مهند مصطفى

 تحول اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بعد هيمنة اليمين على الحكم في إسرائيل، ليصبح، هو وما نتج عنه، من مشروع اليسار الصهيوني، إلى مشروع اليمين الإسرائيلي، حتى الديني منه، على الرغم من أن الأخير لم يعترف به حتى الآن أيديولوجيّاً، وما زالت سرديته تهاجم “مشروع أوسلو”. إلا أنّ هذا المشروع بات جزءاً أساسيّاً في تصورات اليمين عموماً، وحتى أجزاء من اليمين الاستيطاني منه، المتمثل في مشاريع الضم، وخاصة في مناطق (ج). وسيكون أي موقف من مستقبل النظام السياسي الفلسطيني، مرتبطاً باستمرار الشرط الاستعماري، ومن هنا أيضاً، يمكن فهم اهتمام إسرائيل بعدم انهيار “حماس”، ولكن مع عدم مصالحتها مع السلطة الفلسطينية، التي يراد إضعافها سياسيّاً.

في الأصل، شكل اتفاق أوسلو ضربة أيديولوجية لمشروع اليمين العلماني منه والديني، فاليمين العلماني الذي رفع شعار “أرض إسرائيل”، وطمح إلى إقامة دولة واحدة تحت السيادة اليهودية من النهر إلى البحر، ضربه أوسلو أيديولوجيّاً عندما أسس لفكرة الدولتين، وتقسيم البلاد، والانسحاب من قلب أرض إسرائيل. أما اليمين الديني المتمثل في الصهيونية الدينية، فقد شكل اتفاق أوسلو بالنسبة له ضربة في تصوراته المسيانية- الدينية، التي اعتبرت أن السيطرة والسيادة اليهودية الكاملة على الضفة الغربية وقطاع غزة تعتبر تأكيداً لتصوراته نحو الخلاص (أي أن دولة إسرائيل هي أداة خلاص، وليست الخلاص النهائي).

شكل اتفاق أوسلو اهتراءً في تصور الصيرورة التاريخية للخلاص، التي رفعتها الصهيونية الدينية. وإذا كان اليمين العلماني قد عارض أوسلو لأسباب أيديولوجية لأنه رفع شعار “أرض إسرائيل” الكاملة، فقد عارضه اليمين الديني لأسباب دينية. ولكن بعد صعود اليمين للحكم، حاول تجديد تصوراته السياسية في أعقاب الواقع الذي نشأ بعد الاتفاق، من خلال الإبقاء على هذا الواقع، وطرح تصورات جديدة للحل، وفي مركزها الضم، مع تصور حول النظام السياسي الفلسطيني، وما يجب أن يؤول له، وهذا هو موضوع هذا المقال الأساسي.

تبدأ هذه الورقة بطرح التصورات الإسرائيلية تجاه النظام السياسي الفلسطيني، إذ تتكئ السياسات الإسرائيلية تجاه بنية النظام السياسي الفلسطيني على ثلاث ركائز:

أولاً: بقاء الشرط الاستعماري، أي بقاء حالة الاستعمار الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية، حيث إن التعامل مع الواقع بعد أوسلو لا يزال يجري من خلال المنظومة الاستعمارية الصهيونية.

ثانياً: الركيزة الأمنية، إذ حرصت إسرائيل في الاتفاقيات التي وقعتها مع منظمة التحرير الفلسطينية على السيطرة على الحلقة الأمنية الخارجية لمناطق السلطة الفلسطينية، وبقي الموقف الإسرائيلي بأن القوات والصلاحيات الأمنية للكيان الفلسطيني، أيّاً كان شكله، ستكون مقيدة. وبعد الانتفاضة الثانية عام 2000، باتت عملية اقتحام مناطق السلطة بذرائع أمنية حالة شبه عادية.

ثالثاً: الركيزة السياسية النابعة من نفي حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، فضلاً عن نفي الشعب الفلسطيني، كما تجسد ذلك في قانون القومية الإسرائيلي، الذي أقر عام 2018، حيث إن وجود سلطة فلسطينية لا يمثل بالنسبة لإسرائيل أي معنى لحق تقرير المصير الذي تم شطبه في قانون القومية.

