عليان الهندي·
أعادت الحركة الصهيونية، ومن بعدها دولة إسرائيل، كتابة تاريخ العلاقات بين الإسلام واليهودية من جهة، وعلاقات المسلمين والعرب مع اليهود من جهة أخرى، وذلك بهدف خلق “إجماع وذاكرة وطنية يهودية” ضد عدو مستقبلي حُدّد بالعرب والمسلمين. ونتيجة للتاريخ الجديد فقد اليهود مكانتهم الرفيعة والمتقدمة بين العرب في الجزيرة العربية بعد ظهور الرسول محمد (عليه الصلاة والسلام). كما أشارت المصادر الإسرائيلية المختلفة إلى أصناف التمييز العنصري والعرقي والديني التي مرت على اليهود في العصور الإسلامية المختلفة، متجاهلة في الوقت نفسه، أن اليهود عاشوا في ثلاثة عصور ذهبية وفق تصريحات الرئيس الإسرائيلي الأسبق موشيه قصاب هي: الأول، في الأندلس حيث حارب اليهود، ولأول مرة في تاريخهم، إلى جانب المسلمين. الثاني، في الولايات المتحدة، والثالث، في دولة إسرائيل التي أُنشأت بعد تشريد الشعب العربي الفلسطيني وتدمير كيانه الوطني. كما تجاهل التاريخ المذكور الدور الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الذي لعبه اليهود في المجتمعات العربية والإسلامية، التي رفضت أن ينغلق اليهود في حاراتهم وأحيائهم.
لكن انهيار الإمبراطورية العثمانية، أعفى الحركة الصهيونية، ومن بعدها دولة إسرائيل، من وضع الإسلام والمسلمين بشكل عام في خانة المُهدّدين، التي حلّ مكانها العرب والدول والحركات الوطنية خلال العقود الستة الماضية.
مع اندلاع الثورات العربية، وبروز تيارات الإسلام السياسي، خاصة “الإخوان المسلمون”، عادت إسرائيل إلى إعادة إنتاج روايتها التقليدية عن الإسلام والمسلمين والعرب، مُعتبرة ما يحدث تهديدا لها، مع بصيص أمل لتعايش فرضته اتفاقيات السلام وغيرها. ويرصد التقرير التالي رؤية إسرائيل لتيارات الإسلام السياسي، وكيفية التعامل معها في حالة التهديد أو التعايش.
ترى الدوائر البحثية، السياسية والفكرية الإسرائيلية المختلفة، أنه لا يوجد للإسلام السياسي جذور تاريخية عميقة في الفكر والحياة الإسلامية، وأنه أُسِس بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية بعقد من الزمان تقريبا، ولم يقم بأي دور في الصراع العربي الإسرائيلي حتى نهايات العقد السابع من القرن العشرين، تحديدا بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وتشكيل حركة الجهاد الإسلامي وحركة المقاومة الإسلامية “حماس” في الضفة الغربية وقطاع غزة في ثمانينيات القرن الماضي[1]. الأمر الذي دعا إسرائيل للنظر إليه كتهديد مستقبلي، مفترضة أن تيارات الإسلام السياسي ستكون أحد أهم أطراف الصراع المستقبلي. وازداد الاهتمام الإسرائيلي بهذه التيارات بعد تفاقم حالة الشيخوخة التي أصابت الأنظمة العربية في العقدين الأخيرين، والتي استغلت هذه التيارات في تحقيق مهمتين تمثلتا في: قمع قوى المعارضة المختلفة، وإخافة الغرب من “الإرهاب الإسلامي”. لكن النجاحات الكبيرة التي حققها الإسلاميون في العقدين الأخيرين، والتي توِّجت بانتصارهم في الانتخابات جرت في عدة دول عربية (الجزائر وتونس والمغرب ومصر) حثت إسرائيل على دراسة هذه التيارات وأهمها:
