*اسلام موسى (عطا الله)
“لا يكمن أثر الاغتيال في القضاء على الناس، إنه تكتيك إرهابي كلاسيكي مصمم لجعلهم يشعرون بأن حكوماتهم لا تستطيع حمايتهم، ويمنعهم من الانخراط ويؤدي بالتالي إلى فقدان العنصر البشري[1]“ |
عند التطرق الى حروب الظل وسياسات الاغتيالات التي تمارسها دولة الاحتلال ضد خصومها لا نكتشف جديداً، فهناك أرشيف كبير ممتد ليد الموساد في هذا الجانب، نظراً لمركزية الاغتيال في الفكر الاسرائيلي، واعتباره سلوكاً أساسياً وأداة جوهرية تتقدم أحياناً على أدوات أخرى كأولوية لا غنى عنها منذ تأسيس دولة الاحتلال؛ فكثير ما تعترف اسرائيل بعمليات الاغتيال التي تنفذها، في ظل سياستها الساعية للظهور بأنها قادرة على الوصول لأى هدف وبأي مكان.
وكثيراً أيضا ما تُبقي تلك العمليات غامضة دون اعلان، والذي قد يندرج في توزين ردات الفعل؛ لكن هناك من يشير لهذه الأفعال الى دولة الاحتلال نفسها. وفي الإطار الثاني يمكن – افتراض- إدراج عملية اغتيال زادة، حيث وجهت إيران اتهامها لدولة الاحتلال[2].
على الرغم من ما سبق ليس هذا الدافع الذي ينطلق منه هذا التقدير. فهو يناقش الطريقة الجديدة غير التقليدية لعملية الاغتيال للعالم النووي الايراني محسن زادة، التي تمزج بين الأساليب القديمة، والتكنولوجيا
(اغتيال من خلال التحكم بالسلاح عن طريق القمر الصناعي). وتداعياتها على ايران وقدرة جهازها الأمني تجاه حماية علمائه.
أسلحة أكثر فتكاً لتحصينات جيدة وإصابة دقيقة
أدرك الإيرانيون أن ثمة من يستهدف الأصول البشرية المشاركة في البرنامج النووي، ويقتل علماءهم، فباشروا بتحصينهم عن كثب[3]، وخصوصا رئيس مشروع الأسلحة، محسن فخري زاده، الذي أشار له نتنياهوا في مؤتمر صحفي عام 2018 وقال “اذكروه بالاسم” واعتبره العقل المدبر للبرنامج النووي[4].
لذلك ألصق الأمن الايراني به حراسة مشددة حيث كانت تقله سيارة مضادة للرصاص، وبرفقته 3 سيارات حراسة، على الرغم من ذلك فشلوا في حمايته.
فحسب الرواية الأكثر تداولاً، أن عملية الاغتيال استغرقت قرابة 3 دقائق فقط، وكان إطلاق النار من خلال اسلحة يتم التحكم بها عن بعد أي لم يكن هناك عامل بشري[5].
ناهيك عن التفاصيل الدقيقة التي تخللت الرواية، أن إحدى سيارات الحراسة كانت قد انفصلت عن الموكب قبل كيلومترات من موقع الحادث، بهدف التحقق ورصد أي حركة مشبوهة؛ ولم يعرف اذا كان هذا تقليد أمني، أو أن جسما مشبوه دفعهم لذلك.
بعد وقت قصير من الانفصال أُطلقت النار نحو السيارة التي كان يجلس فيها زادة نفسه، الذي خرج منها لاعتقاده أن سيارته اصطدمت بجسم ثقيل على الطريق أو انه توجد مشكلة في المحرك. وفي تلك اللحظة فُتحت النار من سيارة مركونة على بعد 150 مترا من خلال التحكم بها عن بعد، ثم تم تفجير هذه السيارة التي كانت تطلق النار بهدف اخفاء الأدلة.
وفيما بعد قالت التحقيقات أن صاحب تلك السيارة كان قد غادر البلاد قبل الحادث، دون تسمية الجهة التي توجه إليها[6]. في هذه الرواية لم تكن أي هناك أي إشارات الى مصير الحراس وكم منهم قتل أو جرح.