اليمين واتفاق أوسلو

مع صعود اليمين الحكم عام 1996، استطاع عمليّاً أن يوقف اتفاق أوسلو دون أن يبطله (وعمليّاً سد الطريق أمام حل الدولتين). منذ اتفاق الخليل، في 15 كانون الثاني (يناير) 1997، الذي وقعه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، على مضض في فترة ولايته الأولى، توقف أوسلو في النقطة التي وصل إليها، لا بل إن إسرائيل بقيادة أريئيل شارون تراجعت خلال الانتفاضة الثانية عن منع اقتحام الجيش الإسرائيلي المدن الفلسطينية، وتحول أوسلو إلى جسد دون روح. والمفارقة أن اليمين بث روحاً جديدة إلى اتفاق أوسلو، من كونه اتفاقاً وواقعاً مرحليّاً يؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية، إلى واقع دائم يساهم في تجديد منظومات اليمين، العلماني منه والديني على حد سواء، وتمثل ذلك في التخلص من عبء السكان، والعبء الأخلاقي من كلمة “احتلال”. بذلك، تحول اتفاق أوسلو إلى مشروع اليمين الإسرائيلي دون أن يعترف به، ولذلك، تظهر مغالطة اليسار الصهيوني وجزء كبير من الفلسطينيين الذين أيدوا أوسلو في الادعاء أن اليمين لا يملك مشروعاً سياسيّاً عمليّاً لتسوية الصراع، والحقيقة أن اليمين لديه مشروع، واتفاق أوسلو يقع في صلب هذا المشروع، ويتمثل في تحويل أوسلو من اتفاق مرحلي إلى واقع نهائي. تحول أوسلو من اتفاق ساهم مرحليّاً في اهتراء أيديولوجية اليمين، إلى اتفاق ساهم في تجديدها لاحقاً، وحوّله إلى التيار المركزي في المجتمع الإسرائيلي.

ساهم اتفاق أوسلو في فرض حقيقتين على الأرض، كان مخططاً لهما أن تكونا حالتين طارئتين أو واقعاً مؤقتاً، وهما: إقامة السلطة الفلسطينية، وتقسيم الأراضي الفلسطينية إلى مناطق (أ) و(ب) و(ج)، والمنطقة الأخيرة تشكل 60% من الضفة الغربية، وهي تقع تحت السيطرة الأمنية والمدنية الإسرائيلية. وقد تحولت هذه الحقائق إلى مفتاح لليمين في إسرائيل في تطوير خطابه، وفي نفس الوقت إبقاء السيطرة الاستعمارية على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وذلك على النحو التالي:

أولاً: الادعاء أن السلطة الفلسطينية تشكل التجسيد العملي والفعلي للحقوق السياسية الفلسطينية، فهناك برلمان فلسطيني ومكتب رئاسة ورئاسة وزراء ويتم انتخابها جميعاً بشكل ديمقراطي، وليست هنالك حاجة لدولة، فالدولة عمليّاً موجودة. لذلك، فإن إبقاء السلطة بات مصلحة لليمين في تحقيق طموحاته السياسية.

ثانياً: ليس هنالك احتلال إسرائيلي، فإسرائيل انسحبت من المناطق التي يعيش فيها الأغلبية الساحقة من الفلسطينيين ما عدا بضع عشرات من الآلاف في مناطق (ج)، ليس لليمين المركزي مشكلة في إعطائهم حقوق مواطنة، فضلاً عن أن عملية ترانسفير (ترحيل) ممنهجة وصامتة تتم في هذه المناطق. وتعتمد خطة نفتالي بينيت، رئيس حزب البيت اليهودي، الشريك في الائتلاف الحكومي، ممثل الصهيونية الدينية، على ضم مناطق (ج) إلى السيادة الإسرائيلية وإعطاء حقوق مواطنة للفلسطينيين فيها، واعتبار مناطق السلطة تعبيراً منجزاً ونهائيّاً عن حقوق الفلسطينيين.

ثالثاً: هنالك حالة من الضم الزاحف قانونيّاً واستيطانيّاً ورمزيّاً لمناطق (ج)، وهي تتم بشكل صامت ومنهجي، وتحولت قضية ضم مناطق (ج) إلى مشروع لليمين، ولا سيما التيار المركزي في اليمين الاستيطاني.

