روكسانا سلامة*
تقدم السياسة الإيرانية في المسألة الفلسطينية اختباراً عملياً لمسألة السياسة الخارجية للدول، من حيث مدى تأثير وانسجام وتناقض كل من الاعتبارات الأيديولوجية للأنظمة والمصالح السياسية العملية والبراغماتية. وسياسة إيران إزاء الصراع العربي الإسرائيلي تحولت ما بين نظام الشاه قبل ثورة العام 1979 والثورة والنظام الذي تكوّن بعد الثورة، إذ إن منظمة التحرير كانت داعماً رئيسياً للثورة الإيرانية على نظام الشاه الذي كان حليفاً مهماً للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة من جهة، وصديقاً لإسرائيل من جهة أخرى.
لكن، وبعد الثورة، انقلبت العلاقة بين الطرفين لأسباب أيديولوجية وجيوسياسية، وطورت إيران علاقتها مع الفصائل والتنظيمات الفلسطينية الإسلامية وصولاً إلى العلاقة الإستراتيجية مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي، لكن تبقى هذه العلاقة محكومة بالبعدين الأيديولوجي ومصالح إيران الإستراتيجية، إذ تخلص هذه الدراسة إلى أن إيران تولي مصالحها القومية الأولوية على حساب الأيديولوجيا الناظمة لفعلها السياسي تجاه القضية الفلسطينية.
ورغم أن هذا المحدد السياسي متجذر كأصل من أصول السياسة الخارجية الإيرانية تجاه القضية الفلسطينية منذ العام 1979، إلا أن القضية الفلسطينية بقيت مصدراً أساسياً من مصادر شرعية النظام السياسي الإيراني ومرتكز رئيس في خطابه السياسي الداخلي والخارجي.
المقدمة
عند الحديث عن الدور الإيراني في المسألة الفلسطينية، يبرز أنّ طهران في مرحلة ما بعد العام 1979 فضلت العمل مع فصائل وقوى سياسية، لتكون جزءاً من المشهد السياسي الداخلي الفلسطيني، ووظفت هذا المشهد ضمن سياساتها الإقليمية. وتأثرت هذه العلاقة بالمواقف الفلسطينية من قضايا إقليمية معينة أكثر من ارتباطها بسياقات المواجهة الإسرائيلية الفلسطينية، وهذا ظهر جلياً في علاقة طهران مع حركة المقاومة الإسلامية “حماس” التي تدهورت بسبب الأزمة السورية، حيث آلت العلاقة بين الطرفين إلى التوتر بسبب وقوف “حماس” والإخوان المسلمين ضد النظام السوري الحليف لطهران. وإن استمرت العلاقة الإيرانية مع حركة “الجهاد الإسلامي” مالياً وعسكرياً، إلا أن هذا الدعم تذبذب حد التوقف في وقت من الأوقات[1] على خلفية حسابات إقليمية لدى الطرفين، وهذا ما يعيد إلى الأذهان تدهور العلاقة بين طهران ومنظمة التحرير و”فتح” على خلفية موقف القيادة الفلسطينية في حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق.
في ظل التأكيد المستمر للموقف الإيراني على عدالة القضية الفلسطينية منذ نجاح الثورة الخمينية عام 1979، والإشارة إليها بأنها قضية المسلمين الأولى واعتبار أنّه من الواجب الديني تقديم الدعم للمستضعفين وتحرير فلسطين بحسب ما جاء في خطاب الثورة، تسعى هذه الورقة للإجابة عن سؤال رئيسي: هل أخضعت القضية الفلسطينية للمصلحة القومية الإيرانية أم سارت على مبادئ الثورة المعلنة، وكيف انعكس ذلك على الموقف الإيراني تجاه القضية الفلسطينية في ضوء المتغيرات الإقليمية والدولية؟
ما بين ثوابت الثورة الأيديولوجية والمصلحة القومية الإيرانيتين، تقوم هذه الدراسة على فرضيتين أساسيتين: الأولى أن الدعم الإيراني للقضية الفلسطينية يأتي بما يتفق مع مصالحها القومية، وحين يحدث تعارض بين الأيديولوجيا والمصلحة، فإن الأولوية تُعطى للمصلحة الإيرانية. والثانية: أن الدعم الإيراني يغلب عليه البعد الخطابي، ودعم حركات معينة داخل الساحات الفلسطينية ضمن اشتراطات سياسية.
الموقف الإيراني من قيام إسرائيل
انطلق الموقف الإيراني من المسألة الإسرائيلية في عهد الشاه محمد رضا البهلوي، الذي حكم إيران بين عامي 1941- 1979، من متغيرين أساسيين: الأول؛ دخول النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية مرحلة جديدة عرفت باسم “الحرب الباردة”، حيث كان تَقبل إسرائيل كجزء من الاستقطاب العالمي بين معسكرين غربي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، وشرقي شيوعي بقيادة الاتحاد السوفياتي. والثاني؛ تمثل في نظرية “الأطراف” التي صاغها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، ديفيد بن غوريون، والقائمة على تعزيز إسرائيل علاقاتها مع الدول المحيطة بالعالم العربي كإيران وتركيا[2]. وعلى مستوى إيران، كان الدافع الرئيسي لتقارب النظام السياسي مع إسرائيل في ذلك الوقت هو التهديد السوفيتي- العراقي، المدعوم بأيديولوجيا القومية العربية ومركزها القاهرة آنذاك[3].
شكلت تلك العلاقة الثنائية تحالفاً جديداً يقوم على مبدأ توازن القوى في منطقة الشرق الأوسط بهدف تشتيت القوى العربية، لكن النكسة عام 1967 أدت إلى اختلال موازين القوى في المنطقة لصالح إسرائيل، الأمر الذي أعطاها قوة أكثر بكثير مما كانت عليه قبل الحرب، إذ كان الثقل الإسرائيلي قبل الهزيمة العربية يوازي ثقل إيران في المنطقة[4].
ولذلك، ندد الشاه بالاحتلال الصهيوني للأراضي العربية، وهو موقف تبنته كثير من دول العالم ممن كانت تؤيد إسرائيل قبل الحرب، ربما حفز رجحان الكفة لصالح إسرائيل بشكل كبير في المنطقة وصعودها على حساب دول إقليمية أخرى، منها إيران، ردة الفعل الإيرانية هذه. إلا أنّ السياسات الإيرانية ظلت تتراوح بين التنديد بالاحتلال “الإسرائيلي”، مقابل استمرار تطبيع العلاقات الاقتصادية وتزويد الدول الغربية وإسرائيل بالنفط[5].
