول الثلاث الموجودين في يافا مع تراجمَتِهم إلى مدينة القدس كأسرى حرب،([53]) ولم تسمح لهم بالسفر خارج المدينة([54]) كما أُخلي الرهبان والراهبات الكاثوليك من أديرتهم إلى خارج المدينة وأحتجز الرهبان في عمارة النوتردام، بينما تمّ حجز الراهبات في مكان آخر.([55]) وفيما بعد أرسلت الكثير من هؤلاء الرهبات في عربات خاصة إلى دمشق.([56])

وبعد إعلان الولايات المتحدة الأمريكية انضمامها في الحرب لجانب دول الحلفاء، أصدرت الحكومة العثمانيّة في القدس إعلانًا يقضي بإمهال الرعايا الأمريكان أربعًا وعشرين ساعة ليسلموا أنفسهم للسلطات العثمانيّة، وإذا لم يلتزموا بذلك فستعتبرهم جواسيس وستعاملهم بأشد الجزاء، كما حذرت الأهالي بأن كل من يخفي أحدًا منهم بقصد أو بغير قصد فسيعامل كجاسوس وستطبق بحقه عقوبة شديدة.([57])

وأخذت الحكومة تعمل على بث الحماس في نفوس أبناء البلاد واثارة مشاعرهم وذلك عبر إقامة الاجتماعات العامة وإلقاء الخطب الحماسيّة فيها، ففي يوم الأربعاء الموافق 18 تشرين الثاني عام 1914م دعت الحكومة لاجتماع عام في ساحة الحرم الشريف للاحتجاج على روسيا وإنجلترا وفرنسا والدعاء للدولة العثمانيّة وحلفائها بالنصر، وقد أقفلت المحلات التجارية وأخذ الشبان المقدسيون يطوفون في شوارع المدينة رافعين العلم العثماني، ولدى وصولهم إلى ساحة الحرم خطب فيهم مفتي القدس كامل الحسيني وقومندان الموقع الذي ترجم خطابه الشيخ عبد القادر المظفر، وبعد ذلك توجه المجتمعون وفي مقدمتهم قنصلا ألمانيا والنمسا حتى وصلوا إلى العمارة الروسية “المسكوبية” حيث ارتجل الشيخ المظفر وألقى خطبة نعت فيها روسيا بالدولة الظالمة الجائرة الملعونة، بعد ذلك سار الموكب وتقدمته الموسيقى العسكرية حتى وصل إلى دار القنصل الألماني، حيث ألقى القنصل أمام الحشود خطابًا أشاد فيه بعلاقات الود بين الألمان والعثمانيين ثمّ شكر عواطف الأمة العثمانيّة نحو الأمة الألمانية وتمنى النصر على الحلفاء.([58])

وقدم من المدينة المنورة موكب يُعرف بموكب العلم النبوي، وكانت تحمل فيه كما يُعتقد راية النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، وكان يتقدم هذا الموكب مفتي الشافعية في مكة المكرمة وبرفقته ولداه، وضم الموكب ثلة من الفرسان كانوا يهللون، وسار الموكب حتى وصل أمام دار راغب النشاشيبي حيث كانَ باستقباله كبار الشخصيات المقدسية ووجهاء المدينة، ثمّ سار الموكب حتى وصل إلى المسجد الأقصى.([59])

الخدمة العسكرية والتجنيد

بعد إعلان الدولة العثمانيّة انضمامها في الحرب إلى جانب دول الوسط، أعلنت التعبئة العامة في البلاد لمن هم تحت السلاح، ولتنفيذ ذلك شكلت لجان تتولى الإشراف على تجنيد أبناء البلاد ممن هم في سن الجندية أو أخذ البدل النقدي منهم مقابل إعفائهم من الخدمة العسكرية، وقد بلغت قيمة هذا البدل 43 ليرة عثمانية.([60])

وكان قانون أخذ العسكر قد فرضته الدولة العثمانيّة على الجميع بغض النظر عن الأديان أو الفئات الاجتماعيّة، فيروي خليل السكاكيني أن مناديًا خرج ينادي في مدينة القدس يدعو الناس من سن الرابعة والعشرين إلى الأربعين من مسلمين ومسيحيين وإسرائيليين متعلمين وغير متعلمين مراجعة دائرة أخذ العسكر في مدينة القدس لإثبات وجودهم.([61]) ويصف أيضاً لدى مراجعته لتلك الدائرة حالة الناس وهم مصطفون أمام الدائرة بقوله “فلما وصلت هناك وجدت ألوانا من الناس مزدحمة تنتظر، فوقفت إلى جانب أتأمل الناس فلم أقرأ على وجوههم إلاّ علائم الخوف والقلق والاهتمام، وعرفت منهم أن من لا يستنكف من استخدام أي واسطة كانت ليخلص من الخدمة العسكرية، يلفقون الأعذار ويقبلون الأذيال ويلثمون  مواطئ الأقدام ويتوسطون زيدًا وبكرًا، لا يملون ولا يخجلون والأعجب أنهم قد ينجحون”.([62])

ويلاحظ أن الدولة أساءت استخدام هذا القانون وتمادت في إذلال الأهالي واحتقارهم، عندما أنشأت طوابير للمكلفين كطابور الحمالين أو النقليات الذي تولى نقل أمتعة الجند ولوازمهم أو من قوت وغيره من ثكنة عسكرية إلى أخرى أو من القدس إلى الخليل أو من الخليل إلى بئر السبع، وكانَ أفراد هذا الطابور يستخدمون أحيانًا الدواب لنقل تلك اللوازم.([63]) ويذكر السكاكيني في يوميته المؤرخة في 8 كانون الثاني عام 1915م أن الحكومة رخصت لطابور الحمالين أن يستخدموا الدواب أو العربات، وقد أشغلوهم في ذلك اليوم في نقل الحطب والصناديق الفارغة وتنكات الكاز وأكياس الخيش من ثكنة إلى أخرى، وكانَ بعض الأنفار من هذا الطابور يستأجرون من يحمل لهم أحمالهم، وكانَ الكثير منهم يستصعبون هذه الخدمة لأنهم كانوا يشتمون منها رائحة الإذلال، فكانوا يفضلون حمل السلاح والخدمة في ميادين الحرب على هذه المهنة.([64])

ولم تكتف الدولة بهذه الفرقة المهينة، بل أنشأت فرقة أخرى أكثر إهانة وتحقيرًا للأهالي دعتها بفرقة الزبالين التي تولت الاهتمام بنظافة المدينة ما دفع بعضهم للقول “ألف سلام على طابور الحمالين وطابور العَمَلة” حتى صار الذين يؤخذون لهذين الطابورين يشكرون الله بأنهم لم يدعوا لفرقة الزبالين.([65]) ويذكر السكاكيني بأن الحكومة كانت تسلم كلّ نفر من أنفار هذه الفرقة مكنسة وقفة ومجرفة ويتوزعون على أزقة المدن وطرقها، ويروى بأن أحد أنفار هذه الفرقة ممن كانَ حظه بالعمل في بيت لحم وبيت جالا أخذ وهو يتجول في الطرق الرئيسة يصيح على الأهالي في بيوتهم بالقول “مين عنده زبالة” وهو ما أدى إلى استياء الأهالي من الاستهتار بالمواطنين إلى هذه الدرجة حتى وصل الأمر إلى أن النساء كن ينظرن من نوافذ بيوتهن يبكين على هؤلاء الرجال،([66]) ولم تكن الحكومة العثمانيّة تتساهل أو تتوانى في إعدام كلّ من يفر من الجندية، بل كانت تقوم بإعدامه بطريقة تشمئز منها القلوب لتجعله عبرة لغيره، ويصف السكاكيني طريقة إعدام شابٍ من إحدى قرى يافا كانَ قد فر من الخدمة العسكرية مرتين متتاليتين فقد “ألبسوه ثوبًا أبيض وربطوه إلى شجرة على طريق مار الياس وأوقفوا أمامه اثني عشر جنديًا ببنادقهم ومن ورائهم ثلاثين جنديًا حتى إذا لم يصبه الصف الأول أعدمه الصف الثاني، وكانَ الجنود كلهم واقفين يشهدون إعدامه ليعتبروا.([67]) وفرضت الحكومة على الأهالي إعانات وتكاليف حربية طارئة، وتحت هذا الشعار أخذت تعمل على ابتزاز الأهالي والإثقال على كاهلهم في دفع الضرائب، ففرضت 50% على الأملاك، و25% على الأرض، و25% على الحيوانات، وأعدت أماكن خاصة لتخزين الأرزاق وكلّ ما يجمع من تموين من الأهالي في كلّ منطقة.([68])

ولتنظيم جمع التكاليف الحربية من الأهالي في مدينة القدس، شكلت الحكومة لجنة لجمع تلك التكاليف برئاسة صالح العلمي الذي كانَ يشغل وظيفة الرئيس الأول لشاويشية البلدية إذ كانت هذه التكاليف تجمع بوساطة دائرة بلدية القدس وتحت إشراف أحد ضباط الجيش، وكانَ أعضاء هذه اللجنة يدخلون كلّ محل من المحلات التجارية في المدينة ويجمعون الكميات الكبيرة من كلّ نوع يحتوي عليه المحل التجاري، ويروي شاهد عيان، وهو واصف جوهرية الذي كانَ مرافقًا لرئيس البلدية آنذاك حسين الحسيني وقد ائتمنه على مفتاح المخزن الذي كانت تجمع فيه التكاليف، الفوضى التي كانت تمارسها لجنة جمع التكاليف الحربيّة وعدم ارتكازها على أسس واضحة ومعقولة فيقول “والجدير بالذكر أنني كنت استلم مرات عديدة كلسات سيدات ثمّ دوميات وألعاب الأولاد والأطفال وكنت أتساءل في نفسي يا إلهي هل من الواجب وجود هذه الأشياء في ساحة القتال”.([69])

وبالإضافة إلى هذه التكاليف، فقد فرضت الحكومة ضريبة بقيمة 20 قرشًا على كلّ شعار يعلق على المخازن والمحال التجارية مما جعل أصحاب هذه المحال يزيلون اللوحات المعلقة على محالهم.([70]) كما فرض قومسيون بلدية القدس إعانة على تراجم القنصليات ومستخدميها وبعض التجار تتراوح قيمتها ما بين 4-10 ليرات عثمانيّة.([71]) وفرضت العسكرية على الطائفة الأرثوذكسية ألف مضربية (رداء) للعساكر الموجودين في مدينة القدس وكانَ ثمن الضريبة الواحدة 12 قرشًا.([72])

لقد كانَ واضحًا أن الحكومة العثمانيّة، بالغت إلى حد كبير في إرهاق الأهالي بدفع إعانات وتكاليف حربية ولوازم العساكر، في ظل أوضاع اقتصادية مترديّة، دون أدنى مراعاة لظروف الأهالي البائسة، ما جعلهم “يضجون من ثقل هذه التكاليف، ويخشى أن لا يبقى شيء بين يدي الناس، نفد الحطب فارتأوا أن يقطعوا أشجار الزيتون في منطقة سعد وسعيد ومحلات أخرى”.([73])