رابعاً: الانقسام الفلسطيني السياسي والجغرافي هو نتاج لاتفاق أوسلو بشكل مباشر، وهو بات جزءاً من الإستراتيجية الإسرائيلية في السيطرة والتعامل مع المسألة الفلسطينية في فصل غزة عن الضفة الغربية، وإبقاء الطرفين ضعيفين، الأول من خلال حصاره اقتصاديّاً، والثاني من خلال حصاره سياسيّاً.

إسرائيل والنظام السياسي الفلسطيني

ترمي هذه الجزئية إلى نقاش وتحليل المقاربة الإسرائيلية للنظام السياسي الفلسطيني، وتحمل هذه المقاربة الكثير من التركيب، نظراً لتباين وجهات النظر الإسرائيلية حول بنية النظام الفلسطيني، ولكن تبقى غالبية المقاربات، مع بعض الاستثناءات القليلة، تفترض بقاء الشرط الاستعماري في التعاطي الإسرائيلي مع النظام السياسي الفلسطيني الحالي والمستقبلي. وهذا الشرط ليس أمراً مُسلّماً به في المقاربة الإسرائيلية، بمعنى أن وجود هذا الشرط لا يتعاطى مع المصالح السياسية والأمنية الإسرائيلية فحسب، وهي مصالح ديناميكية بطبيعتها، بل مع جوهر المشروع الصهيوني أيضاً، فغياب الشرط الاستعماري في كل مقاربة إسرائيلية للنظام السياسي الفلسطيني يعني غياب مركب أساسي في طبيعة المشروع الصهيوني والصهيونية.

وإذا أُريدت صياغة هذا الادعاء بنزعة من التجريد الأكاديمي والبساطة اللغوية، فإن قراءة مجمل التعاطي الإسرائيلي مع النظام السياسي الفلسطيني الحالي والمستقبلي، توصلنا إلى نتيجة أن المقاربة الإسرائيلية لا يهمها في المقام الأول شكل وبنية وجوهر النظام السياسي الفلسطيني، ما دام السياق الاستعماري حاضراً في عمق وعلى أطراف المشروع الوطني الفلسطيني، وبعدها تأتي في المقام الثاني المصالح السياسية والأمنية لإسرائيل في مقاربة كل نظام فلسطيني من حيث الشكل والمضمون.

فكل نظام سياسي فلسطيني، لا سيما التعددي- الديمقراطي الذي يتكئ على شرعية الفلسطينيين، دون حضور الشرط الاستعماري الإسرائيلي، فإنه يعني تهديداً للمشروع الصهيوني. لذلك، ليس صدفة أنه عندما تعلو مقاربات إسرائيلية للنظام السياسي الفلسطيني خارج الشرط الاستعماري ومتحدية له، فإنه يتم طرح مشروع الدولة الديمقراطية الواحدة، سواء في صيغة ثنائية القومية أو في صيغة دولة ليبرالية، أي دولة جميع مواطنيها. وهذه المقاربات الإسرائيلية للنظام السياسي الفلسطيني التي تستثني الشرط الاستعماري لن تكون موضوع هذه المقالة، رغم أنه سيتم التطرق لها أيضاً باقتضاب لاحقاً. وتبقى هذه المقاربات على هامش المركز السياسي الإسرائيلي.

تحتوي الأدبيات النظرية السياسية الكثير من التنظير حول النظام السياسي في المرحلة ما بعد الكولونيالية، في دول مرت بالمرحلة الكولونيالية، والعلاقة بين السياق الكولونيالي وإرثه السياسي، وبين النظام السياسي المتشكل للواقعين أو من وقعوا تحت الاستعمار، وموقف الدول الكولونيالية من النظم السياسية في مستعمراتها.

في دراسة رائدة للباحث السياسي ميخائيل برنهارد بعنوان “الإرث الكولونيالي الغربي على بقاء الديمقراطية”، يوضح أن الموروث الكولونيالي يلعب دوراً كبيراً في تشظي (Fragmentation) مجتمع المستعمرين سياسيّاً خلال الفترة الكولونيالية، ويستمر في ذلك عند محاولة تأسيس نظامهم السياسي.

