محمد خضر قرش[*]
أولاً: المقدمة[1]
أقيمت العديد من الجدر/ الجدران العنصرية أو العرقية أو الطائفية أو المذهبية أو السياسية في أكثر من بلد أو مدينة في العالم مثل، برلين وبلفاست ونيقوسيا وجوهانسبرغ قبل انهيار النظام العنصري وموستار (نهر طبيعي) في البوسنة بين البوسنيين والصرب، وفي العديد من أحياء بغداد بعد العدوان الأميركي على العراق عام 2003. وأحيانا يكون الفصل واقعيا بدون جدار كما هو الحال في بيروت مع حرية الحركة بين الجزأين وفي القدس قبل إقامة الجدار العنصري من قبل إسرائيل عام 2002 فالقدس كانت مقسمة بسياج وفي بعض المواقع بجدار حدودي بين إسرائيل المغتصبة للأرض والضفة الغربية لنهر الأردن منذ 1948 وحتى 1967 وبعد ذلك بقيت مقسمة على أساس قومي وثقافي مع حرية التحرك بكلا الاتجاهين لمن يحمل هوية زرقاء فحسب أو تصاريح دخول بعد اتفاقية أوسلو. وكان ذلك قبل أن تبدأ سلطات الاحتلال في بناء الجدار الذي ادعت أنه لأغراض أمنية بحتة ومؤقتة. وكما ذكرنا آنفا فليس شرطا أن يكون الجدار إسمنتيا فقد يكون سياجا حديديا أو طبيعيا يفصل بين ديانتين أو قوميتين ينعدم بينهما السلام والاستقرار وفرص العيش المشترك وأحيانا وجود عداء تاريخي طويل كما هو الحال بين الاحتلال والفلسطينيين. وفي العديد من الحالات السابقة لم تنجح الجدران في تحقيق أهدافها وانهارت ولم تعد موجودة. فمفهوم الجدار يقوم على وضع حدود مادية ونفسية ووظائفية[2] بشكل أساسي على جانبي الجدار بين شعبين أو دينين أو مذهبين أو قوميتين العلاقة بينهما ليست صحية وسليمة ومتقلبة بشكل حاد أو عدائية. ومن نافلة القول أن نؤكد هنا بأن بناء الجدار لا يخفف أو يقلل من درجة العداء بل يعمقها نتيجة للتباعد ومنع التداخل وعدم الانفتاح على مجمل العادات والتقاليد والثقافات والأفكار والعلاقات لكلا المجتمعين أو الشعبين أو القوميتين أو الطائفتين أو المذهبين مما يزيد من فجوة العداء ودرجته. وحتى النواحي والجوانب الأمنية لا تحققها الجدران خاصة مع تطور وسائل القتال الحديثة والإلكترونية. لكن المعضلة الأكثر إيلاما وتمييزا وظلما وحقدا وعنصرية تكون حينما يقام الجدار فوق أرض شعب آخر عن عمد ومع سبق الإصرار والمعرفة اليقينية وضمن خطط عدائية وممنهجة للفصل بين صاحب الأرض ذي الثقافة والانتماء الواحد وتمزيق أواصر العائلة الواحدة وتشتيتها وبتر وتقسيم نفس الشارع والحارة، وأحيانا نفس المنزل كما هو الحال في ضاحية البريد وبيت صفافا قبل حزيران 1967 وغيرهما لغرض واحد هو تأمين سلامة شعب وقومية بعينها على حساب الشعب الآخر وقهره وظلمه بل وطرده. وهذا هو حال جدار القدس الذي نحن بصدد مناقشة آثاره على الحياة الاقتصادية والاجتماعية بالدرجة الأولى.
ثانيا: التسلسل الزمني لإقامة الجدار العنصري:
فكرة الجدار العنصري ليست جديدة وهي قديمة لكنها عادت إلى الواجهة بعد عام 2000 على إثر الانتفاضة التي اندلعت عقب زيارة شارون للمسجد الأقصى. فقد رفع إيهود باراك شعار: “نحن هنا وهم هناك”، وظهرت رؤية باراك للجدار في مقابلة أجرتها معه صحيفة “نيويورك تايمز” واعتبر فيها “أنّ مصير إسرائيل كدولة ديمقراطية غالبية مواطنيها من اليهود متوقف على فصل أحادي الجانب عن الفلسطينيين، وإن لم يحدث ذلك قد تجد إسرائيل نفسها في وضع يقوم به الطرفان بسفك دماء الآخر على مر الأجيال، أو أنّها ستصبح دولة أبارتايد، أو أنها قد تجد نفسها تعاني وضعا مماثلا للوضع الحاصل في بلفاست”. وقد تم اقتراح بناء سياج أمني إلكتروني يتخلله عدد من البوابات تسمح بمرور الشاحنات والأفراد بين الضفة الغربية وقطاع غزة ودولة الاحتلال، إلا أنّ مثل هذه الأفكار لم يتم تنفيذها. ثم أخذت وتيرة المطالبة بإقامة الجدار الفاصل تزداد باطراد إلى أن قدَّم “أفي ديختر” رئيس الشاباك خطة للجدار الفاصل في شباط (فبراير) 2002 للجنة الشؤون الخارجية والدفاع بالكنيست إثر تزايد تعرض التجمعات الاستيطانية اليهودية لصواريخ القسام الفلسطينية، وقد أخذت طريقها للتنفيذ، وتولى تنفيذ المراحل الأولى للخطة وزير الحرب العمالي بن اليعازر في ظل حكومة الائتلاف الصهيونية وبدأ العمل فيه في 23 تموز (يوليو) 2002، بعد أن أقرته حكومة الاحتلال، إثر اجتياح الضفة في حملة ما سميّ في حينه “السور الواقي”. وفيما يلي التسلسل الزمني لإقامة الجدار:[3]
- تشرين الثاني/ نوفمبر 2000: صادق رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها إيهود باراك على خطة إنشاء جدار في القسم الشمالي والأوسط من الضفة الغربية لمنع مرور المركبات.