ورغم أن الدولة العثمانيّة حرصت على عدم اثارة الفتن والنعرات الدينيّة بين أصحاب الديانات السماوية الثلاث داخل مدينة القدس، إلاّ أنها حاولت من جهة أخرى تعزيز الجانب الديني ضد دول الحلفاء وتشويه صورتها، فيروي السكاكيني أنه سمع ذات يوم فلاحًا مسلمًا يخاطب آخر مسيحياً بأن الروس يضطهدون المسلمين في بلادهم ويجبرونهم على عبادة الصليب، وأن المسيحيين في حروب البلقان كانوا يخطفون النساء المسلمات ويمتهنون حرمتهن وينتهكون أعراضهن ويتلقفون رؤوس الأطفال المسلمين بعد جزها بالسيف ورؤوس الحراب.([74])

وكانَ أدباء المسلمين ومتنوروهم يروجون بأن الفرنسيين يحاولون قتل اللغة العربيّة في مستعمراتهم، ويسيئون معاملة المسلمين ولا يراعون إحساساتهم، ويضعون الجنود المسلمين الذين يأخذونهم من هذه المستعمرات قسرًا في مقدمة الجيش المحارب ليموتوا دون الفرنسيين، أما الإنجليز فإنهم يحاولون القضاء على العالم الإسلامي ونزع كلّ سلطة منه. ويروجون بأن ألمانيا اعتنقت الإسلام وأن الأمبراطور الألماني غير اسمه إلى محمد وسيذهب لأداء فريضة الحج، حتى وصل الأمر ببعض الفلاحين الذين وفدوا إلى مدينة القدس للخدمة العسكرية كانوا يهتفون “غليوم يا خالنا بسيفك نوخذ ثارنا”.([75])

ويذكر السكاكيني أن النزعة الدينيّة والتعصب الديني لدى المسلمين امتدا ضد المسيحيين الوطنيين في مدينة القدس، حتى وصل الأمر إلى تهديد الأطفال المسيحيين والنساء المسيحيات في شوارع المدينة بذبحهم وطردهم من البلاد، ما يستدل على حد رأي السكاكيني أن هذا الحديث هو “حديث أبائهم واخوتهم في البيوت”.([76]) غير أننا لا نوافق السكاكيني في رأيه هذا سيما أنه نفسه كمسيحي أرثوذكسي كانت تربطه علاقات وثيقة وحميمة بالكثير من الشخصيات المقدسية المسلمة والأسر المقدسية وبخاصة عائلتي الحسيني والنشاشيبي، وكانَ رئيس بلدية القدس سليم الحسيني وراغب النشاشيبي من أكثر هذه الشخصيات علاقة بالسكاكيني، فعندما ضاقت عليه الحياة أرسل إليه سليم الحسيني الأرز والطحين والخضراوات واللحمة وسائر لوازم البيت.([77]) وفي حفل عيد ميلاد ابنه سري حضر عدد من المسلمين لمعايدته بهذه المناسبة كانَ من بينهم حلمي الحسيني وإبراهيم الحسيني وفخري الحسيني الذي أهداه علبة شوكولاته([78])، علاوة على جلسات السهر التي كانَ يمضيها السكاكيني في دور بعض الشخصيات الإسلامية كدار إسماعيل الحسيني،([79]) فيروي في يوميته المؤرخة في 17 تشرين الثاني عام 1917م فيقول “ذهبت في أول المساء إلى بيت إسماعيل بيك الحسيني فشربنا قليلًا من الخمر حتى جاء حسين أفندي الحسيني فشربنا قليلًا، ثمّ ذهبنا إلى بيته واستأنفنا الشرب حتى كدت أضرب رأسي بالحائط.([80]) وعندما فرض عليه البدل العسكري قدم له حسين سليم الحسيني 22 ليرة عثمانيّة وعرضت عليه آمنة الحسيني زوجة زكي الداودي مساعدته في تدبير المبلغ.([81]) ويروي السكاكيني أيضاً بأنه استدان من جواد ابن إسماعيل الحسيني خمسين قرشًا، ولدى طلب الدائن دينه أمهله السكاكيني بضعة أيام لتدبير المبلغ وقد وضع إسماعيل الحسيني والد الدائن من ذلك عشرين فرنكا للسكاكيني ليدفع نصفها لابنه جواد وهو قيمة المبلغ المستدان.([82])

وينطبق الأمر ذاته على موقف الحكومة العثمانيّة التي حرصت على عدم إثارة النعرات الطائفية بين الأهالي، ودليل ذلك منعها المسلمين في مدينة القدس من إحياء ذكرى فتح صلاح الدين الأيوبي لمدينة القدس الذي كانَ من المقرر اقامته بالمدرسة الصلاحيّة، وجاء ذلك القرار من قبل نظارة الداخلية العثمانيّة خوفًا من أداء المسلمين الصلاة بمحراب المدرسة على روح صلاح الدين واعتقادهم بأنهم إذا دخلوا المدرسة فسيخلصونها من المسيحيين، واقتصرت هذه المناسبة على زيارة المسلمين لمقبرة مأمن الله([83]) التي دفن فيها الشهداء المسلمون خلال فترة الفتح الصلاحي للمدينة.([84])

الإدارة العسكرية في فلسطين

اجتازت القوات البريطانيّة بقيادة الجنرال إدموند اللنبي E.Allenby حدود فلسطين في تشرين أول 1917م، وفي 8 كانون الأول من العام نفسه دخلت مدينة القدس، واستمرت العمليات العسكرية البريطانيّة حتى تمكنت من السيطرة على فلسطين في شهر أيلول 1918م.([85])

بعد ذلك أُعلن عن تشكيل إدارة بلاد العدو الجنوبية المحتلة، وعين الجنرال كلايتون Claytnon الضابط السياسي العام في المكتب العربي في القاهرة مديرًا للإدارة العسكرية لتنفيذ المخططات البريطانيّة في فلسطين القاضية بإنشاء الوطن القومي اليهودي.([86]) وجعلت هذه الإدارة مقر قيادتها في القدس، واتخذت بناية أوغستا فكتوريا الألمانية في جبل سكوبس مكاتب لها.([87])

قُسمت فلسطين خلال عهد الإدارة العسكرية 1917-1920م إلى عدّة ألوية جعل على رأس كلّ لواء حاكم عسكري بريطانيّ يرتبط بالحاكم العسكري في القدس، وكانت مدينة القدس مركزًا للواء القدس الذي ضم كلاً من القدس والخليل([88]) وعين الجنرال رونالد ستورز R.stories حاكمًا عسكريًا على القدس كما عين الكولونيل ووترس تيلر W.Tiller مساعدًا له.

أنشأت الإدارة العسكرية في القدس دوائر مختلفة، عينت على رأس كلّ إدارة موظفاً بريطانياً، وكانَ بعض الموظفين الإنجليز يتعاملون مع الأهالي بطريقة سيئة دون احترام ولعل من أبرزهم رئيس محكمة الاستئناف وهي المحكمة العليا في البلاد وتضم ثلاثة قضاة([89]) وكانَ رئيسها كما وصفه السكاكيني “فظ الأخلاق بذيء اللسان لا يكف نهاره كله عن إهانة أعضاء محكمته”.([90])

أما الحاكم العسكري الجنرال ستورز فكان “مكروه سيء السمعة يقول كثيرًا ولا يفعل شيئًا، فهو أشبه بالحكام الأتراك الذين لم يكونوا يعرفون إلاّ سياسة التملق… مولع بالنساء منحط الأخلاق، لدرجة أنه لا يستنكف أن يخلو بالمرأة في مكتبه”.([91]) وقد أكد ذلك مساعده تيلر للسكاكيني بقوله “إنه كذوب يشير بالشيء فإذا كانت النتيجة سيئة ألقى التبعة على غيره، وإذا عمل غيره ممن هم معه عملًا حسنًا انتحله لنفسه. وضعت في مدة تغيب الجنرال موني تقارير كثيرة رفعها هو باسمه”([92]) وأخذ يعمل على بث بذور الخلافات بين الطوائف بل وبين أبناء الطائفة الواحدة، فمنذ أن جاء وهو كما يقول السكاكيني “لم يعرف إلاّ المفتي وبعض أفراد الأسرة الحسينية، لا يصدر إلاّ عن رأيهم ولا يصدرون إلاّ عن رأيه”([93]) وفي المسألة الأرثوذكسية وقف إلى جانب الرهبان اليونان ضد الوطنيين من أبناء البلاد.([94])

واتبعت الإدارة العسكرية سياسة التفريق الطائفي فوقفت إلى جانب المسيحيين واليهود ضد المسلمين، وقد عبر عن ذلك خليل السكاكيني في لقاء له مع ووترس تيلر مخاطبه قائلًا “فمنذ احتللتم البلاد اعتز صعاليك المسيحيين واليهود وشحنوا برؤوسهم إلى السحاب، وجعلوا ينظرون إلى وظائفهم الصغيرة إلى مسلمي البلاد نظرة الكبير إلى الصغير، بل نظرة السيد إلى المسود، جعلوا يؤسسون الجمعيات الدينيّة الطائفية وليس في جمعياتهم ما يشتم منه رائحة وطنية، جعلوا يعارضون المسلمين في آمالهم القوميّة، فصار الكاثوليك يرجون مصالح فرنسا، والروم الأرثوذكس مصالح روسيا ومصالح بريطانيا أو على الأقل يعارضون المصلحة الوطنيّة”.([95])

ومنحت الإدارة العسكرية اليهود الوظائف الهامة في الدوائر الحكومية وسمحت لهم برفع الأعلام الصهيونيّة في احتفالاتهم، وشجعت الفساد الأخلاقي دون مراعاة العادات والتقاليد الاجتماعية في المجتمع المقدسي فقد “جعل بعض أصحاب الحوانيت يستخدمون فتيات اليهود في حوانيتهم لاستدعاء إقبال الإنجليز عليهم مما تستوحش منه النفس البشرية”.([96])

ووضعت الإدارة العسكرية في مدينة القدس يدها على كثير من منازل المواطنين دون أن تدفع أجرتها، وقد خاطب السكاكيني تيلر مبرزًا سلبيات الإدارة العسكرية فيقول “أخذتم أشياء كثيرة من حبوب وحيوانات وغيرها ولم تدفعوا ثمنها، كثير من البيوت نهب أثاثها ورياشها وحلي النساء كغنائم حربية… بعض ضباطكم يرتشون”.([97])

وفي الجهة المقابلة فقد أخذت بعض الشخصيات المقدسيّة تتودد للإدارة العسكرية وتتقرب من مسؤوليها وذلك حفاظًا على نفوذها ومصالحها، سيما أن بعض الأسر المقدسيّة كانت خلال العهد العثماني تعتمد على الوظائف التي استمدت منها نفوذها واعتمدت هذه الأسر على الأوقاف فاعتادت السلطة والنفوذ ولما خضعت البلاد للحكم العسكري البريطاني خشيت هذه الأسر على نفوذها ومكانتها فأخذت تتقرب من السلطة الجديدة فآثرت مصلحتها الخاصة على كلّ مصلحة.([98]) ويعبر عن ذلك السكاكيني بقوله “فترى فلانًا فتظنه من سادات البلاد يترفع عن مخالطة الناس ولا يخالط إلاّ كبار القوم، ذلك السيد لا يستنكف في الخفاء أن يقبل أذيال الحاكم ويلتمس عطاءه أو يزعجه كلّ يوم في تعيين ابنه أو أحد أقاربه في وظيفة يتمكن فيها من السلب والنهب.([99]) وفي رسالة بعثها إلى عيسى العيسى في يافا مؤرخة في 13 تموز 1919م هاجم فيها خليل السكاكيني بعض الفئات المقدسيّة بشدة ومما قاله فيها: “في البلاد فئة من الناس أشبه من عالم النبات بخضراء الدمن، ومن عالم الحيوانات بالحلم ومن النوامي في جسم الاجتماع بالسرطان أو الدمامل، ومن سائر الموجودات بالنفايات والعفونات ومن الروائح بريح الجورب العرق، ومن الطعوم بالزقوم، ومن المسموعات بشحيج البغال وعواء الذئاب، ومن العيوب بالعمى، ومن الألوان بالبهق، ومن الدهر بالأجيال المظلمة، فئة هي عار الإنسانيّة وغضاضة الفضل ومنقصة الأدب وآفة كلّ فضيلة، فئة لو انتسبت إلى الكلاب لتبرأت منها، فئة كانت الوطنية بالأمس ذنبًا لغيرها، فأصبحت اليوم سلعتها التي بها تتاجر…”.([100])

ولعل السكاكيني يقصد في هذه الرسالة الشخصيات المقدسيّة التي أخذت تدافع عن فكرة فلسطين للفلسطينيين وترفض تبني الوحدة مع سوريا، وذلك لإبعاد القضية الفلسطينيّة عن محيطها العربي، ولا شك بأن هذه الطروحات كانت بتوجيه من قبل الإدارة العسكرية البريطانيّة وربما أيضاً من قبل فرنسا التي كانت تظهر العداء للأمير فيصل بن الحسين وتبيت النية لاحتلال دمشق.

