أوكرانيا أم غزة: أيّ الحربين أطاحت بالنظام العالمي القائم؟

أوكرانيا أم غزة: أيّ الحربين أطاحت بالنظام العالمي القائم؟

L’Ukraine ou Gaza, quelle guerre a fait basculer l’ordre mondial ?
 

مجلّة Courrier International  الفرنسية

ترجمة: يسار ابو خشوم 

 

يثير المقال نقاشا فكريا عميقا حول اللحظة الدولية الراهنة، ويطرح سؤالا جوهريا بشأن الحدث الذي مثّل نقطة التحوّل الكبرى في النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. هل كانت الحرب في أوكرانيا هي التي دشّنت بداية “عالم ما بعد الغرب”؟ أم أن العدوان الإسرائيلي على غزة، وما رافقه من مشاهد الإبادة والدمار، هو الذي أسقط نهائيا سردية القيم العالمية المشتركة المبنية على احترام حقوق الإنسان؟ يناقش المقال هذا السؤال من خلال استعراض مقاربتين متباينتين يقدّمهما مفكران بارزان: المؤرخ البريطاني تيموثي غارتون آش، والمفكر الهندي بانكاج ميشرا. ورغم اختلاف الرؤيتين، إلا أن كليهما يتفق على أن العالم يمر بلحظة تحوّل مفصلية تعيد رسم ملامح النظام الدولي. فيما يلي ترجمة تلخيصية للمقال:

في خضم صخب الأحداث العالمية، يسعى عدد من المفكرين إلى تحديد خطوط الانفصال والاستمرارية التي يمكن أن تفسّر مسار التحولات الكبرى. ومن بين هؤلاء، يبرز كل من تيموثي غارتون آش وبانكاج ميشرا، اللذَين يتفقان على أننا نشهد اليوم انقلابا عميقا في طريقة فهمنا للعالم، لكنهما يختلفان حول الحدث الذي شكّل هذه القطيعة. يرى غارتون آش أن الحرب في أوكرانيا مثّلت اللحظة التي تفكّكت فيها البنية الدولية التي تأسّست بعد عام 1945، بينما يؤكد ميشرا أن الحرب على غزة هي التي كشفت الانهيار الفعلي لتلك البنية وأسقطت كل ما تبقى من ملامحها الأخلاقية والسياسية.

مرحلة غير مستقرة

في مقابلة موسّعة نشرتها مجلة دير شبيغل الألمانية، عبّر تيموثي غارتون آش عن اعتقاده بأن الحرب في أوكرانيا تؤكد أننا نعيش بالفعل في عالم ما بعد غربي. ويضيف المؤرخ البريطاني، وهو أستاذ الدراسات الأوروبية في جامعة أكسفورد، أن ما يصفها بـ”الحرب الكبرى في أوكرانيا” ليست مجرد صراع عسكري، بل هي الحدث الذي يصحبنا إلى هذا العالم الجديد، وهو ما يمنحها أهميتها التاريخية الكبرى.

ولتوضيح هذا التحوّل، يقترح غارتون آش إعادة النظر في طريقة تقسيمنا للحقب الزمنية. فبرأيه، لم ينتهِ القرن التاسع عشر عام 1900، بل مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، في حين انتهى القرن العشرون مع سقوط جدار برلين عام 1989. أما الفترة الممتدة من ذلك التاريخ حتى اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، فهي ما يسميه “المرحلة المستقلة”. أما ما بعد هذه المرحلة، فهو عصر جديد لم تتضح معالمه بعد، ما يستدعي صياغة مفاهيم ومصطلحات جديدة، على غرار ما جرى سابقا مع تعبيرات مثل “الحرب الباردة” أو “الأزمة المناخية” أو “الثورة الرقمية».

العالم بعد غزة

على النقيض من هذا الطرح، يرى بانكاج ميشرا أن الحرب الإسرائيلية على غزة، التي اندلعت بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، شكّلت لحظة الانهيار الفعلية للنظام الدولي الذي تأسّس في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ففي مقالاته المنشورة في موقعي Foreign Policy وScroll.in، يذهب ميشرا إلى أن المجازر التي وقعت في غزة كشفت زيف منظومة القيم الغربية، وأظهرت عجز القانون الدولي عن حماية الشعوب، حين تصطدم حقوقهم بمصالح الدول الكبرى.

ويعزز ميشرا هذا الطرح في كتابه الجديد «العالم بعد غزة»، حيث يصف ما جرى في القطاع بأنه “كارثة ارتكبتها الديمقراطيات الغربية مجتمعة”، وقد قضت على ما وصفه بـ”الوهم الضروري” الذي نشأ بعد هزيمة الفاشية عام 1945، والمتمثل في الإيمان بوجود إنسانية كونية قائمة على احترام الحقوق الأساسية والمعايير القانونية والسياسية الدنيا.

وفي مقابلة مطولة مع موقع Scroll.in، يوضح ميشرا أن غزة لم تكن مجرد مأساة إنسانية، بل بمثابة إشارة مبكرة إلى عالم تتحكم فيه القوة العارية، وتهمل فيه المبادئ. ويرى أن ما حدث في القطاع يعكس واقعا جديدا، تُدار فيه العلاقات الدولية من منظور القوة لا القانون، وهو واقع بات يفرض نفسه في أكثر من ساحة حول العالم.

ضرر سياسي غير مسبوق

يتعمق ميشرا في تحليله، معتبرا أن ما حدث في غزة يفوق في رمزيته وتأثيره السياسي ما جرى في فيتنام. فبينما تمكّن الأميركيون من احتواء آثار تلك الحرب والعودة إلى حياتهم السياسية، فإن ما شهدته غزة ألحق ضررا بالغا بمؤسسات الغرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة، وأفقد المنظومة الدولية ما تبقّى لها من مصداقية. ويشير إلى أن العديد من الديمقراطيات الغربية الكبرى – التي طالما قدّمت نفسها كحامية للقيم الإنسانية – وقفت إما صامتة أو داعمة بشكل مباشر لعملية إبادة جماعية استهدفت الشعب الفلسطيني، في مشهد غير مسبوق في تاريخ النظام العالمي الحديث.

وينظر ميشرا إلى هذا التحول من خلال إطار أوسع، يتمثل في الانقسام المتنامي بين الشمال العالمي والجنوب العالمي، وهما مفهومان جيوسياسيان يعكسان التفاوت البنيوي في النظام الدولي. ووفقا له، فإن هذا الانقسام لا يعود إلى نتائج الحرب العالمية الثانية، كما يعتقد غارتون آش، بل إلى فشل مشاريع إنهاء الاستعمار، واستمرار تبعاته حتى اليوم. وبهذا المعنى، فإن ما جرى في غزة يُعتبر نموذجا معاصرا لاستعمار مؤجّل، لم تستكمل عملية تفكيكه بعد.

ورغم التباين الواضح في التحليل بين غارتون آش وميشرا، إلا أن كليهما يتفق على أننا نعيش اليوم لحظة مفصلية في التاريخ السياسي للعالم، لحظة تعيد تشكيل المفاهيم والتوازنات التي قام عليها النظام الدولي طوال العقود الماضية، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة لا تزال معالمها قيد التكوين.

أوكرانيا أم غزة: أيّ الحربين أطاحت بالنظام العالمي القائم؟