اتسمت هذه الفترة باستمرار وجود فجوة بين الموقفين الرسمي والشعبي في إيران، فالحكومة في طهران وعلى الرغم من حدوث تغيرات تدريجية في موقفها إزاء القضية الفلسطينية، منها تأييدها لقرار الأمم المتحدة (3210) الذي ينص على قبول المنظمة كعضو مراقب عام 1974، إلا أنها بقيت على ذات محدداتها الإستراتيجية كرفض الشاه فتح مكتباً للمنظمة في طهران واستمرار تزويده للغرب بالنفط. أما الموقف الشعبي، فكان واضحاً بإيمانه بعدالة القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره[6]، وهو ما ستعلنه الثورة الإيرانية عام 1979 كأحد مبرراتها.
بعد الثورة الإيرانية
برز اهتمام رجل الدين الشيعي موسى الخميني بالقضية الفلسطينية إثر حرب حزيران (يونيو) عام 1967، حين أصدر فتوى بتحريم التعامل مع إسرائيل في كافة المجالات، وبعد عام واحد من الحرب، أصدر الخميني فتوى تحث الشعوب الإسلامية على تقديم الدعم المالي والتبرع للثورة الفلسطينية من أجل تحرير فلسطين ورفع الظلم عن شعبها[7].
تكرّس هذا الخطاب مع اندلاع الثورة عام 1978، إذ أكد الخميني على أهمية فلسطين وضرورة مساندة شعبها، وقال “إن من أسباب ثورة الشعب في إيران ضد الشاه هو حمايته اللامحدودة لإسرائيل وتأمينه لاحتياجاتها النفطية، ولأنه جعل إيران سوقاً للبضائع الإسرائيلية، إضافةً إلى دعم الشاه المعنوي لإسرائيل مع أنه يتظاهر بإدانتها كي يخدع العالم”[8].
بدأت مع نجاح الثورة الإسلامية إستراتيجية جديدة تقوم على وضع قضية فلسطين وتحريرها في صلب عقيدتها وسياستها الخارجية[9]. وقد تولى الخميني منصب المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، وهو المنصب الأرفع في الجمهورية الإيرانية، وباتت القضية الفلسطينية مصدراً أساسياً لشرعية النظام السياسي الإيراني القائم على نظرية “ولاية الفقيه” والشريعة الإسلامية، وصاغت ثوابت الثورة معادلة في طريقة تعاطيها مع القضية الفلسطينية تقوم على “أن القضية الفلسطينية ستبقى قضية الأمة ما دامت إسرائيل قائمة كدولة، وإن حل القضية الفلسطينية يكمن بحذف إسرائيل من خارطة الشرق الأوسط، وإن ذلك لن يتحقق إلا عبر دعم الفلسطيني بالمال والسلاح باعتباره واجباً إسلامياً مُقدساً”[10].
أولى الخطوات التي اتخذتها الحكومة الإسلامية الجديدة في إيران كانت تحويل السفارة الإسرائيلية إلى سفارة فلسطينية وتقديمها لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت دعمت الثورة والثوار للإطاحة بنظام الشاه، وأعلن نظام الثورة عن إطلاق “يوم القدس العالمي” كحدث سنوي للتضامن الواسع مع القضية الفلسطينية، وأعلن الخميني عن تشكيل “جيش القدس” لتحرير القدس. كما عرف الخميني إسرائيل بأنها كيان صهيوني، رافضاً الاعتراف بأنها دولة قائمة، بالإضافة إلى قطع كافة العلاقات التي كانت قائمة في عهد الشاه[11].
بعد رحيل الخميني عام 1989، خلفه علي الحسيني الخامنئي، المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في الوقت الحالي، الذي سار على خطى الخميني من حيث تأكيده على محورية القضية الفلسطينية ودعمه للمقاومة، ومن ذلك تصريحه: “إننا لا نقبل المساومة في القضية الفلسطينية، وقد أكدنا دوماً أن فلسطين ملك للفلسطينيين.. نحن ندعم مقاومة الشعب في داخل فلسطين، ندعم مقاومة الفلسطينيين المشردين الذين يريدون محاربة الحكومة الغاصبة، وندعم الشعوب التي تساند هذه المقاومة”[12].
ما بين الأيديولوجيا وثوابت الثورة
نجحت الثورة الإيرانية في الحصول على التأييد الشعبي والرسمي الفلسطيني، إذ أيد رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الراحل ياسر عرفات هذه الثورة، فبعد أسبوع واحد من انتصارها حطت طائرة عرفات في مطار طهران كأول زعيم عربي يصل إيران للتهنئة بنجاح الثورة، مُصرحاً فور وصوله: “هل من أحد يصدق ما يحصل؟ الثورة الفلسطينية موجودة في إيران؟ رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن قال اليوم لقد بدأ عصر الظلمات بالنسبة لإسرائيل”[13].
بدأت العلاقة بالتراجع بعد أقل من عام نتيجة خلافات عديدة، أبرزها “التوتر الأيديولوجي” بين المنهج الثوري الإسلامي الذي تتبناه إيران القائم على “أسلمة” الصراع العربي- الإسرائيلي، وبين المنظور العلماني الذي تنطلق منه المنظمة، إذ أصر القادة الإيرانيون وعلى رأسهم الخميني على ضرورة تبني المنظمة الإسلام كقاعدة للعمل عبر إعلان “إسلامية الثورة الفلسطينية”، إلا أنّ رفض عرفات وتأكيده على خيار استقلالية القرار الوطني قطع الطريق أمام تطور العلاقة بين الطرفين[14].
حاول ياسر عرفات وقف حرب الخليج الأولى عام 1980 التي اندلعت بين العراق وإيران عبر لعب دور الوسيط، ما أدى لحدوث توتر في العلاقات بين المنظمة وإيران، إذ اعتبرت طهران أن عرفات سبب حرجاً للنظام الإيراني المساند للقضية الفلسطينية، وكان المطلوب تأييداً فلسطينياً قاطعاً لإيران، عدا عن طلب الأخيرة من المنظمة قطع علاقتها بدول الخليج العربي[15]، وتعمق هذا التنافر بتقارب القيادة الفلسطينية من القيادة العراقية آنذاك.