- تموز/ يوليو 2001: أصدر رئيس الوزراء أرئيل شارون أمراً بتشكيل لجنة توجيهية برئاسة عوزي دايان مدير مجلس الأمن القومي بغرض تطوير خطة أكثر شمولية لمنع الفلسطينيين من التسلل إلى فلسطين 1948. مما أدى إلى توسيع خطة باراك سالفة الذكر وبناء جدار إسمنتي يمنع الفلسطينيين من العبور سيرا على الأقدام للحد من أي تهديد لأمن دولة الاحتلال.
- نيسان/ إبريل 2002: قررت الحكومة الإسرائيلية الشروع ببناء جدار مكون من مقاطع سياجية وجدران إسمنتية في ثلاث مناطق من الضفة الغربية، كما تم إنشاء إدارة منطقة الفصل برئاسة مدير عام وزارة الدفاع وقد صاحبه بدء قوات الجيش الإسرائيلي بمصادرة الأراضي وتجريفها على إثر الهجمات الاستشهادية ضد المنشآت والحافلات الإسرائيلية، وفقا لتبريرها لإقامة الجدار.
- حزيران/ يونيو2002 :شرعت إدارة منطقة الفصل ببناء المرحلة الأولى من الجدار بعد إقرار الخطة من قبل الحكومة الإسرائيلية رقم 2077 الصادر بتاريخ 23 حزيران (يونيو)، والتي تنص على بناء مقاطع من الجدار في شمال الضفة الغربية، وعلى الحدود الشمالية والجنوبية من “غلاف القدس“.
- 14 آب/ أغسطس 2002: أقرت الحكومة الإسرائيلية مسار المرحلة الأولى من الجدار المكون من 123كم من الجدران والأسيجة في مناطق شمال الضفة بالإضافة إلى 20 كم حول القدس.
- تشرين الأول/ أكتوبر 2002 كشفت الحكومة الإسرائيلية عن الخطة الكاملة لمسار الجدار في الضفة الغربية.
- 30حزيران/ يونيو: 2004 الحكومة الإسرائيلية تصدر تعديلاً على مسار الجدار المعلن سابقا.
- 30 حزيران/ يونيو:2004 المحكمة العليا الإسرائيلية تصدر قرارا يوجب أخذ الاعتبارات الإنسانية للمدنيين الفلسطينيين بالحسبان أثناء تخطيط وبناء الجدار.
- 9 تموز/ يوليو:2004 محكمة العدل الدولية تصدر رأيا استشاريا ينص على أن الجدار الذي يتم بناؤه في الضفة الغربية يخالف القانون الدولي، وتطالب بتفكيك الجدار وتعويض المتضررين.
- 20 شباط/ فبراير 2005: الحكومة الإسرائيلية تقر تعديلا ثانيا على مسار الجدار المعلن سابقا.
- 11 أيلول/ سبتمبر 2005: المحكمة العليا الإسرائيلية تقول إن الجدار لا يخالف القانون الدولي، وأنها ستواصل فحص تأثير مقاطع من الجدار على السكان الفلسطينيين وذلك بتناقض صارخ مع قرار محكمة العدل الدولية.
- 30 نيسان/ إبريل:2006 الحكومة الإسرائيلية تقر مساراً معدلاً ثالثاً للجدار.
ثالثا: الوضع القانوني للجدار[4]
- أصدرت محكمة العدل الدوليةفي9 تموز (يوليو) 2004 رأياً استشارياً يقضي بعدم شرعية الجدار.
- وافقت 150 بلداً عضواً في الجمعية العامة للأمم المتحدة، من ضمنهم جميع دول الاتحاد الأوروبي الخمسة والعشرين صوتوا لصالح القرار الذي تم تبنيه في وقت متأخر من مساء الثلاثاء20 تموز (يوليو) 2004، بينما عارضته 6 دول تتقدمها الولايات المتحدة وأستراليا وإسرائيل، وامتنعت عن التصويت 10 دول. وكما هو معروف فإن قرار الجمعية العامة، مثل قرار محكمة العدل الدولية، غير ملزم لإسرائيل. غير أن أهميته تنحصر في القيمة الرمزية والمعنوية للقرارين مما قد يساعد الفلسطينيين والأطراف المعارضة لبناء الجدار على ممارسة المزيد من الضغط السياسي على إسرائيل لتفكيك الجدار، بما في ذلك اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي لتبنيه.
رابعاً: خصائص الجدار العنصري
4-1 معلومات عامة: يمتد الجدار على طول الضفة الغربية ويتلوى كالأفعى، بطول يصل إلى نحو 703 كم[5] عند اكتماله ملتهماً نحو 10% من مساحة الضفة الغربية قابلة للزيادة[6]. ( نحو 160 ألف دونم). فالمخطط الأول كان لا يتجاوز 622 كم زاد إلى 670 واستقر مؤقتا عند الرقم الأول. هذا ويمر 85% من الجدار في أرض الضفة الغربية التي احتلت عام 1967 في عمق يصل إلى 22 كم في منطقة قلقيلية. أو ما يطلق عليه أصبع أرئيل، وليس على طول الخط الأخضر الذي كان قائماً قبل حرب حزيران عام 1967. حيث يشكل الجدار في المنطقة المذكورة فقط 12% من مساحته الكلية مما سيؤدي إلى عزل 20 ألف دونم من أرض قلقيلية الخصبة وحدها. هذا ويتراوح عرض الجدار ما بين 60-150 مترا بارتفاع ما بين 4.5-9 أمتار في المناطق السكنية المأهولة والقريبة من المدن.
4-2 مواصفات الجدار: سنشير باختصار شديد إلى أبرز مواصفات الجدار ككل بما في ذلك الجزء المحيط بالقدس. أ- هناك أسلاك شائكة سواء فوق الجدار كما هو الحال في منقطة الرام وقلنديا والضاحية وغيرها أو بشكل منفصل ب-حفر خندق بعمق 4 أمتار ونفس الشيء بالنسبة للعرض بغرض منع دخول المركبات ت- يوجد طريق معبد للدوريات ث- هناك طريق ترابي بالرمال لكشف الأثر ج- سياج كهربائي (إلكتروني) ح- طريق معبد ذو اتجاهين لتسيير الدوريات والمراقبة خ- أبراج للمراقبة المزودة بكاميرات وأجهزة استشعار عن بعد.