التيار الإسلامي “المتطرف”: أُسس فعليا من قبل المخابرات الباكستانية، التي أنشأت حركة طالبان في ثمانينات القرن الماضي بغرض محاربة الاحتلال السوفييتي لأفغانستان. وانضم لحركة طالبان عشرات ألوف الشبان العرب (40% سعوديون و30% مصريون و20% من المغرب العربي و10% من مسلمي شرق آسيا وبقية العالم). وبعد عودة هؤلاء إلى أوطانهم، أسس أسامة بن لادن، وهو أحد رموزهم البارزة، في أوائل عام 1990 تنظيم القاعدة (10% من قادته جاؤوا من مدارس دينية و90% منهم من أصول علمانية و60% من هذه القيادات سعودية ومصرية و30% من المغرب العربي و10% من جنوب شرق أسيا). ومنذ انطلاقتها ركزت “القاعدة” اهتمامها بـ “إنهاء النفوذ الغربي الصليبي في العالم الإسلامي وتحرير فلسطين وإقامة دولة الخلافة فيها”، واعتمدت “الإرهاب” أسلوباً لتحقيق أهدافها. ورغم الأهداف المذكورة لم يشن التنظيم أية هجمات على إسرائيل ومصالحها المختلفة، ما دعا الدولة العبرية للاهتمام بالبعد الأيديولوجي للتنظيم الذي رفعت فئة قليلة منه لواء الجهاد الإسلامي العالمي مثل أسامة بن لادن وأيمن الظواهري.[2]
الإسلام السياسي المعتدل (وفق المفاهيم الغربية وليست الإسرائيلية): أسس عام 1928 بمدينة الإسماعيلية في مصر من قِبَلِ حسن البنا، أول مرشد عام لحركة الإخوان المسلمين، والذي أعطى أفضلية للعمل السياسي للوصول إلى الحكم بوسائل سياسية، ونبذ العنف كمنهاج عمل. لكن، قدرة التنظيم على البقاء، وشن تنظيمات إسلامية متشددة هجمات على المصالح الأمريكية والغربية في العقدين الماضيين، وحالة الشيخوخة التي مرت بها الأنظمة العربية، دفعت الغرب للطلب من الأنظمة العربية استيعاب تيار الإسلام السياسي، خاصة الإخوان المسلمين، في اليات الحكم في الأقطار العربية، وذلك بهدف: تليين مواقفهم والمساهمة في اللعبة الديمقراطية، وإشراكهم في مواجهة الحركات الإسلامية المتطرفة. لكن إسرائيل رفضت ذلك، واشترطت اعترافهم بها مقابل التغاضي عن مشاركتهم في الحكم.[3]
لم يؤخذ موقف الإخوان المسلمين الرافض لاتفاقية كامب ديفيد، واعتبار إسرائيل كياناً غير شرعي، ورفضهم لحقها بالوجود، على أنه تهديد لإسرائيل، نظرا لعدم ترجمة مواقفهم لفعل عسكري يهدد وجودها. واكتفت بمتابعة تطور ونمو هذه الجماعة إعلاميا وفكريا وشعبيا، خارجيا وداخليا، موجهة أسلحتها وقوانينها ضد الحركة الوطنية الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات.
في المقابل، راقبت إسرائيل تطور ونمو تيار الإسلام السياسي الفلسطيني بشقيه (داخل فلسطين المحتلة عام 1948 وفي الضفة الغربية وقطاع غزة)، والذي يعود بجذوره لحركة الإخوان المسلمين. كانت بداية نشاط هذا التيار في نهايات عام 1979 عندما أسس الشيخ نمر درويش “أسرة الجهاد” بهدف القضاء على دولة إسرائيل. لكن القبض على أبرز أعضاء هذه المجموعة، وأد التطلعات العسكرية من نشاطهم، وحولهم إلى إطار يمارس نشاطاً اجتماعياً وسياسياً رسمياً، على غرار الأطر الاجتماعية-السياسية غير الحكومية في إسرائيل. أعقب ذلك انشقاق غير معلن في صفوف الحركة الإسلامية داخل فلسطين عام 1948 بين تيار يدعو للمشاركة في انتخابات الكنيست الإسرائيلي، وتيار أخر يقوده الشيخ رائد صلاح، الذي استعان بفتوى من الشيخ يوسف القرضاوي تحرّم المشاركة في هذه الانتخابات، كي لا يضطروا لأداء “قسم الإخلاص” لدولة إسرائيل الذي يؤديه عادة أعضاء الكنيست.[4]