في أثناء الحرب العراقية الإيرانية، بدا أن المصالح تطغى على المبادئ، فعدا عن اتضاح أن شرط دعم الفلسطينيين هو تبني مواقف طهران السياسية، تم كشف اتفاق سري بين واشنطن وطهران تم بموجبه بيع أسلحة لإيران عبر قناة إسرائيلية على الرغم من حظر الكونغرس بيع الأسلحة لإيران، وظهرت هذه الفضيحة السياسية إلى العلن وعرفت بــ”إيران غيت” في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وفي سياق صفقة استهدف الجانب الأميركي منها إطلاق رهائن محتجزين في إيران[16].
أدى تهميش حكومة طهران في مؤتمر مدريد لعام 1991 وتبني المنظمة خيار المفاوضات طريقاً لتسوية الصراع منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 إلى استمرار تراجع علاقة إيران مع المنظمة[17].
وفي ظل سياسات إسرائيل التي استمرت بالاستيطان وسمحت بتصاعد اعتداءات المستوطنين على الفلسطينيين، وهي سياسات ولدت مجزرة الحرم الإبراهيمي، في الخليل عام 1994، ثم اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي، إسحق رابين، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1995 من قبل الإسرائيليين رافضين لاتفاق السلام، وجدت طهران مساحة لدعم التيارات المناهضة للتسوية السياسية وساندت العمليات الاستشهادية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة من خلال حركتي المقاومة الفلسطينيتين “الجهاد الإسلامي” و”حماس”، وأصبحت طهران الظهير الرئيسي لحركتي المقاومة الإسلاميتين[18].
علاقة إيران بحركات المقاومة الإسلامية
برزت حركات المقاومة الإسلامية في فلسطين نهاية ثمانينيات القرن الماضي، عقب خروج أكبر دولة عربية من الصراع العربي– الإسرائيلي وتوقيع اتفاق كامب ديفيد بين القاهرة وتل أبيب، وشن إسرائيل حرباً شاملة على لبنان عام 1982 أدت لاحتلال العاصمة بيروت وإخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان[19].
بدأت علاقة إيران تتبلور مع الحركات الإسلامية في فلسطين مع تراجع علاقة طهران بالمنظمة، فاستقبل الخميني عام 1988 في طهران زعيم حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين فتحي الشقاقي[20]. وأخذت علاقة إيران بحركة المقاومة الإسلامية “حماس” تتبلور بعد عامين من نشوء الأخيرة أي عام 1990، وهو العام الذي عقدت فيه طهران مؤتمراً لدعم الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت عام 1987، كما دشنت إيران مكتباً سياسياً لحماس في طهران عام 1991، وذلك بناءً على طلب حماس خلال المؤتمر الثاني لدعم الانتفاضة بوجود تمثيل سياسي لها في طهران. ورأت حماس في حكومة طهران حليفاً إستراتيجياً، بينما أرادت الأخيرة رؤية الحركة على أنها الممثل عن الشعب الفلسطيني[21].
المتغيرات والواقع ما بين عامي 1994-2006
تأسست السلطة الوطنية الفلسطينية بموجب اتفاق أوسلو عام 1994، ورفضت إيران هذا الاتفاق ودعمت الحركات المناهضة له، وأدى فوز حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006 وتشكيلها حكومة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى تطور علاقة حماس وإيران، ووفرت حكومة طهران دعماً عسكرياً لحماس لتصبح الأخيرة ثاني أكبر حزب يتلقى دعماً إيرانياً بعد حزب الله[22].
ترى إيران في دعمها لفصائل المقاومة الفلسطينية نقطة ارتكاز أساسية تنطلق منها لدعم سياساتها الإقليمية، وذلك من خلال كسب تأييد الشارع العربي لها وتعزيز فرص تغلغلها الإقليمي. حاولت طهران بداية فرض هذا المحدد السياسي في علاقتها مع منظمة التحرير، وحركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، ولكنها رفضت قبول القرار الوطني الفلسطيني المستقل، واتجهت نحو تعزيز علاقاتها مع فصائل فلسطينية أخرى إسلامية الأيديولوجيا[23].
كشف العديد من المسؤولين الإيرانيين رفيعي المستوى عن معلومات حول تقديم إيران مساعدات للولايات المتحدة الأميركية، في حربها على العراق عام 2003. يقول النائب السابق للرئيس الإيراني محمد علي أبطحي في كلمته أمام مؤتمر “الخليج والتحديات”: “لولا الدور الإيراني المتعاون لما تمكنت أميركا من إسقاط كابول وبغداد”. وهذا ما أعاد تأكيده “هاشمي رفسنجاني” عام 2005 خلال حملته الانتخابية. وعلى الرغم من رفع الخميني في وقت سابق شعار “الطريق إلى القدس يمر ببغداد”، إلا أن سقوط العاصمة العراقية لم يدفع القوات الإيرانية نحو القدس لتحريرها[24].
تعايشت إيران مع غزو الولايات المتحدة للعراق، وحدث نوع من التقاسم الضمني للأدوار، أو ما يمكن وصفه بالتعايش الميداني بين الدولتين في العراق، حيث تواجدتا في ذات الوقت، وتقاسمتا النفوذ والمصالح بشكل يخالف شعارات الثورة التي تؤكد على معاداة الإمبريالية والدول الغربية، ومنها الشعار الشهير “الموت لأميركا”[25]، ولا يمكن إلا ربط هذا التعايش في العراق، مع محطات سابقة مثل صفقة أسلحة “إيران – غيت” سالفة الذكر.
كونت إيران وسوريا والعراق وحزب الله في لبنان وحماس في فلسطين، محوراً سماه أصحابه اسم “محور المقاومة” الذي عزز التخوف عند دول في المنطقة من التمدد الإيراني، وزاد حضور مسألة الخلاف السني- الشيعي في المنطقة، وأصبحت إيران تمثل لعدد من الدول الخطر الأساسي والأولوية على حساب القضية الفلسطينية[26].
المتغيرات والواقع ما بين عامي 2008-2018
رسمياً، لم تنقطع العلاقة بين قيادة منظمة التحرير وإيران، وتعددت الزيارات الفلسطينية الرسمية لطهران، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، زيارة عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير أحمد مجدلاني لطهران عام 2015، التي وصفها مجدلاني بالمهمة كونها تعمل على استرجاع العلاقة الثنائية التي سادها التوتر لفترة طويلة، إذ قال: “هذه الزيارة هامة في ضوء التغيرات في المنطقة، وفي ظل توقيع الاتفاق بين إيران والدول الكبرى فيما يتعلق بالملف النووي”، مؤكداً أن الاتفاق من شأنه إعادة الاهتمام بالقضية الفلسطينية من خلال ضمان الاستقرار والأمن بالمنطقة[27].