4-3 طول الجدار والمعابر المحيطة بالقدس: يبلغ طول الجدار المحيط بالقدس نحو 145 كم قابلة للزيادة بعد البدء بالمنطقة المسماة E1 (والتي تقع على الجبل المقابل لمستعمرة معاليه أدوميم) شرق مدينة القدس. ويتكون الجدار من عدة مقاطع طول كل مقطع كما يلي: المقطع الأول ويبلغ طوله 10 كم ويمتد من معسكر عوفر وبيتونيا وحتى قلنديا. المقطع الثاني: ويبلغ طوله 10 كم أيضا. ويمتد من شارع النفق في بلدة بيت جالا إلى بيت لحم وبيت ساحور وصولاً إلى جبل أبو غنيم، المقطع الثالث: وطوله 17 كم ويمتد من الطرف الشرقي لبيت ساحور إلى العيزرية، والمقطع الرابع وطوله 14 كم ويمتد من جنوب عناتا إلى قلنديا. والمقطع الخامس وطوله أيضا 14 كم ويمتد من منطقة بير نبالا وبيت حنينا والنبي صموئيل، والمقطع السادس ويمتد بطول 40 كم من مستعمرة بسجات زئيف وبيت لقيا وبيت سوريك وبيت إكسا، والمقطع السابع بطول 40 كم أيضا من مستعمرة معاليه أدوميم ويعزل العيزرية وأبو ديس والسواحرة الشرقية. أما من حيث المعابر المدنية والاقتصادية والحواجز العسكرية الدائمة سواء لعبور السيارات بكلا الاتجاهين أو للأفراد فيبلغ نحو 14 معبراً وحاجزاً، وهي: بيتونيا (عوفر 443)، الرام، شعفاط (المخيم)، الزعيم، العيزرية (الزيتونة)، حزما، السواحرة (الشيخ سعد)، بيت لحم (شارع الأنفاق 60)، بيت لحم القدس (300)، حاجز المزمورية (بيت ساحور)، قلنديا، الولجة، أبو ديس (جب الروم)[7].
-4: الجدار العنصري المحيط بالقدس: حوَل الجدار العنصري القدس إلى سجن كبير له عدة فتحات (معابر) يتم من خلالها الدخول والخروج إلى المدينة وبذلك قطعت علاقتها مع محيطها الفلسطيني. لقد عزلت قوات الاحتلال المدينة عن باقي الضفة الغربية من الجهات الشمالية والشرقية والجنوبية وأبقتها مفتوحة من الجهة الغربية فحسب. ويمكن القول بأن سلطات الاحتلال باتت تتحكم في اقتصاد المدينة وبالحياة الاجتماعية والثقافية، وحتى بحركة الدخول والخروج منها وإليها بما في ذلك حرية المقدسيين أنفسهم نظرا للحواجز العسكرية الشديدة التعقيد التي تقيمها على مداخل المدينة والتي حولتها سلطات الاحتلال إلى معابر حدودية تشهد اختناقات مرورية وازدحامات كبيرة غير مسبوقة تدفع بالمقدسيين غير المضطرين وغير العاملين في رام الله وغيرها بالتفكير ملياً قبل الانتقال إلى القرى والمدن الفلسطينية المحيطة بها. ورغم أن المسافة بين القدس ورام الله لا تزيد عن 12 كيلومتراً فإن قطعها قد يستغرق أكثر من ساعتين، مع معاناة غير عادية يصاحبها توتر وشد أعصاب وتلاسن بين أبناء الشعب الواحد، وفي بعض الأحيان شجار على أولوية المرور. ولا تتوقف الأزمة عند حركة السيارات بل تتعداها إلى حركة المشاة على نقاط التفتيش والمعابر والتي غالبا ما تكون مزدحمة جدا حيث يصطف الفلسطينيون في صفوف طويلة ويخضعون للتفتيش الذاتي والجسدي عبر بوابات إلكترونية، ويتعرضون لإجراءات أمنية غير إنسانية تتعارض مع القوانين الدولية بحجة الفحص الأمني. لقد أوغلت سلطات الاحتلال في حصارها للمدينة، وذهبت بعيداً في عزلها عن محيطها الفلسطيني، مما أثر بشكل ملموس ومباشر على الحياة الثقافية والمشاركات الاجتماعية والأسرية في المناسبات والأعياد والتي تتسم عادة بالتراحم والتواصل. لقد جعلت سلطات الاحتلال قيام المقدسيين بزيارة عائلاتهم من الدرجة الأولى والثانية وأصدقائهم خارج الجدار في غاية الصعوبة والمشقة والتوتر والضغط النفسي فبات الكثيرون منهم يفكرون ألف مرة قبل أن يزوروا عائلاتهم في القرى والمدن المحيطة والتي كانت قبل الجدار لا تبعد عنه 50 متراً. أما بالنسبة لمن يحملون هوية خضراء فقد حرمتهم سلطات الاحتلال من الدخول إلى القدس إلا بتصريح زيارة مؤقت ولأيام محدودة وهذا كله مشروط بموافقة الجهات الأمنية.
خامسا: تأثير الجدار العنصري على اقتصاديات القدس.