وفي دراسة هامة أخرى لماثيو لانغ حول “الإرث الاستعماري والتطور السياسي”، يشير إلى الدور السلبي الذي لعبته القوى الكولونيالية في هدم المؤسسات السياسية الديمقراطية للشعوب المستعمرة، ونقل السلطة إلى ما يسميه لانغ “local chiefs”، أي القيادات المحلية التي تسعى إلى ملء دور القيادات الوطنية السياسية. هذا ما حدث مع الفلسطينيين في الداخل، ولاحقاً في المناطق المحتلة عام 1967. ومن هنا كذلك، فإن التنظيم السياسي الفلسطيني داخل الخط الأخضر لم يَسلَم حتى الآن من تحديات السياق الكولونيالي الإسرائيلي، حتى في حالة المواطنة. وفي دراسة أخرى لماثيو لانغ وآخرين بعنوان “فَرّق تسد العالم” (Dividing and ruling the world)، يوضح من خلال دراسة إحصائية، وليس فقط تحليلية كيفية، الدور التي لعبته الدول الكولونيالية في الحروب والصراعات الأهلية لدى الشعوب المستعمرة لحظة تأسيس نظامهم السياسي وبعده.

بعد كل ما سلف، لا بد من الإشارة إلى أن تطور النظام السياسي الفلسطيني في الحالة الإسرائيلية مختلف عن السياقات الكولونيالية الأخرى السابقة له أو اللاحقة في أمرين، أولاً: في كون الأدبيات النظرية التي تطرقت إلى العلاقة بين نظرة المستعمر والنظام السياسي للمستعمرين خلال الاحتلال أو بعد الاحتلال، تطرقت في غالبيتها إلى أنماط كولونيالية غير استعمارية، فالكولونيالية الاستعمارية هي أكثر الحالات الكولونيالية تطرفاً في تعاطيها مع البنية السياسية للشعوب الواقعة تحت الاستعمار، فهي تهدمها أو تضعفها، أو تبقي تبعيتها لها. والأمر الثاني أن إسرائيل لا تنوي ولا تتجه نحو نفي الشرط الاستعماري في فلسطين، ويبقى تعاطيها مع النظام السياسي الفلسطيني متعلقاً بالحفاظ على هذا الشرط.

لإنهاء هذا الجزء، حريّ القول إن السياق الكولونيالي التاريخي لم يفضل نظاماً سياسيّاً معيناً، ولكن في جميع المشاريع الكولونيالية، تم نفي الشرط الاستعماري خلال بناء النظام السياسي في المرحلة الوطنية (مرحلة الاستقلال)، مع بقاء تأثيره الثقافي على نخب المشروع الوطني. في الحالة الفلسطينية، فإن المشروع الصهيوني ومن خلال مراجعة الخطاب الإسرائيلي فيما يتعلق ببنية وجوهر النظام السياسي الفلسطيني، لا يتجه نحو تفكيك الاستعمار في المستقبل، لأن نفي الشرط الاستعماري يتناقض مع جوهر المشروع الصهيوني، الذي يُمثل الاحتلال العسكري الإسرائيلي أداته المركزية، إلى جانب الاستيطان وتجزئة الشعب الفلسطيني.

لذلك، فإن النظام السياسي الفلسطيني، من وجهة نظر المقاربات الإسرائيلية، عليه أن يتشكل ويتشابك من ذاته (العلاقات الداخلية بين الفاعلين السياسيين فيه) ومع إسرائيل في إطار ديمومة الشرط الاستعماري. من الجهة المقابلة، من الواضح أنه في الحالة الفلسطينية، فإن تأثر النخب الوطنية بالمستعمر هو الأقل من بين مجموعة النخب الوطنية في العالم التي لم تتأثر بالمشروع الكولونيالي ونظامه وثقافته.

بتدقيق كل ما سلف من الناحية التطبيقية، فإن مراجعة الخطاب الإسرائيلي فيما يتعلق بالنظام السياسي الفلسطيني تفترض بقاء الشرط الاستعماري في تطور النظام الفلسطيني وشكله النهائي، في ظل وجود أربعة مكونات: الحدود، والسيادة، والشعب، والنخبة السياسية. ومن يتمعن في هذه الركائز، يجد أنها ركائز دولة، وليست ركائز بنية نظام سياسي بالضرورة، رغم الارتباط العضوي والجوهري بينهما من حيث الشكل والمضمون، ولكن لا تفهم إسرائيل النظام السياسي الفلسطيني خارج سؤال الدولة الفلسطينية، ومن هنا، فإنّ نقاش النظام السياسي الفلسطيني في سياق الشرط الاستعماري يطرح سؤال الدولة الفلسطينية التي تتخيلها إسرائيل وتسعى لها.