وخلال لقائه صحفيين بولنديين في رام الله في العام 2015، أشار الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى وجود زيارة قريبة لطهران: “هناك زيارة لطهران، ولكن لم يحدد وقتها بعد، ولم يتم الاتفاق مع الجانب الإيراني على موعد رسمي لهذه الزيارة”[28].
إلا أن مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون الدولية حسين شيخ الإسلام نفى لصحيفة الرسالة التابعة لحركة “حماس” وجود أي تقارب إيراني مع السلطة الفلسطينية، إذ قال: “هم طلبوا زيارة إيران أكثر من مرة ونحن رفضنا ولم نقبل حتى هذه اللحظة. مؤخراً أعادوا الطلب ولم نرد عليهم بشكل إيجابي.. وإيران حريصة على دعم خط المقاومة والمقاومين”[29].
هذا التصريح يدلل على أن إيران تفضل التعامل مع الجانب الفلسطيني من خلال فصائل المقاومة الإسلامية وليست من أولوياته إنهاء الانقسام، وأنها تفضل العمل عبر قنوات غير رسمية لا عبر علاقة مباشرة مع منظمة التحرير، وهذا ما أكده الأكاديمي والوزير الفلسطيني السابق د. غسان الخطيب بقوله: “الإيرانيون اتخذوا هذا الخط العدواني ضد السلطة الفلسطينية طوال الوقت، وهم يدعمون حماس، خصم السلطة الفلسطينية”[30].
وقال عضو اللجة المركزية لحركة “فتح”، السفير الفلسطيني السابق في طهران عباس زكي، الذي زار طهران إلى جانب وفد مكون من فصائل فلسطينية مختلفة للمشاركة في إحياء ذكرى الثورة الإسلامية السابعة والثلاثين في منتصف عام 2016، إنّ إيران تعد آلية دعم مالي لفلسطين، لكن مساعد وزير الخارجية الإيراني حسين شيخ الإسلام صرح بأن إيران ستعمل على إدخال الأموال بطريقتها الخاصة إلى غزة، وقال: “التجارب أثبتت أن السلطة غير أمينة”، لذلك فإن طهران ستدخل الأموال بطريقتها الخاصة، ورفضت القيادة الفلسطينية هذا الموقف، إذ أكد الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن طهران خلال السنوات الماضية تدعم فصيلاً على حساب الشعب الفلسطيني، وأنها لا تقدم أي شيء بطريقة رسمية تخدم الشعب ككل[31].
وصرح الناطق الرسمي باسم الرئاسة الفلسطينية “نبيل أبو ردينة” أنه كان من الأجدر أن ترسل طهران تلك الأموال بطريقة رسمية عوضاً عن لجوئها إلى استخدام طرق ملتوية، واصفاً تلك الطرق “بأنها غير مقبولة ومرفوضة وهي ليست تجاوزاً للشرعية الفلسطينية فقط، بل تعتبر خرقاً لكل القوانين بما فيها القانون الدولي، وتدخل مرفوض في الشؤون الداخلية الفلسطينية والعربية[32].
وفي وقت سابق عام 2010 قال الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد إن حماس هي الممثل الحقيقي للشعب الفلسطيني، وإن المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية لن تنجح، ما يعني أن الدور الإيراني في أية مصالحة لن يكون إلا في صالح تعزيز الانقسام، وهذا ما تجلى في رفضه الاعتراف بشرعية الجانب الرسمي ألا وهو السلطة الفلسطينية، وهذا ما عبر عنه الناطق باسم حركة فتح أسامة القواسمي: “إن إيران تسعى إلى تقسيم فلسطين، لإشعال حروب أهلية في المناطق العربية”[33].
يتضح مما سبق أن إيران تجد في الانقسام الفلسطيني أحد العوامل المدعمة للمصالح الإيرانية الإقليمية التي تمكن طهران من إيجاد حلفاء في الساحة الفلسطينية، لأهداف إقليمية.
الانتخابات الرئاسية الإيرانية لعام 2009
لطالما كانت القضية الفلسطينية في معزل عن الجدل السياسي الداخلي الإيراني، ولا سيما في أيّة انتخابات، لاعتبارها خطاً أحمراً لا يجب تجاوزه، إلا أن الانتخابات الرئاسية لعام 2009 شكلت نقطة مفصلية أمام هذه المعادلة، لا سيّما بعد فوز محمود أحمدي نجاد في الانتخابات واتهام وزارة الداخلية بتزوير النتائج لصالحه، ما دفع القوى المعارضة لحث جماهيرها على التظاهر، حيث رفع المتظاهرون شعار “أين صوتي؟”، لتدخل القضية الفلسطينية في صلب الأزمة الداخلية الإيرانية حين هتف الناس في الشوارع “لا غزة ولا لبنان، روحي فداء إيران!”[34]. إن رفع مثل هذا الشعار يعكس من جهة رفض استخدام القضية الفلسطينية مبرراً للشرعية، واحتجاجاً على الإنفاق الإيراني في ملفات إقليمية على حساب الوضع الاقتصادي الإيراني الداخلي الصعب[35]، إذ إن موقف الشارع الإيراني يعكس قناعة بأنّ الخطاب الأيديولوجي في المسألة الإيرانية هو للاستهلاك الداخلي بالدرجة لأولى، وهناك مطالب من الشارع بخطاب أكثر واقعية.
المتغير الإقليمي: “الربيع العربي” 2011
أدى وصول الثورات العربية إلى سوريا في بداية عام 2011، التي عُرفت لاحقاً بـ”الأزمة السورية”، إلى تأزم علاقة إيران وحماس نتيجة اختلاف المواقف بين الطرفين، حيث أيدت طهران النظام السوري، واصفةً ما يمر به من أحداث بالمؤامرة الدولية، في حين كان موقف حماس مؤيداً للشعب السوري المطالب بالحرية والديمقراطية، وظهر الخلاف إلى العلن مع نقل حماس مكتبها السياسي من دمشق إلى قطر[36].