تسبب الجدار العنصري بآثار سلبية وضارة على مجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والصحية من الصعب معالجتها أو وضع حلول دائمة لها في ظل استمرار الاحتلال. فالجدار العنصري يحرم الفلسطينيين من استغلال أكثر من ثلث مساحة الضفة الغربية الصالحة للزراعة. وحسب الإحصاءات الصادرة عن المؤسسات الزراعية ومركز الإحصاء الفلسطيني فإن الجدار سيقتطع أو سيصادر ما مساحته 170 كم مربعاً، والتي تضم عشرات القرى والبلدات الفلسطينية التي يسكنها 700 ألف نسمة منهم حوالي 330 ألف مقدسي، إن هذا العدد الذي يشكل نحو 25% من سكان الضفة سيجعلهم يخضعون لسياسة التمييز العنصري، كما أنه سيخضعهم إلى مراقبة شديدة تجعل من حياتهم جحيماً لا يطاق ليلا ونهاراً وسيقيد حركتهم إلا ضمن تصاريح تصدرها الإدارة المدنية التابعة لقوات الاحتلال، والمرور بساعات محددة. وهذا يعني أن النشاط التجاري ككل في المدينة يتوقف إلى حد كبير على القيود والحواجز والمعيقات التي تفرضها سلطات الاحتلال على مدينة القدس، حيث تحول دون تدفق الفلسطينيين من القرى والمدن القريبة مما يقلل ويضعف الاقتصاد المقدسي ويربطه أكثر فأكثر بالاقتصاد الإسرائيلي. وسنحاول فيما يلي تبيان و/أو إظهار تأثير الجدار على القطاعات الاقتصادية والتجارية المختلفة.
5-1 القطاع الزراعي:
من المعروف أن مدينة القدس تعتمد على القرى والبلدات المحيطة بها لتأمين احتياجاتها من السلع والمنتجات الغذائية والزراعية. فإنتاج مدينة القدس من المحاصيل الزراعية محدود جداً جداً– وحاليا لم يعد قائما- وخاصة بعد عمليات توسعة المدينة لصالح البناء العمراني. لذا فإن تأثير الجدار العنصري سيلحق أضراراً كبيرة بالأراضي الزراعية التي تورد إنتاجها إلى المدينة مما يعني– وهذا هام جدا- أن مدينة القدس لم تعد تعتمد على المحاصيل الزراعية التي تنتج في القرى والمدن الفلسطينية وخاصة في مناطق الغور وشمال الضفة وجنوبها. فتأثير الجدار على المدينة المقدسة من الناحية الاقتصادية هو حرمانها من المحاصيل والمنتجات الزراعية الفلسطينية بشكل شبه كامل وخاصة أن سلطات الاحتلال تمنع التجار المقدسيين من استيراد السلع والمنتجات الزراعية من الضفة الغربية. لذا فإن تأثير الجدار العنصري على القدس فيما يتعلق بالمنتجات الزراعية غير مباشر. أما فيما يتعلق بالأضرار التي سيحدثها الجدار العنصري على المدن والقرى الفلسطينية الموردة للسلع الزراعية للقدس فهي كبيرة وملموسة. فوفقا لأحدث تقرير صدر عن وزارة الزراعة الفلسطينية[8] فإن إنتاج الزيتون سينخفض بسبب تقطيع آلاف الأشجار المثمرة والمعمرة بمعدل 2200 طن من الزيت في الأعوام المقبلة بسبب إنشاء الجدار، إضافة إلى انخفاض إنتاج ثمار الفواكه بمعدل 50 ألف طن، والخضروات بمعدل 100 ألف طن سنوياً. كما سيفقد نحو 10 آلاف رأس من الماشية مناطق رعيها، إضافة إلى تدمير المئات من البيوت البلاستيكية ومزارع الطيور وحظائر المواشي، مما سيؤدي إلى أضرار بالغة على الاقتصاد الفلسطيني. وأوضح التقرير أن نسبة الأراضي المروية تعادل 5% من مساحة الضفة الغربية، ولكن مساهمة هذه النسبة المتواضعة في الإنتاج الزراعي للضفة تساوي 52%، في وقت تعتبر مناطق شمال الضفة من أهم المناطق المروية والحيوية، والتي أقيم جدار الفصل العنصري على أراضيها، مما جعل قلقيلية وحدها تخسر 8600 دونم بنسبة 72% من أراضيها المروية، بالإضافة إلى سبعة آبار للري الزراعي. كما ستؤدي إقامة الجدار الفاصل إلى مصادرة 10% من أراضي الضفة الغربية، فقد تمت مصادرة 160-180 ألف دونم في المرحلة الأولى منه، أما في المرحلة الثانية من إقامة الجدار والتي ستمتد من قلقيلية في الشمال إلى مدينة القدس، فستضم عدداً آخر من المستوطنات وتعزل العديد من القرى الفلسطينية والأراضي الزراعية الخصبة. وقد جرفت سلطات الاحتلال لأغراض إقامة الجدار ما مساحته 11500 دونم وقلعت 83 ألف شجرة من أجل عمل ما تسمى المنطقة الأمنية العازلة المحيطة بالجدار على كلا الجانبين. هذا وقد تسبب الجدار بمصادرة نحو 30 بئرا من الماء في محافظتي قلقيلية وطولكرم بطاقة تصريفية عالية، والتي تم حفرها قبل عام 1967 وتقع على أكبر الأحواض المائية الجوفية في الناحية الغربية، مما سيفقد الفلسطينيين وبالتالي المقدسيين نحو 18% من حصتهم من هذا الحوض والتي تقدر بـ22 مليون متر مكعب سنوياً من أصل 362 مليون متر مكعب حسب اتفاقات أوسلو، إضافة إلى أن الجدار دمر البنية التحتية لقطاع المياه من مضخات وشبكات الأنابيب الخاصة لمياه الشرب والري الزراعي، مما سيؤدي لفقدان بعض القرى الفلسطينية لمصادرها المائية بالكامل. وتطرق تقرير وزارة الزرعة إلى مخاطر الجدار على البيئة الفلسطينية لكونه اقتلع آلاف الأشجار المثمرة وخصوصاً الزيتون. ووفقا للتقرير فإن عدد الأشجار المثمرة التي اقتلعها الاحتلال سواء لأغراض إقامة الجدار