في الوقت ذاته، راقبت إسرائيل تطور ونمو الإسلام السياسي، خاصة الجماعات التابعة للإخوان المسلمين في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي لم تشكل لها أي تهديد حتى أواخر ثمانينات القرن الماضي. وما لبثت هذه الحركات أن شكلت “حركة المقاومة الإسلامية-حماس” وتبنت الكفاح المسلح سبيلاً وحيداً لمواجهة الاحتلال. وهو ما دفع إسرائيل إلى حظر نشاطاتها واعتبارها خارج القانون. ويمكن القول أن تعامل إسرائيل مع حركة حماس مرّ بعدة مراحل هي: الحظر والمحاربة، وإدارة الصراع، والبحث عن آليات تعاون معها، خاصة بعد فوز الحركات الإسلامية المؤيدة للإخوان المسلمين في الانتخابات التي جرت بعد الربيع العربي في تونس والمغرب ومصر.[5]
انبثقت عن الإخوان المسلمين في الضفة الغربية وقطاع غزة “حركة الجهاد الإسلامي” التي أسست عام 1981 من قبل الدكتور فتحي عبد العزيز الشقاقي، مُستلهمة في تأسيسها انتصار الثورة الإيرانية. كانت “حركة الجهاد الإسلامي” أول تنظيم إسلامي يتبنى الجهاد ضد إسرائيل، ويقصر جهوده على ممارسته؛ الأمر الذي حدا بالمهتمين والباحثين اعتبار هذا التنظيم أشدّ التنظيمات الفلسطينية “تطرفاً” لتركيزه على الجهاد، وعدم اهتمامه بالنشاط الدعوي والإجتماعي كالذي تقوم به “حماس”.[6]
الإسلام السياسي الشيعي: وقد تكوَّن كتيار بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، ووضع في مقدمة أولوياته محاربة نفوذ الولايات المتحدة (الشيطان الأكبر) في المنطقة وتحرير كل فلسطين. ونظراً للمكانة الدينية والسياسية لرجال الدين، خاصة آيات الله في المذهب الشيعي، حذت كل المرجعيات الشيعية غير الإيرانية حذوهم في تحديد الولايات المتحدة وإسرائيل كأعداء للإسلام والمسلمين، بدلاً من الاهتمام بـ”القمع الذي مارسته الأغلبية السنية بحقهم في الوطن العربي”[7]. ونتيجة ذلك، أصبحت إيران تهدد إسرائيل في ثلاثة محاور هي: دعم ما تسميه المنظمات “الإرهابية” مثل “حزب الله” و”حماس”، البحث عن مكانة إقليمية قائدة تضع على رأس أولوياتها تحرير فلسطين، والمشروع النووي الذي تخشى إسرائيل امتداده إلى دول المنطقة، ما يشكل تهديداً جدياً لوجودها.[8]
ولرغبتها في تصدير الثورة ساعدت إيران في عام 1982 بتأسيس “حزب الله الشيعي في لبنان كحركة إسلامية ذات أيديولوجية متطرفة، تؤمن بـ”ولاية الفقيه” كمقدمة لعودة المهدي المنتظر، وبالجهاد كوسيلة لإقامة الدولة الإسلامية التي لا يمكن لها أن تتحقق إلا بمحاربة النفوذ الأمريكي في المنطقة، ومسح دولة إسرائيل عن الخارطة التي وصفها أمينها العام حسن نصر الله بـ”بيت العنكبوت”.[9]
الدور الإسرائيلي في تقوية الإسلام السياسي
كانت المطامع الغربية والصهيونية في فلسطين من أهم العوامل التي حفّزت على تأسيس تيارات الإسلام السياسي، بهدف محاربة الأطماع الغربية في الوطن العربي، وفي فلسطين على وجه الخصوص. وازدادت هذه التيارات قوة بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان في حرب عام 1967 من قبل إسرائيل، وسيطرتها على ثالث أقدس الأماكن عند المسلمين (الحرم القدسي الشريف) وفرض شراكة يهودية في كثير من الأماكن المقدسة للمسلمين، مثل الحرم الإبراهيمي الشريف بالخليل. كما ساهمت الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على المسجد الأقصى في تنظيم الاحتجاجات والمظاهرات، التي عززت من قوة التيارات الإسلامية، وفي إظهار عجز الأنظمة العربية عن تحرير القدس وفلسطين، ما مكنها من طرح نفسها كبديل لها.