وطالبت إيران حماس باتخاذ موقف إزاء النظام السوري، وكشف خالد مشعل الرئيس السابق للمكتب السياسي لحماس بأن الدعم الإيراني للحركة تراجع بسبب رفض الأخيرة طلب إيران تأييد النظام السوري، مؤكداً أن العلاقة فيما بينهما لم تصل حد القطيعة الكاملة، لكن دخلت حالة من الجمود[37]، ويعتقد أنّ إيران عملت على إحداث انشقاق داخل حركة حماس من خلال تقديمها دعماً مباشراً للجناح العسكري للحركة (كتائب عز الدين القسام)[38].
ما يؤكد التوتر بين “حماس” وإيران تصريح إسماعيل هنية في مقابلة على قناة الجزيرة بداية العام 2012، قال فيه إن “حركة حماس كانت حريصة بأن الدعم للشعب الفلسطيني يجب ألا يكون مقابل موقف سياسي أو ابتزاز سياسي.. وأن الدعم المقدم للشعب الفلسطيني واجب، وأن حماس لا يمكن أن تكون في جيب أحد مقابل هذا الدعم”[39].
وأدى وصول الإخوان المسلمين ممثلين بالرئيس محمد مرسي إلى سدة الحكم في مصر في منتصف عام 2012، إلى المزيد من ثقة “حماس” بإمكانية الابتعاد عن إيران، ما زاد من حدة التوتر بين الطرفين[40]. وزاد مشعل من حدة التوتر مع إيران بتقاربه مع الرياض في منتصف عام 2015 بعد تولي الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم في السعودية، الأمر الذي أثار غضب إيران نتيجة تخوفها على حضورها في الساحة الفلسطينية[41].
أدى تعثر التغيير في سوريا وعدم سقوط النظام الحاكم هناك، وسقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر، وتزايد الرفض والغضب من قبل دول عربية إزاء الإخوان، إلى تحرك حماس في أكثر من اتجاه لتعويض خسائرها في سوريا ومصر، فأعلنت في أيار (مايو) 2017 وثيقة سياسية قدمت فيها برنامجاً سياسياً مرناً، وحاولت من خلالها تخفيف علاقتها مع الإخوان المسلمين، لكن رافق هذا سعي حماس للتقارب مع إيران ثانيةً[42].
ظهر تقارب حماس وإيران للعلن عقب انتخاب كل من يحيى السنوار قائداً لحماس في القطاع، وهو الأقرب للجناح العسكري المدافع عن العلاقة التقليدية مع طهران وحزب الله، وإسماعيل هنية رئيساً للمكتب السياسي لحماس في بداية أيار (مايو) 2017، الذي عمل على إعادة بلورة السياسة الإقليمية للحركة منطلقاً من إعادة التقارب مع إيران وسوريا[43].
أتت زيارة وفد برئاسة نائب رئيس المكتب السياسي للحركة صالح العاروري لطهران في تشرين الأول (أكتوبر) 2017، كمؤشر على اتجاه لعودة علاقة إيران وحماس إلى ما كانت عليه قبل الأزمة السورية. وقال العاروري: “إن حماس تتعهد بالحفاظ على علاقات وثيقة مع إيران واحتفاظ الحركة بسلاحها”[44]. وصرح مستشار المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي أكبر ولايتي حول أهمية علاقة إيران بحركات المقاومة الفلسطينية بقوله: “نريد أن نثبت للكيان الصهيوني أن العلاقات بين إيران والمقاومة الإسلامية المتمثلة بحركتي حماس والجهاد إستراتيجية ولا تنقطع مطلقاً”[45].
وصرح رئيس مجلس الشورى الإسلامي علي لاريجاني “بأن علاقة إيران مع حركة حماس عادت كالسابق، وهي تدعمها على اعتبار أنها تيار مقاوم”[46]. وهذا ما أكده القيادي في حركة حماس سامي أبو زهري في تصريح له لقناة الميادين بقوله: “زيارة الوفد القيادي من حركة حماس، تعكس حرص الحركة على تطوير علاقاتها مع المنطقة، وتعكس خصوصية علاقة الحركة مع طهران، فيما يتعلق بدعم وتمتين مشروع المقاومة”[47].
كلا الطرفين على إدراك تام بأنهما بحاجة بعضهما لبعض، ويمكن وصف الحالة الإيرانية الحمساوية على أنها علاقة مصلحية، فطهران ترى أن المقاومة الفلسطينية ضرورية لمواجهة إسرائيل على قاعدة “عدو عدوي هو صديقي”، وتعتبر أن خسارة حماس لا يمكن تعويضها لتحقيق مصالح ورؤية إيرانية للمنطقة، بينما حماس، وعلى الرغم من أنها تعي المصالح الإيرانية، إلا أنها ترى أن تحقيق مصالحها يتطلب الإبقاء على علاقات قوية مع إيران[48]، خصوصاً مع فشل الرهان على التغير في سورية، وعلى صعود الإخوان المسلمين إقليمياً.
مثلما رغبت إيران من حماس موقفاً مؤيداً للنظام السوري، ابتغت أيضاً من حركة الجهاد الإسلامي اتخاذ موقف رسمي من الحرب اليمنية، ورفض التحالف الخليجي العربي ضد الحوثيين المرتبطين بإيران هناك والعملية الخليجية التي سميت “عاصفة الحزم”، إلا أن رفض مسؤولي وقيادات الحركة اتخاذ موقف مؤيد للمطالب الإيرانية، وإصرار الحركة على عدم التدخل في أي شأن عربي، أدى إلى قيام الأخيرة بتقليص تمويلها المالي الخاص بالحركة[49].
برزت بوادر الأزمة مع انتقال الأمين العام السابق للجهاد الإسلامي رمضان شلح، بشكل مفاجئ، من طهران إلى بيروت مغرداً عبر صفحته “الفيسبوك”: “فش اشي ببلاش”، وواضح ما لتلك الجملة من دلالات على وجود توتر بين حماس وطهران[50]. إن اتباع الجهاد الإسلامي سياسة الحياد أثار انزعاج إيران، ما دفعها لتكوين جماعات شيعية في غزة مثل “حركة الصابرين”[51]، ما يمكن تفسيره بأن طهران تحاول إيجاد بديل يتبنى مواقفها في المنطقة بولاء مطلق.
