[*]ماجد كيالي

يقف الفلسطينيون اليوم في مواجهة أزمة شاملة، أو في مواجهة مرحلة انتقالية، على مختلف الصعد، أي على صعيد خطاباتهم، ونظامهم السياسي، وكياناتهم الجمعية: (المنظمة والسلطة والفصائل والمنظمات الشعبية)، وعلى صعيد الأشكال النضالية المعتمدة، وعلاقتهم بعدوهم.

القصد من ذلك لفت الانتباه إلى أن الأزمة الفلسطينية لم تعد تتوقّف على مجرد الخلاف السياسي بين الحركتين الرئيستين: “فتح” و”حماس”، ولا على انقسام النظام السياسي الفلسطيني، بين سلطتي الضفة وغزة، ولا على إخفاق خياري المقاومة والتسوية، أو الانتفاضة والمفاوضة، ولا على ترهل الكيانات الفلسطينية، على أهمية كل ذلك. فرغم استهلاك طاقات الفلسطينيين، منذ أكثر من عقدين، في البحث عن الصيغ التي تمكّنهم من التغلب على كل واحدة من المشكلات المذكورة، إلا أن أزمتهم هي أعمق وأشمل وأبعد من كل ذلك، وهذا ما يفترض أن يكون في مركز إدراكاتهم وما يجب تكريس جهودهم من أجله، بدل التجاهل أو التهرّب.

هكذا، فالأزمة اليوم تتعلق برؤية الفلسطينيين لأنفسهم، ولطبيعة صراعهم مع عدوهم، وتعريفهم لمشروعهم الوطني، وتحديدهم لطرق نضالهم المناسبة والمجدية، وتصورهم عن مستقبلهم، وضمن ذلك تحديدهم للأفق السياسي الراهن لكفاحهم وتضحياتهم.

مثلاً، ما الذي يريده الفلسطينيون على المدى البعيد؟ وما الذي يستطيعونه، في هذا السياق، على المدى القريب؟ ثم من أجل ماذا يعانون ويضحّون ويناضلون ويقاتلون ويقتلون في هذه الظروف والمعطيات؟ هل من أجل البقاء عند حدود اتفاق أوسلو مع سلطة مهمشة ليس لها من السيادة شيئاً سوى إدارة جزئية لأحوال شعبها؟ أو هل يكابدون كل ذلك من أجل إقامة دولة مستقلة في الضفة والقطاع، لجزء من الأرض على جزء من الشعب مع جزء من السيادة؟ وهل هذه الدولة المفترضة تستطيع أن تكون حقاً دولة مستقلة وأن تمثل كل الفلسطينيين، أم مطلوب منها أن تمثّل فلسطينيي الأراضي المحتلة (1967) فقط؟ ثم ما هو نوع الدولة الوطنية التي يطمحون: تسلّطية، أم ديمقراطية، وطنية أم إسلامية؟ أم أنهم يريدون التحرير، وإقامة دولة واحدة من النهر إلى البحر، وفي حال كانت هذه الدولة وطنية أم إسلامية، فهل هذا سينجم عنه طرد اليهود؟ أم أنهم يريدون دولة ديمقراطية واحدة، أو مساراً ينتهي إلى هذا الخيار، سواء كانت دولة ذات طابع ثنائي القومية أو دولة مواطنين متساوين وأحرار؟

تلك هي المعضلة، التي ينبغي أن نحرّض على النقاش بشأنها مهما كانت أوضاعنا، علماً أن الفكر السياسي الفلسطيني، في أواخر الستينات، كان ناقش هذه المسائل، لكن بدلاً من المضي في تعميقها، وإغنائها، جرى تجاهلها، وتاليا النكوص عنها. مع التأكيد أن هكذا نقاش ينبني على اعتقاد مفاده أنه لا يوجد أفق مستقبلي، لاستمرار إسرائيل كدولة يهودية واستعمارية وعنصرية، أولاً، لأن التجربة التاريخية تفيد بأن الممالك الأوروبية، في القرن الحادي عشر، اجتمعت كلها على غزو المشرق العربي لكنها لم تستطع الحفاظ على مملكتها في القدس (رغم قرنين من الحروب الصليبية). وثانياً، لأن التطورات الدولية، وتطور البشرية، والقيم الإنسانية وتداعيات عصر العولمة، تتعارض مع ذلك، أي تتعارض مع دولة تقوم على أساس “غيتو”، كدولة يهودية. وثالثا، لأن ثمة رهاناً على نهوض مجتمعات العالم العربي، بما سيكون له تداعياته على وجود إسرائيل أو على شكل وجودها. وبدهي أن هذا الاعتقاد ينسحب على فكرة التحرير، التي تتضمن “كبّ” اليهود في البحر أو طردهم، لأن هذه تتعارض، أيضاً، مع الواقع الحاصل ومع تطور البشرية وقيمها، لصالح إيجاد حلول استيعابية وديمقراطية، تتأسّس على المواطنة والعدالة والمساواة، في تمثل للحل الذي جرى تجريبه، بين المستعمِر والمستعمَر، في جنوب أفريقيا، بعد تقويض نظام التمييز العنصري.

بناء على ما تقدم، فإن الفلسطينيين معنيون بدراسة واقعهم وظروفهم وإمكانياتهم، وإمعان التفكير في كيفية صوغ رؤية جديدة لمشروعهم الوطني، بحيث يأتي مراعياً لأفق المستقبل، وظروف الحاضر، والقيم الإنسانية، واعتبارات الحقيقة والعدالة، لإعادة بناء حركتهم الوطنية وكياناتهم السياسية على هذا الأساس.

الكيانات السياسية

معلوم أن كل الكيانات السياسية، أي المنظمة والسلطة والفصائل والمنظمات الشعبية، انتهت آجالها الدستورية أو القانونية، وباتت أمام استحقاق الانتخابات، أو استحقاق تجديد الشرعية. ما يفاقم من ذلك انحسار مكانتها الشعبية أو التمثيلية، على خلفية تراجع أدوارها النضالية، في الصراع ضد إسرائيل، لا سيما مع اعتماد الخيار التفاوضي، وغياب الإجماعات الوطنية نتيجة الخلافات السياسية. وبكلام أكثر تحديداً فنحن إزاء استحقاق انتخاب قيادة جديدة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وانتخابات لعضوية المجلس الوطني، الذي لم يعقد اجتماعا له منذ عشرين عاما، ولدينا استحقاق انتخاب رئيس للسلطة، وانتخابات للمجلس التشريعي، ناهيك عن ضرورة إعادة بناء المنظمات الشعبية لتجديد حيويتها وفاعليتها. وباختصار نحن إزاء نظام سياسي، وكيانات سياسية، أضحت تبدو متقادمة، ومستهلكة، وتفتقد القدرة على تقديم أي إضافة جديدة، ويُخشى أنها أصبحت بمثابة سد إزاء أي محاولة لتفعيل هذا النظام وتطويره، للتكيف مع المتغيرات ومواجهة التحديات الناشئة.