تصور يوميات خليل السكاكيني الوضع الاجتماعي للمجتمع المقدسي بشكل دقيق سيما أن السكاكيني مقدسي عاش في البلدة القديمة من مدينة القدس، وكانت تربطه علاقات اجتماعية وثيقة مع بعض الأسر المسلمة في المدينة وبخاصة الحسيني والنشاشيبي والعلمي. وكلّ جمعية أو هيئة أو حزب لا تضم في عضويتها أحد أفراد أسرة معينة فإن الأسرة تنقلب على ذلك حتى لو كانَ في الأمر خيرٌ فلا يكون “الرأي صحيحًا عند أحدهم إلاّ إذا كانَ هو صاحب الرأي أو أحد أفراد أسرته”. ويعطي السكاكيني مثالًا على ذلك العضوية في الجمعية الإسلامية المسيحية بالقدس، فالمسلمون منقسمون على بعضهم بعض وكلّ واحد منهم يمثل أسرته ويحافظ على تقاليدها قبل أي شيء.([101])

ويصدر السكاكيني حكمًا قاسيًا على المجتمع الإسلامي المقدسي. بعضهم “يراعون في جوابهم شخص السائل لا سؤاله، وفي اجتماعاتهم الخصوصية يقولون شيئًا وفي الاجتماعات العمومية يقولون شيئًا آخر”.([102])

يبدو واضحًا أن حكمه على المسلمين في المدينة كانَ قاسيًا ومبالغًا فيه ويفتقر إلى الدقة والصواب، بل إن السكاكيني يناقض نفسه في بعض الأحيان خاصة أنه كتب ذلك في ظل ظروف سياسية حرجة كانت تمر بها القضية الفلسطينية والمتمثلة بعقد المؤتمر الفلسطيني الأول عام 1919م والذي شهد تباينًا واضحًا وخلافًا عميقًا في الرؤى والمواقف السياسية خاصة أنه دون هذه الآراء في يومية السبت الموافق 25 كانون ثاني 1919م، ونراه يناقض نفسه في رأي سابق تجاه المسلمين دونه في يومية السبت الموافق 1 كانون الأول عام 1917 أي قبل ذلك بنحو العام عندما خرج من السجن في دمشق بجهود ومساع من قبل بعض أصدقائه المسلمين فيقول “ولا لي هنا من الجهر أني قد جربت أخلاق الناس في هذه البلاد، فلم أجد من أهل الفضل والمروءة غير المسلمين… وإن فتشت وجدت كلّ أصدقائي من المسلمين”.([103]) وتشهد الكثير من يومياته في مدى العلاقة الحسنة والمودة بين مسلمي القدس ومسيحييها، وبخاصة مع السكاكيني نفسه والذي كثيرًا ما كانَ يمضي ليالي السهر في دور المسلمين وفي داره أيضاً على أنغام عود الموسيقار المقدسي المسيحي الأرثوذكسي واصف جوهرية وأخيه توفيق وبحضور العديد من الشخصيات المسلمة والمسيحية([104]) ناهيك عن المساعدات المالية والعينية التي كانَ يقدمها بعض أعيان المسلمين للسكاكيني فيذكر في إحدى يومياته أنه استدان من الحاج أمين الحسيني ثماني ليرات دفعها أجرة للبيت([105]) وفي بداية الحرب العالمية الأولى حيث نقصت المواد التموينية في أسواق المدينة وزادت الأوضاع الاقتصادية ترديًا وارتفعت أسعار السلع ويعترف السكاكيني بأنه في بعض الأحيان لم يكن وأسرته يأكلون سوى “الخبز والعنب والسلطة، أما اللحمة فلم تدخل دارنا”. وهنا لم يفكر السكاكيني في اللجوء لمساعدته في هذه الضائقة إلاّ بأحد أعيان أسرة الحسيني وهو حسين سليم الحسيني رئيس البلدية([106]) ، فما كانَ من حسين إلاّ وأن استجاب لطلب السكاكيني حيث “أوصى أحد تجار الطحين الخواجة حنا أن يرسل إليه كيسي طحين، وأوصى أحد باعة الخضرة أن يرسل ما أحتاجه يومًا فيومًا فشكرت فضله وأثنيت على وفائه ومروءته واغتبطت بهذه الصداقة التي لا تثمن”.([107])

يظهر هذا النص بوضوح مدى علاقة الود بين المسيحيين والمسلمين في المدينة، لقد لجأ في وقت عز فيه الطحين إلى صديقه المسلم ولم يلجأ إلى بائع الطحين من أبناء ملته، أليس ذلك دليلًا قاطعًا على وهن الطائفية في مدينة القدس؟ أليس ذلك أيضاً دليلًا على عدم الدقة في الآراء والتسرع في إصدار الأحكام؟.

الجمعية الإسلامية المسيحية في القدس

حرص الفلسطينيون وبخاصة المقدسيين منهم على تحقيق التضامن الإسلامي المسيحي وذلك على اعتبار أن الحركة الصهيونية لم تميز بين المسلمين والمسيحيين في مخططاتها، فضلًا عن التأكيد للعالم الأوروبي بأن للمسيحيين نصيبًا في الدفاع عن مقدساتهم الدينية في فلسطين([108]) وتنفيذاً لهذه الرؤية تم الإعلان عن تشكيل الجمعية الإسلامية المسيحية بمدينة القدس من المفكرين ذوي الوجاهة من المسلمين والمسيحيين في مدينة القدس، فأعلنت بأن غايتها الحفاظ على حقوق أبناء الوطن المادية والأدبية وترقية شؤونه الزراعيّة والاقتصاديّة والتجاريّة واحياء العلم وتهذيب الناشئة الوطنيّة.([109]) وتشكلت الهيئة الإدارية الأولى للجمعية من أعضاء ممثلين للجمعية الخيرية الإسلامية بالقدس إضافة إلى ممثلين عن جمعيتي الإخاء الأرثوذكسيّة واللاتين علاوة على ممثلين عن أهالي القرى التابعة لمدينة القدس، وبلغ مجموع الأعضاء أربعين عضوًا.([110])

وينتقد خليل السكاكيني هذه الجمعية فيعتبرها غير قانونية لأنها بالأصل عبارة عن جمعيات طائفية خيرية ولا تمثل الرأي العام في مدينة القدس.([111])

كما أنها لا تضم إلاّ رؤوس الأسر ممن عاشوا في كنف العثمانيين وتربوا على مبادئهم وتخلقوا بأخلاقهم، لذا فلا يمكن أن تكون سياسة هذه الجمعية إلاّ “سياسة التملق والتزلف فضلًا عن ضعف الرأي وسخافة العقل وقصر النظر”.([112]) ويمضي السكاكيني في انتقاده للجمعية فيذكر بأن أعضاءها غير متآلفين ولا متحابين وتسودها الطائفية وعدم الثقة فالأعضاء المسلمون على حد زعمه “لا ينظرون إلى المسيحيين إلاّ بارتياب وعدم الثقة، ولا يتساهلون في اعتبار أحد من المسيحيين إلاّ إذا كانَ يؤيد جانب إحدى أسرهم”.([113]) ويذكر بأنه لا يحضر اجتماعات هيئتها الإدارية إلا عدد يتراوح ما بين 10-11 عضوًا، وتجتمع مرة واحدة في الأسبوع، ويفتتح الأعضاء جلساتهم ويختتمونها دون قراءة وقائع أو تقرير أمر، لا يلتزمون بدفع اشتراكاتهم الشهرية حتى وصل الأمر بأنهم “يضيقون ذرعًا كلّ شهر بأجرة البواب”([114])

وبعد تأسيس هذه الجمعية بفترة وجيزة وردًا على المؤتمر الذي عقده اليهود في يافا في 18 كانون أول 1918م، اتجهت الجهود الفلسطينيّة لتوحيد الجمعيات الإسلاميّة  المسيحية في مختلف أنحاء البلاد بجمعية واحدة تتبنى أهدافًا وبرنامجًا واحدًا، وقد أسفرت هذه الجهود عن تشكيل الجمعية الإسلاميّة المسيحية الفلسطينية التي اتخذت من مدينة القدس مركزًا لها.([115])

وبالرغم من ذلك فإن خليل السكاكيني بقي متشائمًا من الجمعية سيما أن الوجوه القائمة عليها لم تتغير، ومعظمها كانت تحابي السلطة العسكرية البريطانية، ففي اجتماع عقد بمنزله حضره عدد من الوجهاء والأعيان كانَ من بينهم الحاج أمين الحسيني ورشدي الإمام وفخري الحسيني والشيخ سعيد الخطيب، ومحمد يوسف الخطيب وعمر الزعبي والدكتور زكي أبو السعود وشكري التاجي، دار البحث على الثقة بالجمعية الإسلامية المسيحية بالقدس والجمعية الفلسطينية التي تشكلت مؤخرًا، وجرى نقاش مستفيض أكد السكاكيني فيه بأنه إذا كانت هاتان الجمعيتان موضع ثقتنا فيجب أن نعمل على مؤازرتهما وتأييد مطالبهما، أما إذا لم تكونا موضع الثقة فيجب العمل على إبطالهما أو على الأقل تلافي ضررهما.([116])

وتمدنا يوميات السكاكيني بمعلومات قيمة عن الجمعية الإسلامية المسيحية وعلاقتها بالسلطة العسكرية وهو ما يعزز رأيه في أزمة الثقة بها، فقد قدمت الجمعية طلباً للحاكم العسكري في القدس الجنرال ستورز  للقيام بمظاهرة احتجاجية على الهجرة الصهيونيّة والادعاءات الصهيونيّة بفلسطين، ويروي السكاكيني أن هذه الفكرة نشأت خارج إطار الجمعية، وكان أول من اهتم بها كامل الحسيني مفتي القدس، وموسى كاظم الحسيني رئيس البلدية، وعارف باشا، وان ستورز هو الذي أوعز لهم بذلك، فسافر إلى مصر حتى لا تجري المظاهرة أثناء وجوده، فتقدمت الجمعية لمساعده تيلر للقيام بالمظاهرة، إلاّ أن الرأي العام استقر على القيام بها بعد عودة ستورز، سيما أنهم علموا بأنه هو الذي أوعز بقيامها.([117])