ساهمت الحروب المتكررة التي شنتها إسرائيل في الساحتين اللبنانية والفلسطينية، وقصف المشاريع النووية العربية في العراق وسوريا، والقيام بعمليات اغتيال بحق بعض القيادات الفلسطينية في الدول العربية، في إبراز عجز الأنظمة العربية وإظهارها على أنها متعاونة مع إسرائيل، وهو ما استغلته تيارات الإسلام السياسي في تعزيز مواقعها في الوطن العربي. اللافت للنظر في هذا السياق، أن إخراج المقاومة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات من لبنان، أوجد تياراً لا يقل شراسة عن المقاومة الفلسطينية في نهجه المقاوم لإسرائيل، ألا وهو “حزب الله”. فيما أدى اغتيال الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عام 2005 إلى تعزيز دور “حركة المقاومة الإسلامية-حماس” كأحد التيارات الأساسية في فلسطين.[10]
أشير هنا إلى أن الشرط الإسرائيلي باعتراف قوى الإسلام السياسي باتفاقيات كامب ديفيد، ورفض تلك القوى ذلك، عزّز لدى الشعوب العربية فكرة أن التيار الإسلامي هو الوحيد القادر على مواجهة النفوذ الغربي في المنطقة، والتصدي للغطرسة الإسرائيلية التي تعتدي بشكل ممنهج على العرب والفلسطينيين.
أخيراً، لا بد من الإشارة إلى أن إسرائيل، وبسماحها لتيار الإسلام السياسي في فلسطين، الذي مثّله الإخوان المسلمون، بحرية العمل وبناء المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والأكاديمية الخاصة بهم في الضفة الغربية وقطاع غزة لمواجهة وإضعاف نفوذ م.ت.ف، خلال سبعينيات وحتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، ساهم بتعزيز قوّة هذا التيار في كل فلسطين التاريخية.[11]
الوصف الإسرائيلي للتيارات الإسلامية
نجحت إسرائيل خلال العقود الثلاثة الماضية في جعل الغرب يتبنى مصطلح “الإرهاب الإسلامي” والتحريض عليه من قبل أجهزة الحكم والنخب السياسية والأطر الأكاديمية وحتى الشعبية. ولم يفرق المفهوم الإسرائيلي بينهم أو يصنفهم ما بين معتدل ومتطرف. ووصل التحريض ذروته بادعاء أن المسلمين في أوروبا، البالغ عددهم 20 مليوناً يسعون لتحويل بعض هذه الدول إلى دول إسلامية، خاصة فرنسا التي يبلغ عدد المسلمين فيها 7 ملايين مسلم تقريبا.[12]
في سياق منفصل، وُصِف العربي، بسبب موروثه الاجتماعي وأيديولوجيته الإسلامية بأنها لم تصل لمستوى الحضارة العالمية، ووصف بالتخلف والخضوع لحكام مستبدين.[13]
عندما اندلعت ثورات الربيع العربي، وظهرت القوة الانتخابية لتيارات الإسلام السياسي، تنافس أصحاب القرار والمختصون الإسرائيليون في توصيف هذه التيارات، فنعتوا نشطاءها بـ”المحافظين الجدد” و”التقليديين” و”الذين لا يؤمنون بالديمقراطية”، ورأوا أن اولئك يستثمرون الديمقراطية بوصفها وسيلة للوصول إلى سدة الحكم من أجل البقاء فيها. وأن تبنيهم شعارات حرية الرأي وحقوق الإنسان، إنما هو بغرض إرضاء الغرب المتخوف من مشاركتهم في الحكم، ليس إلا، وأن أهدافهم الحقيقية مبنية بالأساس على معتقدات عليا ليس لها علاقة بالواقع.[14] وللتغطية على أهدافهم الحقيقية طور نشطاء ومفكروا الإسلام السياسي، خاصة الإخوان المسلمون في مصر مصطلح “المصلحة” ومنحوه بعداً شرعياً ودينياً لمواجهة الواقع.[15]
إضافة إلى ذلك، وصفت إسرائيل هذه التيارات بأنها تعاني من الحيرة، وذلك بسبب اعتمادها على شعاراتها التقليدية، مثل “الإسلام هو الحل” دون أن تقرنه بأي برنامج عمل. ونفس الوضع ينطبق على مستقبل نظام الحكم الذي يرغبون بقيامه في الدول التي فازوا فيها، حيث يعانون من حيرة في اعتماد النموذج الأفضل لهم، أن يكون تركياً أم إيرانياً، عربياً أم إسلامياً.