طبعاً هذا الاستحقاق يشمل الفصائل التي لا تعقد مؤتمراتها لتجديد شرعيتها أو لمراجعة أوضاعها، وإعادة تقويم مسيرتها، بخاصة الفصيلين الرئيسين المسيطرين على الموارد والمجال العام والقرار، وهما “فتح” و”حماس”، كما يشمل ما يسمى فصائل “اليسار الفلسطيني”. ما يعزّز أهمية هذا الاستحقاق ضعف الحراكات الداخلية في الفصائل، وتدني قدرتها على إنتاج كيانات تمثيلية ومؤسسية وديمقراطية، وافتقادها القدرة على تجديد الأفكار والبني أشكال العمل، واستمراء العيش على الماضي، بدون الاستفادة من تجربة، أو من خبرة، كفاحية عمرها نصف قرن، بما لها وما عليها، علماً أننا إزاء فصائل بمثابة كيانات مغلقة، ولم تعد تتشكل كتيارات ذات بعد شعبي، كما كانت، وأنها تفتقد للحراكات الداخلية وللحياة الديمقراطية.

مثلا، فإن المشكلة في “فتح”، كتيار وطني، أنها كفّت عن كونها حركة وطنية تعددية متنوعة، وأنها بعد أن كانت الحركة الأكثر شبها بشعبها، أضحت بمثابة حزب للسلطة، تحتكر الموارد والتقرير بالخيارات، وأنها نكصت عن مشروعها الوطني نحو حل لجزء من الشعب على جزء من الأرض، دون أن تحاول شقّ أفق آخر، ودون أن تحاول نفض التكلس والكسل في بدنها؛ رغم فشل خيار المفاوضة، وتعثر كيان السلطة. والمشكلة في “حماس”، أنها تشتغل كتيار ديني أكثر مما تشتغل كتيار وطني، وأنها تحولت إلى سلطة في غزة، تهيمن على حياة الفلسطينيين، وبشكل أحادي، وبوسائل القسر، وبدعوى تطبيق الشريعة، وأنها تتصرف في السياسة ليس بناء على موازين القوى والمعطيات العربية والدولية وإنما بروح قدرية، لا تأخذ في اعتبارها معاناة الفلسطينيين في غزة وتضحياتهم. أما المشكلة مع فصائل اليسار فهي أنها أيديولوجية (مع أن هذه الكلمة كبيرة عليها)، وأنها أضحت بمثابة فصائل معزولة، وبيروقراطية، فضلا عن أنها مشتتة، وهي لا تشتغل لتوحيد ذاتها، مع أنه لا يوجد مبرر لبقائها متوزعة على عدة فصائل، غير نظام “الكوتا”، مع ضعف أهلية قيادتها، سيما أنها تفتقد للديمقراطية وللحراكات الداخلية أيضاً.

ثمة ثلاثة استنتاجات هنا، أولها، أن الكيانات الفلسطينية التي انطلقت في الستينات وصلت إلى ما وصلت إليه، من جهة خطاباتها وبناها وأشكال عملها ووسائل كفاحها، هذا تأكد أكثر منذ التحول من حركة تحرر إلى سلطة في الضفة والقطاع، فنحن إزاء جسم آخر مختلف كليا. وثانيها، أن القيادة الفلسطينية متحررة إزاء شعبها، بسبب موازين القوى المختلة لصالح إسرائيل، ولعدم وجود المجتمع في إطار إقليمي موحد، ولأن الطبقة السياسية الفلسطينية لا تعتمد في مكانتها ونفوذها على شعبها. وثالثها، أن مشكلة الفلسطينيين لا تتعلق بالذهاب نحو هذا الخيار أو ذاك، فقط، وإنما بحال الترهل والتآكل الذي تعاني منها بناهم التي تفتقد للروح المؤسسية والنضالية ولعلاقات الديمقراطية والتمثيل، والتي تفتقد لتقاليد المساءلة والمحاسبة. والواقع فإن وجود بني حية، وعلاقات ديمقراطية، وكادرات تمتلك الحد الأدنى من المسؤولية، من شأنه تقليل الخروج عن المسار الوطني، أو تدارك مخاطر ذلك إن حصل، أو أقله المحافظة على البيت.

السلطة

لا يبدو أن ثمة أفقاً قريباً لتطور وضع الكيان الفلسطيني في الضفة والقطاع، لا سيما مع استشراء الاستيطان، وتعزز الهيمنة الإسرائيلية الأمنية والاقتصادية، وحصار قطاع غزة الذي تهيمن عليه حركة “حماس”. هكذا فإن الفلسطينيين لم يوفّقوا في إقامة كيان مستقل لهم لأسباب كثيرة، ضمنها ضعف إدارتهم لأحوالهم ولمواردهم ولخياراتهم في صراعاتهم ضد إسرائيل، والخلافات بين أكبر حركتين سياسيتين عندهم (“فتح” و”حماس”)، إلى حد الاقتتال والانقسام السياسي ثم الجغرافي، وكذلك التخبّط في وضعهم، بين كونهم حركة تحرر وطني أو سلطة مستقلة أو سلطة تحت الاحتلال. بيد أن كل هذه العوامل، على أهميتها، لا تغطّي على الحقيقة الأساسية التي مفادها أن إسرائيل هي التي أعاقت قيام هكذا كيان بحكم امتلاكها القوة والموارد والسيطرة على الأرض والمجتمع والاقتصاد الفلسطينيين، وبحكم واقعها كدولة استعمارية وعنصرية.