تم انتخاب زياد النخالة أميناً عاماً لحركة الجهاد الإسلامي خلفاً لشلح في أيلول (سبتمبر) 2018، الذي يعرف عنه قربه من إيران، وعمل فعلاً على إعادة تحسين العلاقة مع إيران. تجلى ذلك بزيارة النخالة والوفد المرافق له لطهران والتقائهم بوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، فقد أشار الأمين العام إلى “أن إيران هي من الداعمين الحقيقيين للقضية الفلسطينية.. وأن المقاومة الإسلامية أصبحت أكثر قوة، مقارنةً بما كانت عليه لمواجهة المعتدين”، أما ظريف، فأكد بدروه “أن دعم فلسطين يشكل أحد الثوابت المبدئية في السياسة الخارجية الإيرانية” وزاد “أن إيران ستقف دوماً إلى جانب شعب فلسطين وتدافع عن القضية الفلسطينية”[52].
وفي استقباله للنخالة، أكد رئيس الجمهورية الإيرانية حسن روحاني ضرورة صمود الشعب الفلسطيني ومكافحته للكيان الصهيوني، لأنه الطريق الوحيد لاسترجاع حقوقه، وقال: “منذ بداية النهضة الإسلامية عام 1342، كانت قضية فلسطين إحدى القضايا الرئيسية للثوريين الإيرانيين، وكان الإمام الخميني الراحل يذكر دائماً فلسطين والقدس الشريف”[53].
لطالما تدعي إيران أن دعمها لفصائل المقاومة الفلسطينية غير مشروط، إلا أن المتغيرات والأحداث الحاصلة في الشرق الأوسط أثبتت عكس ذلك، وأن الموقف الإيراني تجاه القضية الفلسطينية ينطلق من سيناريو وحيد يتكرر عبر التاريخ، كانت بداية ذلك بطلب حكومة طهران من منظمة التحرير موقفاً مؤيداً لها في حربها مع العراق، ولأن ذلك لم يحصل، قطعت إيران علاقتها بالمنظمة، ثم مطالبة حماس بتبني موقف مؤيد للنظام السوري، وأخيراً مطالبة حركة الجهاد بموقف داعم للحوثيين في اليمن، ما يعني أن فصائل المقاومة مطالبة بأن تلتزم بالسياسة الإيرانية الإقليمية، وأن الدعم الإيراني مشروط، وينبع من أساس إما تبني الأجندة الإيرانية بالمنطقة أو حرمان الفصائل من الدعم المالي، وذلك لمجرد اختلاف الآراء في المواقف السياسية المختلفة.
إسرائيل والصراعات الإقليمية
أدت الأحداث الدائرة في الشرق الأوسط التي نتجت عن “الربيع العربي” إلى تصاعد التوتر السياسي والعسكري في المنطقة، وبشكل خاص بين إيران والسعودية، ولا سيما باندلاع الحربين السورية واليمنية. تلك الصراعات الجديدة التي تداخلت فيها المصالح الإقليمية والدولية، قد اتخذت بعداً مذهبياً، حيث تجد الدول العربية الخليجية بشكل عام والسعودية بشكل خاص في إيران خطراً إستراتيجياً وتسعى إلى تحقيق طموحها في التمدد ولعب دور أكبر في الساحة الإقليمية[54].
لعبت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب دوراً في العمل على تصوير إيران على أنها التهديد الأول في المنطقة، مع السعي لتغيير الموقف العربي من إسرائيل، وهذا ما تم التعبير عنه على سبيل المثال في القمة العربية الإسلامية الأميركية في العاصمة السعودية الرياض في أيار (مايو) 2017، حيث اعتبرت القمة أن إيران هي المسؤولة عن زعزعة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وهذا ما أعيدت صياغته في “إعلان الرياض” الذي يشكل البيان الختامي للقمة بتأكيد القادة على “رفضهم الكامل لممارسات النظام الإيراني المزعزعة للأمن والاستقرار في المنطقة والعالم، ولاستمرار دعمه للإرهاب والتطرف”، كما “أدان القادة المواقف العدائية للنظام الإيراني، واستمرار تدخلاته في الشؤون الداخلية للدول، في مخالفة صريحة لمبادئ القانون الدولي وحسن الجوار، مؤكدين التزامهم بالتصدي لذلك”[55].
جاء في كلمة الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز: “إن النظام الإيراني يشكل رأس حربة الإرهاب العالمي منذ ثورة الخميني وحتى اليوم”، مضيفاً: “إن النظام الإيراني وحزب الله والحوثيين وداعش والقاعدة متشابهون” مشدداً على أن بلاده “لن تتهاون أبداً في محاكمة كل من يمول أو يدعم الإرهاب بأي صورة أو شكل، وستطبق أحكام العدالة الكاملة عليه[56].
أكد الرئيس الأميركي ترامب على كلمة الملك سلمان حول أن إيران تشكل تهديداً للاستقرار الإقليمي بدعمها وتسليحها للجماعات الإرهابية بحسب تعبيره، وقال: “لن يكون هناك نقاش حول القضاء على هذا التهديد بالكامل دون الإشارة إلى الحكومة التي تعطي الإرهابيين الملاذ الآمن والدعم المالي، والمكانة الاجتماعية اللازمة للتجنيد. إنه نظام مسؤول عن عدم الاستقرار في المنطقة، أنا أتكلم عن إيران”[57].
كما أشار خطاب ترامب في القمة لكل من حماس والجهاد إلى جانب حزب الله على أنهم جماعات إرهابية بقوله: “الأثر الحقيقي لتنظيم داعش والقاعدة وحزب الله وحماس والعديد من التنظيمات الأخرى، لا يجب أن يُقاس فقط بعدد القتلى. يجب أن يُقاس أيضاً بأجيال من الأحلام المتلاشية”[58].
وتسعى إسرائيل باستمرار لتصوير نفسها حليفاً محتملاً، أو حليفاً فعلياً ضد إيران، وهذا ما يبرز مع تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المتكررة على أنها جزء من التحالف العربي ضد الخطر الإيراني، بهدف تصوير إيران المهدد الرئيسي لحالة عدم الاستقرار في المنطقة، فقد صرح نتنياهو مؤخراً في المؤتمر السنوي المقام في القدس يوم 4 تشرين الثاني 2019: “لم يعد التعامل مع إسرائيل كأنها عدو، بل يتم التعامل معها كحليف ضروري في مكافحة الإسلام المتطرف، الذي يقوده السنّة المتطرفون، أي تنظيما القاعدة وداعش، وأكثير فأكثر، الإسلام الشيعي المتطرف، بقيادة إيران وأتباعها”[59].
