[*]محمود حسين عيسى

 تُعتبر إيرادات المقاصة صمام الأمان للحكومة الفلسطينيّة في قدرتها على الوفاء بالتزاماتها ودفع المستحقات المترتّبة عليها، فهي تشكّل بالمتوسط ثلاثة أرباع الإيرادات المحلّيّة الفلسطينيّة، وهي عبارة عن مجموع الإيرادات التي يتمّ تحصيلها نتيجة المعاملات التجاريّة بين السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة والجانب الإسرائيلي وفقاً لاتفاق باريس الاقتصادي، ويتمّ تحويلها إلى وزارة الماليّة وفقاً لجلسات المقاصة الشهريّة.

يتسبّب الاستيراد غير المباشر بخسائر مالية كبيرة للخزينة الفلسطينية واستنزاف لمواردها المالية، فالاستيراد عن طريق المستورد الإسرائيلي يحرم الخزينة الفلسطينية الرسوم الجمركية، وضريبة الشراء، التي تُحوّل إلى الخزينة الإسرائيلية، بدلاً من الخزينة الفلسطينيّة.

نحاول في هذه الدراسة تسليط الضوء على تطوّر ايرادات المقاصة وأهميّتها في السنوات الأخيرة، وكذلك ظاهرة التسرب المالي وتداعياتها.

  • المكوّنات الأساسيّة لإيرادات المقاصة: تتكوّن إيرادات المقاصة بشكل أساسي من[1]:
  • الجمارك وضرائب الاستيراد على المستوردات الفلسطينيّة من الخارج عبر الموانئ الإسرائيليّة التي تحصلها إسرائيل نيابة عن السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة:

حيث نصّ البند 15 من اتفاق باريس على أنّ مقاصة الإيرادات من كل ضرائب الاستيراد والرسوم الأخرى بين إسرائيل والسلطة الفلسطينيّة، ستعتمد على مبدأ مكان المقصد النهائي، بالإضافة لذلك، فإنّ هذه الإيرادات الضريبيّة ستُخصّص للسلطة الفلسطينيّة، وحتى لو قام مستوردون إسرائيليون بالاستيراد عندما يكون المقصد قد ذكر بوضوح على وثائق الاستيراد، أنّ شركة الاستيراد مسجلة لدى السلطة الفلسطينيّة وتقوم بنشاط تجاري داخل أراضيها.

  • ضريبة الدخل على أجور العمال الفلسطينيين في إسرائيل والمستوطنات:

حيث نصّت الفقرة (د) من البند 35 على أنّ إسرائيل ستحوّل إلى السلطة الفلسطينيّة مبلغاً يساوي 75% من ضرائب الدخل من العاملين الفلسطينيين، في قطاع غزة ومنطقة أريحا، الذين

يعملون في إسرائيل، وكامل المبلغ من ضريبة الدخل التي تُجبى من الفلسطينيين من قطاع غزة ومنطقة أريحا العاملين في المستوطنات.

  • الضرائب غير المباشرة على المشتريات من إسرائيل[2]:

حيث أشار البند 36 من اتفاق باريس إلى قيام دوائر الضرائب الإسرائيلية بجباية ضريبة القيمة المضافة، وأي ضرائب غير مباشرة أخرى، وتحويلها إلى السلطة الفلسطينيّة بعد اقتطاع بدل خدمات بنسبة 3% من الإيرادات المحصّلة، وبيّنت الفقرة (هـ) من البند 36 شروط إجراء مقاصة ضريبة القيمة المضافة على مشتريات الأعمال التجاريّة بين دوائر الضريبة في إسرائيل والسلطة الفلسطينيّة، بحيث تكون الفواتير هي سندات الإثبات، ولغرض حسم الضريبة، فإنّ الفواتير تكون صالحة لمدة ستة أشهر من تاريخ إصدارها، ثمّ يجتمع ممثلون عن الجانبين مرّة كلّ شهر، في اليوم العشرين من كل شهر، ليقدّم كلّ جانب للآخر قائمة بالفواتير المقدمة إليه لإجراء المقاصة، على أنْ تُسوّى مطالبات المقاصة في غضون ستة أيام من الاجتماع .

وتجدر الإشارة إلى أنّ فاتورة المقاصة هي سند إثبات للتبادل التجاري بين السلطة الفلسطينيّة وإسرائيل، في حين أنّ التسويات الضريبيّة لحركة التبادل بين السلطة الفلسطينيّة والعالم الخارجي تعتمد على البيان الجمركي كسند إثبات.

