إبراهيم أبراش[*]

 أصاب المعلقون السياسيون الذين وصفوا نتائج استفتاء البريطانيين يوم الرابع والعشرين من حزيران (يونيو) المنصرم والتي جاءت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي بأنه زلزال، وهو كذلك ليس فقط من حيث تأثيره على المملكة المتحدة وشعوبها وعلى الاتحاد الأوروبي ومستقبله، بل أيضا من حيث تأثيره الجيوستراتيجي على ما كان يعتبر مسلمات في سياق تطور المجتمعات والنظام الدولي، مثل توجه الدول نحو التكتلات الإقليمية والدولية الكبرى، ونحو مزيد من الاندماج، والعولمة بما هي كسر للحواجز والحدود، وتجاوز النزعات الدولانية التي تتمسك بمفهوم الدولة ذات السيادة المطلقة، أيضا من حيث الزعم بأن الشعوبية وكل أشكال التطرف أمور تخص المجتمعات العربية والإسلامية فقط، الخ.

 تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي يمكن قراءته من عدة جوانب، والرسالة المهمة والإيجابية الأولى في الموضوع أن الشعوب في الغرب تملك قرارها وهي التي تحدد مصيرها وهويتها وعلى الساسة الخضوع لإرادة الشعب، فعندما اختار الشعب البريطاني سياسة تتعارض مع سياسة رئيس الحكومة ديفيد كاميرون قرر هذا الأخير التنحي عن السلطة، دون أن نسمع منه أو من حزبه أي تشكيك بالانتخابات أو الحديث عن تآمر خارجي الخ. مهما كانت نتائج هذا التصويت فالشعب هو الذي سيتحمل مسؤولية خياراته، هذا درس علينا كعرب الاستفادة منه.

ومن جهة أخرى فإن هذا التصويت له أبعاد تتجاوز مجرد الخروج من الاتحاد الاوروبي، فما جرى سيشجع بعض الشعوب التابعة لـ”المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وشمال أيرلندا”، أو كما تختصر بريطانيا، للانفصال عن المملكة، وخصوصا اسكتلندا، وقد يدفع بعض مكونات الاتحاد الأوروبي ليعيدوا النظر في بقائهم في الاتحاد الاوروبي، وقد ارتفعت الأصوات بالفعل في فرنسا وهولندا تطالب بإعادة النظر في عضوية بلادهم في الاتحاد الأوروبي، أو يتم إعادة النظر في طبيعة العلاقات التي تجمع دول الاتحاد لتصبح هذه العلاقات أكثر مرونة، بالإضافة إلى تأثيره على الاقتصاد البريطاني والاقتصاد العالمي.

على مستوى أبعد، فما جرى ينسجم مع ظاهرة تتفاقم في العالم وهي انتشار الشعوبية بكل اتجاهاتها العنصرية والقومية الشوفينية، والعودة للانغلاق والتمركز على الذات، وتعميم ظاهرة الأصولية لتشمل كل الديانات والأيديولوجيات والثقافات.

بالتأكيد هناك أسباب متعددة وراء توجه البريطانيين نحو الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، مثل الموقع الجغرافي لبريطانيا وتجربتها التاريخية، وزيادة الهجرة وخصوصا من دول أوروبا الشرقية إلى بريطانيا، والوضع الاقتصادي، وتدافع الأجيال أو الصراع ما بين الجيل القديم الذي يحن للماضي والجيل الجديد المتطلع للانفتاح، ولكن أهمها قوة اليمين المحافظ في بريطانيا.

هذا اليمين كان وراء دعم فكرة خروج بريطانيا من الاتحاد، وهو شكل من الأصولية والشعوبية التي لها نظير في كثير من دول أوروبا، كحزب “الجبهة الوطنية” في فرنسا الذي تتزعمه جان ماري لوبان، وحزب “الحرية” في النمسا، وفي الدنمارك “حزب الشعب الدنماركي” بزعامة بيا كيارسغارد، وفي السويد حزب “الديمقراطيين”، وحزب “البديل” في ألمانيا، وحزب “التقدم” في النرويج الخ، وفي الولايات المتحدة الأمريكية فإن اليمين المحافظ واليمينيين الجدد صعدوا إلى مواقع قيادية في الإدارة الأمريكية منذ الثمانينات، ونموذجهم الأكثر تطرفا اليوم المرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترامب، وفي إسرائيل حيث التوجه نحو اليمين غير مسبوق، ولا نتجاهل ما يجري في عالمنا العربي والإسلامي من أصولية دينية متطرفة ومتخلفة.