ثمة هنا مشكلتان: الأولى، مفادها أن قيام كيان فلسطيني، في الأراضي المحتلة (1967)، لم يحسّن أحوال شعب فلسطين، ولم يقرّبهم حتى من تحقيق هدفهم المتعلق بدحر الاحتلال، إذ بحسب اعترافات قادة السلطة أنفسهم، فقد تضاعف حجم الاستيطان وعدد المراكز الاستيطانية في مرحلة “أوسلو”، وبات الفلسطينيون أقل حركة في بلادهم من ذي قبل، فقطاع غزة يخضع للحصار، وأضحت الضفة، التي كانت وحدة جغرافية متواصلة، مقطّعة الأوصال، بواسطة الحواجز العسكرية والمواقع الاستيطانية والجدار الفاصل والطرق الالتفافية. وفي المحصلة فنحن إزاء مسار تتآكل فيه جغرافيا وديمغرافيا الفلسطينيين، وتستهلك فيه حركتهم الوطنية، أو تفرّغ من مضمونها، بتحويلها إلى مجرد سلطة تخضع للاحتلال أو تتعايش معه. أما المشكلة الثانية فتتعلق بمصير هذا الكيان الفلسطيني العجيب، أو المفصّل بطريقة خاصة، والذي يعتمد في استمراره على الموقف الإسرائيلي، وعلى المساعدات الخارجية، وعلى القرار الدولي والإقليمي، أكثر بكثير من اعتماده على قوّة الفلسطينيين ومواردهم الذاتية. وتبعاً لهاتين المشكلتين بات السؤال الملح، منذ أكثر من عقد، يتعلق بمآل كيان الفلسطينيين، وبشكل أخص بمصير عملية التسوية، أو شكل العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

على ذلك لم يعد مستغرباً أن القضية المطروحة اليوم، في المحافل الدولية والإقليمية والإسرائيلية، مجرد منع انهيار السلطة، وليس إنهاء الاحتلال، أو إقامة الدولة المستقلة، أو إنجاح عملية التسوية، وهذا هو جوهر الخلاف الأميركي-الإسرائيلي.

يمكن الاستنتاج من كل ذلك أن الكيان الفلسطيني الناشئ في الأراضي المحتلة (1967) يعيش على هامش التوافقات الأميركية- الإسرائيلية، ووفق الحدود التي يقدرها هذان الطرفان، طالما أن الفلسطينيين غير قادرين على قلب الطاولة، أو تغيير قواعد اللعبة، أو غير راغبين في ذلك، وطالما أن المعادلات العربية والدولية القائمة مستمرة. والمشكلة أنهم في هذا الوضع ليس لديهم ما يفعلونه لتغيير واقعهم، لا القوة ولا الموارد ولا الإرادة، أما العالم العربي فهو غارق في مشكلاته، في حين أن المجتمع الدولي تعب منهم.

مشكلة الشرعية

لدينا في الساحة الفلسطينية أربعُ شرعيات، الأولى وهي “الشرعية الثورية”، المتأتية من “عصر الجماهير” في حقبة الخمسينات والستينات، ومصدرها الرأي العام الفلسطيني الذي وجد في انطلاقة الكفاح المسلح، وتضحيات وبطولات الفدائيين، محاولة لترميم روحه، وكيانيته المتخيّلة، وتحقيق آماله. والمشكلة أن هذه “الشرعية” ما زالت تعمل، وفق نظام المحاصصة الفصائلية (“الكوتا”)، رغم انتهاء مفاعيلها ومعانيها، ورغم تقادم وأفول معظم الكيانات السياسية المتشكلة منها. أما الثانية، فهي الشرعية التمثيلية، التي مصدرها الشعب، كما تتجسد في صناديق الانتخابات، وهذه تمت بعد إقامة الكيان الفلسطيني، الناشئ وفق اتفاق أوسلو (1993)، لذلك فهي مثل الاتفاق شرعية جزئية ومنقوصة، لأنها شرعية متأتية من جزء من الشعب فقط على جزء من الأرض، وفق حقوق مقيدة. وهذه أيضا انتهت إطاراتها الزمنية من الناحية القانونية، وهذا ينطبق على مكانة الرئيس ومكانة المجلس التشريعي إذ انقضى على انتخابهم عشرة أعوام، ولا يوجد في الأفق ما يوحي بالتوجه نحو تنظيم انتخابات جديدة. أيضا، ثمة شرعية ثالثة، وهي المنبثقة من القيادة الفلسطينية ذاتها، إذ تقوم قيادة منظمة التحرير، ورغم أنها غير منتخبة مباشرة من الشعب، بتشكيل هيئات تضفي عليها شرعية معينة، مستغلة مكانتها، ومستقوية بالشرعية الدولية والعربية التي تحظى بها، وهذا ينطبق على رئاسة السلطة، التي تقوم بذات العملية، في ظل حال الفراغ في الشرعيات، وتغييب الأطر التشريعية الفلسطينية (المجلس الوطني والمجلس التشريعي)؛ ما يعني أن لدينا حالة تبدو فيها القيادة الفلسطينية وكأنها تنتخب ناخبيها، أو تحدد الناخبين الذين يجددون بدورهم شرعيتها! الشرعية الرابعة والأخيرة هي الشرعية الفصائلية، وهذه بدأت تشتغل بعد انحسار مكانة منظمة التحرير كمرجعية لكل الفلسطينيين، وتبعا للانقسام الحاصل في حركة التحرر الوطني الفلسطيني، بين الحركتين الرئيستين (“فتح” و”حماس”)، وانقسام النظام السياسي بين سلطتي الضفة وغزة. فمع أن هاتين الحركتين تتنازعان على مكانة الشرعية والمرجعية والقيادة عند الفلسطينيين إلا أن كل فصيل فلسطيني، مهما كان حجمه، وشكله، ودوره، يتمسك بنظام المحاصصة، وفوقها يدعي، أيضا، أنه يمتلك شرعية، وأنه يتحدث باسم الشعب الفلسطيني، من القيادة العامة وفتح الانتفاضة إلى جبهات التحرير والنضال والعربية وحزبي الشعب وفدا!

فوق كل ذلك لدينا في الساحة الفلسطينية نظامان سياسيان، واحد يتمثل في منظمة التحرير، أو ما تبقى منها، وهذا يفترض فيه أنه يمثل كل الشعب الفلسطيني، وأنه يرمز إلى وحدة قضية الفلسطينيين. والثاني يتمثل في السلطة القائمة في الأراضي المحتلة (1967)، وهي خاصة بفلسطينيي الضفة وغزة. المشكلة في النظام الأول أنه ما زال يعمل رغم تهميش المنظمة، وعدم تجديد هيئتها التشريعية، وهي المجلس الوطني، الذي لم يعقد اجتماعا له، منذ ربع قرن، إلا مرتين، الأولى في 1996، والثانية في 2009 خصصت فقط لملء الفراغ في اللجنة التنفيذية. والأهم من كل ذلك أن المنظمة بدلا من أن تكون مرجعية السلطة باتت السلطة مرجعية لها، سيما أن الأولى باتت تعتمد في مواردها المالية على الثانية، وأن الرئيس يستمد سلطته من مكانته في السلطة أكثر مما يستمدها من مكانته كرئيس للمنظمة. وعموما لنا في مشهد المجلس المركزي الذي قرر وقف التنسيق الأمني (آذار (مارس) 2015) مثالا على ذلك إذ بقي هذا القرار حبرا على ورق، أي كان نصيبه مثل القرار الصادر عن ذات المجلس قبل سبعة أعوام (2009) والقاضي بتنظيم انتخابات تشريعية في الأراضي الفلسطينية.