وبالرغم من ذلك فإن تيلر لم يعترض على الجمعية الإسلاميّة المسيحية بالقيام بالمظاهرة خلال فترة غياب ستورز، وقد أبدى ذلك في مكتبه خلال لقائه مع كلّ من خليل السكاكيني ويعقوب فراج، وطلب منهما تحديد اليوم وأسماء المسؤولين وتقدير عدد المتظاهرين وأسماء الخطباء وبيان المواضع التي سيتكلمون عنها، وتعهد لهما بأنه سيأمر اليهود بأن يلزموا بيوتهم أثناء المظاهرة.([118])

ونتيجة لهذه الطلبات التي أبداها تيلر فقد اعتذرت الجمعية عن القيام بالمظاهرة، الأمر الذي دفع ستورز بعد عودته من القاهرة للقاء السكاكيني وطالبه بأن يبذل قصارى جهده لإقناع أعضاء الجمعية بالعدول عن قرارهم، وبالرغم من عدم قناعة السكاكيني كما يذكر للقيام بهذه المهمة، إلاّ أنه ذهب إلى دار الجمعية والتقى مع كلّ من عارف الداودي، ومحمد يوسف العلمي، وموسى البديري، ولطفي أبو صوان، وأبلغهم بطلب ستورز غير أنهم أبلغوه بموقفهم الثابت تجاه عدم القيام بالمظاهرة مبررين ذلك بعدم قدرتهم تحمل مسؤولية ذلك وأخذ كافة الاحتياطات اللازمة أثناء القيام بالمظاهرة، وذلك حسب طلب الحكومة.([119])

ومهما يكن من أمر فإن هذه الجمعية لم تلعب دورًا هامًا على الساحة السياسية الفلسطينيّة سوى عقدها للمؤتمر الوطني الفلسطيني الأول ورفع صوت الشعب الفلسطيني من خلاله إلى مؤتمر الصلح في باريس علاوة على دورها في إيصال صوت الشعب الفلسطيني وبسط القضية أمام لجنة كنج كرين خلال زيارتها للبلاد، أما ما عداهما فقد كانَ عملها دعائيًا له أهمية في مرحلته.([120])

وقد ظهر إلى جانب هذه الجمعية في مدينة القدس جمعيات ونوادٍ أخرى، كانَت ذات طابع خيري واجتماعي، بينما كانَ بعضها الآخر ذا طابع سياسي، ومن هذه الجمعيات جمعية تهذيب الفتاة الأورثوذكسية وهي جمعية خيرية مسيحية تولت رئاستها كاترين شكري ديب، وكانت تهدف إلى تعليم الفتيات المتفوقات أو ممن لم يستطعن الالتحاق بالمدارس بسبب الظروف الاقتصادية، وتمكنت هذه الجمعية من تعليم كثير من الفتيات في الكلية الإنجليزية وكلية شميدت في مدينة القدس.([121]) كما أنشأت طائفة الأرثوذكس أيضاً جمعية الإخاء الأرثوذوكسي بهدف الاهتمام بمصالح الطائفة.([122]) وعلى غرارهما أنشأ الكاثوليك جمعية خاصة بهم عرفت باسم الجمعية الكاثوليكية لرعاية شؤون أبناء الطائفة.([123])

وأنشأ المسلمون جمعية خيرية نسائية عرفت باسم جمعية السيدات المسلمات وكانت أيضاً ذات طابع اجتماعي خيري،([124]) إضافة إلى جمعية نهضة الفتاة العربيّة، التي كانت ترمي إلى الاهتمام بأوضاع التعليم في المدينة.([125])

وفي أوائل شهر حزيران سنة 1918م تمّ الإعلان عن تأسيس النادي العربي، وقام على تأسيسه مجموعة من الشباب المؤمنين بالوحدة العربيّة، وكانَ من بينهم الحاج أمين الحسيني ومحمد العفيفي ويوسف ياسين، وحسن أبو السعود، وإبراهيم سعيد الحسيني، وتتلخص أهدافه بهدفين هما الوحدة مع سوريا ومكافحة الصهيونيّة([126]). وفي العام نفسه تأسس المنتدى الأدبي وتولى رئاسته جميل الحسيني، وكانت أهدافه تتفق وأهداف النادي العربي.([127]) اهتم الناديان بالعمل الوطني وذلك من خلال إقامة الحفلات وتمثيل الروايات التاريخيّة، ففي 18 نيسان 1919م قام أعضاء النادي العرب بتمثيل رواية شهداء العرب([128])، كما كان يقوم بحفلات تكريم بعض الشخصيات الوطنية والأدبية، ومن الأمثلة على ذلك إقامة حفل تكريم بروضة المعارف للشيخ عبد القادر المظفر.([129])

وكانَ الناديان أحيانًا يقومان بإحياء بعض المناسبات الوطنيّة، ففي 9 أيار عام 1919م، احتفلا بذكرى عيد استقلال العرب وهو إعلان الثورة العربيّة في الحجاز، وجاء ذلك بناءً على اقتراح تقدّم به خليل السكاكيني للجمعية الإسلامية المسيحية، وكانَ من بين الشخصيات التي حضرت هذه المناسبة التي أقيمت بالمنتدى الأدبي الجنرال ستورز وحاشية من الضباط ومعتمدي الدول الأجنبية، وافتتح الحفل فخري النشاشيبي ثمّ تلاه من الخطباء صليبا الجوزي وعزيز الخالدي وحربي الأيوبي، واختتم الحفل بالنشيد الوطني الذي وضعه السكاكيني خلال وجوده في جبل الدروز.([130])

وينتقد السكاكيني أعضاء هذين الناديين بعدم الاكتراث والاهتمام بحضور الندوات واللقاءات العلمية، فيذكر أن النادي العربي كلفه بإعداد محاضرة عن المتنبي ثائرًا، ولدى إلقائه للمحاضرة كانَ الحضور قليلًا اقتصر على عدد قليل من الفلاحين وتلاميذ المدارس ولم يحضر إلاّ عدد قليل من الشخصيات المقدسية، إذ لم يحضر من الجانب الإسلامي إلاّ من كانَ بيته قريباً من النادي، بينما لم يحضر من الجانب المسيحي سوى ثلاثة أشخاص فقط، ولم يحضر أي من أعضاء المنتدى الأدبي رغم توجيه دعوة رسمية لهم.([131])

يبدو واضحًا مما أورده السكاكيني مدى  شدة المنافسة والتحسّس بين الناديين، سيما أن النادي العربي كانَ يمثل أسرة الحسيني وأنصارها، بينما كانَ المنتدى الأدبي يمثل أسرة النشاشيبي وحلفاءها، غير أنه من اللافت للنظر حضور الفلاحين لتلك المحاضرة، وهو أمر مستهجن فمن المستبعد أن يكون النادي العربيّ قد وزع دعوات على القرى، ولا اعتقد أن هذا الأمر يخطر ببال أعضائه أو هيئته الإدارية، ناهيك عن عدم اكتراث الفلاحين بهذا الأمر في تلك الأوقات، وبالتالي فمن الممكن أن يكون تواجد هؤلاء الفلاحين على سبيل الصدفة في مدينة القدس وبالقرب من مقر النادي، خاصة أن الفلاحين كثيرا ما كانوا يعتمدون على المدن في بيع منتوجاتهم الحيوانية التي كانوا يعتمدون عليها بشكل أساسي في حياتهم.

استمر عمل الناديين لمدة تتراوح ما بين 4-5 سنوات على أبعد تقدير، وذلك بالنظر لتسلم الحاج أمين الحسيني رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى، والتغيير الجذري الذي طرأ على الحرية السياسية في عشرينات القرن الماضي، وقد جنح فيما بعد شباب النادي العربيّ إلى الحركة الوطنيّة بزعامة الحاج أمين الحسيني، بينما جنح معظم شباب المنتدى الأدبي إلى الحركة المعارضة التي يتزعمها راغب النشاشيبي.([132])

  الفلسطينيون ومؤتمر الصلح

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وإعلان الهدنة بين الدول معلنة انتصار دول الحلفاء أخذت الدول الحليفة تسعى لتسوية القضايا والمسائل التي ترتبت على الحرب فتقرر عقد مؤتمر لبحث كافة المسائل استنادًا للوعود والعهود التي أبرمت خلال الحرب.([133])

وعلى أثر ذلك بدأت الشخصيات الفلسطينية في مدينة القدس بالتحرك وعقد الاجتماعات لبسط القضية الفلسطينية على مائدة المؤتمر. ففي اجتماع عقد في مكتب الكولونيل ووترس تيلر وبحضور كلّ من كامل الحسيني مفتي القدس ورئيس البلدية سليم الحسيني نصحهم تيلر بأن يرسلوا وفدًا إلى مؤتمر الصلح من أصحاب المكانة والوجاهة، وأن يكون المفتي من بينهم ويرافقه بعض الشخصيات المسيحية كمتري سلامة أو جرجي الحمصي، وبين لهم بأن اليهود بدأوا بالتحرك وأخذوا يرسلون الوفود لمختلف الدول الأوروبية لإقناع الرأي العام الأوروبي بأنهم يشكلون أكثرية السكان في فلسطين وبأنهم على وفاق مع العرب، ولهم أيضاً حقُّ تاريخي وديني في فلسطين([134])

وقد تداعى عدد من الشخصيات فعقدوا اجتماعًا بمنزل خليل السكاكيني، كان من بين الحضور الحاج أمين الحسيني، وجودت القندوس، وعزيز الخالدي، ومحمد يوسف الخطيب، وعمر الزعني، وعبد الصمد العلمي، وتم الاتفاق في هذا الاجتماع بأن تعقد جمعيات القدس لقاء لأعضاء الجمعية العمومية تدعو إليه عددًا كبيرًا من أهالي مدينة القدس لبحث أحوال فلسطين الحاضرة، وتم الاتفاق على أن يلازموا أعضاء الجمعية العمومية بشكل متواصل تنشيطًا لهم واستنهاضًا لهممهم، كما اتفقوا أيضاً على عقد الحفلات واللقاءات بشكل مستمر لإحياء العاطفة الوطنية وشحذ الأذهان ونشر القصيدة الوطنية المتمثلة بالجامعة العربية.