الموضوع يطرح قضية إشكالية أو مفارقة على مستوى التغيرات الكونية منذ انتشار الحديث عن ظاهرة العولمة نهاية ثمانينات القرن العشرين. المفارقة أنه خلال العقود الثلاثة الأخيرة والتي يمكن وسمها بعصر العولمة، بما تعنيه العولمة من إزالة الحدود والحواجز وحرية تنقل البضائع والأفراد، وتحويل العالم لقرية صغيرة تتجاوز العصبيات الهوياتية والإثنية والدينية أو ما يسمى بالعولمة الثقافية، خلال هذه العقود أنتجت العولمة نقيضها وهو الطائفية والعنصرية والإثنية والأصولية بكل أشكالها، وبدل توحيد العالم وتقارب الثقافات انفجر العالم في حروب وصراعات وخصوصا مع انهيار دول المعسكر الاشتراكي، وبعدها صعود اليمين المتطرف في أكثر من بلد في العالم، وقد سبق للمفكر الأمريكي صمويل هانتنجتون في كتابه صدام الحضارات 1996 (The Clash of Civilizations) أن نعى، بطريقة غير مباشرة، العولمة وخصوصا الثقافية.

ما جرى مع بريطانيا وما سيترتب عليه من تداعيات، عنوانها العودة للانغلاق على الذات واستحضار الدولة القومية المعتزة بسيادتها وهويتها، وما يجري من صعود للشعوبية والأصوليات في العالم كله، وهي تتعارض مع منطق العولمة وفلسفتها وخصوصا الثقافية، كل ذلك يستدعي إعادة النظر في صحة ودقة الحديث عن زمن العولمة وخصوصا في شقها الثقافي، أو على الأقل إعادة النظر في غالبية التعريفات التي أعطيت للعولمة والتي حاولت أن تضفي عليها طابعا أخلاقيا وإنسانويا، والتعامل مع العولمة، إن كان ما زال هناك مجال للحديث عنها، كأيديولوجيا يوظفها الأقوياء لصالحهم، وهذا ما يمنح مصداقية للكُتاب الذين ناصبوا العولمة العداء منذ ظهورها وحذروا من تداعياتها على دول العالم الثالث.

قد يكون صحيحا أن العولمة الاقتصادية قطعت أشواطا مهمة فيما يتعلق بالتجارة والاستثمارات أو حركة رؤوس الأموال، إلا أنها متعثرة دون ذلك. فمثلا تعتبر ثورة المعلوماتية خصوصا الإنترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي من أهم مظاهر العولمة، وكان الهدف من هذه الوسائل زيادة التواصل بين الأفراد داخل المجتمع، والتواصل ما بين الشعوب وبعضها البعض، إلا أن هذه التقنية تم استعمالها لإثارة الفتن والنزعات الشعوبية وباتت هذه الأخيرة وخصوصا الحركات الأصولية توظفها لنشر أفكارها وتنفيذ عملياتها العنيفة، حتى إن كثيرا من دول العالم باتت تخضع هذه التقنيات للمراقبة الشديدة وأحيانا تتدخل لوقف نشاطها، ولا نلمس أن هذه التقنيات زادت من تقارب الشعوب بعضها ببعض.

بطبيعة الحال هناك فرق في كيفية توظيف تقنيات ثورة المعلوماتية والاستفادة منها ما بين دول العالم المتقدم ودول العالم الثالث، أيضا هناك فرق بين ما يجري في الغرب بشكل عام وخصوصا صعود الأصوليات أو اليمين المتطرف أو المحافظين الجدد، وما يجري في العالم العربي والإسلامي مع ظاهرة الأصولية الإسلامية. صعود اليمين المتطرف وظاهرة الأصولية في الغرب غالبا ما تعزز الدولة القومية وتحافظ على الهوية القومية وتحقق أهدافها غالبا بوسائل ديمقراطية وحضارية، بينما أصولياتنا فإنها مفَتِتة ومُذَرِرة لوحدة الشعب والهوية، ومُدمرة للدولة الوطنية، وتستعمل العنف لفرض تصوراتها، كما تثار شكوك حول علاقاتها مع قوى أجنبية.

وأخيرا فإن ما يجري في بريطانيا ما زال في بداياته، ومهما كانت التداعيات فإن ثقافة الديمقراطية والحوار التي تسود في الغرب كفيلة بحل كل الإشكالات بطريقة سلمية. أما بالنسبة لتداعيات ما يجري على دول الشرق الأوسط، فهي متعددة منها ما هو اقتصادي وما هو ثقافي وما هو سياسي، وسيختلف التأثير من دولة لأخرى، فتأثيره بالنسبة لتركيا مختلف عن دول الخليج مثلا. كما أن تصاعد النزعة العنصرية والقومية المتطرفة يؤكد كونية التطرف والأصولية، مع اختلاف أدوات العمل والأهداف كما سبقت الإشارة، والمهم ألا ترتد أحداث أوروبا سلبا على منطقتنا العربية وخصوصا على القضية الفلسطينية، حيث غالبية قوى اليمين والأصوليات المسيحية تدعم إسرائيل.

[*] أستاذ في جامعة غزة.