أما النظام الثاني فهو المتمثل بالسلطة في الضفة والقطاع، والتي انقسمت على ذاتها بين الضفة وغزة، بسبب الخلاف والتصارع بين حركتي “فتح” و”حماس”. والمشكلة أن هذه السلطة تشتغل وفقاً للقيود أو المعايير الإسرائيلية، لا سيما المحددة في اتفاق أوسلو، وضمنها اتفاقية التنسيق الأمني، والاتفاق الاقتصادي، لا سيما أن السيادة ما زالت في يد إسرائيل، على الأرض والمياه والكهرباء والعملة والتبادلات التجارية والمالية والمعابر والأجواء والمياه الإقليميتين؛ وحتى رئيس السلطة يحتاج إلى تنسيق في تحركاته في الداخل، كما من الخارج وإليه.

بيد أن معضلة الشرعية عند الفلسطينيين لا تتوقف على ذلك إذ إن ما يفاقم مشكلتها أنها مرتبطة، أصلا، بأفول المشروع الوطني الفلسطيني، وإخفاق الخيارات السياسية التي أخذتها حركتهم الوطنية على عاتقها، مع تزايد شعورهم بالضياع، والافتقاد إلى مرجعية في كل ما يتعلق بأوضاع مجتمعاتهم، في الأراضي المحتلة (48 و67) وفي بلدان اللجوء في الأردن ولبنان وسوريا والعراق ومصر، وبلدان الشتات.

المشكلة أن الحركة الوطنية الفلسطينية، رغم تجربتها الغنية، لم تستطع الحفاظ على واقعها، في مرحلة صعودها، بوصفها حركة تمثيلية ومؤسسية تعبر عن تطلعات مجمل تجمعات الفلسطينيين، وتمثل مختلف تلاوينهم السياسية.

من كل ذلك يمكن الاستنتاج أن ثمة معضلة في الشرعية الفلسطينية، في معناها ومبناها، والمشكلة أن القيادة الفلسطينية، أو الطبقة السياسية السائدة، منذ حوالي نصف قرن، لا تشتغل على أساس أنها تدرك مخاطر هذه المعضلة، وضمنه المخاطر المتأتية من تآكل الشرعيات الفلسطينية، الثورية والتمثيلية والفصائلية، بانتهاء زمن الكفاح المسلح وأفول الزمن الفصائلي، وتحول حركة التحرر إلى سلطة، ومع عدم تجديد المجلسين الوطني والتشريعي.

ولعل ما يفترض إدراكه، في هذا الإطار، أن هذه المعضلة  تشمل، أيضا، المحددات التي باتت تتشكل منها، أو عبرها، الشرعيات الفلسطينية، فنحن، مثلاً، إزاء واقع من مجتمع فلسطيني ممزّق، ويتوزّع على بلدان عديدة، ويخضع لسلطات وظروف متباينة، ما يضعف من تشكل الحقل العام السياسي والمجتمعي للفلسطينيين، ومن قدرتهم على التأثير في عمل أو في توجهات قيادتهم السياسية؛ هذا أولاً. ثانيا، فإن ما يعزز هامشية المجتمعات الفلسطينية إزاء قيادتها أن الكيانات السياسية تعتمد في مواردها المالية أساسا على المساعدات الخارجية، سابقا من الدول النفطية الخليجية، واليوم من الدول المانحة (الولايات المتحدة وأوروبا والدول الخليجية)، أي أنها لا تعتمد في تمويل أنشطتها على شعبها، بل إن قطاعات واسعة من شعبها تعتمد عليها، لتأمين موارد عيشها، مع وجود حوالي 180 ألف موظف في السلطة، مثلا. وبديهي أن ينجم عن الارتهان المعيشي نوع من الارتهان السياسي، أو أقله عدم مبالاة سياسية، وهو ما يتجلى في وجود قابلية مجتمعية لخيارات القيادة الفلسطينية مهما كان نوعها. ثالثاً، منذ زمن لم تعد الشرعيات الفلسطينية تتحدّد بعلاقات الإقناع، وبالدور الكفاحي، وبالتمثيل أو بصناديق الاقتراع، بقدر ما باتت تخضع لوسائط السيطرة المباشرة عبر الأجهزة الأمنية، والتحكّم بمورد العيش، والنفوذ السياسي، لا سيما في ظل سلطتي “فتح” في الضفة و”حماس” في غزة. بيد أن القطبة المخفية، وربما المقررة، إلى هذه الدرجة أو تلك، في مسألة الشرعيات الفلسطينية، تتمثل صراحة بالمداخلات الإقليمية والدولية، وحتى الإسرائيلية. ولعل اعتمادية الكيانات السياسية، أي المنظمة والسلطة والفصائل، على الموارد المالية من الخارج، ووجود مجتمعات فلسطينية في هذه الدولة أو تلك، يمنح حصة كبيرة لبعض الدول في إسباغ قدر من الشرعية على شخصية ما أو حتى فصيل ما، أو تمرير خيارات سياسية معينة، لا سيما مع ضعف القيادة الفلسطينية وتضعضع مكانتها إزاء شعبها. وفي ذات المعيار فقد بات لإسرائيل، أيضا، من موقع هيمنتها على الفلسطينيين وعلى كيانهم السياسي في الأراضي المحتلة، دورٌ في تحديد شرعياتهم، من خلال التسهيل لبعض الشخصيات، أو عبر تحكمها بانتظام الحياة السياسية الفلسطينية، كتنظيم انتخابات أو ممانعة ذلك، كما من خلال سماحها أو منعها عمل المجلسين الوطني والتشريعي، أو منح حرية الحركة لأعضائه أو اعتقالهم. ولعله يأتي ضمن ذلك، مثلا، حجزها حرية مروان البرغوثي، الذي يعتبر من أهم الشخصيات القيادية في “فتح” وأكثرها شعبية، والذي يمكن أن يشكل إطلاق سراحه فرقا في إطار السعي لتجديد القيادة الفلسطينية وتوليد شرعية جديدة (في نطاق فتح والسلطة والمنظمة).

الشعب/ التفكّك

على الصعيد الشعبي، أيضا، لم يسبق أن واجه الفلسطينيون حالة من التفكك بين مجتمعاتهم في كافة أماكن تواجدهم في الداخل والخارج، وحتى بين الضفة وغزة، ناهيك عن تآكل مجتمعات الفلسطينيين في العراق وسوريا ولبنان، بحكم الحروب الأهلية والتشرد والظروف الصعبة، وأيضا بحكم الخلافات الفلسطينية، وانقسام النظام السياسي، وتهميش منظمة التحرير لصالح السلطة، وتراجع أهداف الإجماع الوطني.