  • تطوّر إيرادات المقاصة خلال السنوات الأخيرة:

 يعرض الجدول رقم (1) تطوّر إيرادات المقاصة خلال العامين 2013، 2014، بالإضافة إلى الربعين الأول والثاني من العام 2015، حيث يتضح من الجدول أنّ الإيرادات بلغت (6103) ملايين شيكل في العام 2013[3]، ونتيجة ارتفاع إيرادات الجمارك بنسبة (22%)، وضريبة القيمة المضافة بنسبة (13%)، وضريبة المحروقات بنسبة (26%)، فقد ارتفعت إيرادات المقاصة في نهاية العام 2014 بنسبة (20%) عن العام 2013، لتصل إلى (7331) مليون شيكلاً[4].

  • يتضح من الجدول أيضاً أنّ ايرادات المقاصة ساهمت بنحو (66.5%) من إجمالي الإيرادات المحلية في الموازنة في نهاية العام 2013، ارتفعت هذه النسبة إلى (70.3%) في نهاية العام 2014، أما في العام 2015 فقد ارتفعت نسبة مساهمة إيرادات المقاصة إلى (77.2%) من إجمالي الإيرادات المحلية في الربع الثاني منه، مقابل (67.6%) في الربع الأول لنفس العام[5].
  • وتشير البيانات أنّ إيرادات المقاصة ارتفعت مساهمتها في تغطية حوالي (56.9%) من النفقات العامة، (59.6%) من النفقات الجارية وصافي الإقراض، (108%) من نفقات الأجور والرواتب خلال العام 2014، مقابل (49.3%)، (51.9%)، (93.0%) لهذه النسب على التوالي خلال العام 2013، وهذا يدلّل على مدى أهميّة إيرادات المقاصة بالنسبة للاقتصاد الفلسطيني[6].

جدول (1) إيرادات المقاصة (مليون شيكل)[7]

البند 2013 2014 2014

/2013

Q1 2015 Q2 2015
إجمالي إيرادات المقاصة 6103 7331 20% 1892.0 1991.8
ضريبة الجمارك 2073 2520 22% 656.3 740.1
ضريبة القيمة المضافة 2106 2278 13% 578.4 553.5
ضريبة الشراء 3 7 160% -7.5 2.7
ضريبة المحروقات 1971 2474 26% 658.2 687.1
ضريبة الدخل 40 51 29% 6.6 8.4
إجمالي الإيرادات المحلية 9167.6 10432.2 2798.1 2579.1
ايرادات المقاصة كنسبة من إجمالي الإيرادات المحلية 66.5% 70.3% 67.6% 77.2%

المصدر: وزارة المالية (التقارير المالية الشهرية والربعية والسنوية) سنوات مختلفة.

  • التسرّب المالي: أسبابه وآثاره:

تعاني السلطة الفلسطينية من خسائر مالية كبيرة، ناجمة عن ضياع حصيلة قيمة ضريبة القيمة المضافة، وضريبة الشراء، وجمارك المستوردات، بسبب الاستيراد غير المباشر عبر إسرائيل، وهذا التسرّب المالي ناتج عن أنّ إسرائيل لا تزوّد السلطة بالمعلومات الكافية عن حجم الاستيراد والجهة التي قامت بذلك، لأنّ اتفاق باريس لا يلزمها بذلك، إضافةً إلى أنّ بعض التجار لا يسلّمون فواتير المقاصة لوزارة الماليّة، حيث تدفع إسرائيل الضرائب على أساس الفواتير، وذلك حتى لا يكشفوا عن حجم أعمالهم، التي يدفعون من خلالها ضريبة الدخل[8].

ومن مصادر التسرّب المالي أيضاً البضائع المهرّبة من السوق الإسرائيلي، والتي تُقدّر قيمتها ما بين 25-35% من مجموع المستوردات من إسرائيل، حيث أنّ البضائع المنتجة في إسرائيل والمهرّبة إلى السوق الفلسطيني ينتج عنها خسائر كافة الضرائب غير المباشرة (القيمة المضافة والجمارك وضريبة الشراء)، بينما البضائع التي منشؤها بلد ثالث تكون الخسائر فقط في الجمارك وضريبة الشراء في حال تم استيرادها من إسرائيل بموجب فاتورة مقاصة، والمعضلة هنا أنّ السلطة الفلسطينيّة لا تستطيع إجراء رقابة على حركة مرور البضائع إلى السوق الفلسطينيّة، بسبب عدم تواجدها على المعابر الدوليّة، وعدم وجود حدود داخلية مع السوق الإسرائيلي، وهذا الأمر يزيد من حدّة تهريب البضائع من الأسواق والمستوطنات الإسرائيليّة[9].