كيف تعامل الإسلام السياسي مع المطالب الأمريكية والإسرائيلية
بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) توصلت الولايات المتحدة إلى قناعة مفادها أن مشاركة الإسلام السياسي، خاصة الإخوان المسلمين في الحياة السياسية في الدول العربية من شأنه أن يقلل المخاطر التي تهددها. نتيجة لذلك دخلت في حوار مع الأخوان المسلمين في العديد من العواصم الأوروبية المختلفة، وفي سفارتها بالقاهرة، وحدد المحاوِر الأمريكي خلال تلك اللقاءات المطالب الأمريكية والإسرائيلية من الأخوان المسلمين كشروط للمشاركة في الحكم وهي:
- نبذ العنف والإرهاب.
- حل التنظيم العالمي للإخوان المسلمين وإنشاء أحزاب إسلامية قطرية، وبمعنى أدق الموافقة على خارطة سايكس-بيكو التي قسمت الوطن العربي إلى دول عربية.
- الالتزام بالمحافظة على اتفاقيات كامب ديفيد ووادي عربة الموقعتان بين إسرائيل من جهة، ومصر والأردن من جهة أخرى.
- الالتزام بتداول السلطة، أي الالتزام بالديمقراطية والانتخابات الدورية.
- المحافظة على حقوق الأقليات.
- المحافظة على حقوق المرأة.[16]
- وبعد الانتخابات التي جرت في الضفة الغربية وقطاع غزة عام 2006 وفوز حركة حماس بها، أضافت اللجنة الرباعية (المعنية بإيجاد حلول للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي)، بطلب من الولايات المتحدة وإسرائيل، شروطا جديدة لمشاركة “حماس” في الحياة السياسة الفلسطينية وهي: منع الإرهاب، ووقف إطلاق الصواريخ، والالتزام بالاتفاقيات الموقعة بين إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية، وهي ترجمة للشروط التي فرضت على منظمة التحرير الفلسطينية عام 1974 للدخول في المسيرة السلمية (نبذ الإرهاب والاعتراف بحق إسرائيل بالوجود وبأن قرار مجلس الأمن 242 هو مرجعية المفاوضات).[17]
ولم تتوقف الشروط على الإسلام السياسي السني، بل امتدت إلى الإسلام السياسي الشيعي الذي تقوده إيران حيث حددت مطالبها منه بالتالي:
- تفكيك المشروع النووي الإيراني.
- منع تحويل إيران لقوة إقليمية نتيجة دعمها لـ”الإرهاب” القادم من لبنان وغزة.[18]
- إضعاف حزب الله وتحويله لحزب سياسي لبناني.[19]
حول كيفية تعامل التيار الإسلامي مع الشروط الأمريكية والإسرائيلية، أُشير إلى أن التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، أعلن في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي عن موافقته على مشاركة المرأة في العمل السياسي، والموافقة على منهج المشاركة في الحكم وليس المغالبة.[20] وأوجد تعايشا مشتركا بين مفهوم الديمقراطية التي شبهته بالشورى لتضمنه ثلاث حريات أساسية هي: حرية الرأي، حرية التنظيم، وحرية المشاركة. وهي حريات تصونها الشريعة الإسلامية، وبالتالي لم يعد هناك من حرج على التيار في أن يرفع الديمقراطية شعاراً سياسياً له، بعد أن كان يعتبرها أحد أهم أسس “العلمانية الكافرة”.[21]
وحول نبذ العنف و”الإرهاب”، أعلن التنظيم العالمي لـ”الإخوان”، أن الإخوان المسلمين حرصوا على نبذ العنف كمنهج سياسي لهم، لكنهم لم يشجبوا العمليات العسكرية ضد المحتل الإسرائيلي، ولم يقرّوا بشرط الاعتراف بكامب ديفيد كمدخل للاعتراف بإسرائيل، وهو أهم الشروط الغربية والإسرائيلية، والذي كان سببا في توقف هذه الحوارات بين الفينة والأخرى.[22]
في الوقت الذي رفضت فيه حل التنظيم العالمي كأحد الشروط، قامت بتأسيس أحزاب مستقلة في الدول العربية، قبل وبعد الثورات العربية. مثل حزب الحرية والعدالة في مصر وحزب النهضة في تونس وحزب التنمية في المغرب، وغيرها من الأحزاب والتنظيمات في غيرها من الدول، وذلك في إشارة منهم إلى موافقتهم على هذا الشرط من دون الإعلان صراحة عن ذلك.[23]
وعلى أي حال، فقد حدثت الثورات العربية التي أسقطت حتى اليوم نظامين (تونس ومصر) وثالث بتدخل من حلف شمال الأطلسي (ليبيا) ورئيس (علي عبد الله صالح) وحكومة (المغرب)، وهناك ثورة مندلعة في سوريا، وحراك في الأردن. وجرت انتخابات في ثلاث دول، هي المغرب وتونس ومصر، أدت إلى فوز الأحزاب الإسلامية المنبثقة عن، والمنتمية للإخوان المسلمين، ما فرض على الغرب وإسرائيل واقعا جديدا يتطلب منها البحث باتجاهين: الحرب أو التعايش.