أو بذريعة الأسباب الأمنية منذ بداية انتفاضة الأقصى تقترب من مليون شجرة منها 300 ألف شجرة زيتون. فأهمية هذه الأشجار تكمن في كونها تعمل على تحسين نوعية الهواء من خلال التقاط حبيبات الغبار واستهلاك ثاني أكسيد الكربون وإطلاق الأوكسجين في الجو، والتقليل من جريان المياه وانجراف التربة، وزيادة الفرصة أمام تغذية الخزان الجوفي، إضافة إلى مساهمتها في استدامة الحياة البرية من خلال توفير الملاذ الآمن للطيور والحيوانات الأخرى وبالتالي الحفاظ على التنوع البيئي. أما حول آثار الجدار من الجوانب الاجتماعية والإنسانية فقد أشار التقرير إلى إن 17 قرية فلسطينية باتت داخل أراضي الجدار، حيث لا يستطيع أصحابها الوصول إليها إلا من خلال الحصول على تصاريح مما يعني أن إمكانية تطويرها وتنميتها باتت مربوطة بالموافقة الأمنية الإسرائيلية لأصحاب الأراضي ليس فقط من الدخول إليها وإنما من إدخال الآلات الزراعية المختلفة. وأشار التقرير إلى خطورة ضم أراضي 25 قرية فلسطينية بعد تدمير اقتصادها بالكامل وفصلها عن بعضها البعض، إضافة إلى أنَّ الجدار بات عائقا أمام تنقل المواطنين بشكل عام والمزارعين خصوصاً بسبب الخنادق ومنع التجول بالقرب من الجدار، إضافة إلى منع الرعاة والمواشي من الاستفادة من الأراضي القريبة من الجدار. وبشكل عام فإن نحو 37% من القرى التي تعتمد على الزراعة ويمر الجدار بها أصبحت دون مصدر اقتصادي نظراً لأن الزراعة تشكل المورد الرئيس للدخول وتأمين المتطلبات المعيشية لهم. كما أنه يحرم الفلسطينيين من ثلث مساحة الضفة الغربية عمليا عداً عن منع قوات الاحتلال الفلسطينيين من استغلال واستثمار المناطق المصنفة (C).
5-2: التأثير على الوضع الاقتصادي والقطاعات التجارية والمؤسساتية:
1- من كان يعيش في القدس قبل احتلالها عام 1967 وحتى خلال الانتفاضة الأولى، وقبل قرار سلطات الاحتلال بوضع الحواجز وإقامة الجدار، كان يشهد ويلاحظ تدفق المركبات (الكبيرة والصغيرة) وسيارات الشحن (البيك أب) الصغيرة والمتوسطة ومن الصباح الباكر، وهي تنقل المنتجات الزراعية الطازجة من القرى المجاورة للقدس وأريحا وتفرغ حمولتها في سوق الحسبة بوادي الجوز. وفي الوقت نفسه كانت المئات من الفلاحات الفلسطينيات يوزعن منتجاتهن من فواكه وخضار على أرصفة الشوارع وأسواق القدس القديمة وكانت هذه سمة وخاصية مميزة للمدينة حيث كان من شأنها تحريك النشاطات التجارية والتسوق في وقت مبكر بالمقارنة بغيرها من المدن. فكل هذه النشاطات التجارية توقفت بشكل شبه كامل بفعل الجدار العنصري. فسوق الحسبة (الخضار) على سبيل المثال أغلق ولم يعد يستقبل سيارات الشحن المحملة بالخضار لبيعها بسعر الجملة لأصحاب الدكاكين في القدس وقد تحول حاليا إلى محلات عادية لا يزيد عددها عن ستة منافذ للبيع المباشر والجملة. وقد حاولت سلطات الاحتلال مصادرة الأرض وإقامة فنادق عليها لكن أصحاب المحلات ومعهم المقدسيون تصدوا للمحاولة. كما أغلق البازار في القدس القديمة كلياً والذي تبلغ مساحته 750 متراً مربعا وكان يستوعب عشرات البائعين والبائعات الذين/اللواتي يعرضون/يعرضن منتجاتهم/ منتجاتهن للبيع، وهو مغلق حتى تاريخه. ولم يتبق سوى بضع فلاحات ينتشرن على الأرصفة بين بابي الساهرة والعامود بشكل رئيس، حيث يتمكنً من الدخول من جنوب القدس خاصة متجاوزات الحواجز والمعابر نظراً لأنه ما زال قسم من الجدار غير مكتمل بعد في جنوب وشرق القدس وجميعهن يدخلن بدون تصاريح متحديات سلطات الاحتلال.
2- كانت حركة المواطنين والمتسوقين تتدفق من القرى والمدن إلى القدس لشراء أو لإنهاء معاملاتهم وأعمالهم المختلفة في المدينة مما كان يحدث أو يسبب ازدحاما في الأسواق ومقرات المؤسسات والشركات العامة والخاصة مما يساهم في تنشيط الحركة التجارية. ومع إقامة الجدار العنصري توقف تدفق حركة المواطنين بشكل ملموس (حلت رام الله محلها حالياً).
3- وفي المقابل وبفعل الجدار المقيت (جدار الكراهية) نشطت ونمت المناطق المحاذية للجدار مثل الرام وأبو ديس والعيزرية وحزما وقلندية ورام الله بشكل كبير وانتقلت الأسواق التجارية إليها، وبالتالي لم يعد سكان هذه المناطق يحضرون للقدس للتسوق لسببين رئيسيين هما: وجود الجدار العنصري والذي يمنع المواطنين من حملة هوية الضفة من الدخول للقدس، وتوفر السلع والمنتجات بكل أنواعها في هذه المناطق، بل وبات المقدسي ينتقل إلى هذه المناطق لتامين وشراء احتياجاته بأسعار تقل عن مثيلاتها في القدس. (تشويه البناء الاقتصادي وإيجاد فوضى اقتصادية في المناطق المحاذية للقدس).
4- ومن الجهة المقابلة ازداد ارتباط عجلة الاقتصاد المقدسي بالاقتصاد الإسرائيلي حيث بتنا نشاهد يوميا تدفق العمال والأجراء المقدسيين إلى القدس الغربية مما جعل تنمية وتطوير اقتصادها وتأمين متطلبات المعيشة مرهونا بحجم العمالة التي تتوجه إلى القدس الغربية.