تعقيبا على تلك الرواية يقول المسؤول السابق في CIA بروس رايدل، والذي له تجربة عمل مع إسرائيل أنه “توجد حالات قليلة تبدي فيها دولة ما قدرات مشابهة لأن تضرب بهذه الدقة في قلب أرض دولة عدو، بل والعدو الأكثر مرارة لها. هذا غير مسبوق – لا يبدو أن إيران تنجح في منع هذا. إيران هشة جداً وهي تضطر لأن تتصدى الى هذا الى جانب معضلة كيف ومتى ترد[7]“.
التحكم بالأسلحة عن بعد هذا تطور نوعي في برنامج الاغتيالات الإسرائيلية، يضيف تحديات جديدة قد تكون صادمة لأجهزة الأمن الإيرانية تتمثل في:
أولا: أن عناصر الموساد أصبح لديهم المزيد من المهارات المتطورة، تتجاوز الحالة التقليدية التي كانت تتمثل في الاستهداف من خلال السيارات، والرسائل البريدية المفخخة، والغارات الجوية، والأجهزة المتفجرة الملحقة بالسيارات، والاغتيال على الدراجات النارية، والسموم …الخ.
عملية زادة تخللها الكثير من التكتيكات الغير تقليدية، هم نجحوا في تحييد جزء من سيارات الحراسة، كما أنهم استخدموا خدعة أجبروا زادة على النزول من السيارة المصفحة (وهي على الأغلب ليست طلقات نارية كما تحدثت الرواية، ففي حالات اطلاق النار لا تسمح أطقم الحراسة للهدف من الخروج من السيارة)، وهذا يعنى أن المنفذون لديهم أدق التفاصيل التي أثارت انتباه زادة وتوقعت تصرفه. فالأمر ليس استهدافا تقليديا، يبدوا أنهم استخدموا محفزات أخرى لدفع الضحية الى النزول من السيارة والذهاب الى الموقع الذي يحقق عملية قنص مثاليا، أصابته بـ 3 رصاصات، قطعت واحدة منها نخاعه الشوكي.
ثانيا: أن عملية مطاردة المنفذين ستصبح أكثر تعقيداً في ظل الاعتماد على تكنولوجيا عن بعد، فهذا يحقق حفظاً أوسع على عناصر الموساد الذين ينفذون عمليات في دول الخصوم لا سيما في إيران. فجنود الموساد مختلفين عن باقي عناصر الاستخبارات في العالم من ناحية التضحية.
في الحرب الباردة كان أسوأ ما يمكن أن يواجه عميل سري هفوة تعرضهم الى الاعتقال والتعذيب، لكن في النهاية هو مطمئن لان عملية تبادل مع عميل آخر على جسر بارد وضبابي في برلين قد تحدث. وسواء كان بريطانيا أم سوفيتيا أم المانيا، كان يعرف دائما أنه ليس وحيداً، وهناك دائما من سيستعيده الى بر الامان. لكن بالنسبة لعملاء الموساد في ايران قد يكونوا الوحيدين ما من تبادلات ولا جسور بل قد يدفعون حياتهم ثمنا لأعمالهم[8].
ثالثا: الاغتيالات الاخيرة التي استهدفت ايران كسرت قواعد اللعبة وأصبحت جزءاً من قواعد اللعبة ذاتها، هناك جرأة كبيرة سواء في أساليب الاغتيال، ” واختيار الاشخاص المؤثرين الذين يتمتعون بمهارات القيادة الإدارية والاحترافية والذين تترك إصابتهم مساحة يصعب إغلاقها. يبدو أن فخري زاده ينضم إلى عماد مغنية وقاسم سليماني – والذين من الصعب العثور على بديل لهم[9]“. أحداث مثل هذه صادمة، الجماهير كانت تعتقد أن ايران لن يرد اعتبارها إلا أن تعلن حرباً.
اغتيال يدفع ايران الى مأزق الأكثر حرجاً مرة جديدة
طهران تحت ضغط الانتقام لتفادي الغضب الشعبي، المطلوب رد غير تقليدي أيضا، لكن التوقعات في ظل التغير المرتقب للإدارة الأمريكية تجعل من خيارات الرد محدودة وشبه مقيدة.