فوق كل ذلك فإن الفلسطينيين، في أماكن وجودهم كافة، يكادون يشعرون وكأنهم لم يعودوا شعباً واحداً، إلا في الشعر والشعارات والبيانات السياسية، إذ باتوا يفتقدون لإجماعاتهم السياسية والكيانية، بعد أن خسروا المنظمة ولم يربحوا السلطة، التي باتت رهينة السياسة الإسرائيلية، وبنتيجة الانقسام والتنازع بين «فتح» و«حماس»، وبين سلطتي الضفّة وغزّة، وبعد إزاحة قضية اللاجئين من الأجندة السياسية، وتهميش المنظمة، وهي كلها أوضاع تفتح على مسارات تباين المصالح والأولويات بين فلسطيني 48، وفلسطيني الضفّة، وفلسطيني غزّة، والفلسطينيين اللاجئين المواطنين في الأردن، والفلسطينيين اللاجئين في سورية ولبنان، وباقي الدول، وفلسطينيي الشتات.

معلوم أن الحركة الوطنية الفلسطينية تأسست على واقع أن الفلسطينيين شعب، بل إنها اضطلعت بدور كبير في صياغة هويتهم الوطنية، وروايتهم الجمعية، في السياق ذاته لاستنهاضها “مجتمعاتهم”، في الداخل وفي بلدان اللجوء والشتات. كما تكمن أهمية هذه الحركة، أيضاً، في تأسيسها كيانيتهم السياسية، أي منظمة التحرير، التي أضحت بمثابة الكيان السياسي المعنوي، والرمزي، المعبر عن وحدتهم وعن قضيتهم.

بيد أنه من المهم ملاحظة أن هذا التشكيل، أو هذا السياق، الهوياتي والكياني والوطني، لم يكن كاملا، بسبب ضعف قدرة الحركة الفلسطينية على ابتداع معادلات سياسية تمكّنها من استيعاب، وتمثل فلسطينيي 48، في إطاراتها، بشكل مباشر أو غير مباشر، بدعوى ظروفهم الخاصة، وتحسباً لأي ردة فعل إسرائيلية. طبعاً، قد يكون هذا الحديث فات أوانه، بعد كل ما مر من تطورات، لا سيما أن فلسطينيي 48 اختطوا مسارا خاصاً، ومختلفاً، من نواح كثيرة، لكن ذلك لا يغطي على حقيقة أن الحركة الوطنية الفلسطينية لم تفكر في هذا الأمر، ولم تدرسه، وأنه كان بإمكانها إيجاد طرق وأطر مختلفة لتجاوز تعقيدات أو محاذير هذه المسألة، في مراحل لاحقة، وحتى بعد انتهاء زمن الكفاح المسلح في الخارج، والتحول من حركة تحرر إلى سلطة.

المغزى أن التهاون، أو اللامبالاة، إزاء هذه القضية، التي تخص وحدة الفلسطينيين كشعب، ووحدة كفاحهم ومصيرهم، أدت فيما بعد إلى شمول ذلك مجتمعاتهم الأخرى، من دون إدراك ضررها على مفهوم وحدة الشعب، ومفهوم حق تقرير المصير، ووحدة القضية.

هكذا تكرر الأمر ذاته مع مجتمع الفلسطينيين في الأردن، إذ باتوا خارج إطار المعادلات الفلسطينية، بعد أحداث أيلول 1970، التي نجم عنها إخراج منظمة التحرير وفصائلها من هذا البلد. فبعد هذا التاريخ انتهت كل تعبيرات الوطنية الفلسطينية في الأردن، والقصد أن هذا لم يقتصر على الفصائل، إذ اشتمل، أيضا، على انتهاء المنظمات والاتحادات الشعبية الفلسطينية (الطلاب والعمال والمرأة والكتاب والمعلمين الخ)، كما المؤسسات ذات الطابع الإعلامي أو الخدمي. اللافت أن هذا الوضع استمر، حتى الآن، رغم عودة الأحوال إلى طبيعتها بين الأردن والمنظمة، لكن القيادة على ما يبدو سلمت للأمر الواقع ولم تحاول تغييره. وربما كان بإمكان القيادة الفلسطينية طرح هذه القضية، مع السلطات الأردنية، للوصول إلى صيغ معينة ترضي الطرفين، بما لا يخل بمكانة المواطنة للفلسطينيين في الأردن، وباعتبار أن الحفاظ على الوطنية الفلسطينية يشكل مصلحة مشتركة للطرفين؛ بخاصة أن الأمر لم يعد يتعلق بممارسة العمل المسلح، ولا بممارسة العمل السياسي الذي يمس النظام القائم.

لم يتوقف الأمر عند الأردن، إذ أن خروج منظمة التحرير، بقياداتها وفصائلها ومؤسساتها من لبنان، إثر الاجتياح الإسرائيلي (1982)، أدى إلى تداعيات خطيرة على مجتمع الفلسطينيين في هذا البلد، فهم الذين دفعوا ثمن صعود المقاومة المسلحة بما لها وما عليها، في لبنان، ثم ثمن خروجها منه، وهو ما تمثل بمجازر صبرا وشاتيلا، وحروب المخيمات، والتمييز ضدهم. لكن الأمر لم يقتصر على ذلك إذ أن تركة منظمة التحرير، وفصائلها، كانت بالغة الهشاشة، فقد تبين أنها، في مبالغتها ببناها الميلشياوية، لم تبن مؤسسات اجتماعية وتعليمية واقتصادية وخدمية للفلسطينيين، تمكنهم من الصمود. والحقيقة فإن وجود المقاومة بطابعها المسلح أسهم في إضعاف مجتمع الفلسطينيين في لبنان، لأنه استنزفهم، وقوض مكانة الطبقة الوسطى بينهم، ولأنها أخذت شبابهم في اتجاهين، إما الانخراط في المنظومات الميلشياوية، أو الهجرة إلى الدول الاسكندنافية. والمؤسف أن المنظمة في ظروفها الصعبة، وامكانياتها الضعيفة، لم تستطع أن تفعل شيئا لهم، بعد خروجها، ولا بعد تحولها إلى سلطة، بل إنها ظلت تحافظ على بعض بنى ميليشاوية لها في لبنان، لزوم الاستثمار السياسي الإقليمي، ولزوم المنازعات والمنافسات الفصائلية؛ وفي كل الأحوال فإن مساهمة مجتمع الفلسطينيين في لبنان، في العمل الوطني الفلسطيني، باتت هامشية، ما ينطبق على كل مجتمعات الفلسطينيين في الخارج.