بين التعايش والمواجهة
التقطت إسرائيل مبكراً حالة الذهول التي اعترت تيارات الإسلام السياسي جرّاء فوزه في الانتخابات التي جرت في المغرب وتونس ومصر، حيث بدأ قادة ونشطاء هذه الأحزاب حملة تهدئة داخلية لم يعد يُذكر فيها شعار “الإسلام هو الحل”، وحملة تهدئة خارجية وصلت ذروتها بتصريح المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية بأن الإخوان المسلمين في مصر لن يلغوا اتفاقية كامب ديفيد، ولن يعرضوها على الاستفتاء العام. وامتدت حملة التهدئة لتشمل المغرب العربي، حيث أبلغ راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة التونسية مستمعيه من اليهود الأمريكيين وبعض الإسرائيليين في أحد مراكز الأبحاث التابعة للوبي الصهيوني “ايباك” في الولايات المتحدة إلى القول أنه لن يسنّ قانوناً يحرم فيه قيام علاقات مع إسرائيل.[24]
لكن هذه التصريحات لم تقلل من المخاوف الإسرائيلية التي وضعت سيناريوهين: الأول، في حالة إلغاء اتفاقيات كامب ديفيد والاستعداد للحرب. والثاني، خلق حالة من التعايش تفرضها الاتفاقيات القائمة مع مصر والأردن والفلسطينيين.
وفيما يتعلق بسيناريو الحرب بدأت إسرائيل في بناء سياج أمني على طول الحدود المصرية بطول 450 كيلومتراً تقريباً لمواجهة ما تسميه “الإرهاب” القادم من سيناء وغزة، ومنع تسلل المهاجرين الأفارقة إليها.[25]
والأمر الثاني الذي بدأت العمل فيه هو تنفيذ توصيات لجنة برادوت (لبحث أسباب الفشل في حرب لبنان الثانية) الداعية لتحويل كل أموال المساعدات الأمريكية البالغة 30 مليار دولار من عام 2007-2018 لميزانية وزارة الدفاع بهدف خوض حرب على أكثر من جبهة واحدة. وتتوقع مختلف المصادر الإسرائيلية أن إلغاء اتفاقيات السلام مع مصر والأردن، واتفاقية وقف إطلاق النار مع سوريا بعد سقوط النظام، من شأنه أن يؤدي إلى اندلاع حرب شاملة لفترة تمتد من 5-10 سنوات. لكن إسرائيل، بهدف عدم التصعيد العسكري مع الدول العربية المذكورة، تنفذ ذلك بهدوء وبشكل تدريجي.[26]
وبخصوص التعايش المنشود إسرائيليا، ترى إسرائيل أنها ستحاط في الأعوام القادمة بالإخوان المسلمين من المغرب حتى اليمن، ويفرض هذا الوضع عليها البحث عن طريقة تتعايش فيها مع الحكومات الجديدة معتمدة في ذلك على اتفاقيات سلام معها، حيث بدأ الحديث فيها عن إمكانية فتح الاتفاقيات وتعديلها بهدف تعزيز السيادة المصرية على سيناء التي ضعفت خلال العقود الثلاثة الماضية خاصة في مناطقB وC. وتتفق المصادر الإسرائيلية المختلفة على أن موافقة إسرائيل على تعديل الاتفاقيات مع حكومات إسلامية منتخبة سيمنحها روحا وشرعية جديدة ضعفت خلال العقود الماضية، ما يمكّن هذه الحكومات من القول أنها أنجزت ما لم يستطع النظام السابق إنجازه.