هناك العديد من التقديرات لهذا التسرّب المالي للضرائب المباشرة وغير المباشرة المدفوعة من قبل المستهلك الفلسطيني والمحجوزة من قبل الجانب الإسرائيلي، وفي دراسة حديثة للأونكتاد أجريت نهاية العام 2014[10] قدّرت خسائر الخزينة الفلسطينيّة بسبب اتفاق باريس الاقتصادي بحوالي 306 ملايين دولار سنويّاً على الأقل، أي ما يعادل 18% من إيرادات الضرائب للسلطة الفلسطينيّة، وهذا يشكل 3.6% من الناتج المحلّي الإجمالي.

إضافةً للخسائر الماليّة، فإنّ هناك تكاليف وخسائر اقتصادية إضافيّة لهذا التسرّب المالي، وهي تتمثّل في الزيادة في الناتج المحلّي الإجمالي وزيادة نسبة التشغيل، والتي كان يمكن للاقتصاد الفلسطيني أنْ يحقّقها لو تمّ توقيف هذا التسرّب المالي، ولو تم تحويل هذه الإيرادات من الخزانة الإسرائيلية إلى الخزانة الفلسطينية، فالتقديرات تشير أنّه لو تمّ منع هذا التسرّب وأمكن توفير هذه الإيرادات العامّة للسلطة الفلسطينيّة، لكان من الممكن أنْ يزيد الناتج المحلّي الإجمالي بنسبة 4%، وخلق ما يعادل 10000 فرصة عمل إضافية كل عام، هذا بالإضافة إلى أنّ هذا التسرّب المالي يزيد من هشاشة الوضع المالي للسلطة الوطنيّة الفلسطينيّة، ويقلّل من قدرتها على التخطيط المالي والإنفاق على الموازنات التطويريّة، ويضع الاقتصاد كلّه في مرحلة نموّ حرجة لا يمكن الخروج منها.

وحتى يتم الحدّ من التسرّب المالي، لا بدّ أولاً وبشكل سريع من تمكين السلطة الوطنية الفلسطينيّة من الحصول على معلومات كاملة عن الاستيراد المباشر من إسرائيل، أو غير المباشر من خلال إسرائيل، والحصول على كافّة معلومات فواتير المقاصة في الوقت المحدّد، بالإضافة إلى تعزيز وتقوية الكوادر الضريبيّة والجمركيّة الفلسطينيّة للبحث عن السلع المهرّبة، بالإضافة إلى منح حوافز ضريبيّة لمن يسلّم فاتورة المقاصة.

وعلى السلطة الفلسطينيّة العمل بشكلٍ حثيث وجاد على  إجراء تغييرات في اتفاق باريس لجعله منسجماً مع متطلّبات الاستقلال الاقتصادي والمالي، وإيجاد إطار سياسي أكثر توازناً وأكثر إنصافاً، يأخذ في الاعتبار التغيّرات الاقتصاديّة التي طرأت على الاقتصاد الفلسطيني منذ عام 1994.

الهوامش:

[*] باحث – وزارة السياحة والآثار الفلسطينية – غزة.

[1] بروتوكول باريس الاقتصادي، نيسان (أبريل) 1994.

[2] معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) وآخرون، المراقب الاقتصادي والاجتماعي، العدد 25، رام الله، 2011.

[3] سلطة النقد الفلسطينية، التقرير السنوي 2013، رام الله، حزيران (يونيو) 2013.

[4] سلطة النقد الفلسطينية، التقرير السنوي 2014، رام الله، حزيران (يونيو) 2014.

[5] سلطة النقد الفلسطينية، النشرة الإحصائية الربعية 2015، العدد الثامن، رام الله، 2015.

[6] سلطة النقد الفلسطينية، التقرير السنوي 2014، مصدر سبق ذكره.

[7] وزارة المالية، تقرير العمليات المالية للسلطة الفلسطينية، الإيرادات والنفقات ومصادر التمويل، موقع الكتروني   www.pmof.ps

[8] سوسن الهدهد، التسرب المالي لدى خزينة السلطة الفلسطينية وعلاقته بالمستوردات غير المباشرة، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة النجاح، نابلس، 2010.

[9] حنين حميض، تأثير المقاصة على الإيرادات الضريبية في فلسطين من (1995-2005)، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة النجاح، نابلس، 2006.

[10] United Nations, Palestinian Fiscal Revenue Leakage to Israel under the Paris Protocol on Economic Relations, New York, 2014.