الاغتيال الاخير شكل حالة جديدة، من حيث تحديه، فقد تشابكت عناصر مختلفة راعت تنفيذه، الأسلوب المختلف الذي اخترق التعقيدات الأمنية الميدانية للخصوم، التوقيت الذي راعى المركبات السياسية الجديدة، وأعطي مرونة أكبر للقيادة السياسية في دولة الاحتلال؛ منفذو الاغتيال لم يسببوا حرجاً هائل لأجهزة الامن الايرانية فحسب، بل استهدفوا ايران كلها أيضا من خلال محاولتهم إعاقة تطوير البرنامج النووي، وخلق تصعيد ينتهي بهجوم على المواقع النووية الإيرانية، ومنع إدارة بايدن من العودة إلى الاتفاق النووي، بالإضافة الى تعزيز فكرة تطبيع دول الخليج التي تبرر ذلك في اطار خلق تحالف للتصدي للمشروع الايراني الذي يهددها.
في النهاية عملية الاغتيال تركت رسالة كبيرة تقول أن زادة لن يكون الرقم الأخير في حصيلة الاغتيالات، للجهة المنفذة التي أثبت نفسها وقدرتها في التسلسل الى أعماق البرنامج النووي الايراني، وأن قرار الاغتيال أضاف المتغير التكنولوجي لأسلوب الاغتيال المقترح، وهو إضافة على ضوابط الاغتيال التقليدية التي راعتها العملية بدقة وكان أبرزها: المكان والجغرافيا وقدرة وصول فرق الاغتيال في الزمان والمكان المناسبين دون التعرض لمخاطر غير متوقعة، والتداعيات السياسية بعد عملية الاغتيال في حال كان ميدانها كيان صديق أو عدو، ومدى أهمية ومكانة المُستدف في التراتبية التنظيمية والضرورة الملحة وعنصر الزمن في تسريع أو تأجيل عملية الاغتيال، والهدف من عملية الاغتيال، سواء أكانت على سبيل الانتقام، أو نشر الخوف والرعب، أو إبطال خطر وشيك حسب وجهة نظر دوائر[10].
للتحميل اضغط هنا
الهوامش
[*] باحث في قضايا الأمن الرقمي والإرهاب.
[1] ديفيد أولبرايت، رئيس معهد العلوم والأمن الدولي
[2] CNN، اغتيال محسن فخري زادة… روحاني يتهم إسرائيل ويكشف مستقبل إيران النووي بعد هذه العملية،
28 تشرين الثاني(نوفمبر)2020، https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2020/11/28/rouhani-accuses-israel-fakhrizada
[3] ميخائيل بارزوهار – نسيم ميشعال، الموساد، أكبر مهام جهاز المخابرات الاسرائيلي، ( بيروت: ط1، الدار العربية للنشر، 2013، ص22
[4] عربي TRT، بنيامين نتنياهو تحدث في عام 2018 عن دور العالم النووي محسن فخري زاده، 27 تشرين ثاني (نوفمبر)2020، https://www.youtube.com/watch?v=NZrVgTA0OQA
[5] القدس العربي، تفاصيل جديدة حول اغتيال “فخري زاده”: رشاش جرى التحكم به عن بعد أطلق الرصاص من مسافة 150 مترا، 29 تشرين ثاني (نوفمبر) 2020، https://www.alquds.co.uk/ %A7/
[6] سمدار بيري، اليد الطولي باغتيال العالم الإيراني، الغد، تشرين ثاني (نوفمبر)، https://alghad.com/p
[7] سمدار، مرجع سابق
[8] ميخائيل بارزوهار، مرجع سابق، ص9
[9] عاموس يدلين، اغتيال رئيس البرنامج النووي الإيراني يطرح عدة أسئلة، أطلس للدراسات الإسرائيلية، 29 تشرين ثاني (نوفمبر) 2020، https://atls.ps/post/17053
[10] أنس محيسن، تكتيكات الاغتيال، العربي الجديد، 29 تشرين ثاني (نوفمبر) 2019، https://www.alaraby.co.uk