5- وبفعل الجدار العنصري بات من الصعوبة بمكان حساب الناتج المحلي للمدينة لثلاثة أسباب رئيسة هي: دخول المقدسيين مقابل عملهم في القدس الغربية يدخل ضمن الناتج المحلي الإسرائيلي ودخول المقدسيين الذين يعملون في الضفة الغربية تحسب ضمن الناتج المحلي لفلسطين، وثالثها صعوبة تقدير حجم دخول المقدسيين العاملين في القدس الشرقية لأسباب لها علاقة بالضرائب الإسرائيلية.
6- لقد أدى وجود الجدار العنصري إلى تصفية وتوقف وتدهور العديد من المهن الحرفية التي كانت منتشرة بكثرة في القدس القديمة (نحو 32 مهنة حرفية)، حيث لم يتبق منها حاليا سوى بضع مهن فحسب (12) نظراً لأن معظم الأيدي العاملة كانت من مدن الضفة الغربية ولم يعد بإمكانهم الدخول إلى المدينة. وللعلم فإن أغلبية المهن الحرفية انتقلت إلى بيت لحم[9].
7- لقد تسبب الجدار في إغلاق ومغادرة وهجرة مؤسسات فلسطينية اقتصادية ومهنية ونقابية عديدة من القدس إلى رام الله بالدرجة الأساس، مثل: معهد ماس، وجمعية الاقتصاديين الفلسطينيين، ومؤسسات ثقافية وإعلامية ونقابية واجتماعية، وما زالت هذه الهجرة مستمرة للأسف الشديد. وقد أثر ذلك كله على النشاط المسرحي والفني والاجتماعي والنقابي والتي باتت ملحقة أو فرعية لمراكزها الرئيسة في رام الله. وللعلم فإن عدد المؤسسات التي غادرت مدينة القدس إلى رام الله بإرادتها بلغ 160 مؤسسة ومركزاً ونقابة واتحاداً.
8- كان للقدس دور سياسي ملموس باعتبارها العاصمة الاقتصادية والسياسية ولكن ذلك انتفى كلياً ولم يعد موجوداً وخاصة بعد وفاة المرحوم فيصل الحسيني وإغلاق بيت الشرق كلياً. فالقنصليات العاملة في القدس حاليا والتي لا تزيد عن ست كانت موجودة قبل حرب حزيران 1967.
9- لقد كرس الجدار وضعاً في غاية الصعوبة، بدأ منذ احتلال القدس. فقد أخذت المعالم المقدسية تتغيّر تدريجيا منذ ذلك التاريخ وخاصة جنوب غرب المدينة في منطقتي البراق وسلوان وبدأ التغيير بتسارع نحو الشيخ جراح والصوانة والقدس القديمة. فالجدار سرَع بعملية “الأسرلة”. حيث بدأت سلطات الاحتلال بتكريس التهويد الإجباري على أسماء أحياء وشوارع القدس والمناطق الأثرية والتاريخية.
10- بادرت سلطات الاحتلال وفي محاولة منها للحد من تنقل المقدسيين إلى أسواق رام الله، بإقامة مجمعات تجارية كبيرة في منطقة قلندية– مفرق الرام/ بير نبالا سابقا- حيث بدأت بتشييد “مولات” تجارية يشرف عليها رجل الأعمال الإسرائيلي رامي ليفي. ومن شأن هذه المولات (الأسواق) بعد الانتهاء منها، مع نهاية العام القادم، أن تقتل أسواق البلدة القديمة في القدس بشكل أساسي. فهي مُصممة على استيعاب الآلاف من المقدسيين وليس من اليهود.[10]
11-لعب الجدار والحواجز العديدة دوراً ملموساً في الحد من تنقّل الأفراد والبضائع بسهولة ويسر. فالاقتصاد المقدسي قبل وضع الحواجز لم يكن مفصولاً عن الكيان الفلسطيني وكانت السلع والأفراد تتدفق إلى المدينة بدون عوائق تذكر، وقد بدأت تتغير مع بداية الانتفاضة الثانية تحديدا مما ضاعف المشاكل الاقتصادية، ثم جاء الجدار ليعمق حالة التدهور والركود الاقتصادي في القدس.
12- العصب الأوّل للاقتصاد في القدس هو السياحة، والتي تشكل حوالي 40–45% من دخلها بالإضافة إلى كونها تعتبر المحرك الرئيس لبقية النشاطات الاقتصادية الأخرى، ومع إقامة الجدار العنصري تم تقييد حركة السياحة وتوجيهها نحو القدس الغربية وتقليص حركتها من وإلى بيت لحم وأريحا وغيرهما من الأماكن السياحية. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن 90% من مقاصد السائحين تتركز في القدس الشرقية وبيت لحم وبالمقابل لا تحصل فلسطين والقدس سوى على 10%-12% من مجمل الإيرادات المتأتية من السياحة.[11] بالإضافة إلى أن كل الطرق والمسالك السياحية تمر عبر الحواجز والجدران الإسرائيلية. فمعظم السائحين يحضرون ويغادرون عبر مطار اللد بالدرجة الأساس مما يعطي ميزة نسبية عالية لصالح الاقتصاد الإسرائيلي.
14- تسبب الجدار وسياسة الاحتلال معا في خلخلة وإضعاف وإفقار اقتصاد القدس. فالمعطيات المتاحة تشير إلى أن نسبة الفقر تعدّت حسب تقدير الأمم المتحدة، والإحصاء الفلسطيني، الـ70%، ونسبة البطالة بين الشباب تتجاوز 30% وهي نسبة عالية جداً. بالإضافة إلى تسرّب الشباب المقدسي من المدارس، وانعكاس ذلك على الوضع الاجتماعي (انتشار تعاطي المخدرات) والوضع الاقتصادي في القدس.