وستحرص إسرائيل على إشراك الولايات المتحدة في مفاوضات تعديل الاتفاقيات مع مصر والأردن، لتكون الطرف المعارض لأي تعديل لا ترضى به. كما تتطلع إسرائيل لتعزيز دور القوات الدولية في سيناء ومنحها صلاحيات جديدة تتعلق بالتنسيق بين الطرفين لتفادي الاحتكاك مع الحكم الجديد في مصر.[27]
ولمواجهة الجمود المتزايد في العلاقات الرسمية بين إسرائيل ومصر، ترى إسرائيل أن بالإمكان اقتصارها على علاقات أمنية، يقوم بها الجيش والمخابرات المصرية العامة، كما كان عليه الحال خلال حكم مبارك الذي سلّم فيه ملف العلاقات مع إسرائيل لوزير المخابرات عمر سليمان على المستوى السياسي، وللجيش على المستوى الميداني.
التطلع لإرضاء الإسلام السياسي، خاصة الأحزاب التابعة لحركة الإخوان المسلمين، والاعتراف بأن “دولة حماس” في غزة بدأت تتحمل مسئولياتها، وتتصرف في الأشهر الأخيرة بطريقة أفضل من تصرفاتها خلال عهد مبارك، وهي ضابطة للأمور في غزة أكثر من السلطة الوطنية الفلسطينية، حتى خلال حكم الشهيد ياسر عرفات، وتتراكم لها مصالح، يلتقي بعضها مع المصالح الإسرائيلية، بدأت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بحث إمكانية التوصل لتفاهمات، وإيجاد قنوات اتصال واقعية مع حركة حماس، ويتضمن بعض هذه الاقتراحات إمكانية طرح حل مرحلي على حركة حماس في الضفة الغربية من دون الاعتراف بدولة إسرائيل كدولة يهودية، ويكون الحل الجديد شبيه بهدنة حرب عام 1948، وهو حلّ محبب لدى حماس.[28]
وبخصوص العلاقات غير الرسمية التي تقيمها إسرائيل مع المغرب فيمكن حصرها بالعلاقة مع القصر الملكي، من دون حدوث أي احتكاك مع الحكومة هناك، ومع تونس، هناك تطلع لبقاء مدينة جربة مفتوحة أمام السياحة اليهودية.
أمر آخر، ترى إسرائيل أن بالإمكان تعزيز التعايش من خلاله، هو التعاون مع الإسلام السياسي السني وإثارة العداء مع الإسلام الشيعي وادّعائها أنه يحاول تطوير برنامج نووي لا يهدد إسرائيل فقط، بل العالم العربي السني أيضا.
وفيما يتعلق بمواجهة الإسلام السياسي الشيعي، ترى إسرائيل أن القضاء على المشروع النووي الإيراني سيساهم في تقويض الإسلام السياسي الشيعي في المنطقة، ويدفع إيران إلى الانكفاء الداخلي، ويمنع تطورها إقليميا وفق الرؤى التي يحملها أيات الله في قم. وعلاوة على الانكفاء الشيعي الذي تتطلع إليه إسرائيل بعد تدمير المشروع النووي، يساهم إسقاط النظام السوري في إضعاف حزب الله، ويعيده حزبا لبنانيا داخليا، ما يسمح بتقليل التهديدات التي تواجهها إسرائيل، خاصة في مجال ما تسميه الإرهاب.
خلاصة القول هي، أن إسرائيل تدرك أن المحيط والإقليم الاستراتيجي يتغير لغير صالحها، غير أنها تحمل مشاعر متناقضة بين الخوف من مستقبل غير واضح لها، ما يدفعها للتسلح والاستعداد لحرب شاملة على أكثر من جبهة، وبين أملٍ في شرق أوسط لا يختلف كثيراً عن سابقه المتعاون والمشارك والوسيط والضاغط. لكن مشاعر الخوف، الغالبة دوماً، تدعوها إلى تجميد المسيرة السلمية مع الفلسطينيين، ورفض أي مقترحات للعودة إليها بحجة مشاعر الخوف من مستقبل مجهول في الشرق الأوسط، ما يؤدي لتهيئة الأجواء لانتفاضة فلسطينية جديدة، خاصة في الضفة الغربية، تفرض واقعا جديدا على الثورات العربية والأنظمة الجديدة ذات الطابع الإسلامي تتحدد فيه طبيعة الصراع المستقبلي في المنطقة.