أعطى انشغال الدول العربية فرصة ذهبية للولايات المتحدة الأميركية لاتخاذ خطوة أحادية الجانب والاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل ونقل سفارتها إليها دون موقف عربي قوي ومناهض[60]، لكن الموقف العربي الرسمي تم التعبير عنه في قمة الرياض في نيسان (إبريل) 2018، اذ سميت القمة بقمة القدس. وخصصت سبع فقرات في البيان الختامي للقضية الفلسطينية والقدس، وتناولت ستة قرارات إيران وسياساتها، وجاءت في الترتيب الثاني من حيث التغطية والأولوية، وجاءت خمسة قرارات بإشارة لما يجري في اليمن، واتهام إيران بالتدخل بالشؤون السعودية والبحرينية، أو الإشارة بشكل عام لتدخل إيران في دول الجوار، وقرار سادس بشأن احتلال إيران المستمر لثلاث جزر إماراتية، بهذا يمكن القول إنه من الناحية الرسمية، ما زالت القضية الفلسطينية هي القضية العربية الأولى، لكن الخطر الإيراني وسلوك إيران يدخلان كقضية أساسية تستأثر بالاهتمام العربي أيضاً، ربما بشكل عملي وملح أكثر من الموضوع الفلسطيني.
خاتمة
تسعى إيران بشكل مستمر إلى أن يكون لها دور إقليمي مركزي في المنطقة، وتفضل العمل مع فصائل المقاومة الإسلامية الفلسطينية، أي من خلال حماس والجهاد الإسلامي، معتمدة عليهما كأدوات أساسية في المنطقة لتحقيق أجندتها السياسية ومصالحها الإستراتيجية إقليمياً، عبر توظيفها الدائم لمبادئ ثورتها وخطابها الذي يقوم على أساس مقاومة الاحتلال وتحرير فلسطين ومساعدة المستضعفين، وهذا يتجلى برفضها التعامل مع السلطة الشرعية الفلسطينية، ورفضها لوجود أي قرار فلسطيني مستقل، ما يخدم تعزيز حالة الانقسام الفلسطيني لصالح المصلحة الإيرانية.
وهذا ما برز فعلياً مع أحداث “الربيع العربي” وبشكل خاص الأزمة السورية والحرب اليمنية، التي أظهرت الدعم الإيراني المشروط لفصائل المقاومة الفلسطينية، إذ تراجعت علاقتها معهم ووصلت إلى حد قطع التمويل عن تلك الفصائل لرفضها الخضوع للابتزاز السياسي أو تبني مواقف مؤازرة للإملاءات الإيرانية في المنطقة.
إلا أن إيران فعلياً بحاجة لتلك العلاقات مع حماس والجهاد بما يخدم مشروعها الإقليمي في التمدد، وهذا ما أعاد توطيد علاقة طهران ثانيةً مع فصائل المقاومة، ولا سيمّا مع تسارع مساعٍ أميركية إسرائيلية لجعل إيران تبدو خطراً إقليمياً مشتركاً، ما يبرر تحسين العلاقات الإسرائيلية العربية، بمواجهة طهران.
علاقة إيران بحماس علاقة ضرورية لإيران، لا يمكن الاستغناء عنها في سبيل تعزيز حضور طهران بالمنطقة، لذلك ليس من صالحها أن تدعم المصالحة الفلسطينية والقرار الفلسطيني المستقل، إذا ما تعارض مع أجندات طهران الإقليمية.
للتحميل اضغط هنا
الهوامش
* باحثة في العلاقات الدولية- جامعة بيرزيت.
[1] إبراهيم أبراش، “تداعيات الاتفاق بين إيران والغرب على القضية الفلسطينية”، مركز مسارات، 16/8/2015، .
[2] عدنان عدوان، “القضية الفلسطينية والخطاب السياسي للثورة الإيرانية” مجلة الفكر السياسي، (اتحاد الكتاب العرب)، ربيع 2013، عدد 46-46، ص209.
[3] مصطفى اللباد، “إيران والقضية الفلسطينية: مشاعر التضامن وحسابات المصالح”، مجلة الدراسات الدولية، (مؤسسة الدراسات الفلسطينية)، ربيع 2013، عدد 94، ص78.
[4] المرجع السابق، ص79.
[5] المرجع السابق.
[6] المرجع السابق، ص109.
[7] سيد أحمد سادات، “الجمهورية الإسلامية الإيرانية والعلاقة مع الحركات الإسلامية للمقاومة في فلسطين: حركة الجهاد الإسلامي نموذجاً”، مجلة الفكر السياسي، (اتحاد الكتاب العرب)، ربيع 2015، عدد 53-54، ص77.
[8] عدوان، ص21.
[9] سادات، ص77.
[10] عبد القادر طافش، “إيران والقضية الفلسطينية: الواقع والمتغيرات”، مركز الجزيرة للدراسات، 13/12/2012، ، آخر دخول للموقع 7-9-2019، ص4.
[11] مصطفى لمغاري، “إيران والقضية الفلسطينية خلال العهد الملكي والجمهوري”، المركز الديمقراطي العربي للدراسات الإستراتيجية، الاقتصادية والسياسية، 7/6/2017، ، آخر دخول للموقع 7-9-2019.
[12] السادات، ص78.
[13] حازم كلاس، “بعد 36 عاماً على انتصار الثورة الإيرانية.. فلسطين لم تزل هنا”، الميادين، 8/2/2015، ، آخر دخول للموقع 8-9-2019:
[14] مأمون كيوان، “إيران وفلسطين جذور وواقع العلاقة”، شؤون عربية، (جامعة الدول العربية -الأمانة العامة)، يونيو 2001، عدد 106، ص111
[15] إسلام المغير، “الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)”، (غزة: الجامعة الإسلامية، 2015)، ، ص213-214.
[16] ضيف الله الضعيان، “العلاقات الأميركية الإيرانية الوجه الآخر”، جامعة الملك سعود بالرياض، ، ص235.
[17] كيوان، ص112.
[18] اللباد، ص80.
[19] السادات، ص74.
[20] كيوان، ص111.
[21] رائد إشنيور، “التقارب بين إيران وحماس بين الضرورة والخيار”، (بيرزيت: جامعة بيرزيت، 2010)، ص39-40.
[22] عوض الرجوب، “محطات العلاقة” في “حماس وإيران.. هل تستمر القطيعة؟”، الجزيرة، 26/7/2015، ، آخر دخول للموقع 11-9-2019.
[23] المرجع السابق.
[24] هاني سليمان، “القضية الفلسطينية في الخطاب السياسي الإيراني”، المركز العربي للبحوث والدراسات، 21/1/2018، ، آخر دخول للموقع 5-9-2019
[25] طريق السلام، “حقيقة التقارب الأميركي الإيراني”، 27/3/2014، https://bit.ly/2lULIVU، آخر دخول للموقع، 11-9-2019.