15- تسبب الجدار وخاصة المقاطع والأجزاء التي تقسم الشوارع إلى قسمين كما هو الحال في شارع القدس رام الله والقدس بيت لحم بإغلاق كامل للعديد من المحلات التجارية، في شارع بيت لحم القدس وبير نبالا الرام وغيرهما. لقد غير الجدار العنصري هيكل وملامح النشاط التجاري في المناطق التي يخترقها.
16– وهناك نقطة هامة جداً ناجمة عن إقامة الجدار والسياسة الضرائبية لسلطات الاحتلال تخص البلدة القديمة. فقد ترتب على ذلك إغلاق محلات تجارية في أسواقها التاريخية والتغيير في المحتوى التراثي والسلعي التخصصي الذي كان سائدا. فعدد المحلات التي أغلقت وأوقفت نشاطاتها يزيد على 250 محلاً. بالإضافة إلى تغير نشاط السوق نفسه. فأسواق القطانين والدباغة واللحامين والحصر لم تعد تمارس نشاطها التقليدي الذي اعتدنا عليه والمشتق من اسمها، وإنما تحولت إلى مطاعم وبيع السلع الاستهلاكية.
17- نتائج استطلاع المقدسيين: وحتى نبين صحة ما ذهبنا إليه للتو فإننا سنأتي على أول نتائج استطلاع لرأي المقدسيين بالوضع الحالي في ظل الجدار والذي يؤكد خطورته على مستقبل المدينة بصفتها العاصمة الأبدية لفلسطين، وليس على الآثار الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للجدار العنصري فحسب. فقد قام مركز التعاون والسلام الدولي بالمشاركة مع مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية بنشر نتائج أول استطلاع، من نوعه تم على عينة عشوائية قوامها 500 شخص من المقدسيين فوق سن الـ18 عاما شملت 15 موقعاً سكنياً، 78% منهم يعملون في القدس الشرقية، و10% في القدس الغربية، و8% في رام الله، والباقي في بيت لحم والضفة، ونشرت نتائجه عام 2014. فقد تضمن الاستطلاع الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والتعليم والأسرلة ومستقبل المدينة وخاصة بعد بناء الجدار العنصري. وكانت النتائج لافتة للنظر وتستحق الوقوف عندها طويلا وكيفية معالجتها أو التقليل من نتائجها السلبية. فقد أوضح 71.4% من المقدسيين أن علاقة القدس الشرقية مع الضفة الغربية قد ضعفت بشكل كبير بعد إقامة الجدار. كما اتضح أن خمس المقدسيين (أي نحو 70 ألفا) يجتازون المعابر والحواجز يومياً مرة واحدة على الأقل، وما يزيد على الربع قليلا عدة مرات في الأسبوع، ونحو الثلث مرة واحدة في الشهر. وقد ذكر 59% من أفراد العينة أن العلاقات الاجتماعية على جانبي الجدار قد تأثرت بشكل كبير، ونحو 63% قالوا إن العلاقات التجارية مع الضفة الغربية قد تأثرت سلبياً، بينما العلاقة مع مؤسسات السلطة لم تتأثر بأكثر من 18%. وهذا يعني ببساطة أن المقدسيين باتوا يرتبطون بالمؤسسات الإسرائيلية. وقد أبدى 83% من المقدسيين المستطلعة آراؤهم أن القدس الشرقية زادت ارتباطها بالقدس الغربية وإسرائيل. ومن جهة أخرى أكد 59% من المقدسيين أن العلاقات الاجتماعية تأثرت سلبيا جراء إقامة الجدار.
18- وفي تقرير نشره موقع أخبار البلد المقدسي في شهر تموز الماضي، ذكر أن العديد من أصحاب محلات باب خان الزيت العريق وشارع الواد بصدد إغلاق محلاتهم التجارية بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية والناجمة عن الجدار والإجراءات الأمنية التي تنفذها قوات الاحتلال والتي تعيق وصول المتسوقين المقدسيين وغيرهم إلى السوق. مما اضطرهم إلى فتح محلاتهم ساعات محددة في اليوم لتخفيض التكاليف.
19- لقد تسبب الجدار العنصري في إحداث تغيير جوهري على مسارات الطرق والشوارع التي تربط المدن والقرى بمدينة القدس. فقد تم بناء طرق التفافية معظمها خارج الجدار. فعلى سبيل المثال فإن الوصول إلى قرية بير نبالا أو قرى شمال غرب القدس، يتطلب الذهاب إلى رام الله أولاً ومن ثم إلى القرى المشار إليها. وكذلك بالنسبة إلى العيزرية وأبو ديس. فبعد أن كانت المسافة بين بير نبالا والقدس لا تزيد على 7 كيلو مترات، باتت الآن تزيد على 18 كيلومتراً. وتزداد المسافة أكثر من ذلك حينما يرغب المقدسي بالذهاب من القدس إلى قرى بيت إكسا وبيت سوريك وبيت دقو وبيت عنان. حيث سيضطر السائق إلى قطع مسافة لا تقل عن 30 كيلومتراً والدوران حول المدن والقرى. فبعد أن كان المواطن أو المتسوق يتجه بسيارته مباشرة إلى القرى المشار إليها وبمسافة لا تزيد عن 11-15 كيلومتراً كحد أقصى بات يتوجب عليه سلوك طريق القدس رام الله ثم بير نبالا فشرفات فالجديرة ثم عبور النفق إلى القرى المنوه عنها. والشيء نفسه بالنسبة إلى طريق القدس أبو ديس العيزرية والسواحرة الشرقية. فبعد أن كانت المسافة بين القدس وأبو ديس لا تزيد عن 5 كيلومترات أصبحت الآن نحو 20 كيلومتراً، عدا عن زحمة السير على الحواجز والمعابر وطول فترة الانتظار والتكلفة الإضافية الناجمة عن استهلاك الوقود والفترة الزمنية التي يستغرقها المواطن الفلسطيني للوصول إلى هدفه. ومن باب تقديم الأمثلة، فإن الفترة الزمنية بين القدس وأبو ديس كانت لا تستغرق أكثر من 7 دقائق كحد أقصى، أما الآن وبفعل الجدار فالفترة التي يحتاجها المواطن للوصول إلى أبو ديس لا تقل عن 20 دقيقة بافتراض عدم وجود ازدحامات على الحواجز. وتزداد الأمور تعقيدا إذا ما رغب المقدسي بالذهاب إلى بيت إكسا أو بيت دقو وبيت سوريك وبدو، وبقية قرى شمال غرب القدس. فعدد الحواجز العسكرية أكثر وخاصة قلنديا.