فيما يتعلق بالحدود، يحتاج النظام السياسي إلى حدود ثابتة تحدد سلطته وسيادته، ولا تتجه إسرائيل إلى ترسيم حدود ثابتة لكيان سياسي فلسطيني، فضلاً عن السيطرة على الحدود، وفي أحسن الأحوال، ستفرض إسرائيل معادلة التمييز بين الحدود الأمنية أو الآمنة والحدود السياسية، بحيث تكون الفوقية للحدود الأمنية.

في مسألة السيادة، في كل المقاربات الإسرائيلية للسيادة الفلسطينية، فإنها سيادة منقوصة، في كل المجالات تقريباً، ومؤخراً تحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن تأطير خاص لسيادة فلسطينية. إن أي نظام سياسي لا يمكن أن يتطور بسيادة منقوصة مشوهة بشكل مزمن كالتي تقترحها إسرائيل، وإسرائيل تدرك ذلك. سيادة كاملة تعني نفي الشرط الاستعماري عن المناطق المحتلة عام 1967. وسيادة مشوهة ومريضة بشكل مزمن تعني بقاء الشرط الاستعماري. ببساطة، هذه هي المعادلة.

فيما يتعلق بالشرط الثالث، وهو الشعب الفلسطيني، يمارس المشروع السياسي الإسرائيلي الفصل والعزل في الوقت ذاته تجاه المجموعات الفلسطينية (حتى داخل أراضي العام 1948)، من خلال أدوات كثيرة: التشريعات القانونية، وإعطاء مكانة مختلفة لفلسطينيي القدس، ومشاريع الضم الجزئي والزاحف المختلفة، والحصار العسكري، والفصل السياسي. وتشير الأدبيات النظرية إلى أن عملية التجزئة للشعب الواقع تحت الاحتلال هي من أهم الأدوات لبقاء الشرط الاستعماري، وكل نظام سياسي سيتطور سيكون مرتبكاً تجاه عملية الفصل والعزل للشعب. وتدرك إسرائيل ذلك، لذلك، كان الانقسام الفلسطيني مصلحة إسرائيلية إستراتيجية، وليس هنا المجال للتعمق في البعد الإستراتيجي الإسرائيلي من الانقسام.

أما فيما يتعلق بالشرط الرابع، فيتعلق بالنخب الفلسطينية، من أحزاب وفصائل وقيادات وغيرها، وتعتقد إسرائيل أن النخب الفلسطينية ككل النخب العربية لن تقوم ببناء نظام سياسي فلسطيني مستقر وتعددي، لا سيما الديمقراطي منه. وينم هذ التوجه عن فكر إسرائيلي نمطي وعن نوع من التمني أو الأمنيات أيضاً. بالنسبة للأمنيات، إسرائيل لا تريد نظاماً ديمقراطيّاً فلسطينيّاً، حتى مع وجود الشرط الاستعماري. بالنسبة للتوجه الفكري، فإن ذلك يندرج ضمن تفكير إسرائيلي نمطي استعلائي على الثقافة العربية والإسلامية.

في عام 1970، نشرت وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية بين صفوف الطلاب الإسرائيليين كتاباً من 40 صفحة بعنوان “دولة فلسطينية ديمقراطية: الوهم المصنوع”، وفيه سخرية من إمكانية بناء نظام سياسي فلسطيني ديمقراطي.

تنطلق الرؤية الإسرائيلية من توجه يميز الدول الاستعمارية في تعاملها مع بنية النظام السياسي للمجتمع الواقع تحت الاستعمار، فمن جهة، إن النظرة الاستعمارية الاستعلائية تنطلق من أن دولة المستعمرين سوف تنتج نظاماً سياسيّاً يتماهى مع الدولة المستعمرة، ومن جهة أخرى، وفي الحالة الإسرائيلية تحديداً، تصطدم هذه الرؤية الاستعمارية التقليدية مع رؤية إسرائيلية تنطلق من أن الثقافة العربية والإسلامية لا تحتمل وجود نظام ديمقراطي في بناها السياسية، فالثقافة العربية الإسلامية، كمنظومة ثقافية وفكرية وتاريخية، لا تنتج بنية سياسية ديمقراطية، فكل تطور سياسي يكون بفضل إسرائيل، وكل إخفاق فلسطيني يعود للثقافة العربية الإسلامية.