وتنفيذًا لذلك عقد اجتماع في 1 شباط 1919م وحضره كلّ من الجنرال ستورز الحاكم العسكري ونائبه تيلر حيث ألقيت الخطب والكلمات التي أحدثت كما يقول السكاكيني “الدوي الذي نريده”.([135]) وقدم المجتمعون للحكومة العسكرية مضبطة باسم الشبيبة، طالبوا فيها ضم فلسطين إلى سوريا واتخاذ كلّ الوسائل لدرء الخطر الصهيوني، وتمّ قبول هذه المضبطة بالإجماع من قبل أعضاء الجمعية العمومية وإن انتقدها بعض مندوبي القدس باعتبارها باسم فريق من الشبيبة لا باسم القدس عمومًا.([136])

وفي 10 كانون الثاني 1919م زار كلّ من عارف الداودي، ومحمد يوسف العلمي، ومحمد يوسف الخطيب، خليل السكاكيني في منزله، وذلك للاطلاع على رأيه في الأوضاع السياسية، واقترح السكاكيني ضرورة عقد اجتماعات في كلّ المدن الفلسطينية، ثم يجري عقد مؤتمر عام تناقش فيه مختلف الآراء والتوجهات، واقترح أيضاً تشكيل هيئة تجوب مختلف الأقطار العربية وأوروبا لبسط القضية الفلسطينية والاطلاع على السياسة الخارجية لدول أوروبا، كما اقترح السكاكيني تفويض الأمير فيصل لتمثيل الفلسطينيين “فمن يضاهي الأمير في وطنيته وإخلاصه؟ أو الحنكة والاختبار، لو فتشتم البلاد في طولها وعرضها لما وجدتم من يقدر على القيام بأعباء هذه المهمة العظيمة قيام الأمير بها”. غير أن هناك فئتين ستعترضان على ذلك كما يقول السكاكيني، الفئة الأولى: المسيحيون لأنهم يعتقدون إن الأمير قام بالثورة كأمير مسلم، أما الفئة الثانية فتضم الكثير من المسلمين في سوريا وفلسطين لأنهم يعتقدون أن الأمير قام كأمير حجازي، ويرد السكاكيني على ذلك بقوله إن الأمير قام كأمير عربي لا يشتغل إلاّ للجامعة العربيّة.([137])

وفي اجتماع له بمنزل عارف الداودي رئيس الجمعية الإسلامية المسيحية، وبحضور كلّ من الحاج أمين الحسيني والدكتور زكي أبو السعود، يذكر السكاكيني أن خطة الجمعية كانت الطلب من مؤتمر الصلح بمنح فلسطين حق اختيار حكومتها على غرار سوريا والعراق، كما ورد في البلاغ الذي أعلنته الحكومتان البريطانية والفرنسيّة، ويعلق السكاكيني على ذلك بقوله: “كأن الجمعية فهمت من ذلك البلاغ أن فلسطين مستثناة من ذلك ألحق، على أن هناك قرائن كثيرة تدل على أنها داخلة في حكم سوريا، منها أن الحكومتين أرسلتا ذات البلاغ إلى كل مدن فلسطين وقراها، ومنها أن الحلفاء أعلنوا مرارًا أن البلاد التي كانت تحت حكم الأتراك ستحرر”.([138])

المؤتمر العربي الفلسطيني الأول

وجهت الجمعية العمومية الفلسطينيّة في مدينة القدس دعوة لمندوبيها في مختلف أنحاء فلسطين لعقد مؤتمر وطني عام للبحث في المطاليب الفلسطينية في مؤتمر الصلح، وقد تمّ افتتاح المؤتمر في 27 كانون الثاني 1919م، واستمرت جلساته حتى 4 شباط، وكانَ برئاسة عارف الدجاني، بينما انتخب راغب أبو السعود نائبًا له وعزة دروزه سكرتيرًا([139]). ويذكر السكاكيني أن المندوبين الذين حضروا هذا المؤتمر كانوا منقسمين إلى ثلاثة فرقاء، فريق مخلص وطني حر لا يراعي فيما يطلب إلا ما يمكن وليس ما يجب، وفريق مأجور أو أجنبي النزعة يراعي فيما يطلبه إما مصلحة الإنجليز أو مصلحة الفرنسيين أو مصلحة اليهود،([140]) وأكثرهم “قصار النظر، ضعفاء الرأي مشكوك في وطنيتهم، إلاّ نفرًا قليلًا منهم من أصحاب المبادئ الصحيحة والنظرات السديدة والوطنية الصادقة، وأنهم جميعًا منقسمون إلى مذاهب مختلفة”.([141])

كانَ الرأي الغالب عند المؤتمرين المطالبة من مؤتمر الصلح حق اختيار الحكومة التي يريدها الفلسطينيون أسوة بسوريا والعراق، بينما كانَ هناك رأي آخر يرى بأن تكون فلسطين للفلسطينيين، ويعبر السكاكيني عن ذلك بقوله إن كلا الرأيين فاسد لأنهما يعنيان فصل فلسطين عن الجامعة العربية، فإذا فصلت فلا بد أن يكون مصيرها إما يهوديًا أو تصير إلى حكومة أجنبية بحجة أنها لا تستطيع أن تحكم نفسها بنفسها لتفشي الأمية بين أهلها، وإذا جاء اليهود إلى فلسطين فلا بد أن تتعاقب الأدوار التالية: في الدور الأول يكون العلم عربيًا، وفي الدور الثاني يرفع إلى جانب العلم العربي العلم الصهيوني، وفي الثالث يمزج العلمان وفي الرابع يتحول العلم المزدوج إلى علم صهيوني، أما في الدور الخامس والأخير فيضطر السكان الأصليون إلى الجلاء عن البلاد لتصبح يهودية.([142]) ولتضييق شقة الخلاف بين المؤتمرين حضر إلى مقر المؤتمر كلّ من خليل السكاكيني، ومحمد يوسف الخطيب، وكانَ من المقرر أن يرافقهما كلّ من الحاج أمين الحسيني، والدكتور زكي أبو السعود، غير أنهما تخلفا عن ذلك، وكذلك فإن عارف الداودي رئيس المؤتمر تغيب عن الاجتماع، فتم تأجيل النظر في الأمر إلى جلسة أخرى ومع ذلك فقد جرى نقاش حاد بينهم وبين أعضاء المؤتمر، فاتهم يعقوب فراج ممثل القدس في المؤتمر الجمعية الإسلامية المسيحية أنها قد قيدتهم بأن لا يتحدثوا إلاّ فيما يدفع الخطر الصهيوني، كما أتهم عيسى العيسى ممثل يافا أن رأي المقدسيين هو استقلال فلسطين استقلالًا تامًا وأن تحكم نفسها على قاعدة اللامركزية، ورد عليه السكاكيني ومن معه بالتأكيد على طرح فكرة إنشاء جامعة عربية ثم النظر بكيفية الحكم، وبينوا أن استقلال فلسطين عن الجامعة العربية واتخاذها اللامركزية قاعدة للحكم يمهدان السبيل للخطر الصهيوني.([143])

ومهما يكن من أمر فقد أقام المؤتمر خلال فترة انعقاده حفلة تكريم بلوكندة مرقص وقد افتتح الحفلة الشيخ راغب الدجاني، ثم ألقى بعده الشيخ سعيد الكرمي مفتي طولكرم، ويوسف العيسى من يافا، وصلاح الدين الحاج حسن ممثل صفد، كلمات شكروا فيها الجنرال ستورز وطالبوا بريطانيا بالمساعدة على تحرير الأمة العربية.([144])

واختتم المؤتمر جلساته في يوم السبت الموافق 8/2/1919م وتمّ الاتفاق على عقد مؤتمر ثان بعد ثلاثة أشهر في مدينة نابلس، كما انتخب وفدان الأول يذهب إلى باريس ويتشكل من توفيق حماد من نابلس، وجبران كزما من الناصرة، والشيخ راغب الدجاني من يافا، بينما يذهب الوفد الثاني إلى سوريا.([145])

يبدو واضحًا مدى اتساع شقة الخلاف بين المؤتمرين من جهة وبين المؤتمرين وأعضاء الجمعية الإسلامية المسيحية من جهة أخرى، ولعل استثناء أي من الشخصيات المقدسية ضمن عضوية الوفد الذي تقرر إرساله إلى باريس لدليل واضح على هذا الخلاف. ويتضح أيضاً ضيق الأفق لهذه القيادات التي لم تتردد في محاباتها للجانب البريطاني حتى يصل الأمر إلى تقديم الشكر للحاكم العسكري والاعتراف بفضل بريطانيا وطلب مساعدتها، في الوقت الذي لم يكن قد مضى على اصدار تصريح بلفور سوى نحو السنتين ما يعكس مدى الجهل السياسي لهذه القيادات.

ومهما يكن من أمر فقد أصدر المؤتمر في جلسته الختامية مجموعة من القرارات تمثلت في:

  • التأكيد على أن فلسطين جزء من سوريا مرتبطة بها بروابط قوميّة ودينية ولغوية وطبيعية وجغرافية واقتصادية.
  • رفض التصريح الذي أدلى به جورج بيكو وزير خارجية فرنسا والذي ذكر فيه أن لفرنسا حقوقًا في بلاد الشام مبنية على رغبات السكان.
  • الرغبة في عدم انفصال فلسطين عن سوريا العربية المستقلة وأن تكون متحررة من جميع أنواع النفوذ والحماية الأجنبية.
  • استنادًا إلى مبدأ الرئيس الأمريكي ولسون فإن كل وعد أو معاهدة عقدت خلال فترة الحرب تعتبر لاغية.
  • طلب المساعدة من بريطانيا إذا دعت الحاجة لإحداث تطوير البلاد على أن لا ينتقص ذلك من استقلالها أو يؤثر في الوحدة العربية.([146])

يبدو واضحًا أن القرارات الأربعة الأولى جاءت لتلبية رغبات الكتلة المؤيدة للوحدة العربية وعدم الانفصال عن سوريا بينما جاء القرار الأخير تلبية لرغبات الكتلة المؤيدة للإنجليز.([147])

ونتيجة لذلك رفض عارف الداودي الدجاني رئيس المؤتمر التوقيع على القرار المتعلق بإلحاق فلسطين بسوريا وقد سانده في ذلك شكري الكارمي ممثل الكاثوليك في المؤتمر، إلاّ أنه تراجع عن ذلك نظرًا لضغط الجمعية الكاثوليكية عليه والتي كانت تعتقد أن في هذا الإلحاق خدمة لمصلحة فرنسا، ورفض يعقوب فراج ممثل القدس التوقيع على ذلك انطلاقًا من موقف الجمعية الإسلامية المسيحية التي كانَ من أعضائها واتخذت قرارًا بعدم الموافقة على ذلك القرار، بينما تقرر إرسال كل من راغب الدجاني وعمر الصالح البرغوثي إلى قرية عمواس للحصول على توقيع عبد الحميد أبو غوش.([148])

ويروي السكاكيني بأنه ذهب إلى مقر الجمعية الإسلامية المسيحية، وبرفقته الحاج أمين الحسيني لإقناع أعضائها بالموافقة على قرارات المؤتمر، وقد ناشدهم الحاج أمين بالعدول عن فكرة استقلال فلسطين التام وفكرة اتخاذ اللامركزية للحكم، فأجابه أحد الأعضاء بقوله: “كيف تقبل بعد أن كنا عبيدًا للأتراك أن نكون عبيدًا للسوريين يتحكمون بنا كيف هم يشاؤون؟” ووصل الأمر إلى حد أن ممثل الأرثوذكس إبراهيم الشماس قال إن “الإنجليز هم الذين فتحوا هذه البلاد وإن الحكومة الآن هي حكومة إنجليزية”.([149])