20- وبشكل عام فإن الأغراض الرئيسة من إقامة الجدار– عدا ما هو متعلق في القدس- يمكن حصرها بسبعة أهداف رئيسة هي:
أ- وأد فكرة حل الدولتين إلى الأبد ب- تكريس وترسيخ فكرة المعازل والكانتونات ت- الفصل الأحادي الجانب وترسيم الحدود من طرف واحد ث- وجود الجدار يمهد الطريق أمام الحل الوظيفي بين فلسطين والأردن و/أو إقامة كونفدرالية بين الدول الثلاث ج- إلغاء وشطب أية مقومات لبناء اقتصاد فلسطيني مستقل واستمرار الاعتماد على الاقتصاد الإسرائيلي. وللتأكيد على ذلك فإن أكثر من 80% من تجارة فلسطين ما زالت تأتي من إسرائيل أو عبرها، و90% من الصادرات الفلسطينية تتجه إليها مباشرة. ح- الاستحواذ الكامل على الآبار المائية الجوفية. خ- السيطرة على ثلث مساحة الضفة الغربية تقريبا بشكل مباشر أو غير مباشر بما في ذلك الأغوار.
سادسا: التوصيات
من أبرز التوصيات التي يمكن تقديمها في هذا المجال هي”:
1- أعتقد بأنه قد حان الوقت لتكليف فريق بحث لدراسة الآثار الخطيرة التي تسبب بها الجدار ليس على اقتصاد فلسطين فحسب، وإنما تأثيره على النواحي والعلاقات الاجتماعية والأمنية والاستراتيجية والثقافية والنفسية، ومستقبل العلاقة مع دول الجوار كلها، والحياة اليومية للشعب الفلسطيني. هناك بعض أوراق العمل المتاحة حول الموضوع ولكنها تعالج جوانب موقعية أو جهوية. والمطلوب دراسة كاملة حول الجدار من جميع الجوانب. فالجدار قضى على كل أساسيات ما يسمى بحل الدولتين وتسبب في تحويل الضفة إلى معازل وكانتونات منفصلة وقطع أواصر العلاقات والطرق فيما بينها وباتت غير مربوطة ببعضها إلا من خلال الممرات والمسالك الأمنية والحواجز والمعابر العسكرية الإسرائيلية.
2- لا بد من تنظيم وإقامة ورش عمل في كل دول العالم لعرض المآسي التي يسببها الجدار من جميع النواحي. فالعديد من دول العالم بما في ذلك الوطن العربي يجهلون حقيقة الآثار الظالمة التي يتسبب بها الجدار على الحياة اليومية للفلسطينيين.
3- يجب عمل أفلام حول ما يفعله الجدار بالأرض الفلسطينية وحول تدميره للبيئة وقلع آلاف الأشجار لخدمة المستوطنين. فحتى الآن لم يخرج الفلسطينيون أفلاماً تصور المعاناة الكبيرة التي يعاني منها سكان القرى والمخيمات والمدن، وتوزيعها على نطاق واسع محليا وإقليميا ودوليا. ففي الكثير من الحالات لا يستطيع الفلسطيني الوصول إلى أراضيه إلا عبر الحواجز العسكرية وبساعات محددة وخاصة في مناطق طولكرم وقلقيلية.
4- إن على قيادة منظمة التحرير الذهاب إلى مجلس الأمن وبقية الهيئات الدولية لعرض قرارات محكمة العدل الدولية الذي صدر عام 2004 باعتبار الجدار غير شرعي وغير قانوني، كذلك قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي اتخذ بنفس العام بأغلبية 150 صوتاً. بيد المنظمة والسلطة قرارات عديدة لصالح الفلسطينيين وضد الجدار إلا أنه حتى تاريخه لم يتم متابعتها على الصعيد الدولي.
5- هناك تقصير واضح ومتعمد من جامعة الدول العربية في متابعة موضوع الجدار العنصري.
6- والتقصير أيضا قائم لدى كافة الجمعيات والاتحادات والنقابات الفلسطينية والعربية على حد سواء. وللأسف الشديد فإن الكثير من الجمعيات الدولية تهتم وتتابع موضوع الجدار أكثر من العرب والفلسطينيين.
الهوامش:
*حمد خضر قرش، شؤون فلسطينية، العدد 256، ربيع 2014، ص100.
2– أثر الجدار على الحيز الحضري الفلسطيني في القدس الشرقية. مركز التعاون والسلام الدولي، 2009 ص37.
[3] – https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D8%A7%D8%B1_
[4] – المصدر نفسه / ar.wikipedia.org/wiki/
[5] – هناك تقدير آخر يقول بأن طول الجدار سيصل إلى 770 كم بعد الانتهاء منه بالكامل.
[6] – أي نحو مرة ونصف مساحة قطاع غزة تقريبا البالغة 380 كم2.
[7] – دائرة الخرائط ونظم المعلومات الجغرافية، جمعية الدراسات العربية، القدس.
[8] – http://www.wafainfo.ps/atemplate.aspx?id=4981
[9] – محمد خضر قرش، دراسة ميدانية عن واقع المهن الحرفية التقليدية في القدس وسبل حمايتها، معهد ماس، 2012.
[10] – أعلن رامي ليفي في تصريح صحافي له أن نحو 80% من المحلات قد تم تأجيرها للتجار الفلسطينيين؟
[11] – محمد خضر قرش، واقع القطاع السياحي الفلسطيني وآفاقه، ورقة عمل أعدت للمنتدى الاقتصادي العربي، القاهرة 2008.