 الانقسام.. الركن الأساسي في التعامل مع السلطة

منذ سيطرة حركة المقاومة الإسلامية “حماس” على قطاع غزة عام 2007، وبداية الانقسام السياسي- الجغرافي في الحركة الوطنية الفلسطينية، تحول الانقسام إلى ركن أساسي من إستراتيجية إسرائيل تجاه الفلسطينيين والسلطة الفلسطينية، فمن جهة، أرادت إسرائيل الحفاظ على الانقسام الفلسطيني وتعزيزه، ومن جهة أخرى، أرادت إضعاف طرفي الانقسام: حركة حماس والسلطة، الأول من خلال محاصرته اقتصاديّاً وجغرافيّاً، والثاني من خلال محاصرته سياسيّاً[1]. وتبنت إسرائيل موقفها من الانقسام على الركائز التالية:

أولاً، إن بديل “حماس” سيكون ربما أكثر تطرفاً، وإن الفراغ الذي قد ينتج عن الإطاحة بـ”حماس” قد لا يكون محمود العواقب. ودائماً ما كان يتم ذكر المجموعات السلفية والجهادية ذات الارتباطات العالمية كوريث محتمل في غزة. وهي مقولة استمرت في الهيمنة على النقاش الإسرائيلي حول العلاقة مع “حماس” حتى الحرب على غزة عام 2014. في الجيش يقولون إن إسقاط نظام حماس سيقود إلى فوضى مثل الصومال، كما أنه لن يوجد لإسرائيل ألبتة أي عنوان للردع أو لإجراء تسويات غير مباشرة. وبالتالي، فوجود “حماس” مهم من هذا الجانب[2].

ثانياً، إن الانقسام الفلسطيني المترتب على حالة وجود حكومتين منفصلتين هو مصلحة إسرائيلية كبرى، إذ إنه يعني تشتيت جهود بناء الدولة الفلسطينية، بل إن هذه الدولة لم تعد ممكنة واقعيّاً في ظل وجود نظامين سياسيين مختلفين. وإن تعزيز حالة الانقسام تخدم الدعاية الإسرائيلية بأنه لا يمكن إقامة دولة على منطقتين منفصلتين. كما أنه يخلق مع الوقت سياقات سياسية ومؤسساتية تجعل من توحيد الأطر الإدارية والأمنية أمراً مستحيلاً.

ثالثاً، تتوافق هذه الرؤية مع منطلقات نتنياهو وأركان حكومته بطرق شتى، فهي بالنسبة لرئيس الوزراء تساعد في تحقيق مقاربته حول إدارة الصراع من خلال إدارة العلاقة اليومية مع “حماس” في غزة وإدارتها في الضفة مع السلطة الفلسطينية، دون الحاجة لتقديم تنازلات سياسية. أما بالنسبة لبعض أركان الحكومة في أقصى اليمين، مثل بينيت، فإن غزة يجب أن تترك لمصيرها، إذ إن ما يهم هو الضفة الغربية، وتحديداً المناطق “c” التي يجب ضمها لإسرائيل.

رابعاً، يتعزز هذا في حقيقة أن الصراع الفلسطيني الداخلي يشغل الفلسطينيين عن الصراع مع إسرائيل ويوجه جهودهم نحو الصراع الداخلي، وبالتالي يتم ترحيل المطالب الفلسطينية بالاستقلال والحقوق السياسية. وعليه، فقد دأبت إسرائيل على تغذية هذا الصراع ومعارضة أي تقارب فلسطيني داخلي واعتباره تهديداً للمصالح الإسرائيلية وإخلالاً بالتزامات الرئيس محمود عباس بالسلام، حيث كانت المفاضلة بين الصلح مع إسرائيل والتصالح مع حماس تتحكم بالكثير من مقولات إسرائيل وردات فعلها على جهود المصالحة الفلسطينية.