لجنة كنج كرين الأمريكية

كانَ من بين المبادئ الأربعة عشر التي طرحها الرئيس الأمريكي ولسون في مؤتمر الصلح، مبدأ حق تقرير المصير للشعوب التي انفصلت عن الدولة العثمانية، واستجابة لهذا المبدأ تقرر تشكيل لجنة دولية تضم عضويتها مندوبين عن بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة للوقوف على مطالب ورغبات الشعوب العربيّة، إلاّ أن بريطانيا وفرنسا وإيطاليا تراجعت عن موقفها، مما دفع الرئيس الأمريكي لإرسال لجنة اقتصرت على الولايات المتحدة الأمريكية فقط.([150]) وتشكلت اللجنة من ستة أعضاء كانت برئاسة اثنين منهم وهما هنري كنج وتشارلز كرين وعرفت اللجنة باسميهما.([151])

وقبل وصول اللجنة لمدينة القدس، عقدت الشخصيات المقدسية وبعض الشخصيات الفلسطينية اجتماعا لها في 12 نيسان 1919م للتباحث في المطالب الوطنية التي ينبغي عرضها على اللجنة، وقد عقد هذا الاجتماع في منزل إسماعيل الحسيني، وبحضور كلّ من المفتي كامل الحسيني، وسعيد الحسيني، وموسى كاظم الحسيني، وعارف الدجاني، وعلي جارالله، والحاج أمين الحسيني، وإسعاف النشاشيبي، ويعقوب فراج، وخليل السكاكيني من القدس، وراغب الدجاني من يافا، وكلّ من عزت دروزة وحافظ كنعان من نابلس، وتمّ الاتفاق في هذا الاجتماع على استقلال سوريا ضمن الوحدة العربيّة وأن تكون فلسطين هي جزءًا لا ينفك عن سوريا مستقلة استقلالًا داخليًا تختار حكامها من الوطنيين وتسن قوانينها بنفسها حسب رغائب أهلها وحاجات البلاد، واتفق أيضاً على رفض الهجرة الصهيونية إلى فلسطين مع التأكيد على اعتبار اليهود الأصليين الذين كانوا في البلاد قبل الحرب وطنيين لهم ما لعرب فلسطين وعليهم ما عليهم.([152]) ويتضح من خلال الأسماء السابقة غياب الكثير من المدن والمناطق الفلسطينية الأخرى عن هذا الاجتماع ليقتصر فقط على ثلاث مدن وإن كان تمثيل كل من يافا ونابلس قليلا بالمقارنة مع عدد الحضور من مدينة القدس والبالغ عددهم عشرة أشخاص. إضافة إلى غياب تمثيل الطوائف المسيحية الأخرى وبخاصة الكاثوليك، فقد اقتصر تمثيل المسيحيين على اثنين فقط وهما فراج والسكاكيني وكلاهما من طائفة الأرثوذكس.

وعقدت بعض اللقاءات غير الرسمية بين بعض الشخصيات المقدسيّة وبعض كبار موظفي الإدارة في العسكرية البريطانيّة في مدينة القدس، ففي 15 نيسان 1919م التقى خليل السكاكيني الكولونيل ووترس تيلر في مكتبه، واقترح السكاكيني بدوره تشكيل رأي عام في البلاد قبل مجيء اللجنة، وتعميم الفكرة في سوريا، وبيّن أيضاً بأن للمقدسيين شروطًا على الدولة المنتدبة، واستبعد الانتداب الفرنسي لأن فرنسا “لا توافق مزاجنا” أما الشروط التي ذكرها السكاكيني فهي لا صهيونية ولا تجزئة ولا مهاجرة.([153])

وفي اليوم الثاني أي في 16/4 التقى مع الكولونيل تيلر في مكتبه كلّ من راغب النشاشيبي ويعقوب فراج وخليل السكاكيني لبحث الشروط الفلسطينية، وقد أبدى تيلر موافقته على الشروط الثلاثة التي اقترحها السكاكيني، واقترح بأن تنتدب الولايات المتحدة بالوكالة على تركيا وأرمينيا بينما تنتدب بريطانيا على البلاد العربية أما فرنسا فتنتدب على الآستانة، وبذلك حسب رأيه يمنع تقسيم البلاد إلى أجزاء يتولى كل قسم دولة وترضى الدول الثلاث، وأبدى تيلر استعداده لعرض هذه الفكرة على كلّ من الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء البريطاني.([154])

وفي لقاء ثالث مع تيلر عقد في 22 نيسان وبحضور كلّ من إسماعيل الحسيني ويعقوب فراج وخليل السكاكيني، قدموا له اقتراحًا بتشكيل ولايات متحدة من البلاد العربية وسوريا وفلسطين والعراق والحجاز تشترك في المسائل العمومية وتستقل كلّ واحدة في حكم نفسها، ومن أهم المسائل العمومية الجندية والتجارة والتعليم والسكك الحديدية، وأضاف السكاكيني في هذا الاجتماع شرطًا رابعًا إضافة إلى الشروط الثلاثة التي اقترحها سابقًا للدولة المنتدبة وهو لا امتيازات.([155])

وصلت اللجنة مدينة القدس مساء الجمعة في 13/6/1919م، وقد استقبلها أعضاء كلّ من النادي العربيّ والمنتدى الأدبي بيافطة علقت على أحد مداخل المدينة كتبوا عليها بخط كبير عبارة “نطلب استقلالًا تامًا-سوريا-لا تتجزأ- نحتج على الصهيونية ونرفض مهاجرة اليهود إلى بلادنا- ليعش أميرنا فيصل، والحلفاء أعضاء ألحق- سوريا تمتد من جبال طوروس شمالًا إلى ترعة السويس جنوبًا” غير أن هذه اللافتة لم تستمر طويلًا إذ احتجت على ذلك الحكومة وطلبت إزالتها.([156])

وفي 16/6 التقت اللجنة بأعضاء الجمعية الإسلاميّة المسيحية، وعقد هذا اللقاء في لوكندة مرقص حيث كان في استقبالهم القنصل الأمريكي بالقدس وأحد أعضاء اللجنة، وقدموا إلى اللجنة مطالب ثلاثة هي:

  • استقلال سوريا وفلسطين استقلالًا تامًا.
  • استقلال فلسطين استقلالًا داخليًا.
  • الاحتجاج على الصهيونية.

واستمر الاجتماع لمدة ساعة، استفسرت خلاله اللجنة من الأعضاء العرب فيما إذا كان لديهم رغبة في أن تكون لهم علاقة بالعراق والحجاز فأجابوا بالرفض، أما بشأن الوصاية فقد ذكروا لهم بأنهم سيعطونهم الإجابة على ذلك في المؤتمر السوري الذي سيعقد بدمشق، وذكروا أيضاً بأنهم سيقدمون للجنة إجابة مكتوبة للرد على استفسار اللجنة على سبب احتجاجهم على الصهيونيّة.([157])

وفي 18 حزيران التقت اللجنة بممثلين عن النادي العربي، والمنتدى الأدبي، وجمعية العفاف، ومثل كلّ نادٍ سبعة أشخاص، فتحدث باسم النادي العربيّ الحاج أمين الحسيني، بينما تحدث باسم المنتدى الأدبي محمد يوسف الخطيب، أما جمعية العفاف فتحدث باسمها سعيد الخطيب، وقدموا للجنة اللائحة نفسها التي أعدها خليل السكاكيني والمتضمنة الشروط الأربعة لقبول الدولة المنتدبة.([158])

وفي اليوم التالي أي في 19/6 التقت اللجنة بممثلين عن قرى قضاء القدس، وجاء ذلك بناءً على اقتراح من قبل خليل السكاكيني وذلك حتى ترى اللجنة أهل الريف الذين يمثلون قوة البلاد، وكانَ بعض الوجهاء المسلمين المقدسيين قد تخوفوا من هذا اللقاء من أن يطلب الفلاحون مطالب أخرى غير مطالب أهل المدن، كما أن بعضهم كانَ يوهم الحكومة بأن لهم نفوذًا على أهل الريف، فحاولوا عرقلة هذا اللقاء متذرعين أن الفلاحين عبروا عن رأيهم من خلال بيان الجمعية الإسلامية المسيحية، غير أن خليل السكاكيني فوت عليهم الفرصة وضرب لأهالي القرى موعدًا مع اللجنة، ولدى لقائهم باللجنة تحدث باسمهم عبد الفتاح درويش من قرية المالحة فشكر اللجنة وأثنى على الشعب الأمريكي واستنجد بالولايات المتحدة لدرء الخطر الصهيوني، ويذكر السكاكيني بأنه كانَ للفلاحين تأثير على أعضاء اللجنة مما حمل رئيسها للقول “إن ظواهركم تدل على القوة”.([159])

وقدم الفلاحون عريضة للجنة أكدوا فيها على المطالب الوطنية بعد مقدمة تنضح ألمًا ومعاناة، جاءت بصيغة الجواب على السؤال الذي تصوروا أنه يدور في أذهان الشعب الأمريكي وهو “من أنتم”؟

“نحن أصحاب البلاد الذين حافظنا على أراضينا أجيالًا طوالًا في الخصب والجدب، في السلم والحرب، في أيام الأمراض والأوبئة، في أيام الظلم والاستبداد.

نحن الذين استثمرنا أراضينا أجيالًا طويلة بالفلاحة والزراعة وغرس الأشجار وسقينا تربتنا بعرق جباهنا.

نحن الذين يقع علينا عبء الحرب في كلّ وقت فمنا تؤخذ الجنود ومنا تجبى الأموال. نحن الذين قاسينا ما لم يقاسه أحد من ظلم الحكام وصبرنا على ما لا يصبر عليه أحد من جوع وعري وفقر وشقاء”.([160])

كما التقت اللجنة مع ممثلين عن طائفة الروم الأرثوذكس بمدينة القدس، وكانَ بعض أبناء هذه الطائفة قد حاول اقناع الجمعية الأرثوذكسية بأن تطلب من اللجنة الوصاية البريطانية وحفظ حقوق الأقلية، وأخذ هؤلاء بتحريض أبناء الطائفة ضد المسلمين والاستقلال الذي سيؤدي إلى استبداد المسلمين بالمسيحيين، وكانَ المحرض الرئيس لذلك متري تادرس الذي حضر من يافا إلى القدس خصيصًا لهذا الأمر، وقد حرض أبناء الطائفة بتكسير أعلام الأندية العربية، بل وصل الأمر به إلى حد دعوة أبناء الطائفة الأرثوذكسية للانشقاق وإعداد مضبطة يطلبون فيها وصاية بريطانيا([161]). وبالرغم من البلبلة التي أوقعها تادرس في صفوف أبناء طائفة الأرثوذكس إلاّ أن الطائفة التقت مع أعضاء لجنة كرين كرين ودعم ممثلوها مطالب الجمعية الإسلاميّة المسيحية.([162])

أما الوفد الإسلامي فقد ضم تسعة أشخاص وهم: راغب النشاشيبي، وسعيد الحسيني، وفيضي العلمي، وعبد المعطي الداودي، ياسين أبو السعود، وعلي جار الله، وزكي نسيبة، وعبد القادر طهبوب، وشريف النشاشيبي ترجمانًا. وأكد أعضاء الوفد على دعمه لمطالب الجمعية الإسلامية المسيحية.([163])