[1]. كيدمي يعقوب، روسيا وإسرائيل والإسلام المتطرف، محاضرة، يوم دراسي عقد في مركز ديان للدراسات الأفروآسيوية في جامعة تل أبيب، 20\6\2010
[2]. المصدر ذاته.
[3]. قناة الجزيرة، برنامج حديث الثورة على قناة الجزيرة، دعوة واشنطن للحوار مع الحركات الإسلامية، 6/7/2011.
[4]. طال نحمان، الحركة الإسلامية في إسرائيل، مجلة أخر التطورات الإستراتيجية، مركز يافة للدراسات الإستراتيجية، جامعة تل أبيب، عدد 4، من ص 7-12، تل أبيب عام 2000.
[5]. بردنشتاين آفي، إسرائيل تدرس من جديد علاقاتها بحماس، موقع صحيفة معاريف الاليكتروني www.nrg.co.il . 23/11/2011.
[6]. ليئور بن دافيد، منظمات الإرهاب التي تحارب إسرائيل، ورقة عمل، قدمت للكنيست في عام 2004.
[7] زمن يهودي جديد- ثقافة يهودية في عصر علماني :علاقة اليهود بغير اليهود، المجلد الرابع، نظرة من قاموس، ص 32.
[8]. د مغين زئيف، إيران في الطريق للقنبلة، ص 35، دراسات في الأمن القومي مركز بيغن السادات للدراسات الاستراتيجية، 2010.
[9]. السيد مهدي، الاحتلال يقر بنظرية بيت العنكبوت، جريدة الأخبار اللبنانية، إسرائيليات عدد 1542، 2011.
[10]. عمير ربابوت، عبر حرب لبنان الثانية، مذكرة في الأمن القومي، مركز بيغن السادات للدراسات الاستراتيجية ، ص 20، 2010.
[11]. مرجع سبق ذكره، روسيا وإسرائيل والإسلام السياسي.
[12]. زئيف لويكر، الاستراتيجية الإسلامية في روسيا، تخيليت ص 15، عدد 38، 2010.
[13]. آشير ساسار، مرور عام على الثورات العربية، يوم دراسي عقد في جامعة تل أبيب في 25/1/2012.
[14]. المصدر ذاته، محاضرة عوديد، الرابحون والخاسرون.
[15]. المصدر ذاته، محاضرة إيهود يعاري.
[16]. مصدر سبق ذكره، حديث الثورة.
[17].عتصيون عيران، تقييم الوضع الاستراتيجي لإسرائيل 2008-2009، دراسة في وثيقة قسم التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الإسرائيلية، مركز أبحاث الأمن القومي، 2009.
[18]. بيرقوفيتش داني، المعركة لإضعاف حزب الله، مذكرة رقم 92، ص 6، مركز أبحاث الأمن القومي، جامعة تل أبيب، 2007.
[19]. المصدر ذاته.
[20]. الحمد خالد، مشروع الإخوان السياسي: عودة للأصول، مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية، لندن الموقع الإليكتروني www.asharqalarbi.org.uk .
[21]. الموسوعة الإخوانية، الديمقراطية، www.ikwan.net .
[22]. المصدر ذاته.
[23]. الإسلام السياسي يتقدم في تونس، الموقع الاليكتروني لصحيفة القدس العربي alquds.co.uk، 25/10/2011.
[24]. مصدر سبق ذكره، ايهود يعاري، عام على الثورات العربية، محاضرة الأخوان المسلمين في إسرائيل، يوم دراسي عقد في جامعة تل أبيب 25/2/2012.
[25]. يوفال أزولاي، جدار على طول الحدود مع مصر، غلوبز الاقتصادية، 21\8\2011.
[26]. موقع رئيس الحكومة الإسرائيلية الأليكتروني www.pom.gv.il . الحكومة تبنت توصيات مبادئ توصيات لجنة برادوت بإضافة 100 مليار شيكل لميزانية وزارة الدفاع من عام 2007-2017. 29/7/2007.
[27] . يوئال غوجانسكي ومارك هيلر، محرران، عام على الربيع العربي –انعكاسات إقليمية ودولية، جامعة تل أبيب مركز أبحاث الأمن القومي، ص 75، 2012
[28] . مصدر سبق ذكره، الإخوان المسلمون وإسرائيل.