خامساً، وربما الأهم من كل ذلك، أن سيطرة حماس على قطاع غزة تعني أن الرئيس محمود عباس ليس صاحب سيادة ولا سلطة على الجزء الثاني من الأرض التي يطالب بأن تقام دولته عليه. بمعنى آخر، فهو ليس ذا صلة حين يتعلق الأمر بغزة، وهو لا يمكن له أن يطالب باستقلال على أرض لا يحكمها. من هنا، فإن استمرار سيطرة حماس على غزة يعني تقويض رواية ومطالب الرئيس عباس بخصوص الدولة. ولقد دأب السياسيون الإسرائيليون على استخدام هذه الإشارات حول عدم ولاية الرئيس عباس على غزة لتفنيد المطالب الفلسطينية خلال جولات المفاوضات المختلفة.

سادساً، ثمة حقيقة أساسية في ذلك، وهي أن حماس لم تتقدم بمطالب سياسية خلال الصدام مع إسرائيل، فهي تطالب ضمن الخطوط العامة لأيديولوجيتها بإزالة إسرائيل، ورغم تبنيها في وثيقة الوفاق الوطني لفكرة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع مع حزيران، إلا أنها لم تجعل هذا المطلب مركز سياستها واشتباكها مع إسرائيل. بل إن ما تطالب به حماس عقب كل اشتباك وعدوان، لا يتعدى أن يكون مطالب إنسانية لتحسين ظروف الحياة في غزة، ولتثبيت حكمها هناك، فمطالب حماس إنسانية وموجهة للغرب، وهي موجهة لتحسين حياة الناس، وهذا يمكن لإسرائيل التعامل معه[3].

للتلخيص: تعاملت إسرائيل مع قطاع غزة بعيد الانفصال بين غزة والضفة عام 2007، كمسألة أمنية في البداية، وخاصة بعد الانفصال أحادي الجانب الذي قاده رئيس الوزراء السابق أريئيل شارون عام 2005. وتطورت الرؤية لاحقاً لتكون غزة مسألة سياسية أيضاً. وهدفت خطة الانفصال الشارونية إلى تحييد قطاع غزة سياسيّاً وأمنيّاً عن حل قضايا الحل الدائم، ولا يستبعد أن شارون في قرارة نفسه كان يهدف من خطته أيضاً إلى فصل غزة عن الضفة الغربية كجزء من رؤيته للحل، الذي لم يكتمل بسبب مرضه وتنحيته عن السلطة. لاحقاً، وبعد سلسلة من الحروب التي أعقبت الانفصال الإسرائيلي عام 2005، والانفصال الفلسطيني عام 2007، وبعد صعود اليمين الإسرائيلي للحكم عام 2009، بدأ اليمين ينظر إلى الانقسام الفلسطيني كفرصة سياسية لتعزيز رؤيته للحل أو عدم الحل. فمن جهة، تقارع إسرائيل السلطة بكونها لا تمثل كل الفلسطينيين بسبب عدم سيطرتها على قطاع غزة، ومن جهة أخرى، ترفض أي مصالحة فلسطينية تؤدي إلى وحدة السلطة بين القطاع والضفة، بذريعة أن حركة “حماس” هي حركة إرهابية. لذلك، فالحربان اللتان شنهما على قطاع غزة وهو بالسلطة (عام 2012 وعام 2014) لم تكونا بهدف إسقاط حكم حماس لقطاع غزة، وإنما للحفاظ على الوضع القائم الذي رسمته إسرائيل وفق مصالحها، ويتمثل في ثلاث نقاط:

أولاً: تكريس الانقسام الفلسطيني بين الضفة الغربية وقطاع غزة.

ثانياً: الحفاظ على الهدوء الأمني في ظل الانقسام، وخاصة من غزة.

ثالثاً: الإبقاء على الحصار المفروض على قطاع غزة مع بقاء الانقسام والهدوء الأمني.

[1] عاطف أبو سيف ومهند مصطفى، ما بعد الحرب على غزة: قراءة في التصورات الإسرائيلية، (رام الله، مدار، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2015).

[2] عاموس هرئيل، “غزة: اندلاع الحرب على الرواية”، هآرتس، 4/8/2014.

[3]Israeli Hasson, Did Bibi Choose to Preserve Hamas to Avoid Talks with Abbas?, Al Monitor, 21/8/2014.

للتحميل اضغط هنا