[26] مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، “مستقبل العلاقة بين حماس وإيران”، ورقة تقدير إستراتيجي (65)، آذار 2014، https://bit.ly/3201232.
[27] الحياة الجديدة، “مجدلاني: زيارة طهران أعادت الحيوية للعلاقات الفلسطينية الإيرانية”، الحياة الجديدة، رام الله، 13/8/2015، 7090، ص1.
[28] وفا، “إيران دولة جارة وشقيقة وهناك زيارة لطهران لكن لم يحدد وقتها بعد”، الحياة الجديدة، رام الله، 24/8/2015، 7101.
[29] عمر هواش، “السلطة الفلسطينية تعلن عن زيارة عباس إلى طهران في أكتوبر وتعيين سفير إيراني في فلسطين قريباً.. ومسؤول برلماني كبير يقول إن طهران رفضت طلب الزيارة”، صحيفة رأي اليوم، https://bit.ly/2K0UcE8، 19/8/2015.
[30] Jofee-Walt, Benjamin, “Abbas VS Ahmadinejad”, The Jerusalem Post, 6/9/2010, https://bit.ly/3301HTz.
[31] وفا، “مصدر رسمي: تصريحات عباس زكي حول دعم إيران لشعبنا لا تعبر عن موقف القيادة”، الموقع الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية، 24/12/2018، https://bit.ly/36gLMSW.
[32] المرجع السابق.
[33] البيان، “طهران تحاول خلق بديل فلسطيني موالٍ لها”، غزة، 5/11/2017، https://bit.ly/36a8XOJ.
[34] طافش، ص5.
[35] مصطفى رزق، “لماذا يصعب تكرار احتجاجات 2009 بإيران؟”، الجزيرة، 2/6/2013،https://bit.ly/2kgtDBh، آخر دخول للموقع 12-9-2019.
[36] Ramani, Samueal, “Hamas pivot to Saudi Arabia may help Khaled Meshael isolate the military wing and obtain a credible truce with Israel”, CAARNEGIE, 17/9/2015, https://bit.ly/34o87fx.
[37] المرجع السابق.
[38] سليمان، “القضية الفلسطينية”.
[39] مقابلة إسماعيل هنية على تلفزيون الجزيرة، تاريخ النشر 1/2/2012، https://bit.ly/2WvQV4Z.
[40] ماجدة فضة، “الربيع العربي والتغيرات في الفكر السياسي لحماس”، (نابلس: جامعة النجاح الوطنية، 2014)، ص70.
[41] أشرف الهور، “مشعل في السعودية لبحث ملف التهدئة والتقارب مع مصر والمصالحة الداخلية”، القدس العربي، 16/6/2015، https://bit.ly/2NtPvDP.
[42] إبراهيم أبراش، “مقاربة إستراتيجية لوثيقة حركة حماس”، مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، 2018، https://bit.ly/2p5w2kU.
[43] الحدث، “قلق من عودة دفء العلاقات بين حماس وإيران”، 17/2/2017، https://bit.ly/2OXsJXc، آخر دخول للموقع 12/9/2019.
[44] المرجع السابق.
[45] روسيا بالعربي، “وفد من حركة حماس في طهران”، 22/10/2017، https://bit.ly/2ONNW65، آخر دخول للموقع 13/9/2019.
[46] الوفاق صحيفة إيران الدولية، “الزهار: “حماس” بدأت خطوات لتطوير علاقاتها مع إيران”، الوفاق، طهران، 11/3/2014، العدد 4686.
[47] مقابلة سامي أبو زهري على قناة الميادين، 22/10/2017.
[48] Abu Amer, Adnan, “The Regional Powers’ Influence on Political Trasformation Process in the Palestinian Territories”, Friedrich Ebert Stiftunf, November, 2013, https://bit.ly/34hjfL3. P.9.
[49] فاطمة الصمادي، “حماس والجهاد تعيدان توصيف العلاقة مع إيران (قراءة تحليلية)”، مركز الجزيرة للدراسات، 7/9/2015، https://bit.ly/2B7DSgf، آخر دخول للموقع 12/10/2019.
[50] نبأ، “فش إشي ببلاش: لهذه الأسباب أوقف إيران الدعم عن حركة الجهاد الإسلامي”، وكالة نبأ الإخبارية المستقلة، 20/5/2015، https://bit.ly/2qBCgZU.
[51] فارس الصرفندي، “فش اشي ببلاش.. الجهاد وإيران (حقائق) بقلم: فارس الصرفندي، صحيفة الحدث، رام الله، 27/5/2015.
[52] الجمهورية الإسلامية الإيرانية وزارة الشؤون الخارجية، “الأمين العام لحركة الجهاد الفلسطينية يلتقي الدكتور ظريف في طهران”، 8/10/2018، https://bit.ly/32Qe5Fw.
[53] الجمهورية الإسلامية الإيرانية وزارة الشؤون الخارجية، “رئيس الجمهورية لدى استقباله أمين عام حركة الجهاد الإسلامي: الصمود ومكافحة الكيان الصهيوني طريق وحيد لحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه”، 11/10/2018، https://bit.ly/2JraaqS.
[54] دويتشه فيله، العرب في مأزق التضامن مع فلسطين أم دعم إسرائيل ضد إيران؟”، 11/5/2018، https://bit.ly/2WYi4Ok.
[55] وكالة الأنباء السعودية (واس)، “إعلان الرياض: القمة العربية الإسلامية الأميركية نجحت في بناء شراكة لمواجهة التطرف وتحقيق السلام والاستقرار”، 21/5/2017، صحيفة سبق الإلكترونية، https://bit.ly/33BbNuq.
[56] قناة أزهري الفضائية”، “كلمة الملك سليمان في القمة العربية الإسلامية الأميركية”، 21/5/2019، https://bit.ly/2p4cMEk.
[57] قناة السعودية، “كلمة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في القمة العربية الإسلامية الأميركية “قمة الرياض””، 21/5/2019، https://bit.ly/2K3khTg.
[58] المرجع السابق، ص3.
[59] قناة الجزيرة مباشر، نتنياهو: الدول العربية لم تعد تتعامل مع إسرائيل كعدو بل “كحليف ضروري في مكافحة الإسلام المتطرف”، 4/11/2019، https://bit.ly/2Ct8cSY.
[60] المرجع السابق.