بعد الأردن ولبنان جاء دور المجتمع الفلسطيني في الكويت، إثر غزو هذا البلد من قبل نظام صدام، الأمر الذي دفع ثمنه الفلسطينيون باهظا، بإخراجهم منه (حوالي 300 ألف) ليس فقط بسبب موقف قيادتهم الملتبس آنذاك، وإنما أيضاً بسبب الظروف العربية والدولية، وضمنها ظرف استهداف منظمة التحرير في تلك الفترة، في مطلع التسعينات، تحضيرا لعملية التسوية. ومع أن مجتمع الفلسطينيين في الكويت، جاء أصلا من بلدان أخرى، أي من الأردن (الضفتين) ولبنان وسوريا، باعتبار الكويت ليست من الدول المستقبلة للاجئين بحكم بعدها الجغرافي، إلا أنها كان تحتوي على أكبر ثاني مجتمع فلسطيني، بعد الأردن، مع حوالي 350 ألفاً، معظمهم من ذوي الكفاءات، الذين أسهموا في نهضة الكويت، وأدى وجودهم فيها إلى تأمين مصدر دخل لعشرات ألوف العائلات الفلسطينية في الأرض المحتلة (1967) وفي بلدان اللجوء، الأمر الذي أسهم في صمود الفلسطينيين في الانتفاضة الأولى (1987-1993). ومعلوم أن الكويت كانت واحدة من أهم البلدان التي كان قد تواجد فيها من عرفوا فيما بعد بقادة منظمة التحرير، وضمنهم الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وخالد الحسن وأبو الأديب مثلا.

أيضا، وبعد الغزو الأميركي (2003) للعراق، ومع الطبقة الحاكمة التي أتت على ظهر دبابة أميركية، محمولة بنزعة طائفية-مذهبية، تعرض مجتمع الفلسطينيين إلى نوع من الاضطهاد والتنكيل، ما اضطرهم إلى ترك البلد، والتشرد مجددا. وعليه فقد بات فلسطينيو العراق يعيشون في مخيمات مزرية على الحدود العراقية ـ الأردنية أو العراقية السورية، إلى أن وجدت لهم منافي جديدة. والمشكلة هنا أن منظمة التحرير لم تستطع شيئا لهم، ولم تحمل قضيتهم على نحو مناسب، سواء أمام السلطات الأردنية أو السورية، لإدخالهم. والأمر الذي يبعث على الإدهاش والمرارة أن لا أحد من الفصائل، التي تتمتع بعلاقات تحالف مع إيران، حمل هذه القضية، ووضعها في سلم أولوياته، للضغط على الإيرانيين لوضع حد لهذه المأساة المشينة، باعتبار أن لا شيء يجري في العراق منذ ذلك التاريخ بدون رعاية أو توجيه من النظام في إيران، لا سيما أنه يجري بواسطة ميلشيات محسوبة عليها.

ومؤخرا، وتحديدا منذ نكبة مخيم اليرموك (أواخر 2012)، وتدمير مخيمات درعا وسبينة وحندرات، ها نحن نشهد على مأساة فلسطينية جديدة، هي جزء من مأساة الشعب السوري، مع تفكك واحد من أهم مجتمعات الفلسطينيين اللاجئين، وتحول عشرات ألوف الفلسطينيين إلى الدول الأوروبية. طبعا مفهوم أن المنظمة لا تستطيع أن تعمل شيئا في ظروف الحرب والكارثة السوريتين، لدرء الخطر عن مخيمات الفلسطينيين، لكن ذلك لا يبرر لها تساهلها وعدم ضغطها على السلطات السورية لوقف استهداف المخيمات، ووقف قصفها، وضمنه حصارها حوالي عشرين ألفا من أهالي مخيم اليرموك، منذ قرابة ثلاثة أعوام. كما كان بإمكانها إيلاء اهتمام أكبر لأوضاع الفلسطينيين المشردين، في الدول الأخرى (الأردن ومصر وتركيا)، وعدم التنكر للضحايا السوريين الذين ذهبوا ضحية النظام، أو ضحية الصراع الضاري على هذا البلد.

المهم أنه مع كارثة مجتمع الفلسطينيين السوريين، تكون الدائرة المتعلقة بتفكيك مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين قد اكتملت، ما يفقد الحركة الوطنية الفلسطينية أحد أهم مبررات وجودها، وأحد أهم مصادر قوتها، ناهيك أن الأرضية التي ينطلق منها حق العودة باتت أضعف من ذي قبل؛ علما أن القيادة الناجحة تتحدد بقدرتها على الحفاظ على مواردها البشرية، لا تبديدها، كما تتحدد بحسن إدارتها واستثمارها بأفضل ما يمكن.

المشكلة أن القيادة الفلسطينية، وفي غضون تركيزها على المفاوضات، وعلى تعزيز مكانتها في القيادة والسلطة، لا تولي الأهمية المناسبة لتدارك تبعات هذا المسار الخطير، كأنها لا تدرك أن تفكك مفهوم الشعب الفلسطيني، يؤدي حكما إلى تفكك وحدة القضية الفلسطينية. والحقيقة فإن القيادة الفلسطينية تتحمل بعض المسؤولية عن الوصول إلى هذه الحال، أولا، بعدم اهتمامها بمجتمعات اللاجئين، التي تركت لمصيرها، واحدا تلو الآخر (وهو ما يشمل واقع غزة حاليا). وثانيا، بحكم ضعف اهتمامها بالمنظومات التي تعزز وحدة شعب فلسطين، وهو ما كانت تشكله اتحادات الطلاب والعمال والمرأة والكتاب والمعلمين وغيرها، والتي باتت مهمشة، ومقتصرة في الأغلب على الداخل. وثالثا، بتحولها إلى سلطة في جزء من أرض لجزء من شعب، وتهميشها منظمة التحرير، ما همش مكانة اللاجئين ومجتمعاتهم في جدول أعمالها.

الخيارات

أما على صعيد الخيارات السياسية التي جرى اتباعها، من التحرير إلى الدولة المستقلة بحسب البرنامج المرحلي إلى المفاوضات وفق اتفاق أوسلو، ومعها الخيارات الكفاحية من الكفاح المسلح في الخارج إلى الانتفاضة الشعبية وصولاً إلى الانتفاضة المسلحة، فهي لم تنجح، إذ استطاعت إسرائيل إجهاضها أو تجاوزها، برسمها استراتيجيات بديلة تمتصها أو تفرّغها من مضامينها، أو بتدفيع الفلسطينيين أكلافا باهظة لها، كما أن القيادة الفلسطينية لم تسع أو لم تحاول إيجاد خيارات جديدة أو موازية، بل إنها ظلت على مراهنتها على خيار المفاوضات الأحادي، منذ أكثر من عقدين، رغم كل إعلاناتها بخصوص وقف التنسيق الأمني والتوجه نحو المقاومة الشعبية. طبعا هذه صورة لا تدعو إلى التفاؤل، لكنها تحرض على نبذ الأوهام، وضمنها وهم الدولة المستقلة في هذه الظروف، والبحث عن صيغ أخرى موازية أو مغايرة، مع إدراك أننا في واقع دولة ثنائية القومية لكنها دولة استعمارية وعنصرية.