غادرت اللجنة مدينة القدس متجهة إلى مدينة نابلس ثم وضعت تقريرها بعد أن التقت مع الشخصيات وممثلي الطوائف والجمعيات في مختلف المدن الفلسطينية، وتضمن هذا التقرير موافقة الشعب الفلسطيني بالإجماع على استقلال سوريا المتحدة ولم يشذ منهم سوى فئة معروفة من الموظفين كانت تسير مع تيار النفوذ السياسي، أما نوع الحكومة التي طالبوا فيها فهي حكومة لا علاقة لها بالدين ولا تقام على أسس طائفية. أما مسألة الوصاية فقد أحالوها إلى المؤتمر السوري الذي يمثلهم، وقد رفض بعض المسلمين ولا سيما في الجنوب قبول الوصاية رفضًا باتًا مهما كانَ نوعها. كما بين التقرير إجماع المسلمين والمسيحيين على رفض المشروع الصهيوني.([164]) وبعد أن أنهت أعمالها اتجهت إلى دمشق حيث كانَ المؤتمر العربيّ السوري قد أعد لائحة لتقديمها للجنة، وقد مثل فلسطين في هذا المؤتمر 32 شخصًا.([165]) وكانَ من أهم القرارات التي اتخذها المؤتمر التأكيد على اعتبار فلسطين جزءًا من سوريا ورفض فكرة الوطن القومي اليهودي والهجرة الصهيونية، ويروي السكاكيني أن يعقوب فراج أحد ممثلي القدس في المؤتمر رفض التوقيع على اللائحة التي تقرر تقديمها للجنة الأمريكية، وذلك بذريعة أنه ورد فيها بأن المؤتمر السوري يمثل سكان البلاد عكس اختلاف المذاهب والنحل من مسلمين ومسيحيين ومسوريين في حين لم يكن فيه خمسة أو ستة من المسيحيين ولم يكن من الموسويين أحد، فاعتبر قولهم هذا مخالفًا للحقيقة، كما أن المؤتمر تحامل في تقريره على فرنسا بعبارات تشف عن تحقير، علاوة على أن المؤتمرين لم يطلبوا إحدى الدول للوصاية وإنما طلبوا الاستقلال وأن يكون الأمير فيصل ملكًا على البلاد، ويرى فراج أن اختصاص المؤتمر هو النظر في أمر الانتداب لا غيره، وعبثًا حاول كلّ من سعيد الحسيني وراغب النشاشيبي إقناعه على التوقيع، الأمر الذي دفع سعيد الحسيني للهمس في أذن رئيس المؤتمر مشيرًا إلى يعقوب بعبارة: “هذا النصراني خائف ممتنع عن التوقيع”، ولدى سماع فراج هذه العبارة قرر الانسحاب والعودة إلى مدينة القدس.([166])

ثورة العشرين (النبي موسى)

يُعد موسم النبي موسى في مدينة القدس أحد أهم المواسم الدينية المعروفة في فلسطين، كموسم النبي صالح في مدينة الرملة، وموسم النبي روبين في يافا، وموسم المنطار في غزة، وموسم النمل في المجدل، وتعود جذور هذه المواسم إلى عهد الظاهر بيبرس، وكانَ الهدف منها حشد أكبر عدد ممكن من المسلمين لمواجهة أي احتمال لسيطرة الفرنجة ثانيًا على الأراضي المقدسة([167]). وكانَ المسلمون يفدون إلى مدينة القدس بأعداد كبيرة من مختلف أنحاء البلاد لإحياء هذه المناسبة، ثمّ يتجهون بموكب يتقدمه مفتي المدينة نحو مقام النبي موسى الواقع على الطريق المؤدية إلى مدينة أريحا.([168]) وكانت الحكومة العثمانية تبدي اهتمامًا بهذا الموسم وتؤمن القوات الضرورية لحفظ الأمن فضلًا عن فرقة موسيقية للاحتفاء بالمناسبة([169]) فكانت تنصب مدفعًا بالقرب من باب الأسباط يحيى العلم النبوي عند نزوله وعند صعوده وتحاط المواكب بالجند والفرسان، وكانَ المحتشدون ينشدون الأهازيج الحماسية التي باتت مألوفة ومنها “يا عين كوني جبارة” و”يا موت خود السكارى”. وبعد الحرب العالمية الأولى أدخلوا اسم الأمير فيصل والجيش العربي في كافة أهازيجهم، ويصف خليل السكاكيني الذي كانَ يخرج ليشاهد هذا الموكب في باب الأسباط بقوله “ومما عجبت له أن كلّ واحد من أهل البر “الريف” يعرف تلك الأهازيج ويحسن كلّ ضروب الرقص، ولاحظت أن القرى البعيدة عن المدن أشد رجولية وحماسة من القرى القريبة، بل قد رأيت في أهازيج القرى القريبة ورقصها آثار الضعف والتخنث؛ فبينما ترى أهل القرى البعيدة أضخم أجسامًا وأقوى أصواتًا وأشد حماسة وأفخم أزياء، ترى أهل القرى القريبة أنحف أجسامًا وأضعف أصواتًا وأقل حماسة، وترى الواحد منهم بعمامة، والآخر بعقال، والآخر بطربوش، والواحد بعباءة، والآخر بساكو، وكذلك ترى بينهم اختلافًا كبيرًا في الأحذية فالواحد يلبس الجوارب والأحذية الصفراء والآخر عاري القدمين، ورأيت في بعض مواكب أهل القرى القريبة واحداً مكشوف الرأس وقد فرق شعره كأنه من رجال الصالون وآخر يحمل في يده عصا سوداء مفضضة اليد بدلًا من السيف مما لا يلتئم مع هذه الحفلات والمواكب”.([170])

تستمر الاحتفالات في مقام النبي موسى لمدة أسبوع، حيث تعود المواكب إلى مدينة القدس وتتوجه نحو المسجد الأقصى، وعادة ما يكون يوم العودة يوم الخميس وفي اليوم التالي المصادف الجمعة العظيمة، يجري الاحتفال الكبير والنهائي بزفة الأعلام، وأهم الأعلام اثنان هما علم نابلس وعلم الخليل.([171])

انطلقت الشرارة الأولى لثورة موسم النبي موسى في الرابع من نيسان عام 1920م، حيث كانت مختلف الوفود محتشدة، وكان خليل السكاكيني شاهد عيان للأحداث حيث كانَ متواجدًا في المكان لرؤية الموكب برفقة زوجته سلطانه وابنه سري، ولذلك فإن روايته هي الأكثر دقة مقارنة مع الروايات الأخرى التي تحدثت عن هذه الواقعة، ووفقًا لرواية السكاكيني فقد سارت جميع الوفود الفلسطينية عند مقر النادي العربي، وأخذ الخطباء يتناوبون الخطابة من على شرفة النادي وكانَ من بينهم خليل بيدس وعبد الفتاح درويش من المالحة، وخلال ذلك وقع اضطراب في الموكب وأخذ الناس يتراكضون وكانت الحجارة تتساقط على اليهود، ثم سار الموكب من باب الخليل نحو المدينة وأخذ الجموع بتكسير زجاج المخازن اليهودية، وكانوا يصيحون “دين محمد قام بالسيف”، وحاول مساعد البوليس البريطاني توقيفهم فهجموا عليه وأخذوا بعنان فرسه “ولو لم تحطه فرسانة البوليس لكانوا ضربوه، بل رأيت واحدًا ضربه بحجر فلم يصبه”.([172])

وعلى أثر هذه الأحداث تدخلت السلطات العسكرية البريطانية، وأعلنت الأحكام العرفية في المدينة، وعلقت الإعلانات على الجدران، خارج المدينة منعت الناس من الدخول أو الخروج من المدينة إلاّ بوثيقة من الحاكم العسكري، واعتقلت عدداً من الشخصيات المقدسية كانَ منها عارف العارف وعبد الفتاح درويش وسعيد درويش وخليل بيدس وكامل البديري والشيخ حسن أبو السعود، إلا أنها أخلت سبيلهم بعد يومين بكفالة مفتي القدس ورئيس البلدية وعارف الدجاني ويعقوب فراج.([173]) واتهمت الحاج أمين الحسيني بالتحريض على الثورة فقررت اعتقاله ولما لم تجده في منزله فتشت عليه في منزل أخيه كامل الحسيني مفتي المدينة مما جعله يحتج على هذا الإجراء ورد الوسام الذي أهدي إليه من قبل الحكومة.([174]) وكانَ منزله قد تعرض في 9/4 لعدة طلقات نارية، وقد تمّ القاء القبض على أحد المعتدين وفر الباقي وكانوا جلهم من اليهود.([175])

وعلى أثر هذه الأحداث شكلت الحكومة لجنة لتقصي الحقائق عرفت باسم لجنة بالين، وقد ظل تقريرها سرًا لم تكشف عنه الحكومة إلاّ في عام 1968م. نظرًا لأنه كان منصفًا للعرب حيث بينت في تقريرها أن الإنجليز يواجهون في فلسطين مواطنين محليين يهيمن عليهم السخط الشديد بدافع خيبة الأمل والقلق على مصيرهم ومستقبلهم السياسي في ظل سياسة المحاباة البريطانية لليهود. وعزلت الإدارة العسكرية رئيس بلدية القدس موسى كاظم الحسيني من منصبه وعينت مكانه راغب النشاشيبي، قد اتهمت الحسيني بأنه كانَ محرضًا للثورة من خلال خطابه أمام المتظاهرين.([176])

الهوامش:-

[*] أستاذ- كليّة الآداب والعلوم قسم العلوم الإنسانية- جامعـة قطـر.

[1])) عبد القادر ياسين، “خليل السكاكيني هذا المثقف الموسوعي الملتزم”، مجلة صامد الاقتصادي، العدد 155-156، حزيران 2009م، ص122-123.

[2])) عيسى الناعوري، خليل السكاكيني أديبًا ومربيًا، عمان: منشورات دار الكرمل، 1985م، ص21.

[3])) سليم تماري، “السكاكيني في نيويورك- الفترة التكوينية في حياة أديب مقدسي 1907-1908” مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 56، خريف 2003م، ص89.

[4])) الناعوري، خليل السكاكيني، ص221.

[5])) أكرم مسلم (محرر)، يوميات خليل السكاكيني، الكتاب الثالث: أخبار الانتداب وأسئلة الهوية 1919-1922م، رام الله: مركز خليل السكاكيني الثقافي ومؤسسة الدراسات المقدسية، 2004م، ص152.

[6])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص200.

[7])) المصدر نفسه، ص198.

[8])) المصدر نفسه، ص43-44.

[9])) المصدر نفسه، ص91. والليرة العثمانية هي عملة ذهبية عثمانية ضربت في عهد السلطان عبد المجيد عام 1259هـ/1843م بعيار 22 (91605 في الألف) ووزن درهمين و4 قراريط أي ما يعادل 7.0216 غرام منها 6.0614 غرام ذهب صافٍ و602 وغرام نحاس. انظر: سيد محمد السيد محمود، النقود العثمانية تاريخها-تطورها-مشكلاتها، القاهرة: مكتبة الآداب، 2003م، ص73.

[10])) يوميات السكاكيني، الكتاب الثالث، ص85.

[11])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص205.

[12])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص98.

[13])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص169.

[14])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص207.

[15])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص89.

[16])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص152.

[17])) ياسين، خليل السكاكيني، ص125.

[18])) المرجع نفسه، ص126.

[19])) المرجع نفسه، ص126. الناعوري، خليل السكاكيني، ص36.

[20])) وجيه كوثراني “إشكالات الزمن التاريخي في قراءة المذكرات: مذكرات جمال الدين القاسمي ومشاهداته”، مقال ضمن كتاب: دراسات في التاريخ الاجتماعي لبلاد الشام، قراءة في السير والسير الذاتية، تحرير عصام نصار وسليم تماري، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2007م، ص30.

[21])) خيرية قاسمية، “المذكرات والسير الذاتية مصدرًا لتاريخ فلسطين في القرن العشرين”، مقال ضمن كتاب دراسات في التاريخ الاجتماعي لبلاد الشام، ص46.

[22])) المرجع نفسه، ص45.

[23])) محمود شقير، “مجنون سلطانة” حوليات القدس، العدد 6، القدس، ربيع 2008، ص22.

[24])) هالة السكاكيني، كذا أنا يا دنيا، القدس 1955م، مقدمة الكتاب.

[25])) المصدر نفسه، المقدمة.

[26])) بهجت صبري، فلسطين خلال الحرب العالمية الأولى وما بعدها 1914-1920م، القدس: جمعية الدراسات العربيّة، 1986م، ص11.

[27])) المرجع نفسه، ص23.

[28])) المرجع نفسه، ص30.

[29])) يوميات خليل السكاكيني، الكتاب الثاني: النهضة الأرثوذكسية-الحرب العظمى- النفي إلى دمشق 1914-1918م، ص108.

[30])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص118.

[31])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص108.

[32])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص149.

[33])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص144-145

[34])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص156.

[35])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص156.

[36])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص124.

[37])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص150.

[38])) صبري، فلسطين، ص73.

[39])) يوميات السكاكيني، الكتاب الثاني، ص114.

[40])) سليم تماري وعصام نصار (محرران)، القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية: الكتاب الأول من مذكرات الموسيقي واصف جوهرية 1904-1917م، القدس: مؤسسة الدراسات المقدسية، 2003م، ص190.

[41])) المصدر نفسه، ص185. كذلك انظر: سليم تماري (محرر)، عام الجراد – الحرب العظمى ومحو الماضي العثماني من فلسطين – مع أيام مثيرة في حياة العسكري إحسان القصيرة – يوميات جندي عثماني 1915-1916 رام الله: وزارة الثقافة، 2009، ص128.

[42])) المصدر نفسه، ص191.

[43])) صبري، فلسطين، ص77.

[44])) يوميات السكاكيني، الكتاب الثاني، ص97.

[45])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص123.

[46])) صبري، فلسطين، ص65.

[47])) يوميات السكاكيني، الكتاب الثاني، ص137.

[48])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص116.

[49])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص117.

[50])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص86.

[51])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص135.

[52])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص137.

[53])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، 116.

[54])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص116.

[55])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص117.

[56])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص138.

[57])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص184.

[58])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص132.

[59])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص141.

[60])) صبري، الكتاب الثاني، فلسطين، ص60.

[61])) يوميات السكاكيني، الكتاب الثاني، ص150.

[62])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص151.

[63])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص146.

[64])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص146.

[65])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص157. تماري، عام الجراد، ص126-127

[66])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص159.

[67])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص122.

[68])) صبري، فلسطين، ص60.

[69])) مذكرات واصف جوهرية، ص188.

[70])) يوميات السكاكيني، الكتاب الثاني، ص118.

[71])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص125.

[72])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص102.

[73])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص110. ويصف إحسان الترجمان الجندي المقدسي الذي كان يخدم في الجيش العثماني في مدينة القدس خلال فترة الحرب العالمية الأولى، اعتداءات العساكر العثمانية على أرض والده  المعروفة بكرم الأعرج خارج أسوار مدينة القدس، فيقول: “نزلت على أرضنا العساكر وصارت تكسر أشجار الزيتون وتبيعها وكأنها شيء من مخلفات السلطان أو الدولة ولم تكتف العساكر بأن تقطع أغصان الأشجار بل صارت تتاجر بها وتبيع الحطب إلى الفرانة إلى من تشتكي؟ فاذا قلنا للضباط يقولون لا نقدر أن نضبط العساكر، وإذا قلنا لمن هو أعلى منهم يظنون أن ذلك مال من مالهم ولهم الحق بذلك لأن كل شيء يفعله العسكري من الأعمال جائز”. تماري، عام الجراد، ص 79.

[74])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص120.

[75])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص12-121.

[76])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص120.

[77])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص97.

[78])) المصدر نفسه، ص97.

[79])) وهي الآن ما يعرف باسم بيت الشرق أو Orient House.

[80])) ويبدو واضحًا من تاريخ هذه الجلسة بأنها عقدت بعد صدور وعد بلفور بخمسة عشر يومًا. السكاكيني، الكتاب الثاني، ص168.

[81])) المصدر نفسه، ص158.

[82])) المصدر نفسه، ص181.

[83])) مقبرة مأمن الله، وتعرف أيضًا بمقبرة ماملا، وهي مقبرة قديمة ومن أكبر المقابر الإسلامية في مدينة القدس، تقع غربي المدينة على بعد نحو 2كم من باب الخليل ودفن فيها عدد كبير من الصحابة والمجاهدين أثناء الفتح الإسلامي عام 636م. وقد تعرضت هذه المقبرة إلى اعتداءات متكررة من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي حيث أنشئت على مساحات واسعة منها، بعد هدم الكثير من القبور، منشآت ومراكز يهودية مختلفة. انظر: فهمي الأنصاري، مقبرة مأمن الله -ماميلا، رام الله: وزارة الإعلام الفلسطينية، 2010، ص5.

[84])) يوميات السكاكيني، الكتاب الثاني، ص109.

[85])) محمد الحزماوي، ملكية الأراضي في فلسطين 1918-1948م، عكا: مؤسسة الأسوار، 1998م، ص87.

[86])) عزة طنوس، الفلسطينيون ماضٍ مجيد ومستقبل باهر، بيروت: مركز الأبحاث- منظمة التحرير الفلسطينية، 1982م، ص87. كامل محمود خله، فلسطين والانتداب البريطاني 1922-1939م، طرابلس: النشأة العامة للنشر، 1982م، ص34.

[87])) طنوس، الفلسطينيون، ص87.

[88])) أحمد طربين، فلسطين في خطط الصهيونية والاستعمار البريطاني في خلفية الدولة اليهودية 1922-1939م، د.ت، 1971م، ص96، الحزماوي، ملكية الأراضي، ص88.

[89])) صبري، فلسطين، ص151.

[90])) يوميات السكاكيني، الكتاب الثاني، ص147.

[91])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص97.

[92])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص94.

[93])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص108.

[94])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص65.

[95])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص65.

[96])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، الصفحة ذاتها.

[97])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، الصفحة ذاتها.

[98])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص151.

[99])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص147.

[100])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص193.

[101])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص57.

[102])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص58.

[103])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص185.

[104])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص58.

[105])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص53.

[106])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص97.

[107])) المصدر نفسه، الكتاب الثاني، ص102.

[108])) محسن صالح، التيار الإسلامي في فلسطين وأثره في حركة الجهاد 1917-1948م، الكويت: مكتبة الفلاح، 1989م، ص100.

[109])) بيان نويهض الحوت، القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 1917-1948م، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1981م، ص81.

[110])) خلة، فلسطين والانتداب البريطاني، ص204. وحول أسماء أعضاء الهيئة الإدارية. انظر الحوت، القيادات، ص849.

[111])) يوميات السكاكيني، الكتاب الثالث، ص56.

[112])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص68.

[113])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص57.

[114])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص142.

[115])) خلة، فلسطين والانتداب البريطاني، سابق، ص205.

[116])) يوميات السكاكيني، الكتاب الثالث، ص54.

[117])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص104-105.

[118])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص107.

[119])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص117.

[120])) الحوت، القيادات، ص82.

[121])) ألفت محمود فؤاد، “الدور الوطني والاجتماعي للمرأة الفلسطينية”، مجلة صامد الاقتصادي، العدد 62، 1986م، ص122. ماتيل مغنم، “الجذور التاريخية لنضال المرأة الفلسطينية في الحركة الوطنية منذ الانتداب وحتى 1936م”، مجلة صامد الاقتصادي، العدد 62، 1986م، ص8.

[122])) يوميات السكاكيني، الكتاب الثالث، ص96.

[123])) المصدر نفسه، ص105.

[124])) مغنم، الجذور التاريخية، ص8. نبيل علقم، تاريخ نضال المرأة الفلسطينية، البيرة: جمعية أنعاش الأسرة، ص81.

[125])) صبري، فلسطين، ص232.

[126])) خلة، فلسطين، ص193. الحوت، القيادات، ص86.

[127])) الحوت، القيادات، ص87.

[128])) يوميات السكاكيني، الكتاب الثالث، ص131.

[129])) المصدر نفسه، ص97.

[130])) المصدر نفسه، ص146. وهذه بعض المقاطع من النشيد الوطني السوري الذي نظمه السكاكيني خلال فترة وجوده في السويداء:

أيها المولى العظيم     فخر كل العرب

ملكك الملك الفخيم    ملك جدك النبي

نحو هذا الملك سيروا  قبل فوت الزمن

وعلى الخصم أغيروا   لخلاص الوطن

….. ……… ……….

ان نعش عشنا كراما   أو نمت متنا كراما

همنا نردي اللثاما       همنا نردي اللئام

أنظر: السكاكيني، الكتاب الثالث، ص80

[131])) المصدر نفسه، ص159.

[132])) الحوت، القيادات، ص88.

[133])) صبري، فلسطين، ص276.

[134])) يوميات السكاكيني، الكتاب الثالث، ص59.

[135])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص66.

[136])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص68.

[137])) المصدر نفسه، ص41.

[138])) المصدر نفسه، ص48.

[139])) صبري، فلسطين، ص263.

[140])) يوميات السكاكيني، الكتاب الثالث، ص53.

[141])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص57.

[142])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص56.

[143])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص71.

[144])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص71.

[145])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص75.

[146])) الحوت، القيادات، ص97.

[147])) صبري، فلسطين، ص264.

[148])) يوميات السكاكيني، الكتاب الثالث، ص73.

[149])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص72.

[150])) الحوت، القيادات، ص103.

[151])) المرجع نفسه، ص109.

[152])) يوميات السكاكيني، الكتاب الثالث، ص110.

[153])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص125.

[154])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص126.

[155])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص133.

[156])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص175.

[157])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص176-177.

[158])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص178.

[159])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص18.

[160])) الحوت، القيادات، ص111.

[161])) يوميات السكاكيني، الكتاب الثالث، ص176.

[162])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص177.

[163])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص177.

[164])) إبراهيم نجم وأمين عقل وعمر أبو النصر، جهاد فلسطين العربية، القدس: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2009م، ص31.

[165])) انظر: قائمة الأسماء في الحوت، القيادات، ص851.

[166])) يوميات السكاكيني، الكتاب الثالث، ص192.

[167])) محسن، التيار الإسلامي، ص165.

[168])) المرجع نفسه، ص165.

[169])) خلة، فلسطين، ص234.

[170])) يوميات السكاكيني، الكتاب الثاني، ص128.

[171])) الحوت، القيادات، ص212.

[172])) يوميات السكاكيني، الكتاب الثالث، ص214.

[173])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص215.

[174])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص217.

[175])) المصدر نفسه، الكتاب الثالث، ص220.

[176])) خلة، فلسطين، ص238.