بمعنى أكثر تحديدا وتفصيلا فإن مشكلة الفلسطينيين اليوم، سواء في التسوية أو في المقاومة، لا تكمن فقط في موازين القوى المختلّة لغير مصلحتهم، ولا في المعطيات العربية والدولية غير المؤاتية لهم، فحسب، فهذان العنصران ظلا طوال العقود الماضية يعملان لغير مصلحتهم، وإنما هي تكمن أساسا في أنهم كانوا، في ما مضى، يمتلكون طاقة كفاحية مستمدّة من وجود مشروع وطني يغذّي آمالهم ومخيّلتهم، ومن كيانية سياسية جامعة متمثّلة بمنظمة التحرير توحّدهم وتعبّر عن طموحاتهم وتشكّل هويتهم، ومن قيادة شعبية، مسكونة بالرموز، من وزن ياسر عرفات، تلهب عزيمتهم، وتجدّد حيويّتهم بانفتاحها على مختلف الخيارات.

على ذلك فإن مشكلة الفلسطينيين، بعد أكثر من عقدين من عمر اتفاق “أوسلو”، المجحف والجزئي والناقص، تكمن في أنهم باتوا يفتقدون أيضا، إلى رؤية سياسية، أو مشروع سياسي، ملهم ومجمع عليه، وإلى قيادة متوافق عليها، كما لم يعد لديهم لا مقاومة مسلحة ولا مقاومة سلمية أو شعبية ولا انتفاضة، بعد أن ارتهنوا حصراً لمشروع المفاوضات، وبعد أن قتلت المشاريع الملهمة، سواء المتعلّقة بالتحرير أو بحلّ الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، أو المتعلّقة بحلّ الدولة الديموقراطية الواحدة بمختلف أشكالها (دولة المواطنين أو ثنائية «القومية»).

ما يزيد الوضع إيلاماً أن التدهور لهذه الدرجة يكاد يخرج إسرائيل من الموضوع، فالحركتان الرئيسيتان المتحكّمتان بالسلطة وبالشعب وبالموارد منشغلتان بالتنازع والتنافس فيما بينهما على حساب انشغالهما بمصارعة إسرائيل، على رغم تقاربهما من الناحية السياسية باعتمادهما خيار الدولة المستقلة، وبانتهاجهما التهدئة والمقاومة الشعبية والتحول إلى سلطة! فقد باتت مشكلة «حماس» منحصرة، في الأغلب، في تأمين موازنات أجهزتها وحكومتها في غزة وفي رفع الحصار عن القطاع، الذي جرى اختزاله إلى فتح معبر رفح مع مصر، وتأمين الكهرباء، والمحروقات، وكذا الحدّ من نفوذ غريمتها «فتح»، وفرض التهدئة على كل الفصائل، والتحكّم بحياة الفلسطينيين الذين يعانون الأمرّين نتيجة الحصار. أما مشكلة «فتح» فانحصرت، غالبا، في استقرار سلطتها وضمان الموارد المالية لتسيير عجلتها في الضفّة، وتعويم دور المنظمة من ناحية شكلية، بعد طول تغييب لها، والتركيز على التحركات السياسية الدولية لوقف الاستيطان واستمرار العملية التفاوضية والإفراج عن الأسرى، وتقديم الشكاوى بحق إسرائيل لانتهاكاتها حقوق الفلسطينيين وتعزيز المكانة الدبلوماسية لـ”دولة فلسطين” أو نيل مزيد من الاعترافات الدولية بها.

هذه الأوضاع حوّلت القضية الفلسطينية من قضية تحرّر وطني لشعب يكافح ضد الاستعمار والعنصرية والهيمنة إلى قضية إغاثة إنسانية، وعلاقات ديبلوماسية، ودعم مالي، وتحسين أوضاع معيشية في المحافل الدولية والإقليمية، وإلى قضية إقامة سلطة أو دولة لجزء من الشعب على جزء من الأرض.

هكذا غابت إسرائيل باعتبارها دولة احتلال عنصرية وعدوانية قامت على حساب الفلسطينيين، وتتحدّى الوضع العربي، وباتت تظهر باعتبارها مسؤولة، فقط، عن تعثر المفاوضات ومعارضة القرارات الدولية ومحاصرة غزة وعن الحفريات في القدس وعدم تحويل الأموال إلى السلطة.

وفي الواقع فإن هذا الوضع شكل نوعاً من استجابة فلسطينية، ولو غير مقصودة للاستراتيجيات الإسرائيلية التي تتأسس على تقليل الاحتكاك بالفلسطينيين، والتخفف من المسؤولية عنهم لتغطية وضعها كسلطة احتلال، ولعل ذلك هو الهدف الأساس من إقامة السلطة، ومن انسحاب إسرائيل من قطاع عزة، وخروجها من المدن الفلسطينية المكتظة، وشقها الطرق الالتفافية والجسور، باعتبار أن كل ذلك يمكن أن يحررها، بحسب رأيها، من التبعات السياسية والأمنية والأخلاقية لوجودها كسلطة احتلال، وهذا لم تدركه القيادات الفلسطينية جيدا، أو لم تعطه الأهمية اللازمة، لدى إقامة السلطة، ولدى الاستغراق في عملية المفاوضات، وسط الحماس لإقامة دولة فلسطينية.

أما على المستوى الراهن، فليس لدى الفلسطينيين سوى خيارين، أولهما، استمرار الوضع السائد، مع مجرد سلطة محدودة تتعايش مع إسرائيل، وتشتغل على أساس التنسيق الأمني والتبعية الاقتصادية والمصالح السياسية معها. وثانيهما، الانقلاب على واقعهم الراهن وتحرير الكيان الفلسطيني من اتفاقات أو قيود أوسلو، بعد أن نقضتها إسرائيل أساسا، واعتباره مجرد كيان تابع للمنظمة، وتتحدد مهمته في إدارة أحوال الفلسطينيين في الداخل، لكن على أساس تنمية المؤسسات والموارد الذاتية في سياق التصارع المدروس، وليس التعايش، مع الاحتلال، وفقا للطرق والوسائل المناسبة والمجدية.

واضح أن الخيار الأول سيؤدي إلى تآكل الكيانات السياسية الفلسطينية، وأفولها، بعد أن انتهى دورها، وبعد أن تخلت هي عن معنى وجودها، كما سيؤدي ذلك إلى انهيار المشروع الوطني الفلسطيني، في حين أن المشروع الثاني ربما يكون بمثابة الجسر اللازم لحمل حالة وطنية فلسطينية جديدة، تبشّر بها الأجيال الجديدة من الشباب الفلسطينيين في الداخل والخارج، التي تتطلع إلى العيش في عالم أكثر حرية وعدالة وكرامة، مع أشكال وتصورات جديدة في النضال والتعبير.

وبالتأكيد فإن وجهة النظر هذه تنطلق من فرضية مفادها استحالة، أو أقله عدم جدوى، تصوّر عمل فلسطيني فوق العادة، أو أزيد من قدرة الفلسطينيين، التي هي محدودة أصلا، في ظل هذه المعطيات الدولية والإقليمية غير المواتية، لا سيما في ظروف انفجار المشرق العربي، وتصدع مجتمعاته، لا سيما في العراق وسوريا. والقصد هنا أن الحديث الجاري عن انتفاضة جديدة، أو عن حرب تحرير من غزة، تفتقد للمنطق، وللإمكانيات الواقعية، كما أنها ستكون عملاً يستحيل استثماره، بالقياس لتجارب الانتفاضة الثانية أو لحروب غزة الثلاث، مع التأكيد أن هذه القناعة هي مجرد رأي، بمعنى أنها لا تملك قوة الفرض، ولا تستطيع كبح أية قوة ترى في إمكانها إطلاق انتفاضة أو حرب تحرير، علما أن هذا الرأي لا يشمل العمليات الفردية المتفرقة والعفوية.

الآن، وفي سياق الحديث عن الاستراتيجيات أو الخيارات السياسية والكفاحية الفلسطينية يمكننا ملاحظة أربع مشكلات عند الفلسطينيين، ممثلين بكياناتهم ونخبهم السياسية. الأولى، تكمن بتشبّثهم بخيار معين، والتقليل من قيمة أي خيار آخر. هكذا فأصحاب خيار الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، يرون أنه الخيار الأكثر صوابية رغم مرور أربعة عقود على تبنيه، ورغم مرور أكثر من عقدين على تبني ما هو أقل منه. وبالمثل فإن أصحاب خيار التحرير لا يرون أية صوابية في اعتماد خيار الدولة المستقلة، ناهيك عن اعتبارهم إياه بمثابة تنازل؛ كأن لدى الفلسطينيين شيئا ماديا أو عمليا ليتنازلوا عنه، أي أننا هنا إزاء صراع مجاني وعبثي. أيضا أصحاب هذين الخيارين ينظران بسلبية إلى خيار الدولة الواحدة الديمقراطية، سواء كانت على شكل دولة ثنائية القومية أو دولة مواطنين، وبالعكس. وهذا طبعا ينطبق على الاستراتيجية الكفاحية المطلوبة لتحقيق هذه الخيارات، سواء كانت المفاوضة أو المقاومة المسلحة أو الصاروخية أو المقاطعة الاقتصادية. أي بالمحصلة فإن أصحاب كل خيار سياسي أو كفاحي مشغولون بمناوأة أصحاب الخيار الآخر، ويتعاملون معه بعدمية مطلقة.

المشكلة الثانية، أن الطبقة السياسية الفلسطينية، ورغم تجربة نصف قرن، لم تدرك بعد الحاجة إلى التوازي، أو المواءمة، بين خيار وآخر، وهو ما يفسر حال التشنج بين مختلف القوى والتيارات الفلسطينية، فكل واحد يعتقد أنه يمتلك الحقيقة، وكل طرف يعتقد أنه يسير على الطريق القويم، رغم أن التجربة لم تثبت ذلك إزاء أي خيار.

والمشكلة الثالثة، تكمن في أن الحالة الوطنية الفلسطينية بمجملها، وضمن ذلك الجمهور، ما زال في إدراكاته السياسية لا يوازن بين الخيارات المعتمدة وبين الإمكانيات، أو المعطيات المحيطة، التي تتيح تحقيق بعض الإنجازات، بهذا القدر أو ذاك. والأهم أنه ما زال يغيب عن باله عامل أساسي يتمثل بضرورة وجود كيانات سياسية حية وفاعلة، وتمتلك قوة تمثيلية في المجتمع، وهو ما باتت تفتقد له الساحة الفلسطينية.

والمشكلة الرابعة، أن الفلسطينيين ما زالوا متمترسين عند قواعد ورؤى صراعية قديمة لم تثبت نجاعتها، رغم مرور نصف قرن من الكفاح الفلسطيني مع كل ما فيه من بطولات وتضحيات ومعاناة. والمسألة الأساسية هنا، والتي يمكن أن تشكل تحديا لإسرائيل، كفكرة، وكظاهرة مجتمعية، وكحالة قوة، إنما تكمن في التحول من الصراع ضدها على جزء من الأرض، الذي اختزل بأرض الضفة، وإلى انسحاب هنا أو هناك، إلى الصراع على مئة بالمئة من الحقوق، ما يعني بداهة الصراع على مئة بالمئة من الأرض، طالما أنها ترفض قيام دولة فلسطينية مستقلة. والمغزى أن الصراع على الحقوق هو الذي يضع إسرائيل أمام التحدي، إزاء ذاتها، وإزاء العالم، بمواجهتها على طبيعتها كدولة احتلالية واستيطانية وعنصرية ودينية، أي باللغة التي يفهمها العالم، وهي لغة أقل كلفة، وتسمح للفلسطينيين بتنمية أحوالهم، وبناء مجتمعهم، فوق أرضهم.

والخلاصة لا يمكن الخروج من هذه الأزمة إلا بمعالجات جذرية وشاملة، تتعلق بالبني والشعارات والخيارات وأشكال الكفاح، وهو أمر صعب ومعقّد، لا سيما في هذه الظروف، مع خراب المشرق العربي، وارتهان الكيانات الفلسطينية للإرادات الخارجية، وتشتت أوضاع الفلسطينيين والمصاعب التي تواجهها مجتمعاتهم، مع ذلك فكلما كان ذلك أقرب، ولو بالتدريج، كلما كان أجدى وأفضل. ومعنى ذلك أن الكيانات والقيادات السياسية، وبعد كل هذا التدهور في وضع قضية الفلسطينيين وفي مستوى كفاحهم، معنية بمراجعة مسيرتها، بطريقة نقدية ومسؤولة، وإدراك حقيقة أنها إزاء مرحلة انتقالية تتطلب منها حسم أمورها على الأصعدة كافة، أي على صعيد النظام السياسي، والرؤية السياسية، وأحوال الفلسطينيين المجتمعية.

[*] كاتب وباحث فلسطيني، يقيم في تركيا.